ولو أردنا أن نعدد عيالا جرها التشبه إلى الإسراف والتبذير وإنفاق المال جزافا، لضاق المقام؛ ولهذا نطوي تلك الصفحة؛ لأن كل من يفكر متأملا بخراب البيوت العريقة وسقوطها عن كراسي النعمة إلى حضيض الذل والفاقة يجد أن السبب الأكبر كان إنفاق الأموال بغير حساب، وهذا هو الداء العضال الذي أصيبت به ناس هذا العصر.
تجد الفتى يجد ليلا نهارا ليحصل في شهر بعض المال، ولا يكاد يقبض المبلغ المرقوم حتى ينفقه في الملاهي والملاعب، وعلى موائد الحانات، وبين الغواني اللواتي يبعنه الحب بالثمن الموجع، ويبدين له من ضروب التودد الزائف ما يصدق وإن كان لا يجهل سره.
ومع ذلك ينفق كل ما وصلت إليه يده، غير آسف على تعب قضاه، وشقاء قاساه، متشبها بصاحب الملايين، غير ناظر إلى الغد، ناسيا أن من يكلل شبيبته بالتبذير يتوج شيخوخته بالأشواك الدامية في الجراح.
فما أشد وطأة التبذير في هذا الزمان! وما أقوى شوكة التشبه الذي ألقى الكثيرين من شاهق قصور الرخاء إلى مهاوي الويل والبلايا.
ترى الإنسان يحمل نفسه فوق طاقتها، ويكلفها ما لا تستطيع النهوض بأثقاله؛ ليبرز في أبهة صاحب الثروة، حاسبا أن ذلك المظهر يخفي فقره وعوزه، لا بل تفاهة عقله، غير عالم أن الفقر سيظهر مهما حاولنا أن نخفيه. إنه كالنار الكامنة في أحشاء الأرض، فلا بد من أن تثور يوما وتدك شوامخ الجبال.
فمتى يا ترى يقف الرجل عند حده من هذه العظمة الكاذبة التي تحرم الهناء وتقلق راحة الحياة المطمئنة؟
متى نترك المساواة في هذا المجال، واضعين لحياتنا نظاما نسير عليه، لنأمن سوء العاقبة وشر المصير؟ ونسلك طرق الحياة على مهل، غير شاعرين بتعب ينهك الجسم ويضنيه ؟
فما فائدة الرجل من ليلة فخفخة وترف تهرب كالظل، وينقلب صاحبهما في ساعة من نعيم الحياة إلى شقاء قلق وعتب على دهره، ملوما حسيرا، يهمهم سابا الدهر، وهو الجاني على نفسه؛ لأنه لم يحسن إدارة بيته ولم يعرف كيف يصون ماله وينقذ أسرته من ويل يطحن حبات قلوبهم طحنا.
ومن أراد أن يعرف الغرور الذي وصلنا إليه في هذا العصر، عليه أن يدخل ناديا عاما، فيجد امرأة البقال والفوال تزمل بثوب زوجة صاحب الأموال الطائلة التي لو أكلها ذهبا لكفته مئونة الحياة. ونظر ابن الحمار والبغال بحلة ذي الثروة الطويلة العريضة. لا نظنه يستطيع بعد هذا أن يمنع دمعته من الفرار ويقول مع الشاعر:
أمور تضحك السفهاء منها
Unknown page