في العجلة السلامة
المرض الأكبر
شبابك على قدر طاقتك
طريق الفلاح
احذروا الغضب
الأكواخ منابت العباقرة
مصرع العدل والمحبة
من وحي الأعياد
مع الشمس
إلى إخواني الطلاب
كيف تصبح رجلا ناجحا
التربية الوطنية في لبنان
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
إلى الراسبين في الامتحان
النمام عدو السلام
على أبواب المدارس
العائلات المستورة
على بوابة مدرسة
تشرين الأول
إلى الشباب المثقف
التشبه آفتنا الكبرى
هل من يعتبر
بصراحة
حول امتحان البكالوريا
خطرات
نحو حياة أفضل
صور ومشاهد
علمتني الحياة
الشجر تتهم البشر
قصة السعادة
إلى المرأة
حفلة ناشفة
لوحة الجميل الخالدة
في العجلة السلامة
المرض الأكبر
شبابك على قدر طاقتك
طريق الفلاح
احذروا الغضب
الأكواخ منابت العباقرة
مصرع العدل والمحبة
من وحي الأعياد
مع الشمس
إلى إخواني الطلاب
كيف تصبح رجلا ناجحا
التربية الوطنية في لبنان
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
إلى الراسبين في الامتحان
النمام عدو السلام
على أبواب المدارس
العائلات المستورة
على بوابة مدرسة
تشرين الأول
إلى الشباب المثقف
التشبه آفتنا الكبرى
هل من يعتبر
بصراحة
حول امتحان البكالوريا
خطرات
نحو حياة أفضل
صور ومشاهد
علمتني الحياة
الشجر تتهم البشر
قصة السعادة
إلى المرأة
حفلة ناشفة
لوحة الجميل الخالدة
آخر حجر
آخر حجر
تأليف
مارون عبود
المؤلف (1886-1962).
في العجلة السلامة
في حياة كل إنسان دقائق أشبه بما يسمونه المعركة الفاصلة، فإذا أضعناها فكأننا نضع مصيرنا على كف عفريت، أو نرهن حياتنا بكاملها لأمل طائش، ولا نرجو حلول الساعة التي يفك فيها الرهن.
وعندما قال الذين مشوا قبلنا على دروب الحياة: في العجلة الندامة، كان مركوبهم، إما أرجلهم، وإما قوائم حيوان مسخر لخدمتهم. أما نحن أبناء هذا الجيل، فمركوبنا نار وحديد وفولاذ، منها ما يمشي على الأرض، ومنها ما يدع الطير خلفه ولا يلحقه مهما جد وكد؛ ولذلك قالوا هم: في التأني السلامة.
ومع ذلك فقد رأينا في الأقدمين من آمن بفوائد العجلة. أما قالت العوام: الضربة لمن سبق؟ وهذا ما ينطبق اليوم انطباقا كليا على عصرنا، عصر السرعة.
ففي ذلك الزمان كان أكبر عيب أن تأكل واقفا أو ماشيا، أما اليوم فأصبح كل شيء يعمل على الماشي. لقد استراحت المقاعد وتعبت الأرجل. قد تنهار الأعصاب باكرا بسبب هذا الكد، ومع ذلك فهو ضروري للفلاح، وهل يحقق أملا من يسترخي في فراشه ولا ينفض عنه لحافه إلا حين يعتدل ميزان الشمس؟ إن من يحور ويدور، حتى يبدأ عمله، فهيهات أن ينجزه، فكثيرا ما يدعه ولا يفعل شيئا، يؤجل دائما وينتظر ساعة نشاط رائعة، وتلك الساعة لا تأتي.
أما روى التاريخ عن امرئ القيس، أنه قال؛ عندما جاءه خبر قتل أبيه: اليوم خمر وغدا أمر. وماذا فعل الغد لامرئ القيس، وأي غرض قضاه له؟ أليس الموت على الطريق وضياع الملك؟ فلو كان ترك الكأس ونهض، لما اضطر أن يبكي، هو وصاحبه، الذي بكى حين رأى الدرب دونه. ولما قال له هو: لا تبك عينك، إننا نحاول ملكا أو نموت فنعذرا.
لقد فاتك القطار يا امرأ القيس ولم تقيد الأوابد، وما ظفرت إلا بلقب الملك الضليل عن جدارة واستحقاق. إن صديق الكأس لا يفلح.
من تأن نال ما تمنى، لم تعد عملة رائجة في هذا العصر، فالناس في حلبة السبق دائما، لا ينتهون من شوط حتى يبادروا إلى آخر بلا تأجيل ولا تردد. أما قال الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن فيه مقدما
فإن فساد الرأي أن تترددا
فالتردد هو الذي يخيب أمانينا ويحول دون الفلاح. قال الحجاج في خطبة الولاية: «إني والله، لا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت»، فالتراخي والتردد والتأجيل لا تحقق أملا ولا تبلغ مرتبة.
أستعرض حياتي، على تفاهتها، وخلوها من المغامرات، فلا أجدني ندمت على شيء فعلته، بل ندمت دائما على الذي لم أفعله في حينه؛ لأن الفرص إذا ذهبت لا تعود. ومن يضيعها أضاع كنزا لا يقع عليه فيما بعد؛ ولذلك قالوا: الوقت من ذهب.
قيل لقائد عظيم: القائد الفلاني عظيم مثلك، فأجابهم: وهناك فرق بيننا، وهو أنني أسبقه أربع ساعات. يعني أنه يستيقظ في الساعة الخامسة ويبادر إلى عمله، بينما زميله لا يستيقظ قبل التاسعة. فإذا كنت أيها الأخ الكريم، من أصحاب النهوض في الساعة التاسعة، فعدل منهاجك منذ الغد إذا أردت أن تحقق شيئا تذكر به.
لا تندم على ما فات واستعوض عنه بما هو آت، فقد تسترد في عام ما أضعته في أعوام. عد إلى ماضيك، وتذكر كم فاتتك من مواعيد؛ لأنك أضعت بضع دقائق في الحديث مع واحد لا عمل له إلا الثرثرة والتساؤل عما لا يفيده، فأضعت أنت ما يفيدك. كن جسورا ولا تبال بمن يستوقفك إذا كنت على ميعاد.
قال أحد المفكرين: ما من وقت مثل الزمان الحاضر، فمن لا ينجز ما يفكر بتحقيق عمل حين يعن له، فهيهات أن يحققه فيما بعد. فلا تؤجل عملا، واجعل شعارك: الآن. امح كلمة غدا من سفر حياتك، فنقد غدا باطل لا يتعامل به المفلحون. إن التردد يمسي مرضا، والتأجيل هو أول أعراض هذا المرض الاجتماعي العضال، فإذا طلبت من ابنك أن يقوم بعمل، وقال لك بعد ساعة مثلا، فقم إليه واقتلعه من مكانه ثم خذه بساعده، وهكذا افعل به كل مرة إذا أردت أن تحميه من ميكروب هذا المرض القتال.
اقرأ على مسامعه نصيحة ولتر سكوت التي أسداها إلى شاب حصل على مركز جديد وهو يطمح إلى التقدم: خذ حذرك من الانقياد إلى ما يحول دون استعمال وقتك كله، فلا تضيعه بما لا يعنيك ولا يفيدك. اعمل واجبك أولا وبسرعة، ثم خذ حقك من الراحة بعد إتمام العمل.
إن العجلة هي سمة عصرنا. ولكن ليس معنى هذا أن تكون أهوج، فلا تتقن عملك. إن عدم إضاعة الوقت هو العجلة المطلوبة. إن السرعة أم الثقة بالنفس، وهي أنصع برهان على انتظام أعمالنا ومقدرتنا. ومن لا يذهب إلى مركز عمله إلا بعد أن يدور في زوايا بيته دورات عديدة، ويخرج ثم يدخل إلى بيته مرات قبل أن يفارقه بالسلامة، فهذا لا يعرف العجلة، ولن يأتي في غده عملا جليلا.
فلنتعلم السرعة من الطبيعة، فكل ما فيها في حركة دائمة، تسرع خطاها ولا تقف دقيقة لتستريح؛ لأن راحتها في عملها الدائم.
سئل أحد مشاهير الرجال: كيف أتممت كل أعمالك في هذا الوقت القصير؟ فأجاب: إنني أعمل في الحال ما يجب علي أن أعمله، وأنتظر الجديد لأنجزه حالا.
فاعمل يا أخي اليوم ما يكن عمله.
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
لا تؤجل شيئا؛ لأن الغد ليس ملك يديك، إنك لا تدري ماذا يحدث، فتندم على ما فات، ولات ساعة مندم.
ابصق على الشيطان واجعل شعارك: في العجلة السلامة، وقدم الأهم على المهم. وليكن لكل عمل وقت؛ وإذا فعلت فأنت مفلح إن شاء الله.
المرض الأكبر
وما أعني إلا الوهم، فالوهم يورث الهم.
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
فالوهم هو الداء المقيم الذي لا يحول ولا يزول، إذا استولى علينا جعلنا نظن الموجود لا وجود له، ونحسب ما لا وجود له حقيقة ملموسة؛ فنسمع أصواتا، ونرى أشباحا تروعنا فنخافها، كأنها ذوات كيان. وقد أصاب المتنبي حين وصف جبانا بقوله: «إذا رأى غير شيء ظنه رجلا.»
روى العالم غوبلو أن أحدهم قال له إنه أصيب بوهم تكرر مدة من الزمن، فكان ينظر، حين يجلس إلى مكتبه، شخصا على المقعد يحدق النظر إليه بينا أنه لم يكن على المقعد أحد.
وهذا يذكرني بما قرأت عن باسكال، زعموا أنه كان يرى هوة فاتحة فمها عن يمينه كلما جلس إلى مكتبه، فيرتاع، ولكي يزيل هذا الوهم، كان يضع كرسيا على فم تلك الهوة ليطمئن قلبه إلى عدم وجود هوة.
ليس المجال هنا مجال تعداد أوهام الناس، فعندنا من أوهامنا ما يغنينا عن تلك. كما أننا لا نقصد الأخبار وسرد قصص الوهم، ولكننا نعني الأوهام المرضية التي تستولي علينا فتجعلنا مصابين بالمرض الذي نختاره وننتقيه.
رأيت في شبابي راهبة بلدية كانت تتوهم أن في أذنها عصفورا تزعجها انتفاضاته. وقد قصدت أطباء بيروت في ذلك الزمان - منذ نصف قرن - وظلت تروح وتجيء والعصفور جاثم لا يطير من ذلك الوكر الدافئ.
وأخيرا تركت أنا جبيل ولم أعد ألتقي تلك الراهبة. وقد سألت عنها فقيل لي: إنها في مغارة دير قزحيا، عصفورية لبنان في ذلك الزمان.
أما أوهامي أنا فليست من هذا العيار الثقيل، ولكنها إن لم تمتني، فقد أزعجتني ولا تزال. ولا بأس علينا إن روينا للقارئ بعضها، فهذا الموضوع، جميع الناس فيه سواء، فكما لا يخلو رأس من هم كذلك قلما يخلو من وهم.
كنت منذ نشأتي مشغول البال على صحتي، فخطر لي أن أكون طبيبا نفسيا، فاشتريت كتاب طب أطالع فيه.
كنت إذا سمعت بانتشار مرض في البلاد، أسرع إلى فهرست ذلك الكتاب، وأقرأ عن ذلك المرض، وهكذا صرت اختصاصيا أصاب بالمرض الذي أريد، ساعة أريد.
وذات سنة أقبلت حمى التيفوئيد على المدرسة التي كنت فيها، وعجز طب ذلك الزمان (1903) عن مكافحتها فصرفتنا إدارة المدرسة إلى بيوتنا.
واعتقدت أنا، أو توهمت، أنني أحمل ميكروب التيفوئيد معي، فرحت أقرأ في ذلك الكتاب، المشئوم علي، فوقعت على عبارة فيه تقول: إن نبض المريض بالتيفوئيد تزدوج ضرباته، فجسست نبضي، فإذا به مزدوج. خفت جدا، ولاحظ والدي قلقي، فأخبرته، فقال: هات يدك، وبعدما جسها قال: من خبرك أن نبضك مزدوج؟ فأجبته: خبرتني إصبعي.
وبعد حين استفحل أمر الوهم فنمت في فراشي، وجاء الذي كنا نسميه حكيما، وبعد أخذ الحرارة، وجس النبض، وفحص اللسان وتفتيش جميع زوايا جسدي، قال: ننتظر يومين ثلاثة لعله خير. ثم مضت أيام وأنا على حالي، فضاق صدر والدي فصرخ بي: قم من فراشك. وبعد جهد نهضت، وما زلت ناهضا.
ولكنني ما خلصت من وهم الفتوة حتى وقعت بأوهام الكهولة. قرأت أن العمر واحات. فمن يبلغ واحة الثمانية والأربعين، فلينتظر الثامنة والخمسين، وإذا بلغها فلينتظر الثامنة والستين، وها قد فتها، والله أعلم إلى أين نصل. ولكنني قضيت أهوالا وسلخت أكثر عمري، وأنا في غرفة الانتظار، حتى أصبحت اختصاصيا في انتقاء الأمراض.
كلما أحسست بحركة في جسدي انتقيت لها أخطر الأمراض وتوهمت أنني مصاب به، وكنت إذا أصبت برشح أحسب أنني معرض لما يليه. وهكذا انقضت حياة قلقة، ولكني كنت أنسى أوهامي التي أجترها عندما أنصرف إلى عملي وأكب عليه، حتى أنسى كل شيء إلا ما يشغلني به عملي.
وقعدت منذ ربع قرن على سرير العيادة عند الدكتور أ. خ. فعني بي ودقق كثيرا، وأخيرا انتصب أمامي بقامته الفارعة وقال: منذ كم سنة وأنت تشعر بهذا المرض؟
فأجبته: منذ سنوات.
فقال: لو كنت مريضا حقا لكانت تخت عظامك، أتمنى لو تكون لي سلامة جسمك، فدع هذه الأوهام وراجع رواية موليير «المريض غصبا عنه».
واستطرد قائلا: أربعة أشياء تجنبها يا مارون: ميزان الحرارة، والقبان، وأخذ النبض، ووزن الضغط؛ إن هذه الأربعة تتغير وتتبدل فلا تشغل بالك بها. أنت سليم من كل مرض.
ومنذ أشهر التقيت الطبيب الذي أطلقني حينا من سجن أوهامي، فضحك وقال لي: كم صار عمرك؟ فقلت له: في الثالثة والسبعين.
فقال: أصدقت الآن إنك بألف خير وعافية.
فقلت له: ليس كل التصديق ...
فقال: هذا لخيرك؛ لأنك صرت في عمر يستدعي الحذر. الحذر ضروري، ولكن التوهم مرض، وإذا استفحل أصيب صاحبه بالمرض الذي يريد ويصدق نفسه.
هذه قصتي، وما أزعجتكم بها إلا لاعتقادي أنها قد تكون قصة أكثركم، وإذا صح ما زعموا من أن الحب هو أقوى الفيتامينات، فالوهم هو السم الناقع والمرض الأكبر.
يقول الأطباء: «معنويات المريض تساعد على شفائه»، فأية معنويات تكون لصاحب الأوهام؟ رحم الله إيليا أبو ماضي القائل:
أيها المشتكي وما بك داء
كيف تمسي إذا غدوت عليلا؟
أحسن الأدوية في هذه الحالة، هي ترديد المثل العامي القائل: «وقوع البلا ولا استنظاره.»
فالواهم يدلك عليه، إذا قلت له: كيف حالك اليوم؟ يظن أنك تتقصى أخبار صحته، أو أنك عارف أنه مريض، فيفتح السجل ويقعد يقص عليك ما أحس أمس واليوم. وهكذا يظل يجتر أوهامه، ولا يصدق أنه معافى ولو حلف له الطبيب.
كثيرا ما اهتم علماء النفس بهذا الموضوع الخطير، وقالوا أخيرا: إذا نحن فكرنا في السقم والمرض أصبحنا مرضى.
قال ماركوس أوريليوس، الإمبراطور العظيم: إن حياتنا من صنع أفكارنا.
أعرف رجلا عظيما مات منذ سنين، قضى حياته في معالجة أمراض غير موجودة، ولو كان مريضا حقا لما جاز التسعين. ولكثرة أوهامه، اقتنى معجم لاروس الطبي، وجعله كتاب مخدته يطالع فيه في أوقات فراغه ليلا ونهارا.
أما دواء الأوهام فهو تناسيها، ولا نتناساها إلا بالعمل المستمر ولعل هذا ما عناه، وليم جيمس، بقوله: «ليس في إمكاننا أن نغير شيئا من إحساساتنا بمحض إرادتنا، ولكن في استطاعتنا أن نغير أفعالنا فتتغير إحساساتنا.» فالطريق إلى السعادة المفقودة هي أن تظهر كما لو كنت سعيدا.
ألا تكفينا أمراضنا حتى نقدم على اختراع أمراض غير موجودة؟
لا يشفينا من أوهامنا إلا الاعتقاد الذي لا يتزعزع بقول القائل: «لا بد مما ليس منه بد.» وإذا لم تعمل بهذه الكلمة، وقعدت تغذي أوهامك، فإنها تتكاثر عليك، تنام معك في سريرك، وترافقك في مسيرك ولا تدعك حتى تنهار أعصابك وتمضي لسبيلك بلا رجعة. فخير لنا أن لا نقطع جسرا قبلما نصل إليه.
شبابك على قدر طاقتك
إن عدد السنين، وشيب الشعر، وسقوطه، كل هذا لا يقدم ولا يؤخر.
هل رأيت ثورا يدركه الشيب أو الصلع مهما يعش؟
ليس العبقري للحراثة، ولا يعيش على عضلات يديه ورجليه، وإنما يحيا ويظل فتيا بتلافيف دماغه. فرب فتى خرف في الثلاثين، ورب شيخ ظل فتي الفكر في الثمانين والتسعين.
إنا لفي زمن يهزءون فيه بالشيخوخة لأنها شيخوخة. هذا هو اعتداد الكثيرين من الشباب، ولا عجب، فالصراع، كما نلاحظه، قائم أبدا بين الشيوخ والشباب.
نبدأ في البيت، فالشيخ لا يعجبه شيئا من أعمال ذريته، وهذه غريزة المحافظة على السيادة التي فقدت أو كادت.
يريد الشيخ أن تمشي الأمور على عقله. يكون ابنه في الثلاثين وما فوق، وإذا أتى ما لا يقره عليه، ولم يستطع أن يسيره كما يروم، هز رأسه وقال: أولاد!
وكذلك أم الأولاد، فإنها لا عمل لها إلا نقد كل حركة من حركات كنتها. تفتش دائما حولها لعل عينها تقع على من تغمزه على تلك العروس وتقول همسا: كنا وكنا ...!
أما الكنة فتقول وهي تتنهد: عجوز!
وإذا خرجنا من البيت الأبوي، عثرنا على أنماط لا تحصى في جميع ميادين الحياة. رأينا الجيل النازل لا يعجبه إلا القليل مما يعمله الجيل الطالع، والجيل الطالع لا يعجبه شيئا من أعمال السلف، يريد أن يقوض أساس ما بناه السابقون، وهذا هو ناموس الحياة الخفي، فالشباب يسعون ليتفوقوا على شيوخهم، والشيوخ يناضلون عن صرحهم ليظل شامخا. وهم لو قدروا لردوا الناس إلى عهد المغاور.
كم أضحك عندما أقرأ وداع القرن التاسع عشر في كتاب مجالي الغرر. عد كاتب ذاك المقال عجائب ذلك القرن واختراعاته من الداليجانس إلى المنطاد، فالقطار، والفونغراف، وتساءل عما سيحدث! وما مرت في سمائنا طائرة فدرين عام 1912 حتى قلنا ضاحكين من القطار: أمن يمشي على خط لا يحيد عنه كمن يروح ويجيء في الفضاء كما يشاء؟
شاء أحد شعرائنا أن يتخيل، فقال في نابليون:
قالوا لنابليون ذات عشية
إذ كان يرصد في السماء الأنجما
من بعد فتح الأرض ماذا تبتغي
فأجاب أبحث كيف أفتتح السما
واليوم، وقد فتحت السماء، وطرنا إلى الفضاء الخارجي، وفكرنا في التسابق إلى استعمار الأجواء واحتلال القمر، فهل يكون الفضل في هذا للشباب وحدهم، أم للشيوخ وحدهم؟
لا لعمري! ليس في الميراث الإنساني شيوخ ولا شباب، بل همم وطاقة وحمية.
فالنبوغ قريحة توجد أولا، وعمل يوجد أولا وآخرا. وما دام الجهاز الدماغي صالحا للأخذ والإعطاء، فلا تضير الشيخوخة أحدا، كما لا تنفع الشبوبية شيئا، إذا كانت بلا طاقة.
إن خيط العبقرية يمتد من المهد ولا ينتهي إلا في اللحد، والأدلة على ذلك كثيرة. فإذا استقرينا التاريخ أنبأنا أن الأعمال الجليلة، في كل ميدان، كان فرسانها من الشيوخ والشبان.
ليست العبقرية بضاعة، فنعطى منها نماذج بلا ثمن؛ إن ثمنها موجع جدا.
العبقرية كالأرض الطيبة التي تخرج نباتها بإذن ربها ثم تعطيك بقدر ما تحرثها وتغذيها. وكنز العبقرية المطمور لا ينبشه إلا العامل المثابر شيخا كان أو شابا؛ فلكي يكون الشبان فاتحين مكتشفين، فما عليهم إلا أن يجدوا لينبشوا الكنز المدفون بين تلافيف أدمغتهم.
أليس بالكد والتأمل وصلت القردة إلى أن تصور وتعرض رسومها مع رسوم نوابغ الفن؟ فكيف تريد أنت أن تكون شاعرا، كاتبا مكتشفا عبقريا، بلا تأمل ولا تفكير؟
إن الثرثرة تعوقنا جدا، وتبدد طاقتنا. فلنتأمل كم جاهدت تلك القردة المسكينة حتى حققت ظن داروين في جنسها، فاجتهد أنت واعمل مثلها صامتا.
يقول المثل: لا يخلو رأس من حكمة، وهذا ما حققته لنا الأيام.
إن الموهبة هي الأساس، أما حجارة البنيان فهي الإرادة، والرغبة والطاقة، وبذل أقصى الجهد. فإذا كنت مزودا بطاقة ولا تستثمرها فماذا تنتظر؟
لا يغرنك شبابك إذا كنت شرخا، ولا تهولنك شيخوختك إذا كنت هرما. فالقصة قصة طاقة، وعلى قدر طاقتك يكون إنتاجك.
ألا يذكر كلامي بقول المتنبي: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم»؟
فالشاعر أو المفكر، أو العبقري يسبق إلهامه العلم؛ ولهذا يكبر المتنبي في عيني كل يوم.
ما عساك تفعل من العظائم إذا كنت تتثاءب ألف مرة قبل أن تنهض من فراشك؟ وإذا كنت هكذا فاعلم أنك شيخ محطم ولو كنت ابن عشرين.
الفتوة وحدها لا تكفي، فليست المسألة مسألة سن.
إذا كنت عبقريا ولا تعمل، فإنك تظل حيث أنت وقد يسبقك واحد دونك ذكاء، ولكنه أعظم طاقة وحمية، ويحب عمله من كل قلبه.
يقولون: إنه يقتضي لنا سبعون مليون سنة حتى نقطع الفضاء، ثم تظل تلك الرحلة المليونية بلا نتيجة. أفلا يخطر ببالنا شيخ المعرة الذي قال قبل ألف سنة ونيف:
ولو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر
المعري شيخ وهن عظمه ورق جلده. والمتنبي أخو خمسين مجتمع أشده، وكلاهما سبقا العلماء إلى حقائق أقروها اليوم.
أتريد أن أضع لك مخططا يريك أنه ليس للعمر تأثير على أصحاب العقول الكبيرة؟ ولكني قبل ذلك أحب أن تعرف ما يقوله غلادستون حول هذا الموضوع، قال: «إن للعمل الذي يمكن استخراجه من الدماغ الإنساني حدا معينا، والرجل الحكيم لا يبذل قواه في عمل لا يطيقه.» فخير ما أتمنى هو إيقاد النار الكامنة في صدور الفتيان؛ لأن في كل هيكل بشري نارا خالدة تدفعه إلى عمل نافع، يبرز فيه على سواه.
يغتر بعضنا بالشهادات والألقاب العلمية، ويتهافتون على إدراكها بدون علم أو امتحان، وينامون على الثقة. ولكن باكون قال: «إن الدروس لا تعلم كيفية الاستفادة، ففي خارج الكتب حكمة تكتسب بالملاحظة. وفائدة الكتب يجب أن تطلب في خارج جلودها.»
والآن فلنقم بما وعدنا، ولنعد إلى الجدول مبتدئين بالشباب النوابغ.
قال رسكين: «أبدع الآثار الفنية اصطنعت في سن الشباب.» وقال دزرائيلي: «كل شيء عظيم من صنع الشباب. إن القلب هو الذي يتسلط على الشباب، أما الرجولية فيتسلط عليها الدماغ. فالإسكندر ونابليون، كانا شابين حين قبضا على المسكونة.»
ورافائيل وبيرون ماتا قبل الأربعين، وروملوس أسس رومية في العشرين، وأسامة بن زيد عقد له لواء الفتح وهو يافع. ونيوتن اكتشف بعض أهم اكتشافاته وهو لم يبلغ الخامسة والعشرين، وكتس مات في الخامسة والعشرين، وشلي قضى نحبه في التاسعة والعشرين، وأديب إسحق ونجيب الحداد ماتا في هذه السن، ولوثيروس عد مصلحا في الخامسة والعشرين، وفيكتور هيغو ألف مأساة وحاز ثلاث جوائز وهو دون العشرين، وغوت أنشأ تمثيليات في الثانية عشرة، وابن المقفع مات في السادسة والثلاثين وكثيرون من نوابغ العالم ماتوا قبل الأربعين.
وإذا كانت الطاقة تنتج ما أنتجت في طور الشباب، فماذا يكون منها لو رافقت الشيخوخة؟ هاك جدول الشيوخ:
غلادستون، في سن الثمانين، كانت له عشرة أضعاف القوة والقيمة اللتين يتمتع بهما شاب من طرازه في الخامسة والعشرين، وهوميروس الشيخ الأعمى نظم الأوديسة في آخر العمر، ولزوميات المعري بنت شيخوخة مهدمة، وكان ولنكتون وكليمنصو وتشرشل بين السبعين والثمانين حين ربحوا الحرب العظمى، وقصة روبنسون كروزي كتبت في الستين، وأفلاطون مات في الحادية والثمانين وهو يكتب، وشوقي ظلت طاقته تعطي حتى الليلة التي مات فيها، وغاليلو ظل في السابعة والسبعين يواصل عمله ويطبق مبادئه العلمية وهو مكفوف البصر، والشدياق والجاحظ ألفا وكتبا في التسعين، وبرناردشو نيف على التسعين وظل مرحا لا تفارقه طاقته.
إن الرجال كالخمرة، فمنها ما يصير خلا متى عتق، ومنها ما يصير نبيذا فاخرا. فلا تقل إذن: هذا شاب وذاك شيخ، فما أشبه دماغ الإنسان بالبطارية الكهربائية، فمنها ما يفرغ في الشباب، ومنها ما يظل يعطي إلى آخر العمر. فكن إذن شمسا، قوية الطاقة لا قمرا يستمد النور ويستجديه، ويتضرع إلى الغيوم كيلا تحجب نوره المستعار.
وإذا سألتني كيف أعرف إذا كنت شيخت، فإني أجيبك: اسأل قلبك يقل لك. فإذا كنت لا تعتقد أنك كبرت، فأنت لا تزال بخير ولو كنت ابن تسعين.
طريق الفلاح
ليس للفلاح؛ أي النجاح في الحياة طرق معبدة، ولا خطوط حديدية، ولا أوتسترادات. فعلى كل منا أن يشق هذا الطريق الضيق بيديه. وما أخال الباب الضيق الذي عناه يسوع إلا طريق الفلاح الذي كثيرا ما نهتدي إليه، ولكن بعد كد وعناء عظيمين. فمنا من يفلح شابا، ومنا من لا ينفتح له باب النجاح إلا مكتهلا، ومنا من لا يدرك شيئا لا شابا ولا كهلا.
أصحيح أن الحظ يكمن لنا على جانب الطريق، فإن التقينا به صفت لنا الحياة وعشنا ببحبوحة ورخاء، وإلا فإننا نظل نتعثر حتى نصادفه فنسير الهوينا وتفارقنا الحيرة؟
نرى واحدا ينجح في عمله منذ أول خطوة في هذه الحياة، ونرى آخر يمشي ويظل حيث هو متنقلا من عمل إلى عمل حتى لا يدع عملا إلا جربه، ثم عاد عنه وقعد ينظر إليه ملوما حسيرا. فما سبب الفرق بين هذا وذاك؟
إذا قابلنا نحن بين الاثنين، فقد نرى الناجح دون الفاشل ذكاء واجتهادا. فما العلة يا ترى؟
غالبا ما يكون الناجح المفلح من الكادحين في الحياة، وهؤلاء هم الذين يوجهون أنفسهم ولا يوجههم آباؤهم وأولياؤهم؛ ولذلك لا يعملون إلا بوحي من رغبتهم، وهنا سر الفلاح. فإذا كنا نحب عملنا شققنا خطة نسير عليها إلى النهاية، وفزنا بأمانينا وتحققت آمالنا.
إن لنا منا وفينا موجها في طريق الفلاح، فإذا سرنا بهديه عشنا مطمئنين، وإلا فإننا نظل على هامش الحياة. فما علينا يا ترى أن نعمل؟
علينا أن نتبع ما نميل إليه من عمل، فالعمل الذي نرغب فيه هو الذي يجب أن نتبعه.
أبوك يريد أن يراك بين أكابر العلماء، ولكنك أنت لا تستطيع، وأمك تريد أن يكون ابنها سياسيا، فتفتش لك عن كرسي تجلس عليه لتراك قبالة عينيها وتعتد بك وتعتز، ولكنك أنت لا تصلح للرئاسة ولا للسياسة؛ لأنك خلقت لتكون رجل أعمال وتاجرا ناجحا، فهل تضيع ذاتك بين إرادة أبيك وأمك؟
لا بد من وجود ميل في قرارة نفسك، وهذا الميل يجب أن تتبع، ولو كان عملك ليس من الأعمال الجلى.
أنت هو الذي يشرف عمله، فالناس يعجبهم الإتقان. ولا يمكن أن تخرج شيئا أنيقا إذا كنت لا تحب عملك.
لا بد أن تكون فيك قوة ما، فعليك أن تبحث عنها، ومتى اهتديت إليها مشيت في طريق الفلاح، وحق لك أن ترجو خيرا.
إياك أن تقدم على عمل لا ترجو أن تجيده إجادة تامة. فالعمل الناقص لا تقره نواميس الحياة.
قد تقول لي: ومن أين أعرف مقدرتي؟ وأنا أقول لك: حاول. جرب. وإذا بدأت فواظب.
لا تتطلب مركزا لا تقدر على ملئه، وإذا حصلت على مركز فلا تطمح إلى منصب أعلى منه، بل ارفع شأن مركزك بإتقانك العمل فيه.
إن المركز الذي تحصل عليه لا يرفع من شأنك إن كنت غير قادر على التصرف فيه وتدبير شئونه، بل تزدرى وينظر إليك باستهزاء وسخر.
وإذا كنت بلا عمل فاقبل بالعمل الذي تيسر لك. وإذا كان دون مقامك الذي يصوره لك طموحك، فأنت تصل إلى ما تطمح إليه إذا أتقنت عملك هذا، فيتهافت عليك أصحاب الأعمال.
لا تطلب منك الحياة إلا ما انتدبتك إليه، فلا تغتر بشهاداتك ووسائلك، فالعمل شيء والحبر على الورق شيء آخر. فرب رجل حامل أسمى الألقاب العلمية لا يستطيع أن يماشي رجل أعمال حصيف، وإن يكن أميا.
إن طمعنا بجعل أنفسنا غير ما نحن هو الذي أشاع هذه الفوضى في المجتمع.
انظر إلى الناس، فقلما تجد رجلا في محله؛ فهذا جراح في مستشفى كان الأجدر به أن يكون جزارا على ظهر وضم، وذاك مرب، لو أنصفته الأيام كان يجب أن يكون راعي بقر أو غنم، وتجد محاميا لم يخلق إلا ليكون مزارعا، وفتيانا يبيعون أوراق اليانصيب أو يحملون السل للعتالة كان يجب أن يكونوا على مقاعد الجامعات العالية يتلقون العلوم العويصة.
إن رغبتنا في المجد الباطل هي التي جعلتنا نتبادل المراكز، وهي التي جعلتنا نزدري المهن، ولا نفكر إلا بالسلطة الفارغة ولو على قن دجاج.
إن كل عمل هو شريف إذا كان صاحبه من ذوي الضمائر الحية، فأصغ إلى صوت ميلك، وأجب نداء رغبتك. وإذا أراد أبوك أن ترث مهنته مع عقاراته، وأنت لا تميل إلى ذلك فقل له: فتش عن وارث غيري، وأنا سأفتش عن عمل أحسنه وعقار أستطيع استثماره.
ليس المال كل شيء، فرب ذي مال لا تلعنه الناس حتى بالأجرة! فلتكن غايتك العمل الشريف، أما المال فلا يبقى.
اهتم قبل كل شيء بأن تكون إنسانا، وبعد ذلك اختر من المهن الحرة الشريفة واحدة تحسنها وتبز فيها الآخرين، وإلا فخذ أي عمل آخر مع أنانيتك فذاك شرف كبير لك.
وإذا كنت بلا أعوان ولا أنصار، فالنصيحة التي أزودك بها، إذا كنت مباشرا العمل جديدا، هي فيما قال رسل ساج:
إن خير طريقة يبدأ بها شاب لا أصدقاء له ولا نفوذ هي: (1)
أن يوجد مركزا. (2)
أن يحافظ على الصمت. (3)
أن يلاحظ. (4)
أن يكون أمينا. (5)
أن يجعل مستخدمه يعتقد أنه إذا استغنى عنه خسر. (6)
أن يكون مهذبا.
وأخيرا اتخذ مهنة فهي عقار لا يبور. ومهما عملت فكن أعظم من عملك وفي ذلك فلاحك.
إذا كان الحيوان يروز حملته قبل أن يقدم عليها، فلا يقفز من عبر إلى عبر إلا بعد التحقق من قدرته على ذلك، أفلا يجدر بك أن تكون أنت خيرا منه؟!
احذروا الغضب
الغضب هو أحد فرعي غريزة حفظ البقاء في زعم علماء النفس.
فغريزة حفظ البقاء عندهم قسمان: دفاعي وهجومي. فغريزة الخائف دفاعية، فلا تلمه إذا شمع الخيط وأنقذ فخارته من التحطيم، كما عبر أبو دلامة.
أما القسم الهجومي فهو غريزة الغضب التي تشتعل في النفس وتحرق ما يقف في وجهها، وأحيانا تحرق نفسها ولا تبالي، ولا يطفئ نارها إلا منازلة الخصم. إنها الغريزة التي لا تقاوم. وقد نفخ الشعراء في نارها فأضرموها، حتى إن أبا الطيب حرض على الغضب وجعله طويل العمر بقوله:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
وكما أن المتنبي لا يهادن أبدا، فهناك شعراء قبله وبعده حثوا على حب السلامة والمغفرة.
أما السلف الصالح فقاوم بالمثل جاهلية الناس ليكسروا من حدة شرتهم وستأتيك أخبارهم.
لنبدأ أولا بما علمته الكتب السماوية؛ فالقرآن الكريم لم يمهل الغضوب حتى يغفر إلا لحظة حيث قال:
وإذا ما غضبوا هم يغفرون .
وجاء في الكتاب المقدس: فلا تغرب الشمس على غضبكم. وكما روى متى الإنجيلي، في خطبة الجبل التي نقلها عن لسان معلمه: إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجبا الحكم ... فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك فاترك قربانك، واذهب أولا اصطلح مع أخيك.
وقد ذكر عن لنكولن أنه كثير المسامحة حتى قال: ليس لنا أن نلوم أحدا على ما يقوم به من عمل، فنحن جميعا مسخرون للظروف والأقدار، تسيرنا البيئة التي نشأنا فيها، والتعليم الذي تلقيناه، والعادات والوراثة التي تكيف الناس وتلصق بهم طابعها الخالص إلى الأبد.
يقول لك الطبيب: لا «تنرفز»؛ أي لا تغضب. ومع ذلك نرانا نغضب لأدنى سبب. ولعل عذرنا موجود فيما سبق من كلام لنكولن.
قال لي أحد أطباء العيون: عش هادئا خاليا من التفكير إذا شئت المحافظة على ضوء عينيك عش عيشة نبات.
فضحكت وقلت: وما رأيك لو عشت عيشة حيوان؟!
فأجاب: لا، إن الحيوان أقل تفكيرا من الإنسان، هو يغضب حين يفترس، وأنت يجب أن لا تغضب أبدا ...
قلت: إذن تريد أن تجعل مني طوباويا حيا.
فقال: كن أكثر من قديس، إذا شئت المحافظة على نعمة النور.
وعملت بمشورته أسابيع، فبان لي الفرج، وصرت إذا استفزني الغضب، أتذكر وصية الطبيب، ولكني لم أستطع الحياة بدون فكر.
كنت أغضب إذا غنت الذبانة وحدها، كما قال عنترة، وبقيت كذلك حتى قرأت أخيرا كلمة العالم البسيكولوجي فرنسيس جيمس: «إن الله يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، ولكن جهازنا العصبي لا يغفرها أبدا.» فهو يصرعنا فورا.
نعم، قد رأيت في حياتي أكثر من واحد ماتوا فجأة؛ لأن غضبهم حمي جدا، فانفجر الأظان. ولعل المسيح لم يوص بالمغفرة ومحبة الأعداء والغفران إلا لأمرين؛ اكتساب مكارم الأخلاق، والمحافظة على الحياة. فأمراض القلب وضغط الدم، والسكري، وقرحة المعدة وغيرها لا يقاومها إلا الهدوء والسكينة والحلم. فالغضوب يعاقب نفسه ساعة غضبه.
قال ديل كرنيجي في كتابه «دع القلق وابدأ الحياة»: «إذا لم نستطع أن نحب أعداءنا، فلا أقل من أن نحب أنفسنا.»
أما نصح المسيح بنبذ الغضب، والغفران سبعين مرة سبع مرات؛ أي 490 مرة؟
أما الحمقى من الناس فيعدون الغافر جبانا، ويا للأسف!
أعرف واحدا كان يقول لزوجته: إذا حميت أنا ابردي أنت؛ لأننا إذا حمينا كلانا وقفت الحية على ذنبها.
وهكذا استطاع صاحبنا أن يغضب وحده ويموت وحده، ويفسح في المجال أمام زوجته لتعرف عريسا جديدا.
ولولا شرور الغضب الكثيرة لما عدوه في النصرانية من الخطايا الرئيسية. ألا تضحك من نفسك حين تغضب؛ لأن أحد الناس مر بك ولم يؤد لك التحية كما عودك الناس من مراسيم؟ فلو نطق أهل القبور وسألتهم عن التي أماتتهم لأجابوك: إن الغضب قصف أعمارنا وأودعنا في هذه البيوت الضيقة المحكمة السد.
نعم؛ نحن معرضون للغضب في كل دقيقة. يغضبنا أكثر ما يحدث في بيوتنا، وأكثر أعمالنا وفي شوارعنا، نغضب حتى إذا لم تجر الريح كما تشتهي سفننا أو لم تمر بنا بترتيب.
لقد تنافست العرب في الحلم والتغلب على الغضب، فأصبح الناري الطباع حليما، واسع الصدر، طويل البال، كما سنسمع من أخبارهم، وإليك ببعضها:
غضب زياد فأمر بضرب عنق رجل. فقال له ذاك الرجل: أيها الأمير، إن لي بك حرمة. فقال: وما هي؟ فأجاب الرجل: إن أبي جارك بالبصرة. قال: ومن أبوك؟ فقال الرجل: إني نسيت الآن اسم نفسي، فكيف لا أنسى اسم أبي؟
فبرد غضب زياد، ورد كمه على فمه وضحك، وعفا عنه.
قال رجل لرسول الله
صلى الله عليه وسلم : أي شيء أشد؟ فقال النبي: غضب الله، فقال الرجل: وما يباعدني من غضب الله؟ فأجابه الرسول: أن لا تغضب.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله: لا تعاقب وأنت غضبان، وإذا غضبت على أحد فاحبسه. فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطا.
وقال الصحابي أبو ذر لعبده: لماذا أرسلت الشاة على علف الفرس؟
فقال: أردت أن أغيظك وأغضبك.
فقال أبو ذر: لأجمعن مع الغيظ أجرا، أنت حر لوجه الله تعالى.
وقال لقمان لابنه: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة؛ الحليم عند الغضب، والشجاع عند الحرب، والأخ عند الحاجة.
بهؤلاء فلنقتد، ولكن أصحاب الغضب المزمن لا دواء لهم.
الأكواخ منابت العباقرة
عند الألمان مثل يقول: «الفقر هو الحاسة السادسة.» ومعنى هذا أنه إذا كنا نعتمد على حواسنا الخمس لنعمل في هذه الدنيا ونفلح، فالفقر يسلحنا بحاسة سادسة، والستة خير من الخمسة. فلا تقل بعد هذا: أنا ابن فقير، ولا تحسد الغارقين في بحور النعمة، ولكن قل: سأصير مثلهم. وشمر عن زندك، ولا تقض حياتك قانطا بائسا.
وبعد، فليس المال كل شيء، ولو خلق الناس مكفيين لما فكروا بعلم وأدب، ولظلت الإنسانية تفترش الأرض، ولما رأينا ناطحات السحاب، ولما سابقنا الطيور تحت قبة السماء.
إن الفقر لا يخلو من النعم، أليس في قريتك جبال؟
تأمل تجد أن أقوى الأشجار ترتفع من بين شقوق الصخور إلى الأعالي. فالأرز الذي يتغنى به شعراء العالم، وتقصده الناس من أقصى أقطار المسكونة لهو ابن فقر. لم ينبت في مهاد نعمة التراب والسماد، وإن كانت جذوره تمتد إلى القاع.
هو خالد لأنه يصبر على شظف العيش، فلا يتكل على من يكافح عنه الحشرات الفتاكة.
فاشكر الفقر إذن؛ لأنه يقويك منذ نشأتك، ويجعلك جبارا عنيدا؛ لأنك تكون ذقت طعم نار الفقر.
والسنديانة لا تحتاج إلى تربة كثيفة أو عناية وسهر كما تحتاج التفاحة وغيرها من بنات البساتين وربيبات المحراث، فهي بنت الغاب، وفي الغاب مرابض النمور والأسود.
التفاحة تذكرة مع اللذة، أما السنديانة فمع القوة والصرامة والعناد. وتلك هي الرجولة المخشوشنة مربى الغاب.
التفاحة يسيل لذكرها اللعاب، أما السنديانة فتتفتح عند ذكرها الأوداج والأعصاب.
التفاحة بنت سنوات، أما السنديانة فبنت مئات، لم يغرسها ولم يتعهدها أحد، وكذلك العباقرة.
وإذا رأيت فقيرا اغتنى وهو يرى الإحسان أطيب شيء، فلا تقل: يا سبحان الله! كيف كان وكيف صار، وما أجمله محسنا!
اعلم أنه خريج مدرسة الفقر النابغ. وهو بإحسانه إلى البائسين يثأر لنفسه من الفاقة، وأخذ الثأر لذيذ، أليس كذلك؟
قال أحد الحكماء: «ليست كل مصيبة لعنة، فكثيرا ما يكون الفقر في أول العمر خيرا وبركة.» وهذا ما نراه بأعيننا، فالقابضون اليوم على مقاليد التجارة والصناعة هم أبناء فقر، وذاقوا طعم الحاجة صغارا. لا أدري من قال ما معناه: يظهر أن أمريكا مديونة للأكواخ؛ لأن أشهر أعاظم العالم، لا في أمريكا وحدها، طلعوا منها.
هل أعدهم لك؟ لماذا؟ عدهم أنت.
ما عليك إلا أن تفتح كتبك لتعلم أن أديسون الأمريكي هو من أبناء مدرسة البؤس، وأن سبنسر الإنكليزي كان غلاما حافي القدمين. ودزرائيلي الذي وصل إلى رئاسة وزارة بريطانيا لم يكن يرفل في صغره بحلل الديباج.
لا يا أخي، إنه كان آخر الفقراء رتبة، ولكنه كان ذا عقل ثاقب وإرادة فولاذية. وقد عبر عن ذلك بقوله: «إن ما حدث أمس سيحدث اليوم، وأنا قادر على التغلب بالثبات والحمية على أعظم المصاعب.»
ومضى يحاول، ولكنه لم ينجح أولا؛ لأن المجلس كان يستقبله بالصفير والاستهزاء، حتى قال مرة لأعضاء مجلس العموم: «سيأتي يوم تصغون فيه إلى كلامي.» ثم ظل يعمل حتى جاء اليوم الذي صار فيه دزرائيلي قطب عصره بلا منازع.
وجاء في كتاب الدكتور سويت ماردن عن لنكولن أنه ولد في كوخ خشبي ولم يدخل مدرسة قط. كان وهو شاب يقطع الألواح ليبني له كوخا خشبيا يأوي إليه، وهو بدون بلاط ولا نوافذ. تعلم الحساب على ضوء الموقدة، وراح يجد ويكد حتى صار لنكولن الذي لا نزيده عظمة إذا قلنا: رئيس الولايات المتحدة.
وهناك الرئيس الأمريكي الآخر جيمس غازفيلد. كان كناسا وبغالا، وأخيرا صار قارع الجرس في الكلية التي تخرج منها، وقل لي بعد هذا: ليس لي وسائل لأرتقي وأتقدم.
أأذكر لك الجزار، ومحمد علي، والمير بشير، وغيرهم ممن ولوا الأحكام؟
أم أذكر لك الفارابي الفيلسوف، والمطران الدبس صاحب تاريخ سوريا الضخم الذي كان طالبا فقيرا شديد الحاجة إلى حذاء، فاشتراه له رفاقه، ولم يحل الحسد بينهم وبين تلك المكرمة؟
والأنبياء، صلوات الله عليهم، أليسوا أبناء فقر؟ أما التقط آل فرعون موسى ليكون لهم عدوا؟
والسيد المسيح، أما كان ابن نجار، وعاش وليس له مكان يسند إليه رأسه، ثم مات وما على جلده قميص؟
ومحمد رسول الله، هل كان من تجار قريش؟ أما مات ودرعه مرهونة؟
وأبو بكر، أما مات ولا ثروة عنده؟ أما أمر أن ترسل القطيفة التي كان يتخفف بها إلى بيت المال؟
ثم ما لك ولهؤلاء. جل جولة خفية واسأل عن صروح الأعمال في عواصم الشرق، فيقولون لك هذه لمن وتلك لمن. لست أسمي لك واحدا؛ لأنك تعرف المشهورين منهم، وستستغرب متى سموا لك جددا. ليس المهم أن تعرف أسماءهم ولكن المهم أن تعرف أنهم كانوا مثلي ومثلك.
ليس في الدنيا فقير يحق له أن يقول: ليس لدي رأس مال فكيف أباشر عملا وأبلغ ما بلغ الناجحون في الحياة.
وكيف يقول ذلك من يحمل رأس ماله في يديه وهو لا يعرف أنه حامله؟ اشتر، عفوا، استعر كتابا يشرح لك تكوينك العجيب المحصور بيانه بهذا البيت الشعري الصغير:
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك التقى العالم الأكبر
إن الذين يشقون الطريق إلى العوالم الأخرى، ويحاولون الوصول إلى جارنا القمر ليزوروه زيارة ودية ، يعجزون عن خلق شيء مثلك ... يخلقون آلات تحتاج إلى وقود ومدبرين، أما أنت فوقودك منك وفيك وتدير نفسك بنفسك. إن القيود التي تديرك لتضحكك إذا فهمت حقيقتها.
أتعرف ما في يديك ورجليك وعينيك وأذنيك ونخاعك من قوى لا تقدر؟
اذهب إلى غرفة التشريح، وإياك أن تقول بعد ذلك: ليس لدي رأس مال أباشر به عملا. إن في كل واحد منا، حتى الذي ليس عنده عشاء ليلة، جهازا يمكنه، إذا كد واجتهد، من خلق الأقمار والصواريخ وقنابل وعجائب لم تظهر بعد.
ولكن إذا كنت رخوا لا يعنيك إلا أن تأكل وتشرب وتنام وغير ذلك، فلا تفلح أبدا، ولو نادوك ألف مرة في اليوم: حي على الفلاح.
والغريب جدا أنك تندب قلة حظك، وتشكو أن لا حظ لك. إنك تريد الدجاجة منتوفة محلوقة مطبوخة مقدمة لك على صينية فضية. إن هذا لا يكون؛ فإذا أردت أن تأكل طعاما شهيا لذيذا، فلا بد من حرق اليدين. ثم كيف تشكو غياب الحظ وبعده عنك وهو بين يديك؟
إن في يديك عشرة حظوظ لا حظا واحدا، فأصابعك العشر كل واحدة منها حظ. فاعمل بها وأقبر الفقر.
اعتمد على قول الشاعر وامض في طريقك بحزم وصبر، ولا تلتفت وراءك، وإذا كنت لا تعد النجاح إلا في كسب المال، فاعلم أنك ستمسي غنيا إذا عملت بحماسة.
بيد أن المال يزول، وهو لم يوجد إلا لقضاء الحاجة، إنه واسطة لا غاية.
أتظن دول الأرض تبيع نابغة واحدا بملايين الدنانير؟ فاطلب خوالد الأعمال. وإذا هزئ بك غني متخم فقل له: يا مرحبا بالفقر إذا كان منبتا للعباقرة.
مصرع العدل والمحبة
في إحدى أمسيات الخريف، كان شبح يتمايل بين أشجار غابة صنوبر تشرف على البحر، وكان ينظر إلى البحر بقلق واضطراب، وكان على قسمات وجه ذاك الشبح بقية من جمال كاد يبتلعها الهزال، فالوجه كالزعفران اصفرارا. والجسم رق وضمر حتى كاد أن يطير مع النسيم.
كان ذاك الشبح يمشي الهويناء لا ريث ولا عجل، وحيدا قلقا كأن وراءه من يطارده . يلقي نظرات تائهة على ما حوله، ويرهف أذنيه ليسرق السمع، فلا يقع في أذنيه إلا همهمة نسيم، وصدى أوراق تتناثر.
كان يرتجف كلما تهاوت ورقة، ويرتعد فرقا كلما هبت نسمة قوية.
كان هذا الشاب قلقا جدا، يتمشى ويتوجس خيفة، فكأنه والقدر على موعد.
لا يدري أحد ما يتوقعه هذا الظل البشري من عالم الغيب، ولا أي سر ينتظر أن تتلقاه الأرض من السماء، فأشبه هذا المسكين في اضطرابه وهزاله، ظلا لشجرة معراة من أوراقها، أو خيالا هبط من السماوات العلى.
والتفت صوب البحر، فرفع نظره الحائر على بساط البحر الكرمسوتي، فرأى خليج جونيه الذي تحته يتراقص تحت عين الشمس، وهي تهبط رويدا رويدا تاركة في الأفق لهيبا داكنا كأنه ابتسامة غضب بدرت منها على ما شاهدته وتشاهده من ظلم بني البشر. وحزنت الآكام والقمم لحزن أمها التي توارت في الحجاب، فانتزعت من خزانة الليل أحلك ثوب يلائم حزنها وحدادها.
وهب النسيم بليلا منعشا، ثم جفت طراوته وكأنه ندم على ما فعل، فما عتم أن استحال إلى ريح صرصر تصول وتجول في تلك الغابة، فنثرت أوراقها الواهية فكست الأرض صفرة تنسجم مع وجه الزائر البائس.
وبدا القمر من وراء الجبال التي لا تزال تحمل بقية من عطر فضائل الآباء القديسين، فابتسم ابتسامة عريضة، ولكن سرعان ما بادر إلى التلثم بالغيوم. لعله أدرك، أو أن الشمس نقلت إليه نبأ جديدا عن تجبر الناس واستبدادهم، وما هم عليه من ظلم وبغض، ومحبة ذات وحقد، فغطى وجهه لئلا يراهم.
والطبيعة التي تسمع دبيب المنى هدأت حركتها هنيهة كأنها تصغي إلى صوت الشبح المضطهد المشرد.
أما الشبح، فحين أيقن أنه بمنأى عن مضطهديه، هام على وجهه باكيا منتحبا، وإن كان لا يرجو من القدر الأعمى فرجا لكربته، فهو يعلم المكتوب له في لوح الأزل. إنه سيلفظ آخر نفس من أنفاسه قبل انشقاق الفجر، فمشى هائما يروعه تساقط أوراق الأشجار، وتقلقه زغردة الرياح، فينتبه إلى ما لا يدرك وكأنه يقول للرياح: رويدا رويدا يا أختي، فسوف لا تهبين إلا على ذئاب في ثياب، زمجري ما استطعت إذا كنت مستعجلة.
وكان الشبح يفتح عينيه السوداوين للريح العاتية دون أن تتأثرا بما يصفع وجهه من غبار؛ لأنهما غارتا في محجريهما.
كان ينظر إلى القمر الذي يتخبأ تارة خلف الأغصان، وطورا وراء الغمام الظاعن في بيداء السماء، فينفر من هذه المداعبة ويقبع كالغزال الشارد.
ولما بلغ ساق سنديانة قضت العاصفة على عنفوانها، قعد عليها يلتمس الراحة.
وأرخى لنفسه عنان التصورات، وراح يراجع تاريخ حياته منذ بلغ التذكر حتى الساعة التي هو فيها.
ندب سوء حظه ومصيره، وكيف بعد أن كان يتسربل ثياب النعمة السابغة، ويتقلب على فرش العزة والكرامة، أضحى طريدا شريدا ليس له مكان يسند إليه رأسه.
حاق به الذل، وجاءه الهوان فاحتل دياره، وأصبح له في كل عضو من أعضائه مرتع ومقيل.
فبعد أن كان بين البشر أعز من الحياة وأطيب منها، أمسى أذل من مومس، يطرد عن أبواب القصور التي كان يرتع فيها بالأمس.
كان لا يرضى إلا بفوق الفوق، وصار يرضى بأقل من القليل، ولا يدرك شيئا من القليل التافه.
وبينا هو غافل عن كل شيء، حتى وجوده، إذا به يسمع صوتا يناديه، وقد نزل في مسامعه نزول المطر على زهرة أضناها حر النهار: حبيبي أين أنت؟ - أنا هنا يا زهرتي الذكية. - حبيبي، وماذا تفعل وحدك في الغابة؟ أما خفت من الذئاب؟! - وكيف أخاف الذئاب وأنا بينهم؟ - وماذا جئت تعمل هنا؟ - أناجي الله لعله يسمع صوتي. - والذئاب قلت لك؟! - ولأجل الذئاب الداجنة أناجي ربي. ما هربت إلى هنا؛ إلا لأنهم سيتغلبون علي. لقد دنت الساعة ومن ينجيني منها؟
وكان المتكلم فتاة سماوية الجمال، إلهية الحسن، كالتي رآها سليمان وهام بها في نشيد أنشاده، ولكنها غير ملتحفة بالشمس والقمر والنجوم؛ لأنها ليست بطالعة من البحر. هي جبلية مثلنا، خطبها هذا الشبح المسكين قبل أن يصير الشبح الذي سبق وصفه، وقبل أن يصاب بدائه العضال، ولكنها لم تتخل عنه لشدة حبها له، ولم يبعدها عنه الداء القتال الذي ألم به فأحاله عن العهد.
آثرت هذه الفتاة الموت على حياتها بدون حبيبها. وها هي قد دنت منه، ورسمت على جبينه قبلة المحبة التي هي أقوى من الموت.
وبعد سكوت لا تصفه الأقلام هتفت به: هيا بنا يا حبيبي، إلى العش الذي أحسسنا فيه بالدفء. ألا ترى أنك ترتجف كهذه الأوراق التي تتساقط حولنا وعلينا؟ قم ولا تيأس، لا تقنط من رحمة الله. - أي عش بقي لنا يا حبيبي؟ لقد مزقته الرياح، والفراخ مهيضو الجناح. - قم قلت لك، انتصر على هذه السويداء بالرجاء. - عبث، دعيني أرقد هنا مستريحا، ما بقي من عمري إلا دقائق معدودة، اتركيني هنا وامضي إلى البيت وحدك.
فانتحبت الحبيبة وكادت تولول لو لم يزجرها بقوله: ابلعي صوتك، وإلا اهتدوا إلينا وقتلونا معا شر قتلة.
وتهاوت عليه وطرقت عنقه، فصرخ: إياك، ابعدي عني، ألا ترين سائر الأصدقاء والخلان الأوفياء قد هجروني ونبذوني؟ لم يعودوا يكترثون لي، فاتركيني وشأني، دعيني أموت وأنا أنظر إلى هذا الصنم الضخم الذي يلجئون إليه خدعة واحتيالا ... لا أجدف ولا ألعن، ولكني أقول: الويل للذين يأكلون اللباب ويلهون المساكين بالقشور. - قم معي، والله لا أروح ولا أدعك وحدك، الليل كافر يا حبيبي. - ليس أكفر من هؤلاء ...
ولما أعيتها الحيلة، قعدت حد رأسه تداعب شعره الذهبي بأناملها الفضية.
وبعد سكوت طويل، زمجرت الرياح، فارتعدت فرائص الشبح، وبكل تعب وجهد رفع رأسه والتفت نحو الشجرة التي قبالته. وبعد تأوه وتنهد قال لصاحبته: انظري إلى هذه الشجرة التي هي أمامنا. ألا ترين أن الرياح لم تبق من أوراقها سوى خمس ورقات؟ انظري إليها جيدا، تفرسي بها.
وظلت تظنه يهذي حتى قال: إن ساعتي الأخيرة مرهونة بسقوط هذه الأوراق الخمس، ومع سقوط آخر ورقة ألفظ آخر نفس من أنفاسي. - ماذا؟ أنت تموت؟ هذا لا يكون، لا يا حبيبي.
قالت هذا وطوقت عنقه بذراعيها وأردفت قائلة: أنت تموت؟ أنت تفارق الحياة وأنا أبقى؟
ثم أخذت تهطل الدموع بغزارة. وكانت كلما حدقت نظرها إليه، أمعنت في الشهيق وإرسال الزفرات الحرى.
وعند ذلك هبت ريح شديدة فذهبت بثلاث ورقات من الورقات الخمس، فهتف الشبح المسكين: مهلا أيها القدر لا تنزل غضبك ولا تجرد سيف نقمتك. مهلا أيها الحاكم الصارم. مهلا وارحم والدتي التي سيرمي بها فعلك في هاوية اليأس فالانتحار، ألا تدري أنها ستمسي ثكلى من بعدي؟ بالله مهلا، لا تقس علي، فلست أقوى من تلقي ضرباتك، واحتمال تعذيبك.
ولكن لا، فلتكن مشيئة المبدع، فكل شر يأتي من عنده هو السبيل إلى إيجاد ما هو أحسن.
خذ هذه الروح واذهب بها إلى دنيا أفضل، وارم هذا الجسم حيث تشاء، فلا خير فيه ما دامت خاصتي لا تعرف له قيمة.
ظنوه شيئا كلا شيء.
رحماك اللهم، ألا ترد عني كأس الموت؟ ألا ترحم شبابي؟ ألا ترثي لصباي؟ حول نظرك عني، إلى غيري، فأنا وحيد لوالدتي وركنها الوطيد.
أواه! ما من فنائي مناص. هذا ما حل بالغابرين حين زاغوا وفسدوا.
فأجابه صوت رددت الأودية صداه، وسمع في أطراف الغابة: لا مناص، لا مناص!
وتلت الصوت زمجرة ريح شديدة أطاحت بالورقة الرابعة. فصاح الشبح: ها قد سقطت الورقة الرابعة، ولم تبق إلا واحدة تكاد تسقط. فهيا أسرعي إلى البيت يا حبيبتي، ونادي أهلي وأقاربي ليأتوا إلى هذا المكان، فقد دنت الساعة التي أسلم فيها روحي؛ لا يجيئون لأنهم يخافون مني. يخافون أن تسري إليهم العدوى. آه يا ربي!
فصاحت الفتاة بملء فيها: أنا لا أبرح هذا المكان، فإما أن نذهب كلانا إلى البيت أو أبقى بقربك إلى ما شاء الله.
فقال الشبح: لا سبيل إلى البيت؛ ابقي أنت هنا لأنك لست مثل أهلي قلبك من تراب. آه ما أنبلك وأشرفك وأطهرك، وما أشد ظلمهم وبغيهم وخبث نياتهم، ولكن ابتعدي عني قليلا فإني أخاف أن تحرقك أنفاسي الحرى.
قال هذا وتمطى، وبعد ألف جهد أخذ غصنا يابسا خط به على الثرى: ما أثقل الحياة في أرض ماتت فيها الفضائل.
وهبت الريح مرة ثالثة وحملت الورقة الخامسة إلى مكان بعيد، واغبرت السماء، وانتشرت في الأفق غيوم سوداء مكفهرة تنذر بمطر غزير.
وطلع الصباح على جثتين: الشبح وبجانبه حبيبته الفتاة النبيلة، وفوق رأسه ومن حوله والدته وإخوانه: المروءة والدين والمحبة والوفاء والشرف.
فسلام على فقيدين وفيين نبذتهما الدنيا، ولما فقدتهما ندمت حين لا ينفع الندم.
لقد مثل الشاعر العظيم مصرع العدل والأخوة، فشبههما بفتى وفتاة، وشبه الدين والمروءة والمحبة والوفاء والشرف بالورقات الخمس التي، إذا تعرت منها شجرة المجتمع البشري، فقد كل فضيلة وانهارت فيه أركان السعادة البشرية.
إن الضمير، وهو الحارس الأمين لشجرة الإنسانية، هو الذي يوجهنا في سبيل الحفاظ على الورقات الخمس لئلا تصير شجرتنا حطبا لا ثمر فيها ولا ظل لها.
فعبثا نطلب أخوة بدون عدل، ولا عدل بدون محبة.
وإذا قالوا: العدل أساس الملك فنحن نقول: العدل أساس المجتمع لا أساس الملك وحده. فالملك زال ويزول، أما المجتمع فباق حتى قيام الساعة.
والويل للمجتمع إذا خلا من المحبة. أما غفرت ذنوب مومس المجدل لأنها أحبت كثيرا؟
من وحي الأعياد
عيد بأية حال عدت يا عيد؟!
كذلك تساءل الشاعر الجبار منذ ألف عام ونيف. وها نحن نتساءل اليوم، بل أكثر منا كل عام مضى: ترى ما يحمل لنا هذا العام بين ثنايا ثوبه المبطن.
الأعياد واحات يستريح فيها الإنسان هنيهة ثم يغذ في سيره إلى حيث لا يدري، ولكن ما لنا وللواحات. فالواحات صارت كلا شيء؛ لأننا صرنا نقطع الأجواء قاعدين. فاستراحت أجسامنا وتعبت عقولنا وأفكارنا.
كنا نصلي هاتفين: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، أما اليوم، والسماء تهددها الجبابرة، فلنسأل لها السلام بدلا من الأرض التي أخرجت من أحشائها ما دفع بنيها صعدا.
يقول أبو الطيب في شطر بيته الآخر: بما مضى أم لأمر فيك تجديد.
منذ ألفي سنة وأكثر كان لبني إسرائيل عيد يسمونه عيد التجديد، وقد قال سليمانهم: لا جديد تحت الشمس. فماذا تراه كان يقول لو قام اليوم ورأى إنسان هذا العصر يحاول فتح السماء بأقماره وصواريخه؟
وبعد فتح السماء، يا إخوتي، ماذا تنتظرون؟ ألا تكفيكم خيرات الأرض؟ اتركوا هذه الأسرار مكتومة لتظلوا تقولون: المجد لله في العلاء.
إنكم تزعمون أن قنابلكم العتيدة تفني الأرض. والأصح كان أن تقولوا: «تخربط» المسكونة وما تفني أحدا غيرنا. فالأرض تتكون بشكل جديد ليرثها غيرنا، فلا تتعبوا قلبكم يا مساكين!
تأدبوا يا قضاة الأرض. هكذا قال داود. ومع كل هذا إنني أتمنى للعلماء أن يعودوا من شطحتهم الجوية غانمين، فلعلنا نقضي ما بقي من العمر في سياحة ممتعة في كوكب غير هذا الكوكب.
أما الأعياد، وهي الغنية بالذكريات، فإنها تخمة للسعداء، وحسرة للأشقياء، وضربة على البخلاء ...
كنا صغارا وكانت أعيادنا على قدنا، ولما كبرت آمالنا وأمانينا، فصارت أعيادنا حسرات.
كنا ننتظر العيد في شبابنا، أما اليوم فصرنا نعد العشرة ونقول: ترى هل نعيش إلى العيد القادم؟
أما الفقير فعيده مأتم، ومع ذلك يساهم فيه قدر المستطاع.
المعسور والميسور كلاهما يتباريان في حلبة العيد، وما قتل الناس غير التشبه والمنافسة، ولولا أنفق الأغنياء كماليات الأعياد على عمل البر والإحسان لما شعر الفقير أن غنى البخيل جريمة كبرى.
ندعو بعضنا بعضا إلى ولائم كلها تخمة لنا، أما الفقير فله الله. ومن يعلم مشيئة علام الغيوب؟ فما أجمل أن ندعو الفقراء إلى مأدبة من مآدبنا السخية ونواكلهم على المائدة. ألا نكون، إذا فعلنا، قد عملنا بدعوة جديدة وأسلوبا طريفا من أساليب الحياة؟
وإذا كان هذا الاقتراح لا يعجب السراة، فليعدوا في الأعياد مأدبتين؛ واحدة للعراة الذين ما عليهم من الخام ريحة، وواحدة للسراة المموهين بالذهب.
ولكن ممن نطلب؟ فالكرماء المستورون غير قادرين، والبخلاء يوم العيد عندهم مناحة.
قلت فيما سبق: العيد ضربة على البخلاء. وقلت اليوم: العيد مناحة صامتة. والسبب هو أن البخيل لا يقوى قلبه على مفارقة رفقاء العمر من ماله، تلك القروش التي ألقاها في حبس الدم، فشابت وهرمت في صندوقه.
جميع الناس يفرحون في الأعياد، وينتظرون مقدمها، إلا البخيل، فإن دقات قلبه تزداد رويدا رويدا كلما اقتربت ليلة العيد. فهو يتلوع سلفا لفراق حبيبه القرش الأسود، ولا كان اليوم الأبيض.
إنه البخيل يوم العيد حتى بالابتسامة، فلا يفتح شفتيه على مصراعيها، يشق باب فمه نصف شقة، وينظر إلى المعيدين وكلهم لا يسوون في نظره قرشا واحدا يفلت من الحبس.
عرفت عملاقا من هؤلاء البخلاء، فترحمت على أبي العتاهية القائل:
إنك لو تستنشق الشحيحا
وجدته أنتن شيء ريحا
كان هذا البخيل المثالي عقيما، قلت: عقيما وأنا أعني ما أقول، فجاء لداته يقولون: أنت لا تطمع في عقب، أليس من الخير أن تعطي قسما من ثروتك الوافرة إلى ابن أخيك؟
فأعمى ذلك الخبر الأسود نظره، ولكنهم لم يتركوه وشأنه، بل راحوا يداورونه. فراح يعتذر وينشر العلل. وأخيرا اهتدى إلى حل من باب: «عين لا تقشع وقلب لا يوجع.» فكتب سندا لأمر ابن أخيه يستحق بعد ثلاثين سنة.
هذه حكاية هذا البخيل العبقري. أما أنا فما عرفته إلا على أبواب التسعين، فزرته إذ ذاك ورأيته يهمهم ويدمدم، فقلت: خيرا إن شاء الله.
فقال: وأين الخير؟ كتبت سندا لابن أخي منذ ثلاثين سنة، على أمل أن يقبضه بعد موتي، وها أنا عشت ولا بد من الدفع.
فقلت: اشكر ربك إنك عشت. عيد مبارك.
فصرخ: ومن أين تأتي البركة؟ هل يجيء من الأعياد غير الخسارة؟ الموت أحب إلي من الحياة بعد فراق ألف عملية تذهب غدا من صندوقي ...
فقلت: الخير كثير.
فقال: المال مثل الأولاد، لا أحد يغني عن أحد.
فتركته حين أجهش بالبكاء، ومشيت وأنا أقول: لو عرفت أن الرجل عنده مأتم لألف عزيز يفارقونه غدا لما جئت صوبه في هذه الضيقة.
ثم انفجرت ضاحكا وأنا أخرج من الباب وقلت: هذا لم يحظ به الجاحظ حين سمى بخلاءه أصحاب الجمع والمنع.
مع الشمس
تحية أيتها الطالعة من وراء جبالنا لتلقي علينا ابتسامتها المحيية. ابتسامة الأمل لطفلها.
داست أقدام الأجيال رءوس السنين، واضمحلت الدهور وسحقت شعوبا لا تحصى، وأنت لا يزال شبابك يتجدد.
هرمت الآثار وانسحقت تحت حوافر خيل الزمان الجامحة، وأنت ما لا تزالين ضاحكة مبتسمة. ضاحكة من عظمة الإنسان وسرعة فنائه. ضاحكة من كبريائه وعجرفته. هازئة بعظائمه الزائلة كالظل.
في العصور الغابرة نازعت الخالق الألوهية، واغتر بجمالك الإنسان، فطأطأ لك الرأس، وعفر الجبين بالتراب.
حسب في جمالك الباهر قوة الخالق. ظن في ابتسامتك حياة وجود، ولا بدع أن عبدك، فكثيرون هم اليوم من يعبدون الجمال ويسجدون للابتسامة.
إن رفع الإنسان الضعيف الهياكل على الأعمدة القوية ليناجي تحت سمائها بهاءك الأبدي وجمالك الأزلي، فاليوم يشيدون القصور المزخرفة والبيوت الجامعة لشتات الرونق والبهاء، ليعبدوا في داخلها جمالا زائلا.
هذه البيوت، لو قيست بهيكلك العظيم «قلعة بعلبك» لما كانت دونه قوة بالنظر إلى حالة الإنسان. فاليوم يدرك المرء الشباب في سن الصبا، والشيخوخة في الشباب؛ وهذا ما يجعل الأثمار غير ناضجة وشهية. هذا ما يفقدها بعض معاني اللذة والجمال.
ينتظر الفقير طلوعك على الوجود ليجد في سبيل اكتساب لقمة يسد بها رمقه.
تصبو إليك الضوضى لتحيا؛ لأن انحجاب وجهك عنها يجر عليها الوحشة فتموت.
الجاهل يراك حملا ثقيلا على البشرية؛ لأنه ينقطع عن اللهو إلى العمل، عن الملذات إلى الحياة الحقيقية، إلى الجد والنشاط.
والعاشق يصبو إلى غيابك ليخفي بين أحشاء الظلام وحشته وحزنه، والليل أخفى للويل.
أيتها الشمس! كم شهدت من الحروب الطاحنة، وكم اصفر وجهك حين وقعت عينك على متاعب البشرية المعذبة!
كم غطيت وجهك بالغيوم كيلا تري ما نراه. وكم كسفت من الأنوار فمثلت بأدوارك هذه ما يطرأ على الإنسان، هذا المخلوق القوي كإله، والضعيف كاللاشيء.
أيتها الشمس! كم شاهدت من فظائع البشر، فكنت وما زلت تضحكين لكل شيء وتهزئين بكل شيء: للموت والحياة، للخراب والعمران، للعلم والجهل؛ فكأنك عالمة سرا لا تفشينه لمخلوق، عارفة أن كل شيء صائر إلى الزوال. كأنك شاعرة بضعف الإنسان الذي يدعي الألوهية ولا يخجل، يتدرع بالقوة ولا يستحي.
إنك تمثلين في كل يوم أطوار الحياة، فأنت في الصباح لطيفة، وفي الظهر فتاة قوية، وفي المساء عجوز هرمة رسمت يد الشيخوخة خطوط اصفرارها على جبينك.
في الظهر تمثلين المرء في أيام عزه وجبروته حين لا تستطيع أن تتفرس به النواظر، ولا تمتلئ العين من النظر إليه.
وفي المساء تمثلين دور سقوطه حين ينظر الجميع إليه بعين المزدري الضاحك من الزوال، غير المفكر بهذا السر العظيم. سر الانقلاب والاضمحلال.
أيتها الشمس! أنت أصدق مؤرخ لو نطقت، أنت رافقت الإنسانية من المهد، وسترافقينا إلى اللحد، شاهدت مآتمها وأعراسها، شبابها وشيخوختها.
وفي هذه البقعة الخضراء نظرت إلى عبادك الفينيقيين تجري في عروقهم دماء الحياة، يرفعون القصور العالية ويذللون البحار، واليوم تشاهدين أطلال مجدهم وبقايا آثارهم.
رأيت الشرق في أعلى سماء التقدم، ونظرت الغرب يحل محله. وسترين غير الاثنين في مقام لا نظنه يصل إليه.
أيتها الشمس! لماذا لا تحسدك النجوم على مقامك السامي؟ لماذا لا تحاربك لنرى كيف تتطاحن الكواكب؟ أم أنت منزهة عن كل خصام وشقاق؟
خلقت لتمجدي الله دائما، ولن تتسلقي جدار حقوقك وواجباتك كما يفعل الإنسان الحقير أمام خالقه الجبار ولا يخجل.
كنت شاهدا على طرد آدم من عدن، على ضلال قايين، على دماء هابيل، على الطوفان الذي كان ليغسل الأرض من أدران الإثم.
رأيت دخان رومة مرتفعا إلى الغمام ولم تأسفي، سمعت ضجة سقوط أسوار أريحا ولم ترتعدي. نظرت ضربات مصر ولم تنتقمي لها من فرعون الظالم ...
والمارتينيك، وبومباي، وقرطاجة، وسان فرنسيسكو، محقها الدهر وسحقتها الأقدار تحت أقدامك، فابتلعتها لجة العدم، وأنت ناظرة إليها بثغرك الذهبي، ولم تزده رهبة الفناء صفرة.
أيتها الشمس! رأيت الجبابرة تغتالهم الصعاليك، كما شاهدت الفقير يموت على الطريق أمام أبواب القصور.
كل يوم تطلين على الوجود بجمال غير متغير، فهل لك أن تعلمي المتلونين المتقلبين أن يثبتوا؟
أنت تشاهدين الآثام كل ساعة ولا تغضبين على أحد، فهل لك أن تعلمي الجالسين على كرسي موسى سعة الصدر فلا يغضبوا للأمور الطفيفة؟ أنت لا تنتقمين عندما ترين ما تنقبض له أسرتك، فهل تعلمين محبي الانتقام الصبر والأناة؟
إن حملك خفيف ونيرك طيب. فهل يسمع ما أقوله عنك أصحاب الأحمال الثقيلة التي يسقط تحتها الفقير كما يسقط الكوخ المتداعي تحت أقدام الصاعقة؟
أنت لا تقاومين الغيوم إذا وقفت بوجهك؛ لأن ذلك من واجبات الريح، وهي تبددها من أمامك. فهل يتعلم منك البعض فلا يتجاوزون حدودهم؟
لم نسمع أنك اهتممت بأن تمطري عوضا عن الغيوم، فهل يفهم ذلك منك أولئك المتداخلون بما لا يعنيهم؟
أيتها الشمس! كم أتمنى أن تظهري بغتة في ظلمة الليل لتري فظائع البشر ومفاسد المدنية؛ لتعلمي السر الذي ندرك به الشباب في الصبا، والشيخوخة في الشباب؛ لتنظري في القصور المقامرين والمقامرات، وفي الحانات السكيرين والسكيرات.
لقد سقطت عن عرش الألوهية ولم تغضبي. وبعدما كان يناجيك الإنسان كالإهة عظمى، أمسى يفكر بالصعود إلى جوارك، بل إليك لولا نارك! ولا أحسب أنك نسيت صلاة الفيلسوف نون الذي كان يقدمها لك في صور منذ خمسة عشر جيلا ساجدا لك هاتفا بك: «يا ملك النار ومبدأ العالم، أيتها الشمس المنظمة الأزلية لحياة البش،. من عجلتك الذهبية ينزل العمر، وإذا ما هجمت على الليل يهرب عن عرشه. إن مرجة السماء الواسعة تتهلل بقدومك، وتحت قرصك تنبت الحياة وتنمو. يا من قمصانك المرصعة بالنجوم تنير السماء، أعيريني أذنا صاغية واستجيبي لصلاتي.»
فأجابتني الشمس: من بدء الخلق وأنا أتمم واجباتي، ولا يعتدى علي ولا أعتدي، وأولا وآخرا، لا حول ولا قوة إلا بالله.
إلى إخواني الطلاب
قد تقولون، أيها الأعزاء: ما بال هذا الرجل يركض وراءنا إلى بيوتنا؟ أما شبعنا من نصائحه في الخريف والشتاء والربيع حتى يلحق بنا في الصيف؟ أليس الصيف للاستراحة؟
نعم يا عزيزي، ولكن الصيف للتحصيل أيضا. إنه لتحصيل غير التحصيل المدرسي. التحصيل المدرسي لا بد من تجرعه، أما التحصيل الذي أدعوك إليه فهو مغذ لعقلك، ومنم لمعارفك، ومقو لتفكيرك. إنه لذيذ الطعم لا تستطيع الحصول عليه في المدرسة. فالمناهج الموضوعة لك تضيق عليك، ولا تدع لك وقتا للمطالعة، مع أن القراءة النافعة هي الغذاء العقلي والدم الجديد.
أنت تعلم مما تقرأ أن الطب الحديث يدخل في عروق الضعفاء دما جديدا، وليتر الدم يساوي ثلاثماية ليرة.
لا تخف فما أنا جراح وأريد إدخال دم جديد، فالدم الذي أعنيه هو القراءة، وسأكون معك خفيفا لطيفا، فلا أحملك في العطلة التي انتظرتها ما يثقل عليك. إنني أدعوك إلى مجالسة صديقك الكتاب، وأسألك ألا تجافيه وتعرض عنه، فهذا الصديق هو أبقى لك من كل الناس حتى أبيك وأمك.
إن وصيتي لك ليست بدعة جديدة، فأنت طالب معرفة وعلم، وأول آية أوحى الله بها إلى الإنسان هي:
اقرأ باسم ربك ، فأنا إذن لم أتجاوز معك حدود الله، فاقرأ باسم الله وتوكل عليه. وكما أوصى القرآن الكريم بالقراءة للاستنارة والهدى والإرشاد، كذلك قال الإنجيل: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.»
فالإنسان محتاج إذن إلى خبز آخر هو خبز المعرفة، وهذا الخبز لا تجده إلا في معاجنه الخاصة؛ أي الكتب. فالدول اليوم تحشد كل قواها لتنور عقول شعوبها، ولا حيلة إلى ذلك غير حمل الرعية على القراءة، فتوصلوا أخيرا إلى توجيه مكتبات تطوف الأرياف، وتدعو الناس إلى المطالعة بالمجان.
أعرف أن أول من حض الناس على مؤاخاة الكتب والدفاتر هو ناطق بالضاد مثلك وهو أبو الكتاب العربي. إنك تدرس شخصية هذا العبقري وأدبه، فهو الذي انبرى إلى الدفاع عن الكتاب منذ ألف ومائتي سنة؛ ذاك هو الجاحظ الذي اجتمع في شخصه الضدان: الحلاوة والبشاعة.
رووا عنه أنه كان يستأجر دكاكين الوراقين ليلا ليقرأ ما فيها من كتب. وقالوا إنه لم يعثر بورقة إلا لمها وقرأها ولو كانت على مزبلة. لست أظن أن أحدا وصف الكتاب كما وصفه هو حين قال: «الكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشي ظرفا، فهو بستان يحمل في ردن، وناطق أخرس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى. ولا أعلم جارا أبر، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع من الكتاب.» «الكتاب لا يجادل، ولا يشاغب، ولا يماري. وهو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يداجيك، ولا يداهنك. لك فيه نزهة وسلوى وغنى عن مناظرة الناس ومذاكرتهم، وسماع ألفاظهم الساقطة ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية.»
أعرفت إذن إلى ماذا أدعوك، إلى المطالعة صيفا، فاجعل لكل شيء وقتا، ولا تنس الكتاب من وقت يومي، ثم لا تخرم الميعاد.
إن الكتاب، يا حبيب القلب، لا يطرح نفسه عليك، ولكنه دائما في انتظارك، ينتظر منك غمزة ليجيبك: «عبدك بين يديك» كما كانت تقول المرحومة ستك في حكاية خاتم لبيك.
وبعد يا عزيزي، فالكتاب هو الذي صنع العظماء وخلق العبقريين. أليست الدنيا كلها هي كتاب الله الأعظم؟ وقد قالوا: لكل أجل كتاب، ولكل إنسان كتاب يحمله بيمناه حين يقف بين يدي ربه؟. فتمرن أنت منذ اليوم لتحمله جيدا، وتكون من العارفين. فالكتب هي سجلات المعرفة الماثلة دائما بين يديك متى شئت، أما السينما التي لا تخلف مواعيدها، فهي معرفة أيضا، ولكنها معرفة عابرة، ضائعة بعد حين، كما قال الشاعر:
كل علم خارج القرطاس ضاع
كل سر جاوز الاثنين شاع
والكتاب محك الأذهان والألباب، وعلى ضوء مطالعته تتفتق مواهبك المختبئة وراء ستر كثيف.
لا أظن أنك نسيت حديثي آخر مرة، وفيه قلت لك: المدرسة تعلمك القراءة، والجامعة تدلك على الدروب، ولكن المدرسة لا تقرأ عنك. ومتى علمت أن نوابغنا ونوابغ الدنيا جمعاء لم يتعلموا في مدارس اليوم، ومع ذلك حققوا قول أحد العظماء: «إنني أخاف صاحب الكتاب الواحد.» فاقرأ إذن يوميا، واقرأ بإمعان، لا لتتسلى فقط.
إذا كانت أجسادنا تحتاج إلى بعض حبوب الفيتامين، أفلا نحتاج يوميا إلى القراءة لنداوي ما في عقولنا من فقر دم؟
وإذا سألتني قانونا للقراءة، قلت لك ما قاله برناردشو: «القانون الذهبي في هذه الحال هو أنه لا قانون هناك.» قس القراءة على الأكل. أما قال أبوك وجدك: «كل ما تشتهي نفسك؟» فكل غذاء لا تشتهيه النفس، لا يستطيبه الآكل، ويكون كالدخيل على الجسم. فاقرأ إذن ما تحب. كن واثقا بنفسك، واعلم أنك ستكون رجلا إذا طالعت. ومن يدري أنك لا تصير من أصحاب الكتب التي تقرأ وتنير إذا اجتهدت؟
يسرني أن أشجعك، ولهذا أقول لك: إن الكتب العظيمة تطبع في المدن والعواصم الكبيرة، ولكنها كتبت وتكتب في القرى، أو في الأحياء الحقيرة.
إذن فثابر واجتهد لتكون واحدا من هؤلاء الكتاب الأفذاذ، وهذا لا يكون إلا إذا قرأت كل يوم بانتظام. فقراءة ساعة كل يوم تمكن كل ذي مقدرة عقلية عادية من أن يصير متضلعا من علم ما، وتمكن من هو غير متعلم أن يصير مثقفا عارفا في غضون بضع سنوات.
أنت تلازم المدرسة بضع عشرة سنة، ولكنك قليلا ما تقرأ غير الدروس المفروضة عليك، فليتك تنتزع من الأوقات التي تضيعها ساعة للقراءة والكتابة.
إن مؤلفة كوخ العم توما ألفت هذه الرواية الشهيرة بما انتزعته من وقت كان يضيع لولا همتها وحزمها. ولونغفلو ترجم جحيم دانتي في الدقائق العشر التي كان ينتظر فيها غليان قهوته كل صباح. والفردوس المفقود لملتون نظم في اختلاس بضع دقائق يوميا.
لا تيأس مهما يكن عقلك سميكا، ولا تنس أن شاعر الكنيسة وملفان البيعة أفرام السرياني كان قنط من عقله السميك لو لم يسأل تلك المرأة عن خرزة البير التي براها الحبل على طول الأيام.
لا شك في أنك ككل ناشئ، تطمح إلى أن تكون شيئا مذكورا، وها قد دللتك على طريق العظمة، فنظم وقتك واعمل بقول أمك: تحسيك الخلية من أولها.
1
بحياتك قل لي: مهما تكن مجنونا وأبله، هل ترمي بليرة على قارعة الطريق كما ترمي بعض النفايات؟
الجواب: لا، فما قولتك إذن بالذي يرمي على طريق الحياة ساعة من زمان كل يوم؟
إننا نرمي الساعات ولا نبالي.
الآن قد انتهت معركة الامتحانات. فإن كنت لم تفز فالواجب يقضي عليك بألا تضيع فرصتك في صيد الحجلات، ورمي الشباك للحمامات التي تفرفر حول بيتك وتهاجمك من الشباك. سد النوافذ سدا هرمسيا. وضع كل وكدك في منهاجك.
كثيرا ما نسمع في هذه الأيام أخبار انتحارات طلاب وطالبات؛ إن الانتحار ليس بعذر مقبول. لقد ولدنا للحياة، فلماذا نستعجل الموت؟ فدرس متواصل يغنينا عن تمثيل هذه المأساة.
الشهادة كالحرية، تؤخذ ولا تعطى، فحصلها بدرسك. ومع ذلك فإني أرى كل شهادات الأرض لا تساوي حياة واحد من الناس مهما يكن تافها.
سألني الكثيرون: من أين لك الوقت لتكتب كل ما تكتب، وهم لو عرفوا أني صرفت حياتي كلها في هذا الميدان، ولو كنت حرصت، كما يجب، على عدم ضياعها لكان لي أضعاف ما لي.
ويسألني غيرهم إذا كان عملي التعليمي يحول دون عملي الأدبي فلهؤلاء أقول: إن رجال الأدب في عصر دانتي كانوا كلهم إما تجارا، وإما أطباء، أو قضاة، أو جنودا.
وأنا أعرف كثيرين قد انتزعوا شهرتهم من بين أشداق الفاقة. إذن إلى ماذا ندعوك بعد طول هذه السيرة؟
ندعوك إلى الدرس، إلى قراءة ساعتين يوميا في فرصة الصيف، فتسمن ضلعك وتعود إلى المدرسة قويا نشيطا.
كثيرا ما يعود الطالب إلى مدرسته في تشرين وقد نسي كل شيء تقريبا؛ لأنه طلق كتبه وأشاح عنها إلى غيرها ... إن هذا الطالب لن ينجح.
وكثيرا ما أعرف من أولياء طلاب يعلمون أبناءهم صيفا ليقفزوا في صفوفهم.
إن العلم لا يدرك بالقفز والجمز والنط. فالثمرة التي لا تمر في جميع أطوارها لن تكون شهية لذيذة. فلينضج أبناؤنا على مهل، فهم ثمار الإنسانية والطفرة في الحياة محال.
فلنمتن حيطان ثقافة أبنائنا، ولا ننح باللوم على مدير التربية وأعوانه إذا قصر أبناؤنا. ولنسهر على أولادنا فهم في حاجة إلى ذلك. وإذا سهرنا على تصرفاتهم المسلكية في الفرص المدرسية - وما أكثرها - أمنا وقوع الكارثة.
فيا أيها الآباء المحترمون! فلتكن عيونكم على بنيكم عشرة عشرة، كما يقولون، ففي هذه السن يتقرر مصيرهم.
لا أريد بهذا أن تضايقوهم فيتمنوا زوالكم، كما قال معاوية، بل خذوهم بالحسنى ولا تجعلوا نصحكم لهم مصارعة لئلا تصرعوا معا.
وكلمتي الأخيرة إليك، أيها الأب، هي أنك إذا رأيت أقل عداوة بين ابنك والكتاب، فحاول أن تؤلف بينهما، وإلا فتداركها بالفراق لئلا تنفق عليه ما لا ينفعه أكثر إذا بذل في غير سبيل تحصيل العلم.
كيف تصبح رجلا ناجحا
إذا التقيت برجل مهموم مغموم، وبدأ يشكو لك نكد دنياه، زاعما أن أشغاله فوق رأسه، وليس له وقت يتنفس فيه، فلا تصدقه ولا ترث له، واعلم أنه لا يدبر الأمور ولا يعرف كيف يستفيد من وقته. فالوقت أوسع مما يظن لو أحسن استعماله.
تخبرنا التوراة أن الله خلق الكون في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح من جميع أعماله، ورأى كل ما يصنعه حسنا لا يحتاج إلى تنقيح. وفي هذه الحكاية أروع درس للذين من الإشارة يفهمون.
فإذا كان الله، جلت قدرته، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، قد قسم أعماله على أيام معدودات، أفلا يجدر بخليفته الذي خلقه بنفخة أن ينسج على منواله، فينجز ما يهم بخلقه ويظل مستريحا؟
لا ينقذنا من همومنا، إذ تتراكم الأشغال علينا، إلا تقسيمها على أيامنا، فنخص كل يوم بجزء لا نتناول غيره، فالرجل، مهما يكن ضعيفا، يستطيع أن يعمل ساعات في اليوم، وهذه الساعات متى ضمت إلى بعضها تصبح أشهرا، وتصير الأشهر سنة، وإذ ذاك تظهر لنا جليا فائدة هذا التقسيم وما أعقبه من راحة.
أما إذا كنا نخلط أعمالنا، فإننا نعيش في قلق وهم ولا ننجز شيئا.
ولعل السيد المسيح حين قال: «لا تهتموا بما للغد» يوصينا أن ننصرف بكليتنا إلى عملنا اليومي، ولا نفكر بالغد بل نجعله كأنه لا يعنينا أمره.
لا تقل: ماذا أفعل غدا، بل قل: ما علي أن أعمل اليوم. فإذا خابت أمانيك أمس فلا تبك عليها اليوم وغدا، فالماضي سجل انطوى، والغد صفحات مجهولة، فليس لنا إلا الحاضر، فلننكب على إنجازه، ولا تنجز الأعمال إلا إذا قسمت، فالثروة لا تدرك إلا قرشا قرشا، والقصر لا يبنى إلا حجرا حجرا ومدماكا مدماكا، والذي أبدع التجارة بالتقسيط يستحق التعظيم، والبنوك التي سهلت للناس طرق التوفير لجمع المال قد أغنتهم وعلمتهم جمع الثروات. فهذه كبريات الدول تقسم إنشاءاتها على سنوات.
يصعب كثيرا على الإنسان، إذا لم يكن ذا مال، أن يبني داره ويؤثثها بطريف الرياش، ولكن عندما ينفسح له في مجال المشترى بالتقسيط يعيش في بيت جديد ناعم البال، ويعمل مطمئنا ليهيئ ما يستحق عليه من أقساط شهرية.
وبسهولة التقسيط نفسها، نستطيع أن نعمل يوميا بكل راحة إذا قسمنا عملنا على يومنا وتناسينا هموم ماضينا ولم نفكر بالغد.
إن الانصراف إلى الساعة التي نحن فيها يشحذ همتنا ويجعلنا ننصرف إلى العمل الواحد في الساعة الواحدة. فلا يجدر بنا أن نعمل عملين في آن واحد، وإذا حاولنا فلا نقدر على إنجاز شيء.
كيف حالك اليوم؟ هكذا يسأل بعضنا بعضا، فما سمعت في حياتي من يسأل كيف حالك أمس، ولا كيف حالك غدا. وفي الصلاة لا نطلب من الله إلا قوتنا اليومي، ولا نقول له حين نصبح إلا: اجعل يا رب نهارنا سعيدا.
ترى لماذا نترك الزهيد الذي نحصل عليه، ونعيش في جنات المستحيل المعلقة بحبال الأماني الفارغة؟
لماذا نترك الحاضر، وإن تافها، لنسعى وراء طائر جميل صورته لنا أمانينا؟
إن المسترسل في أمانيه، المعرض عن واقعه، لهو أشبه بالمنبت الذي «لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» كما جاء في الحديث الشريف.
فليكن لنا برنامج عمل يومي نسير عليه. كما لا نؤجل عشاء أو غداء، كذلك يجب أن نتقيد بهذا البرنامج العملي إذا شئنا النجاح.
إن حامل السلم بالعرض لا يمشي مستريحا، ولا يفتح الطريق لغيره ليسير الهوينا. ومن يخلط أعماله ببعضها لا ينجز منها شيئا، ويمضي نهاره دون أن يتم واحدا منها.
كل بدوره أيها السادة، هذه عبارة قرأت حكايتها في كتاب نسيت اسمه، وهي أن ببغاء كان يرددها، وهو موضوع في قفص معلق في مدخل أحد نوادي الصيد، فإذا أقبل الأعضاء على باب النادي راح الببغاء يردد عبارته المحفوظة: «كل بدوره أيها السادة.» ونحن إذا انصرفنا إلى مشكلاتنا كلا بدورها استطعنا حلها، ووجدنا راحة في الترتيب.
ولكي نقطع الطريق على هموم الغد يجب أن نوزع عملنا على أيامنا، ولكي ننفذ علينا ألا نبقي أمامنا أو في متناولنا إلا ما نخصصه لعمل نهارنا، وبهذا نبعد عنا الهم والخوف من أعمالنا الكثيرة.
خاف أحد تلاميذي من برنامج صف الفلسفة فصار يحوم حول تلك الكتب ولا يجرؤ على مد يده إلى أحدها، وخصوصا فلسفة التاريخ الطبيعي. فقلت له، بعدما كاد ييأس: باشر، فقد ذهب الوقت.
فأجابني : أرأسي مخزن حتى يسع كل هذه الكراريس؟
فتركته ورحت أفتش عن حل لمعضلته وقد تجسد أمامي مستقبله الضائع إذا ظل في هذا الخوف. ومع الصبح غدوت إليه غدوة امرئ القيس، فوجدته لم يشرع بعد في عمله، وما زالت كتبه مرصوفة على المكتب أمامه.
فقلت له: خذ واحدا منها وبادر.
فقال: أي كتاب آخذ؟
قلت: خذ كتاب التاريخ الطبيعي، وابدأ، فمثلنا يقول: العتبة نصف الدرب.
فأجابني: لو كنت اخترت الهرم الأصغر لكانت نصف مصيبة.
فقلت له: إننا نصير الهرم الأكبر أقل كثيرا من الأهرام الصغيرة.
وتناولت كراسا من تلة تلك المجموعة وقلت: ألا تستطيع حفظ هذه الوريقات بيومين؟
قال: بلى أقدر.
فقلت: احفظه، والملتقى بعد غد.
وجئت في الموعد فوجدته قد استظهر الكراس الأول فقلت: خذ الثاني، والموعد بعد غد.
ونهجت معه هذا النهج شهرا، فإذا به صار يمشي وحده، وأخيرا فاز بالشهادة وصار اليوم قاضيا مرموقا.
فلو لم نفرق تلك العشرات من الكراريس لما تجرأنا على مهاجمتها، فكلمة فرق تسد تستعمل أيضا في غير السياسة.
إن الذي لا يعرف من أين يهاجم وكيف يصادم لا يربح معركة. فالساعة الرملية تفرغ ما فيها في أربع وعشرين ساعة، ولا يعني حبة أن تزاحم أختها في الممر المعمول على القد، وهي لو فعلت لتعطل السير، ومثل تلك الساعة يجب أن تكون سيرورة أعمالنا اليومية كما قالت تلك الببغاء: كل بدوره أيها السادة.
هكذا يجب أن نعمل - الآن - ولا نهتم للغد، فالغد يهتم بشأنه.
ولكن الإنسان خلق عبدا لأحلامه وأمانيه، فلا يرضيه ما حوله بل يتطلع دائما إلى الأفق المجهول. يكون في جنة وحوله ثغور أجمل الأزهار ترنو إليه، فيعرض عنها ويفتش عن غيرها.
يكون في بحبوحة، ويخاف أن يفتقد الرغيف ولا يجدها، والذي يخاف على تعذر الحصول على رغيف الغد هو مختصر إنسان ... فالإنسان يعلم أنه ليس عليه أن يتوانى، فإضاعة دقيقة هي فقدان الرغيف الذي يحن إلى طلعته. يجب أن نجري مع الزمن، فاليوم الجديد هو حياة جديدة، إن النوم هو موت مؤقت وقد يؤدي بنا إلى موت أبدي إذا لم نستقبل الغد ببشاشة، ونحييه تحية المحب المشتاق النشيط، ونبدأ عملنا بلا مقدمة ولا تمهيد.
إن لذة الحياة هي في العمل المستمر، وترك العمل يولد التفكير بمصاعب الحياة ومصايبها، وهذا التفكير يولد الهم والقلق. فالحياة وجدت لكي نعيش فيها لا لكي نفلسفها؛ ولكي نبعد الهم يجب أن نخلق لأنفسنا أعمالا تسد الفراغ. يجب ألا نفكر في غدنا إلا عندما ينتهي نهارنا. وإذ ذاك نضع منهاج الغد، فبدلا من أن نجتر همومنا في قيلولتنا فلنستيقظ.
إن كل يوم هو أشبه بالليمونة تقسيما. وعلى غرارها يجب أن نقسم أعمال يومنا. وأخيرا يجب أن لا نرمي الليمونة في صندوق الزبالة إلا بعد أن نيأس منها.
يقول المثل: «الأمور تدبر بعضها» فلماذا نستبق الزمان، لماذا لا نعمل هادئين تاركين حبل الغد على غاربه؟
إن معلمنا الأكبر هو معنا، هو قلبنا، فليكن دليلنا حقا، ولنتشبه به في انتظام دقاته الرتيبة. فلولا هذه الرتابة ما استطاع أن يعمل سبعين ثمانين سنة ليلا نهارا.
من يستطيع تغيير ناموس الحياة؟ ألم يقل الحجاج: «لا بد مما ليس منه بد»؟
ألم يقل الجلاد لسقراط، حين ناوله كأس السم: «ارض بما ليس منه بد؟»
إن المؤمن لا يخشى شيئا، بل يتابع طريقه على بركة الله. يتابعها ولا يخاف شيئا. فإن كان مسيحيا فعنده: «شعور رءوسكم محصاة لا تخافوا، فشعرة منها لا تسقط بدون إرادة أبيكم.» وإن كان مسلما فهو متوكل على ربه في كل ثانية يردد:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا . وإن كنا نؤمن بالعلم الحديث فنحن باقون ندور مع هذه الأفلاك كيفما دارت، وأي شيء يهمنا؟
لقد مضى الزمن الذي كان فيه المرحوم جدي يخبرني عن انتهاء العالم العتيد، ويختم كلامه بقوله: «تؤلف ولا تؤلفان»؛ أي لا تأتي سنة الألفين ميلادية حتى تقوم القيامة.
فأين هو اليوم ليقرأ ما تنشر الصحف والمجلات، ويعلم أننا ننتظر أن نشيد لنا دكاكين ومحطات بنزين وغيرها في القمر والزهرة والمريخ؟
فإذا رأيت الرجل مطرقا، شارد الفكر، مهموما، فاعلم أنه لا يحسن تصريف أعماله، بل يكردسها فتتراكم ويحمل همها. إنه يجعل من تأجيلها خميرة للقلق واضطراب الأعصاب. وهو، لو أراد، لاستطاع أن يخلو من الهم، وعاش مثل صاحبنا الدرويش.
في الحرب العظمى الأولى، التقيت بدرويش يحمل كشكوله. وكنت أنا أحمل زادي. فالخبز عز في ذلك الزمان ولو كان خبز شعير.
ترافقنا مسافة غير قصيرة. وأخيرا مر بنا غني يركب عربته، فتقدم منه الدرويش يقوله: «من مال الله!»
فوقف الرجل وأمر خادمه أن يعطيه، فأعطاه بضعة أرغفة، فأخذ اثنين فقط ورد البقية.
فصاح به الغني: أفي هذه الأيام يرد من خبز القمح؟
فقال الدرويش: هذا عشائي، أما فطوري فعلى غيرك، إن عشت.
فقلت له بعدما مشينا: يا درويش الخير، ألا تخاف الجوع؟
فقال: لا والله! ومن يتوكل عليه يظل مكفيا. لي سبعون عاما، وأنا أطوف في أرض الله ولم أحرم القوت. أتكون البهائم خيرا منا؟
ثم حملق بي وقال: ألا تعرف ماذا يقول إنجيلك: «تأملوا طيور السماء فإنها لا تزرع ولا تحصد، وأبوكم السماوي يقيتها»؟
نحن لا ندعو إلى عيش الزهد والتقشف والتوكل بدون عمل وسعي، ولكنا ندعو إلى حياة رتيبة حافلة بخير العمل الذي لا تلذ هذه الحياة بدونه. وإذا شئنا أن نخفف همومنا فلنعمل بقول المتنبي:
لا تلق دهرك إلا غير مكترث
ما دام يصحب فيه روحك البدن
فما يديم سرور ما سررت به
ولا يرد عليك الفائت الحزن
فليت الذين يركبون كتفي الدهر ويجعلون كل خطاياهم في رقبته يحسنون استثمار حياتهم، ويكفون عن سب الدهر المسكين. فلو صارت الأرض كلها أقمارا وصواريخ فإنها لن تعثر عليه لتقتص منه ...
التربية الوطنية في لبنان
لا أرى في مدارسنا كتبا وضعت لناشئة لبنانية.
فتشت في الكتب حتى عييت، فما وجدت واحدا منها يتسم بطابع الدولة كما هي الحال في الدول التي تؤمن بذاتها وبكيانها.
جاء في وصية النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى معاذ بن جبل وأبي موسى: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا .»
ما رأيت دولة تمثل تمثيلا أشبه بالملهاة كما هي الحال في لبناننا العزيز. ولسنا نحس الانقلابات والتطورات إحساسا يفوق حسن النظارة في المسرح. إننا نفرح بمرسوم، ونحزن بمرسوم، وهل يفرح حقا من يؤمر بالفرح؟
إن الحياة المدرسية هي نواة الحياة الاجتماعية الوطنية. فهل من يقول لي: ماذا نزرع - على مقاعد المدارس الأجنبية - في نفوس النشء اللبناني؟
إذا كان الكاهن رسول ربه، فالمعلم هو الرسول المبشر بأسمى عقائد زمانه ووطنه. فهل يشعر من تعلم وتتلمذ في مدارس الأجانب أنه ابن هذه الصخور؟
اسمعوا، أيها الإخوان، كما تختلف تربية المصري عن تربية الحجازي والعراقي، تختلف كذلك التربية اللبنانية عن غيرها، فلا يكون تحوير المنهاج وفقا لزراعة الدخان في النبطية، والقمح والعدس في بعلبك، والليمون في صيدا وطرابلس، والموز في أنطلياس، والدراق والخوخ في بسكنتا، والبطاطا في تنورين والعاقورة، والتفاح في فاريا وميروبا، والأجاص والجوز في بشري وأهدن.
إنني تحدثت عن التربية الوطنية، والتربية الوطنية تتناول أولا ما يزرع في النفوس هذا الذي أريد أن أعرفه فقط، مع اعترافي أنكم تستحقون شكر الوطن على ذلك التحوير، فويل أهون من ويلين.
لا جديد في لبنان إذا كنا نرى في مدارسنا الماروني إلى جانب الدرزي والأرثوذكسي مع السني والشيعي، فالمطران جرمانوس فرحات تتلمذ للشيخ سليمان الحلبي قبل أن أعلنت حقوق الإنسان ... وأنا كنت أجلس في عهد التلمذة سنة 1905 على بنك واحد في كنيسة مدرسة الحكمة، كل يوم، وحوالي الأمير رفيق أرسلان والسيد محيي الدين أيبش. فالمير والسيد لم يتنصرا، ومارون عبود خرج كصاحب مضرية بديع الزمان.
لست عدو الدين، ولا أطلب تربية بلا دين. فمن الخير تعليمه لئلا يخرج أبناؤنا بلا وطن ولا دين. فالاعتقاد، كما يقول بلزاك في قصته «خوري القرية» هو الإرادة البشرية البالغة أقصى قوتها. ولا ولا ولولاه لما رددنا:
نصر من الله وفتح قريب . فالمعتقد المكين سر قوة الشعب، ولا تعدوني وثنيا إن قلت: إن لبنان أدونيس كان أعز من لبنان هذا. الدين لا يستأصل من الإنسان، كالوكيل الدوري، كلما عزل فهو وكيل. وقد قال دركايم معلم المعلمين العلمانيين: إذا أفرغنا المبادئ الأدبية من عناصر الدين فإننا نبترها.
مسكين حظ لبنان، فما فيه حد وسط. فهناك إما لبناني يظن لبنان جزءا من أوروبا، وإما لبناني يريد أن يجعله في الدهناء وحضرموت وقد نسي أن العرب أولعوا بوطن ثان كلبنان، هو الأندلس، وأن لبنان عربي اللسان، شرقي الجنان، طعمت شرقيته بالحضارة الغربية، فكونته هذا التكوين الخاص، فيه العربي والمستعرب، فما حيلتنا في المولييريين الذين جعلوه طبيبا غصبا عنه.
إذا كان الإنسان ابن بيته فلا يكون لبنان إلا كما هو. إن بيته شارع يمتد إلى الجادة العالمية، يرى كل عابر سبيل ولا عاصم من التأثر.
إن التربية فن، الغرض منه الحصول على أكثر مقدار من تكييف الفرد لبيئته ونموه فيها. المسيحي يقول: «النؤمن» والمسلم يقول كلمة الشهادتين، والمعلم اللبناني يجب أن يؤمن بلبنان أولا ليصبح من رسل تربيته.
قال زياد بن أبيه: «إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله.» ولهذا أقول كما قال الحجاج: «يا أهل لبنان، إنني لم أجد لكم دواء لدائكم إلا الجندية.»
فالجندية هي البوتقة التي تصهرنا جميعا وتطبعنا على غرار واحد، فنحس أن لنا وطنا، فكل تربية وطنية تظل عقيمة حتى ينام المواطن شهورا في الثكنة العسكرية يحيي علمه بالسيف والبندقية. المدراس تخرج مخنثين، أما الثكنة العسكرية فتطهرهم وتخرجهم رجالا صالحين لحرب بغير النظارات.
ويح لبنان! فشعبه بخلاف الشعوب، وحكومته عكس الحكومات.
للشعوب قلب وليس لها أعين تنظر بها، فهي تحس ولا ترى.
والحكومة بالضد فهي تنظر ولا تشعر، ويا ويل أمة شعبها ينظر وحكومتها تشعر، إن الهوة بينهما عميقة.
وا عجبا! كيف صارت المدارس التي أوجدها النوابع الثائرون تخلق للأمة عجزا وقاصرين، ومشلولين ومسلولين!
عندما كان هدف التربية يصلح لكل زمان ومكان قال أجدادنا: لولا المربي ما عرفت ربي. فالرب كان هدف التربية في زمن الروح، أما في عصرنا هذا، عصر المادة، فهدف الرجل وطنه. والتربية التي تصلح له هي تطعيم وتلقيح. فالميول المكتسبة تطعم وتلقح بالميول الغريزية. فالمربي لا يخلق ميولا جديدة بل ينمي الميول الغريزية أو يقاومها. فقصارى المربي أن يروض الشخص فيصلح للجري في الشوط المنتظر. إن الأخلاق الفاضلة تكتسب بممارستها وتعودها فتصير خلقا وسجية.
ولنستنر أخيرا بشيء من علم النفس: إن لمسنا جسدنا يختلف عن لمسنا للأجساد الأخرى.
إذا لمسنا جسدنا أحدث هذا اللمس إحساسا مزدوجا؛ لأن اليد اللامسة تكون لامسة وملموسة، أو فاعلة ومنفعلة، كما يعبر الاختصاصيون. فالمربي الوطني يكون إحساسه مزدوجا إن كانت عقيدته صادقة لا زندقة فيها. أما المفلوج فيفقد هذا الإحساس المزدوج، ويخال عضوه المريض ليس أحد أعضائه.
فإذا شئنا أن نربي للوطن رجالا صالحين فلنقص المفلوجين.
22 كانون الثاني 1942
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
كان في ضيعة من لبنان رجل مستور، تعشق مسايرة «المشايخ» حتى الوله، واستطيب مذاكرتهم التي تثير الضحك، على ما فيها من العبر. فأخذ يتعشى قبل الغروب ليأتي بيوتهم ملس الظلام، ثم لا يعود منها حتى يتدهور الليل.
وكثيرا ما كان المشايخ يزأرونه ولا يحس، ويقابلونه بفجاجة ولا يشعر. يستحلي حديثهم، ولو تماجنوا به وتنادروا عليه، وما كان يهتم في حضرتهم إلا بأن يقول كلمة جرت العادة في قولهم عندنا للشاربين: هنيئا يا سيدي، أو هنيئا لمن شرب، أو صحة وعافية، بحسب مراتب الناس.
وأخيرا تعود المشايخ رؤية هذا الضيف، فألفوه، وتغير نظرهم فيه حتى صار في عين نفسه كأنه واحد منهم. طيف بالشراب عليهم جملة، ذات ليلة، فأدى صاحبنا مهمة: هنيئا يا سيدي، لكل واحد منهم. ثم جاءت نوبته فشرب وأجال نظره فيهم فإذا هم في شغل عنه، فرأى أن يتنحنح ففعل، ثم أح، ثم سعل ... وما من يلتفت!
فانشق صدره من الغيظ حتى عدا طوره وقال لهم: محسوبكم شرب يا مشايخ!
فأجابه أحضرهم نكتة وألذعهم نادرة: «كل عمره يشرب.»
فكركروا جميعا في الضحك، ولم يفز صاحبنا منهم بكلمة: «صحة» حتى بعد استجدائها ...
هذا موقفنا من مصر العزيزة، أيها الأستاذ الصاوي، فلا تطلب لنا تكريما منها، بل ترحم معي، يرحمك الله، على زهير بن أبي سلمى.
جاءنا أديبكم «المازني» فتنادى أدباؤنا واحتفوا به، فكرموه حتى شبع، ومدحوه حتى استعفى.
وزاركم أديبنا «كرد علي» وقد علمت كيف مرحبوه، واحتفوا به. •••
حسن أن تسمي بيروت أحد شوارعها باسم شوقي، فإجلال النوابغ اليوم فرض كالصلاة بالأمس. وشوقي استهوته بيروت وسحره لبنان، كما فتن من قبل شعراء العبرانيين المعروفين بالأنبياء، وفيهم أكابر وأصاغر كشعرائنا اليوم. ولم يفت المتنبي أن يذكر لبنان فقال:
وجبال لبنان وكيف بقطعها
وهو الشتاء وصيفهن شتاء؟
وإن أقل المتنبي في وصف لبنان فلا بدع، فهو شاعر عشق شماريخ الآمال لا براعيم الجبال، وقد كان جرحه طريئا والمسالك شابكة، وشبح ابن خالويه يتمثل له في كل دو. كما أصاب امرؤ القيس في رحلته السياسية فلم يقل الشعر في وصف القسطنطينية، فأنكره بذلك طه حسين، وركب كتفي التاريخ مستدلا بفقد هذا الوصف على عدم وجوده ... ونسي أنه مقتول أبوه وهو يحاول ملكا أو يموت، وأنه غاب وما آب.
ودارت الأيام فعاض التاريخ لبنان بشعر شوقي، صنو المتنبي، ومحا نهوض مصر هجو أبي الطيب. فالأمة التي هال شاعر الحكمة الثائرة خضوعها لعبد، لم يرعها «الأسد» ولا فت في عضدها زئيره. فلو نشر للف بيده تلك الصفحات التي سودها بالنيل من الأمة المصرية المجيدة لأجل ذلك المخصي. قاتل الله أسود وأبيض جنيا على مصر ولبنان فحرماهما أناشيد الشاعر الخالدة.
وهل مصر ولبنان إلا شقيقان أنامتهما السياسة منذ القدم في مهد واحد، ودانا بعقيدة واحدة منذ فجر التاريخ؟
فهذا بحرنا كان مسرحا للأمتين يربطنا بأواصر مدنية ودينية، فكم حملت إلينا أمواجه «سلة البردي» تنبئنا بقيامه المعبود المشترك «أدونيس». وهل من رابطة أحلى وأمتن من العيد؟
أجل هذا «بحرنا» لا بحر الروم والرومان، ولا بحر الأسبان كما أسماه أييانيز في قصته: «ماري نوستروم» أي «بحرنا». فنحن أولا أتخمنا شواطئه وموانئه بضائع، وملأنا ظهره سفينا، كما قال ابن عمنا عمرو بن كلثوم، وحملناه أثقالنا إلى أمم الأرض من متاع ورسالة. فحول حوضنا هذا تجمعت أمم الأرض، وعلى متنه تناطحت، وسبحان وارث الأرض وما عليها.
وهذا تاريخ إبراهيم باشا، ألا يذكرنا - إن تنفع الذكرى - بهوى جمعنا حول العلم؟
فالبنادق الإبراهيمية لا تزال في بيوتنا، وطربوش محمد علي على رءوس شيوخنا، وكلمة مصريات على لساننا، وهي آصرة تربطنا. والشاعر شوقي مولود، كما قال عن نفسه، بباب بيت نصرناه بسيوفنا وقلوبنا، وكما دارت الدائرة على أميرنا مات الشاعر كالفراء ...
إذن فليست تسمية أحد شوارع بيروت باسم شاعر جيله - ولو أغضبنا العقاد - بأمر عظيم، فما فينا إلا منا، وكلنا تربطنا اللغة التي كان لها لبنان كالحجاج لأهل الشام. ومن استحق شكر لبنان في حياته - وشكر لبنان للأحياء فلتة - ألا نزيده منه في مماته، ونحن دولة اشتهرت بتكريم الناس مكفنين، كما كرمت جبران. ولا أدري أكانت أرغمت المكرزل على ذلك أمس ...
إذن لا يكبر الصاوي مروءة لبنان، ولا يلوم مصر إذا أبطأت عليه، فلبنان كما قال نابغته جبران، كل قبيلة فيه أمة، فلسفته شعوذة، وسياسته ثعلبة، ينصرف عن الدين إلى المذهب، ولا يرفع صوته إلا وراء النعش.
أجل إن لبنان بلد متصوف يدين بآية: «من سخرك ميلا امش معه ميلين، ومن خاصمك ليأخذ ثوبك فأعطه رداءك.»
إن لبنان - رحم الله شاعر بلعنبر - لا تغره هذه الأمجاد الباطلة، فلا تطلب له، يا أستاذ، شيئا منها. ولو لم يكن أمرع للزهاد والنساك لما جعله المتصوفون مقر «أقطابهم» يقيمون فيه مع أحنوخ وإيلياء إلى يوم يبعثون ... وهذه صوامعه على قلله لسان ناطق.
إننا نشكر للصاوي عاطفته الطيبة، وإن رأيناه اشتط في تذكيره قومه بتكريم من لا يكرم نفسه ولا يحترم نوابغه. فهذا جبران أديبنا العالمي، أما انطفأ خبره عندنا، وذهب ذكره مع الدوي؟ فلولا كيسه ما عاد إلى بلاده مكرما لينام في دير مار سركيس، على كتف نهر قاديشا الذي ترعرع على ضفتيه، ومزج ترنيمه بخريزه، ونام نومة الأبد على هينمة سروه وأرزه وشربينه.
فلأي ذكراه اجتمعنا بعد يومه، وأي علومه نصبنا، وأي شارع أسمينا، ثم لا نفتأ نردد: «ملء عين الزمن سيفنا والقلم!»
وهذا فرح أنطون، ماذا لقي من هذا الوطن، وأخجلة التاريخ من أبي المدرسة الحديثة الحرة، فمن بشر برنان وتولستوي وروسو ونيتشه وروسكين وغيرهم قبله. ماذا فعلنا له غير الإغارة على آثاره بعد أن اتخذ سويداء قلبه مدادا لتحبيرها؟
وهذا المنفلوطي، رحمه الله رحمة واسعة، صديق فرح، قد قرظ بولس وفرجيني القصة التي ترجمها فرح، بقصيدة، يوم كان المنفلوطي يقول الشعر، ثم شن الغارة على بيت صاحبه - وأظن ميتا - فسبا بنته وكساها ثوبا عربيا من طرازه، فأفسد خطوطها ورسومها، فصارت لا عربية ولا فرنجية.
وجبران عندنا، أيها الأستاذ، كولي الدين عندكم، كلاهما لم يذكرهما المنهاج. وهذا «المفصل» الذي وضعته لجنة من أساتيذكم، أذكر ولي الدين؟ مع أن مؤلفيه قدموا بين يدي مفصلهم أنهم «لم يقتصروا في الكتاب على ما دل عليه المنهج، بل لقد زادوا عليه ما رأوا فيه نفعا، وترجموا لرجال رأوا في الترجمة لهم أجزالا في الفائدة.»
أما من فائدة ترجى من أدب ولي الدين وجبران وفرح؟
إننا لا نطمع منكم، يا أستاذ، بأسماء شوارع ونصب تماثيل بل: اذكرونا مثل ذكرانا لكم ...
لقد أقر منهاجنا ولي الدين، فليتكم تذكرون جبران ليصبح قول الإنجيل: لا يكرم نبي في وطنه. ولكن كيف أتمنى عليكم ذلك وأدباؤكم لم يقولوا كلمة فيه بعد موته؟
لشد ما عتبت على خليل مطران يوم قرأت مقاله: «رواد النهضة الحديثة» في هلال حزيران! فوا عجبا له! أينسى ولي الدين وجبران وفرح أنطون، ويذكر أسماء لم نسمع بها؟ فمن الحيف أن ينساهم خليل الذي لا ينسى أحدا، ويجود على كل مخلوق بثناء، ولو بشيء كشعر بشار في: «ربابة ربة البيت»
قلت يا شاعر الأقطار الجليل: إن في من ذكرت «الشموس والأقمار والكواكب الصغيرة الأقدار.» أليس هؤلاء شيئا من هذا؟ كنت ذكرتهم وبرأت ذمتك، فمن تراه يذكرهم عندك؟ أعبد العزيز البشري، مفخرة العرب، كما سمعناك تلقبه ليلة شوقي؟
ما أسخاك يا خليل بالألقاب!
انظر، فهذا مفخرة العرب الشيخ عبد العزيز ينوب عن الرحمن الرحيم في مفصله، حين يترجم لرجال النهضة الحديثة، «فيرحم» منهم من يشاء، ويحرم من «رحمة الله الواسعة» الخشاب والعطار، وزيدان مؤرخ التمدن الإسلامي، وصروف معلم ناموس النشوء، والبستاني، واليازجي، حتى أحمد فارس الشدياق الذي جهزه أمير المؤمنين ودفنه في وطنه.
هذا «المفصل» أمامك يا خليل، عسى أن تكون أنت من المرحومين بعد العمر كله، فبص وقل معي: قاتل الله نعرات الشرق، فهي كليل ابن الفارض، وحملها معي دم شهداء الأدب كما حمل المسيح جيله دم الأنبياء وكان منهم.
ثم ما لي أطلب إلى مصر ولبنان أنصاف هؤلاء النوابغ، فولي الدين يكن بغني عن «المجمل والمفصل» وفرح يحيا بآثاره الخالدة يوم يؤرخ الأدب تأريخا نزيها لا عوج فيه. لا أنسى فصل العقاد في فرح، فقد أنصفه ووفاه حقه. أما جبران صاحب «النبي» و«الأجنحة المتكسرة» فهو خالد بمصطفاه وسلماه، لا بما خطوا فوق مضجعه: «هنا يرقد نبينا جبران» فالأنبياء قد ختموا.
فما أمر خيبتك يا جبران! لقد طوفت في الآفاق ثم عدت ونمت حيث نام «خليل الكافر» و«يوحنا المجنون»: في الدير. فنم يا صاحب «ابن الإنسان» مستريحا. نم مكفنا بضباب البخور، وثق أنك لن تعود إلينا فنخجل منك؛ لأن امرأة أخرى لن تلدك (النبي ص119).
إنك نائم في لبناننا لا في «لبنانك» والذين أبغضتهم في حياتك هم، وحدهم، ينتصبون حول تابوتك في ذلك الكهف، كل عام، يتضرعون إلى ابن الإنسان - بالسريانية - صارخين، قائلين ما معناه: ونيح عبدك يا ابن الله ... إلخ.
أما أخوك فرح ويكن، فما علمت، لم ينعما حتى بضريح؛ لأنهما عاشا تحت سماء لا تمطر صواعقها إلا نوابغها، اللهم الذين لم يلبسوا أطمارها.
فسلام على نوابغ العرب من زهور لبنان وصخوره، ورحمات الله، عد الحصى والتراب، على ولي الدين والأدب!
أسمعت يا شيخ عبد العزيز؟
لقد صدق أشعيا القائل: خجل لبنان وذوي.
29 / 11 / 1934
إلى الراسبين في الامتحان
قال المثل اللبناني: «في تموز تغلي المياه في الكوز»، فلا بأس علينا إذا قلنا نحن: «في تموز المنحوس تفور الدماء في الرءوس»، ولكن ليس في كل رأس، بل في رأس من يرسبون في الامتحانات. فهذا فتى يهدد بالانتحار، وهذه فتاة تتجرع صبغة اليود، أو تزدرد كمية من أقراص الكاردينال، وذاك شاب يتهدد ويتوعد، ويسن السكين ليقضي بها على من يعتقد أنه سبب له الرسوب وعوقه من الخوض في معترك الحياة.
إن الشهادة هي عروس أحلام فتياننا. فأعجب لورقة فيها هذا الفتون الذي يدفع إلى الجنون.
إن بعض شبابنا يصح فيهم ما قال نجيب الحداد في المقامرين:
قد اختصروا التجارة من قريب
فعدم في الدقيقة أو يسار
فأصحابنا، بل أحبابنا التلاميذ مستعجلون جدا. ولا عجب في ذلك، فالعصر عصر السرعة ...
إنهم يريدون الشهادة من أقرب الطرق، وإلا تمثلوا بقول امرئ القيس: «نحاول ملكا أو نموت فنعذرا!»
لا يا حبيبي، الروح عزيزة ومن يدريك أو يدرينا أنك لا تكون في المستقبل السيد الذي يرفع رأس وطنه عاليا كأكثر الذين نتحدث عنهم حتى نطحت رءوسهم السماء وغابت وراء الغيوم؟ فحتى يهون عليك الأمر، ولا تستصعب رسوبك، ادرس سير نوابغ العالم، فقد تجد بينهم من رسب مثلك وخرج إلى العالم وليس في يده السلاح الماضي الحدين الذين تحلم به.
يعجبني في هذا المقام أن أسرد على مسمعك حكاية أب استعجل الوصول إلى البيت قبل أن يحدق به الظلام. كان في طريقه نهر شتوي طائف. فبدلا من أن يدور الدورة حتى يصل إلى الجسر، شمر عن ساقيه وقودم، فمضت به الحامولة إلى البحر وترك أما وطفلا رضيعا.
ولما درج الطفل وشب، سأل أمه في إحدى ليلات كانون التي يحلو فيها السمر عن أبيه الذي لم يعرفه، فقالت له: قلت لك فيما مضى: والدك غائب وسيعود، أما الآن، وقد صرت بالغا رشيدا، فمن حقك أن تعرف أن أباك مات، والموتى لا يرجعون.
فوجم الفتى هنيهة، ولكنه أراد أن يعرف كيف مات أبوه، فأجابته أمه: كان في المدينة، وعندما رجع كان النهر طائفا، والجسر بعيد، فخاطر وقطع، وكانت النهاية.
فقال الفتى: ولماذا لم يذهب إلى الجسر؟
فقالت الأم: استعجل ليصل إلى البيت قبل أن يدهمه الليل .
فأجاب الغلام: ولو كان مشى إلى الجسر، أما كان وصل الآن؟
فمن هذه الحكاية تعلم، أيها الطالب الكئيب. فإذا لم تصل العام، فإنك واصل بعد عام أو عامين، فلماذا تلوث يدك بدمك، أو بدم غيرك وتقضي العمر شقيا؟
ابحث عن سبب علتك وداوها، واقرأ سير الرجال، تجد بينهم من لم يكونوا أحسن منك حالا، فما نالوه من شهرة لم يبلغوه إلا بالكد والجد وسهر الليالي.
قل لي: كم ليلة سهرت، وكم سنة انصببت على كتبك كما يكون الانصباب لأرى إذا كنت تبلغ ما تصبو إليه؟
إن درس شهر نوار وبضعة عشر يوما من حزيران لا يجديك. فتحصيل البكالوريا لا بد له من خمس سنوات درس متواصل فكيف تريد أن تحقق ذلك في شهرين ثلاثة؟
ففي ليالي الكوانين يقرصك البرد فتسترخي تحت اللحاف، وتلعن أبا الذي دق الجرس ألف مرة، وفي فصل الربيع تستسلم إلى مباهجه، وتناجي زهوره التي توحي إليك بألف معنى ... وتظل كذلك حتى تصير على رمية حجر من موعد الامتحان، فتركض إذ ذاك إلى الكتب الكثيرة المطلوب منك درسها.
قلت: درسها، والدرس لفظة مجازية مأخوذة من درس القمح على البيدر، وعليك أن تفعل كالفلاح الذي يظل يدرس ويدرس حتى ينال المحصول.
إن المنهاج لا يطالع مطالعة سطحية. ومن يفعل ذلك يبوء بالخذلان.
فالمعرفة لا تكتنز ما لم تستحل إلى ذوق كما يستحيل الخبز دما في أجسامنا.
هذا هو موقفنا من المنهاج أنا وأنت. أنا كأستاذ علي أن أكون دليلك كما كان فرجيل دليل دانتي في الجحيم والمطهر والنعيم.
وفي منهاجنا جحيم ونعيم ومطهر، ولا بد من المرور بها جميعا، والأمر لله، والامتحان مشتقة من المحنة.
احذر أن تقامر في تحضير المنهاج، فالمقامر خسران إن عاجلا أو آجلا.
لا أعني بالمقامرة لعب الورق أو سباق الخيل، بل أعني أن لا تتكل على اليانصيب، كأن تدرس هذا الشاعر أو ذاك الكاتب، راجيا أن ينزله الحظ عليك في قفة ويقول لك: «تفضل يا عزيزي، خذ موضوعك غنيمة باردة.» إن الذين يفعلون هذا ، أساتذة وتلاميذ، ليس لهم أقل نصيب من الأمانة العلمية والتعليمية.
وهناك سبب آخر أدى إلى رسوبك الذي استغربته، ومن حقك ألا تستغربه. أما تركت المدرسة الفلانية؛ لأنها لم ترفعك إلى صف أعلى وأنت تريد أن ترقى إليه؟
إن العلم لا يتعرف إلى الأوتوماتيكية، والطالب كالثمرة، يجب أن يمر في أطوار شتى، محتملا الحر والبرد حتى الثلج لينضج مثلها ويصير ذا نكهة شهية. فإذا كنت ظننت أنك ربحت سنة أو سنتين، فأنا أقول لك: إنك لم تفز إلا بخيبة مرة، وكانت المصيبة الثانية شرا من الأولى.
ثم، أما حاولت أن تخدع أساتذتك ومدرستك، بنقل من هنا وهناك؟
أما توسلت إلى مدرستك حتى تجيز لك دخول الامتحان وأنت غير كفء له؟
إن أحوالا شتى كان يجب أن تهديك سواء السبيل، ولكنك اتكلت على ما لا يجوز الاتكال عليه من وسائل ووسائط لا تذكر هنا، فلندعها في القلب تجرح ولا تخرج من الفم فتفضح.
ثم أتحسب أن ما يمليه عليك معلمك سلاح تقاتل به معترك المعرفة؟ لا يا أخي!
إن ما ينقل من هنا وهناك، وتجمع أطرافه وأذياله ليصير دراسة ليس بذي بال عند الممتحن الحصيف.
وعلم الأصول من نحو وصرف وبلاغة إما أعرضت عنه؛ لأنك رأيت كتاب اليوم يصرحون بأن هذا لا يفيد، وقد أعرضوا هم عنه فسرت أنت وراءهم؟
لست أضع كل الأعباء على كتفيك، ولكن أريدك أن تكون أشد انتباها، فمهما كان أستاذك غير ضليع، يظل أسمن منك ضلعا فهو على الأقل يكتب صحيحا، وأنت - رعاك الله - لا تراعي حرمة اللغة، ظانا أنك، إذا استظهرت ما أملي عليك، ربحت المعركة.
لا يا ابني، إن من يسير وراء القدماء ولا يفكر لا تظهر شخصيته. والشخصية أعظم جدا من المنهاج المطبق؛ أي السير على الطريق المعبدة.
نريد أن تظهر شخصيتك أدبيا في الدراسة الثانوية. أما شخصيتك السياسية والحزبية فهذه موضعها في الدروس الجامعية: الحقوق والطب وغيرهما، وغيرهما!
أتعترف الآن بأنك لم تكن على حق حين كنت تفكر بالإضرابات لأجل قضايا تافهة ، وكل ذلك لكي تتخلص من الدروس؟
إذا كانت الشئون الكبرى لا تصح مقاومتها بتعطيل العمل، فكيف بالشئون الصغرى؟
فعند أقل حادث نلجأ إلى الإضراب، ونطلق الكتاب، وهذا عمل لا يتفق مع الدروس الثانوية، والعلم عامة لا يسع معه شيئا.
إن الشهادات لا تنال بالاحتجاجات والمؤتمرات، إنما تنال بالدرس الذي لا ينقطع. فلندع معالجة الشئون الطارئة لأربابها. أما أنتم الآن فلا شئون عندكم ولا شجون.
أما المدارس فعليها أن تقف من طلابها موقفا صارما، فلا ترقي ولا ترفع لأجل دمعة فرت من عين، أو كلمة تهديد يرسلها أب جاهل. فالعلم لا يؤخذ غلابا ولا بالتمني «والخاطرشن» ...
قال ابن سيراخ: من أحب ابنه فليهيئ له القضبان حزما حزما.
ونحن نقول: من أحب تلميذه فلا يراعيه. فصديقك من صدقك من لا صدقك.
كنت ألجأ مع الطالب دائما إلى البرهان: يقول لي مثلا: جربني في هذا الصف، وإذا لم أمش، نزلني في نصف الفصل. فأقول له: النزول ذل وانكسار، فأنا أضعك الآن حيث أعتقد أنك تستحق، وإذا رأيتك قادرا أصعدك.
ولكن المحاورة لم تكن تقف عند هذا الحد، فيقول الطالب: والكتب يا معلمي غالية أسعارها، فلا بد من شراء كتب جديدة ودفع المبلغ المرقوم.
ولم أضعف تجاه هذا الطالب الداهية فقلت له: لا تكتب اسمك عليها، واحفظها نظيفة لنستعيدها منك ونعطيك غيرها.
ولا يقتنع الطالب، فيطرح الصوت على أبيه وعمه وخاله وأولاد الحلال من أوجه الضيعة والجيرة، وكلهم يساعدونه حتى نكذب عليه.
أما حق الكذبة فيدفعه هو يوم الامتحان، وقد قيل: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
النمام عدو السلام
من ذاك الذي نراه في النوادي يبحث بعينيه عن رجل يسكن إليه؟
ينحني على عمرو وينطوي كالخيزران فوق رأس بكر ليصب في آذانهما ما أنتجه من حكايات كاذبة وروايات أحكم صنعها حتى أشبهت الواقع.
حديثه مناجاة، وكلامه همس قلما يتجاوز تخوم شفتيه. ينفرد بهذا ويختلي بذاك، ولا يستقر على حال، فيفر من هذه الزاوية إلى تلك كأنه الزئبق الرجراح.
يرحب به هؤلاء ويحتفي به أولئك ، وكأنهم جميعا في انتظار مقدمه السعيد.
ومن هو ذاك الجوابة الهداج حول البيوت؟ فلا يدخل من باب حتى يخرج من الآخر، إذا لم يقع على المرعى المنتظر؟
يحمل إلى زيد أخبار عمرو، وينقل إلى خالد أبناء مصطفى. فونغراف يعبي ويفرغ، همه بذر الشقاق بين الأصحاب والأعداء، وتجارته الأحاديث، ولكنه يتجر بها تجارة فاجر باع ذمته في سوق الخساسة.
فإذا كنت لم تعرفه فأنا أعرفك به: هذا هو النمام الذي يزرع بذور الفتنة في الأذهان والقلوب ويتعهدها بماء الكذب والنفاق، فتنبت شوك العداوة والبغضاء.
فالنميمة أشد الآفات فتكا بالهيئة الاجتماعية. كم قبح القرآن الكريم ذويها، وكم ضربت بهم الأمثال، وكم قيلت فيها أشعار، وكم مرة وقف السيد المسيح على روابي أورشليم محذرا قومه من هؤلاء المرائين، وكم كتب القديس بولس الرسالات الضافية الذيول يحذر بها الأخوة شر النميمة، وقد قيل: «أربعة لا يدخلون الجنة: النمام، والمستهزئ، والمرائي، والكذاب.»
فالنمام - قبح الله وجهه - هو رسول الشر، ونذير الخراب، والبوم الناعب في قصور المودة! فكم فرق بين أخ وأخيه، وصديق وصديقه، فكأنه لم يحفظ من الإنجيل غير قوله: «جئت لأفرق الأخ عن أخيه، والابن عن أبيه!»
وللنميمة أضرار جسيمة فهي تثير كوامن القلوب وتوقد نار البغض. وكم من مشكلة كان يهون حلها على أصحاب النيات الحسنة لو لم يقف بوجههم النمام، وينقل الأخبار المنسوجة على منوال خساسته، فقويت بذلك شوكة الخصام وصعب كسرها.
قال بعض الحكماء: «احذروا لصوص المودات، وهم السعاة والنمامون. فمن أطاع النمام أضاع الصديق.»
ودفع إنسان رقعة إلى الصاحب بن عباد يحثه فيها على أخذ مال يتيم، وكان مالا كثيرا، فكتب ابن عباد على ظهر تلك الرسالة: «النميمة قبيحة وإن كانت صحيحة، والميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والساعي - النمام - لعنه الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.»
قال رسول الله: «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا. فإني أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر.»
وكلم معاوية الأحنف في شيء بلغه عنه فأنكره الأحنف، فقال له معاوية: «ولكن الذي بلغني ذلك رجل ثقة.»
فأجاب الأحنف: «إن الرجل الثقة لا يبلغ مكروها.»
وجاء في سفر الأمثال: «رجل الأكاذيب يطلق الخصومة، والنمام يفرق الأصدقاء، وكلام النمام مثل لقمة حلوة وهو ينزل إلى مخادع البطن. بعدم الحطب تنطفئ النار، وحيث لا نمام يهدأ الخصام ويعيش الناس هادئين مطمئنين.»
وقيل أيضا: من حرم الخير فليصمت، وإن حرمهما - أي: الخير والصمت - فالموت خير له. وقال الله في كتابه العزيز:
ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم .
وفي الحديث الشريف: «لا يدخل الجنة نمام. وشراركم المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة.» وقال أيضا، صلوات الله عليه: «ملعون ذو الوجهين، ملعون ذو اللسانين، ملعون كل نمام!»
وما أجمل ما تكني به العامة عن النمام فسموه «زقاق صحون.»
كان الفضل بن سهل يكره النميمة، وكان إذا أتاه ساع يقول له: «إن صدقتنا أبغضناك، وإن كذبتنا عاقبناك، وإن استقلتنا أقلناك.»
وقال المأمون: «النميمة لا تقرب مودة إلا أفسدتها، ولا عداوة إلا جددتها، ولا جماعة إلا بددتها.» وقال صالح بن عبد القدوس:
من يخبرك بشتم عن أخ
فهو الشاتم لا من شتمك
ذاك شيء لم يواجهك به
إنما اللوم على من أعلمك
وقال الحسن: «ستر ما عاينت أحسن من إشاعة ما ظننت.»
وقال عبد الرحمن بن عوف: «من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها.»
ولذلك قالوا: النمام هو أحد الشاتمين، وقد سبك من بلغك السباب.
وكان لابن الوردي الشاعر غلام رديء المسلك اسمه بهادر فحرره، ولكنه ندم على ذلك؛ لأنه بتحريره إياه كان كمن أطلق وباء في المجتمع. وفي ذلك قال قصيدة مشهورة هذا مطلعها:
بهادر عبدي لا بهاء ولا در
فما أنا حر يوم قولي له حر
ومن صفات هذا العبد أنه لم يكن يحمل إلى مولاه إلا أخبار السوء، ومن طبعه أن لا يهدأ له لسان فهو كما تقول العامة في من كان مثله: «لسانه بسبع شناخيب»، وفي وصفه قال هذا الشاعر المنكوب بعد أن عدد شعرا صفات هذا العبد النمام المبشر دائما بالسوء:
وإن قلت : ما الأخبار؟ قال: رديئة
سعوا فيك، أو مات امرؤ، أو غلا السعر
وإن قلت: من في الباب؟ قال مفولا
على الباب عزرائيل وانفصل الأمر
ومن الأمثال المصنوعة على قالب كليلة ودمنة، حكي أنه كان في إحدى الغابات الكثيفة شجرة ضخمة طال عمرها فنخرت السنون في جذعها. وضعت اللبؤة في قرارة جوفها أشبالها، كما بنى العقاب في شماريخ أغصانها وكره. وبينما كان في وكره يزق أفراخه، إذ بالهر يشرفه بزيارة غير منتظرة افتتحها بالتحية المعتادة: «حياك الله أيها الصديق.» وبعد السلام والكلام شرع الهر بالتدليس والتملق، فتنفش العقاب وأصغى بأبهة ورصانة إلى حديث زائره الكريم. وبعد إفراغ جراب التحيات والسلامات انتقل الهر إلى الغرض الذي من أجله جاء فقال له: «لي معك حديث تهمك معرفته، وإذا لم أقدم حتى الآن على إطلاعك عليه فخوفا من أن تبوح بالسر.»
وبعدما كبر الأمر وجسم الخطر أقسم له العقاب بشرفه وبدينه أنه لا يفشي من سره شيئا. فقال له الهر: «سمعت الأسد يقول لبنت عمه اللبؤة: إنه يترقب فرصة غيابك ليصعد إلى أفراخك ويأخذها زادا لأشباله.»
فشكره العقاب على نصيحته الغالية، وودع الهر وانصرف.
وفي طريقه عرج على الأسد، وقبل أن يدخل عليه صاح به من بعيد: «أمني يا ملك الزمان، فأنا أحمل إليك نبأ يهمك.»
وكان له الأمان الذي أراد، فدخل وهو يقول: «أسعد الله صباحك يا ابن العم، إن القرابة هي التي حملتني على أن أنقل إليك خبرا يهمك جدا أن تعرفه؛ لتكون على بصيرة من أمرك. إن العقاب المعشش فوق في أعالي الشجرة يتحين فرصة غيابك لينقض على أشبالك ويطعمها أفراخه.»
فتعجب الأسد من هذا النبأ، وربض لا يفارق العرين، ومثله فعل العقاب. وظلا على تلك الحال حتى ماتا وأولادهما واستراح الهر منهم جميعا.
فلو قلدنا النمام زمام الحكم وقلنا له: كن عادلا واحكم على الهر بما يستحق من عقوبة فبماذا كان يحكم عليه يا ترى؟
فيا أيها النمام الزنيم، والمشاء الأثيم، ألا أشفق على إخوانك!
ألا رحمة بقلوب العباد، ولا تطلب الحياة بقتلك الناس!
فإذا كان هذا سبيلك لاكتساب عطف الناس فقد ضللت.
كن سليم النية صافي السريرة تجد ثغر الحياة باسما لك، والطمأنينة مادة يدها لتصافحك، والسعادة فاتحة ذراعيها لتضمك إلى صدرها.
إن ثوب الرياء يشف عما تحته، ومهما انفسح أمامك الأجل وطال، فلا بد من الافتضاح. وإذ ذاك تغلق بوجهك الأبواب، وهذا إذا لم تطرد كالكلاب.
على أبواب المدارس
حكاية مزارع
جاءني رجل حاشيته رقيقة ولكنه مستور الحال. وبعدما ارتمى على المقعد واسترخى قليلا، تنهد ونفخ نفخة أرقصت الأوراق على مكتبي، فقلت له: «خير إن شاء الله! أية أزمة أنت فيها؟ لست أرى على وجهك دلائل مرض، ولم يبلغني أنك أصبت بأنف العنزة ولا ذنبها، فما هذا الضنك البادي على وجهك؟»
فتأوه الرجل وقال: يا ليت! دواء الأنفلونزا هدية المقرف، ليمونة حامضة وقرص إسبرو، أما علتي أنا فهي في جيبي. صرنا على أبواب المدارس والجيب فاض. أنا خائف أن يبقى الصبي بلا مدرسة.
فقلت: ما أكثر المدارس يا أبا جميل! فنق واختر منها ما يلائم، وعلى قد بساطك مد رجليك. - وإذا لم يكن لي بساط بالمرة فما العمل؟
فأجبته: أبلغ بك الضيق هذا المقدار ونحن لا نعرف؟
فقال: لم أحتج بعد إلى القوت، ولكن الأقساط المدرسية وارمة والعام ضيق. الزيتون ما حل، والتفاح أرخص من الفجل. مائة صندوق لا تسدد القسط الأول، وثمن الكتب والقرطاسية، والدخان لا نعرف كيف يكون سعره. كانت الناس تفرج عن بعضها، أما اليوم، ومع أن العملة ورق، فالناس تنكر وجودها وتقبرها تحت تاسع أرض. أكثر الناس يكسرون يدهم ويشحذون عليها. عجزنا وما وصل إلى يدنا قرش؛ أنا خائف أن يطلع الصبي بلا علم.
ومرت الأيام وعاد الرجل طلق المحيا، فقلت في نفسي: أبو جميل قرع باب الفرج وفتح له.
فقال بعدما احتبى: أنت تظن أني وقعت على ابن حلال أقرضني القسط. نعم يا سيدي، قد وجدنا القسط في صندوق أم الأولاد. باعت فسطانها المخملي وخاتمها الذهبي، وقالت لي حين أعطتني المال: ما نفع شب طويل عريض ليس في رأسه علم؟ الفسطان يعوض، أما العلم فهو كالزرع، إذا لم يغرس في وقته فلا تنتظر منه غلة.
وهنا تأوه أبو جميل وقال: لا تسألني بماذا كافأتها على هذه البشرى ... وقمت فورا إلى ثيابي الجدد وطرت بابني إلى المدرسة. وها نحن ننتظره كما ننتظر الحبة التي نبذرها في تشرين، ولنأكل غلتها في حزيران، أليس العلم غرسا؟ •••
هذه حكاية أكثرنا أيها الطالب العزيز.
لقد دخلت المدرسة بفضل فسطان أمك، الذي لبسته في ليلة زفافها، وهي تحلم بك. فماذا تفعل أنت حتى تكافئها وتكافئ أباك على تلك الساعات المضنية التي زعزعت أساساته؟
الأبوان لا يترجيان إلا فلاح ولدهما، فاعمل لتخرج مفلحا، قدر جهاد والدك وتضحية أمك، واكسب من العلم كل ما تستطيع.
وكأني بك تسألني: وماذا أعمل حتى أكون شابا ناجحا؟ إن كان عندك شيء غير الوعظ فهاته. - نعم عندي هذا السؤال: هل أنت مقبل بكل رغبة على المدرسة؟ فإن كنت كذلك فأنت ناجح وغني عن إرشادي.
إن العلم لا يسع معه شيئا. فالدماغ كالوعاء، إذا ملأناه فلا نستطيع أن نزيد عليه شيئا. أما سمعت قول المثل: «بطيختان لا تحملان بفرد يده»؟ وكذلك هو الفكر، فإنه لا يشغل بأمرين في وقت واحد.
قال أحد علماء الكنيسة الأتقياء: على من يريد الترهب أن يخلع ثيابه عند بوابة الدير.
أفهمت معنى هذا القول؟
معناه أن من ينصرف إلى الزهد يجب أن يتجرد من كل ميوله الأخرى. وأنت إن كنت غير زاهد في اللهو والعبث فما لك والمدرسة! أما إذا دخلتها فاقفل الأبواب خلفك جيدا، واعمل برغبة كلية تدرك غايتك.
إن المعرفة لا تنال باللهو وطق الحنك، فإذا كنت طائشا كالفراشة فستخرج من المدرسة محترق الجوانح.
ليس المعلم بوليسا يحمل فردا على جنبه ليعلم الطالب غصبا عن رقبته. إنه كبائع الكعك الذي تراه واقفا عند بوابة المدرسة، فهو لا يقاتلك إذا لم تشتر منه بل يحاول أن يغريك ويشهيك، ولك أن تفعل ما تريده.
المعلم لا يقدر أن يطعمك كما يطعم أبوك الأشجار البرية. عندك وسائل كيما تعد نفسك للنجاح. منها الإرادة فاعتصم بها تنجح.
وإذا أعياك القبض على ما ترغب فحاول أن تتعود.
إن العادة توليك نعما كثيرة وآثاما كثيرة. فإذا تعودت إتمام واجباتك صرت رجلا في الحياة، وحزت المعرفة التي دفع ثمنها فسطان أمك.
التجئ إلى العادة، فإنها تمسي غريزة. فمن ألف القراءة قبل النوم لا يرقد ما لم يقرأ.
أرأيت العادة كيف حولت القراءة بنجا؟
فإذا قبضت على كتاب، فلا تدعه حتى تأتي على آخر صفحة منه.
سألت مرة تلاميذي: من قرأ منكم كتابا كاملا في اللغة الفلانية؟
فأجابوا: لا نحبها، فلا نفتح الكتاب حتى نطويه.
فقلت لهم: احسبوها شربة زيت خروع، تعودوا عليها تستطيبوها.
فتعود بعضهم عليها وطابت نفوسهم بها حتى رغبوا فيها وكتبوا فصولا لا بأس بها.
فإذا أردنا وتعودنا بقي علينا شيء واحد وهو الأهم؛ أي الانتباه.
هنا تخطر لي الآية الإنجيلية القائلة: إذ لم يبن رب البيت فعبثا يتعب البناءون. وهكذا يمكننا القول: إذا لم ينتبه التلميذ فعبثا يتعب المعلم.
والانتباه لا بد لنا من التعود عليه والمثل يقول: «كل شيء عادة حتى الصلاة والعبادة.»
فإذا مرنت نفسك على الانتباه استفدت كثيرا مهما كان عقلك غليظا.
العادة هي التي تخفف عنك جميع أثقال الحياة، فتتحمل المشقات وترضى بحالتك التي أنت فيها.
العادة هي التي تعلمك الانتباه، إذا تعودته تأتيه بدون أقل كلفة.
وهنا يجب أن يهب المعلم إلى نجدتك، فالانتباه لا يكون إلا حيث تكون اللذة والرغبة، فعلى الأستاذ أن يجعل دروسه لذيذة بما يبثه فيها من شخصيته الجذابة. إذا كانت له شخصية.
ومن هنا جاء التصفيق بالأيدي للخطيب المجيد، وبغيرها للمحاضر البائس.
إن قراءة الكتب اللذيذة تسترعي انتباهنا، وتسوقنا بعصاها إلى حيث تريد، ولا يمكن إلا أن ننتبه إذا كنا نقرأ كتابا يستهوينا ويرغبنا.
هذه رءوس أقلام وفيها بعض الكفاية الآن وسوف لا ننقطع عنك يا أمل الأم والأمة.
العائلات المستورة
إنها كواكب نيرة تهاوت من علياء سمائها، وشهب خبت أنوارها المتقدة، ونسور نبل وكرم شل الدهر أجنحتها، فسقطت من أعالي معاقلها الحصينة، فأبت عليها أنفتها أن تزحف مع خشاش الأرض، فانزوت وفي القلب حسرة، وفي العين دمعة تفجرها الذكرى. تنظر إلى معاقلها بعين مكسورة، ثم تحني رأسها لتنسجم مع واقع حالها راضية بما كتب الله لها.
إن العائلات المستورة هي ذلك النسر الذي قلما يدرك الناس هول فجيعته. فهم لا يرونه على رفارف الشوارع، ولا على أبواب المنتديات مادا يده؛ لأنه لا يحتمل أن يقف سائلا بعدما كان مسئولا، ويأبى أن تكون يده السفلى بعدما كانت العليا، فهو يصبر ويصبر مرددا قول المثل: «خليها في القلب تجرح، ولا تخرج من الفم فتفضح!»
إن بشارا الأعمى، مع جشعه وتكالبه على المال، أدرك ما يعانيه الكرام من ألم حين تعجز أيديهم عن الجود ومؤاساة الناس، فأبرز صورتهم في أجمل إطار حين قال:
إن الكريم ليخفي عنك عسرته
حتى تراه غنيا وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون، عليها أوجه سود
ومن ينكر أن تلك العائلات المستورة حقا لم تكن دعامة راسخة لبنيان المجتمع، فترك سقوطها فراغا عظيما؟
فطالما كانت عضدا للفقير، وساعدا للبائس، وعكازا للضعيف المسكين، فانتشلت بحسناتها تعساء مطروحين في غيابات الجوع والخوف والجهل. ولكن الدهر الذي لا يرحم جار عليها، فأذاقها مرارة الجوع والخوف، فقبعت في عقر دارها تلتمس قوت من لا يموت.
هوت إلى الحضيض، وليس لها بسطة كف تستعين بها على قضاء حقوق الحياة، فصبرت على نوب الزمان بإباء، ولم يصغر البؤس والحرمان نفوسا عاشت كبيرة، ويأبى الشرف وعزة النفس أن تموت صغيرة. لم يطرأ على ذلك العنصر الكريم ما أفسده عند فقد المال، فكان كالذهب الخالص لا يأكل الصدأ عرقه المتين مهما تراكمت عليه الأقذار والنار.
ففي هاتيك البيوت التي كانت أبوابها مشرعة للبائسين، ومعجنها سائبا للعافين، أمست النفوس تتهلل إذا شبعت البطون، وتغتبط إذا فتحت بابها ليخرج منه رغيف يسد رمق معوز.
إن الفقر الحقيقي يتجسم بين تلك الجدران الصامتة حيث لا أيدي تبسط على قارعة الطريق ، وحيث العيون تحجبها براقع الحياء، وحيث عزة النفس تترفع عن السؤال، فتتمسك بأهداب الصبر على خواء البطون.
إن كماليات هذا العصر وتقاليده تمتص ما بقي في كأسها فتحاول ستر خصاصتها، ولكن أنى لها ذلك والفقر فضاح! فهي كالمحكوم مؤبدا بالأعمال الشاقة فلا براح له.
الناس في حفلاتهم، يتحلقون حول الموائد الموشاة بصحاف ألوان الطعام، يأكلونها بعيونهم وأفواههم، وآذانهم صماء عن تنهدات العيال المستورة، ناسين مآدبها وكوكتيلها وشايها، وتبرعاتها ومبادرتها إلى إغاثة الملهوفين والمنكوبين. ففي كل موسم لا يطرق أحد بابها ليؤاسيها أو يسليها أو يتوجع لها.
أيامها أمست مآتم، ولياليها للنحيب الصامت. تتأسف على الجاه العظيم، وتتلهف على مال فرقت شمله يد القدر الغاشم. وكل مصيبة تصغر متى كبرت، إلا مصيبة زوال النعمة، فإن آلامها وأوجاعها تتجدد كل ساعة. ولكن ذلك البكاء لا يتجاوز صدرها، فهي ترجع صوتها كالمطوقة التي تبكي الهديل. فأين هم الذين سمتهم العرب جابري عثرات الكرام ليتداركوا هذا البؤس الصامت؟
فباسم الإنسانية نسأل ذلك الغني الحديث النعمة أن لا يرفع رأسه اختيالا وكبرا، ويخفف الوطء على أديم الأرض، ولا يغره حشد المال ورقا وذهبا في صندوقه الذي لا يدخله حتى الهواء القالع ... فما ضر ذاك الثري الأمثل لو ألغى مأدبة أو حفلة كوكتيل من حفلات العام، ونفس بها عن هذه العيال المسكينة، بينما هو يعلق في صدر قاعته: «الخلق كلهم عيال الله»؟
أنتركها في بؤسها كما ترك جزيمة بن بشر أصدقاؤه وجفوه بعدما أنفق عليهم ماله؟
أبى جزيمة الشهم أن يخرج من بيته فقيرا حتى يقرع الموت بابه وينتزع درة تلك النفس من صدفها. بل فلنكن كعكرمة الفياض الذي حمل إليه تحت جنح الليل الدامس كيسا من الدنانير، ولم يشعر بذلك أحدا.
فإلى أمثال هؤلاء نلفت أنظار الحكومة، فهم أحق بفضلات الميزانية من الأنانيين الذين يتناتشونها ويسلبون بمراسيم ما يطمعون به منها.
قد تكون في هذه البيوت المسدلة عليها ستور النسيان آنسة ذات جمال وكمال يحول دون تأهلها قليل من المال يكون جهازا لها، كما تقضي عادات هذه الأيام، فلا تبقى حملا ثقيلا على عائلتها التي هي أيضا عيال على القدر الساخر.
وقد يكون بينها فتى متوقد الذهن بخل عليه الدهر الظالم بقليل من المال؛ لتقبله إحدى المدارس العالية في حضنها حيث يتلقى العلوم ويكون في المستقبل من جنود المعرفة التي تحارب الجهل المخيم في آفاق البشرية.
وقد يكون بينها صبية صغار يتضورون جوعا، وسيدة انزوت بين جدران بيتها ولم تخرج منه بأثوابها الرثة حياء وخجلا. وسيد لا يجد غير المعول ليحصل به ما يقوم بتكاليف عائلته المنكودة.
هذا ما نذكر به بمناسبة المواسم والأعياد وحلول الشتاء القاسي، وعسى أن تصادف كلمتنا هذه آذانا تسمع، وقلوبا ترق، وأيادي تسمح، فالثروة التي لا ينتفع بها الغير أشبه بالطعام الزائد، فإنه يبشم ويتخم، ويضر ولا ينفع.
على بوابة مدرسة
في مثل هذه الأيام تتفتح جراح المعسرين.
يستعد اللبناني للمدرسة في أوائل تشرين، كما استعد في آب للتموين.
فمستقبل أولاده مرتبط بتعليمهم. هكذا يقول، ثم يروح يرهن ويستدين حتى يكون القسط حاضرا في الحين. أما المئونة فترجأ إلى الغد. يدبرها الله ... يأخذ من عند هذا البرغل والطحين، ومن عند ذاك الزيت والرز والحبوب.
يختلق عذرا لهذا وأسبابا لذاك؛ فلا يخرج من الدكاكين وسلته فاضية.
أما المدرسة، وخصوصا إذا كانت أجنبية فغريم يابس، لا بد من الدفع نقدا في الحال، فلا سندات غب الطلب، ولا غب مرور شهر، لا طالب ولا مطلوب، ادفع وادخل ولا هوادة، فالج لا تعالج. تدفع، تدفع المبلغ المرقوم وأنت واقف على فرد رجل.
كانت الرواتب في الأمس نصف مصيبة، ولكن الحكومة رحمت المعلم بعد ألف يا ويلاه، وزادت له عشرة بالمائة، فزادت المدارس ثلاثين وأربعين، والحكومة لا تسأل ما دام الحال ماشيا. والحال أوحال، وماشي الحال في وطن الإشعاع.
ترى أما نحن في حاجة إلى وزارة من راديوم حتى لا تنطفي سرج إشعاعنا؟
دعاني إلى ما كتبت عن العيال المستورة مشهدا رأيته عرضا منذ أسبوع عند بوابة إحدى المدارس في العاصمة.
رأيت سيدة تغضي حياء ويغضى من مهابتها، رأيتها تلملم ذيول دمعة وتمشي في سبيلها تهمهم وتدمدم، فقلت: ها قد سقطت على الموضوع فلنتقدم.
وتقدمت وتقدمت هي. وأخيرا وقفت لتمر العاصفة بسلام. ولكني وقفت أنا أيضا لأقول لها: ما بك يا سيدتي؟ رأيتك خرجت من ذاك المعهد دامعة.
فتفرست في محاولة أن تعرف إذا كنت من يوثق به، ثم قالت: «يا ويل من يحط عليه الدهر في هذا البلد، عرضت أساوري على أمين صندوق المدرسة فقال لي: اذهبي إلى سوق سرسق، وهناك تجدين من يشتريها منك، أما نحن فخدام علم لا صيارفة.»
فقلت: اجعلنا رهينة في يديك لبضعة أيام، ولولا الخوف من ضياع الوقت على أولادي لتصرفت بها، كيفما دارت بها الحال، ودفعت القسط.
فأجابني: آسف يا سيدتي فلا تضيعي وقتك ووقتي فغيرك ينتظر نوبته.
هذه قصتي الحاضرة، وهناك غيرها أقاصيص شتى، منها أن ابني الكبير أرسلناه إلى أوروبا لينهي علومه في إحدى جامعاتها. كنا في بحبوحة يوم راح، فظل يبرق إلينا: أرسلوا دراهم، وظللنا نرسل حتى نهاية هذا العام الذي وقعت به الكارثة. أفلسنا وصرنا إلى ما صرنا إليه. فالأوقاف التي كنا نتبرع لها، والجمعيات الخيرية التي كنا نعضدها لم تشأ أن تتذكر ماضينا، ولا الذين على كراسي الحكم يذكرون ليالينا الطافحة شرابا، وبيتنا الذي جعلناه لهم مرقصا.
فقلت: أليس في طائفتك أوقاف.
فقالت: بلى، ولكنهم يزعمون أن الأوقاف للفقراء ونحن لا نزال نحسب من الأغنياء. رحم الله ذلك الزمان الذي كانت فيه مدارسنا ترى أصحاب البيوت الهاوية أحق بالمساعدة؛ لأنهم ساعدوا يوم كانوا قادرين.
فقلت: وأين أبو أولادك لا يقوم عنك بهذه المهمة الشاقة؟
فكزت على أسنانها وقالت: الله يقصف عمره، هو الذي رمانا وانسل.
فقلت لها: ولماذا لم تتنكري ما دمت لا تطيقين الظهور؟
فقالت: وكيف أتنكر يا رجل؟! أألبس ثياب المهرجين؟
فقلت: لا، أنت غير مستورة، ستر الله عليك وعلينا، بهذه البودرة وأحمر الشفاه والخدود والأظافر، وأنا ضمين لك، إذا تخليت عنها، تنكرت فلا أحد يعرفك. لقد غرقت يا مولاتي بالكماليات فأصبحت محتاجة إلى الضروريات، لطف الله بك وبأولادك ... أليس لك يد في الدواوين؟ فقد قرأت أنهم يصرفون للعيال المستورة مبالغ محترمة وأنت منها، فأسرعي قبل أن يفوت الأوان.
فتأوهت وقالت: يا حسرتي ولى الزمان وفاتنا.
فقلت لها: يا ميجنا يا ميجنا يا ميجنا. هذه أحوال الدنيا يا أم فلان، أنت لست من العيال المستورة، ولو كنت صنت بيتك ولم تجعلي منه مأوى للمستهزئين، ولم تنفقي ما أنفقت على الذين أكلوا الطعم و... لما سقطت في هذه الهوة.
لم يعد ينفعك هذا الظهور الذي لا تتنازلين عنه، فاعملي واقتصدي، الزمي بيتك واعملي منذ الغد، فليس العمل عارا، ولكن العار هو أن تسألي الناس.
وبعد، فلماذا هذا الهوس بالمدارس الأجنبية، ابنك في الصفوف الثانوية، ولدى الحكومة مدارس مجانية من هذا الصنف. ابنك في الصفوف الابتدائية والحكومة أعطت المدارس المجانية ملايين فاستفيدي منها، ادخري حلاك إلى أزمة أشد. ولكن آفة العيال المستورة أنها لا تريد أن تنزل عن مستواها مقدار شعرة.
ترى المدارس الأجنبية أرفع وأسمى من مدارس بني جنسها، وتريد أن تخفي جراحها ولا تعالجها، وهذا هو عين الخطأ. فامحي من ذهنك صور أرستقراطيتك تفلحي.
إنه شبح عظمة الأجنبي الموهومة لا يفارق مخيلتنا. أتقولين لي: أي فرق بينك وبين أولئك الشحاذين الذين يدورون على بيوت الناس، وفي أيديهم «مناشير من البطاركة والمطاردين» يحثون بها الناس على معونتهم وإسعافهم؟
أما كان أولى بأولئك السادة أن يبذلوا لهم العطاء من مال الأوقاف الذي يتنعمون به، ولا يكلفوا الناس الإحسان حياء؟
اذهبي يا أختي واعملي. تسلي بالصنارة، وبيعي ما تحبكين وتنسجين بواسطة من تستر عليك إذا كنت تستحين. صوني وجهك واعملي تقدري على بنيان بيتك المنهار، واصبري وانتظري فما بعد الضيق إلا الفرج.
غدا يكبر أولادك ويعملون وتعود الثروة إلى مجاريها.
تشرين الأول
في هذا الشهر تعود فراخ الإنسانية إلى أقفاصها. ففي الأوكار والوكنات المدرسية تربى وتدرب عقبان ونسور فتطير محلقة في أجواء الحياة. أما الزرازير والخفافيش - وما أكثرها في المدارس - فتخرج لتسف في السهول ، لا تعلو عن الأرض إلا أذرعا؛ لأنها لم تخلق للقمم.
فمن أحشاء تلك الثكنات، كبيرة وصغيرة، تخرج إلى ميادين الحياة جنود في أيديها عتاد العلم الحديث لتخوض معارك التقدم والرقي وتسير بالبشرية قدما.
فمن بين جدرانها، وهي ليست مبنية كالحصون متانة، تكر فرسان المعرفة، وتفر شانة على الجهالة غارات شعواء، وتنقض على الجهل والخوف بما علمتها المدارس من دروس الشجاعة.
المدرسة هي أم العظماء. تتمخض بهم أجنة، وتلدهم ولادة ثانية، ثم تطلقهم في فضاء الكون الواسع، كما تطلق أمات الطيور فراخها حين تستوي أجنحتها وتشتد.
تتكون عقول الناشئة من تربية حقيقية سامية وعلم صحيح، ومن هذه الخلايا يتكون جسم الأمة التي تريد أن تحيا وتساهم في معترك الحياة.
ترسل المدرسة عباقرة بنيها هدامين بنائين. ينصرون الإنسانية المتألمة، ويرشدون المتخبطين في ظلمات الشبهات ومجاهل الترهات. فما أعظم شأن المدرسة وأجزل منافعها للبشرية. فلولاها لبقي البشر في ضلالهم يهيمون.
املئوا المدارس تفرغ السجون. كلمة كان لها دوي يوم قيلت، وقد أعارتها الأمم سمعها فسارت إلى الأمام وقلت فيها الجرائم.
أما الشعوب الثقيلة السمع فظلت تغط في سبات الخمول العميق.
واليوم، وقد أزالت أقلام الكتاب الصماخ من الآذان، فقد سمع كل شعب ووعى، وعلم أن بالعلم والمدرسة نجاح كل أمة، ومن بين جدرانها تظهر أشعة التقدم.
لا نضيع الوقت في تعداد منافع المدرسة، فهي أحدوثة البشر تحت جناح الليل، وفي نور النهار، وكل زمان ومكان، ولكننا نسأل الناس: هاتوا لنا عظيما لم تخلقه المدرسة، وهل في الدنيا عظيم بدون علم؟ الجواب: المدرسة أم العظام والعظائم؛ ولهذا انصرفت إليها أفكار كل شعب، فتهافت أغنياء الشعوب على تشييدها. أما نحن فما زلنا مقصرين في هذه الحلبة، وقد سبقتنا الشعوب أشواطا.
أتتعزى الإنسانية عن عذاب أطفالها بالدارات القائمة على الروابي والقصور الشاهقة؟
ألا تتألم عندما ترى صغارها يتيهون وراء قطعان المعزى وأسراب البقر في الأودية، حفاة عراة يرثي لبؤسهم أشد القلوب تصخرا؟
وفي المدن، حيث الشوارع العريضة التي تقوم على جانبيها دور اللهو الشاهقة، نرى بؤس الناشئة ، وعلى ظهورها الأحمال الثقيلة، تارة بالسلال وحينا بالحبال، ومن لم يستطع منهم حمل السل تنسل يده إلى البيوت والجيوب.
ألا يعلم أصحاب الثروات التي لا تحصى أن غفلة هؤلاء الصبية الصغار ستنقضي، ويمزق شبابهم الستار الحاجب مستقبلهم فيثورون على عبدة الأموال الذين يقولون: الملك لله، وليس لمخلوقات الله من مالهم نصيب؟
في منعطف الطرق وشوارع المدن وأسواقها، حيث يتسابق الناس كادحين ليستولوا على القرش، يرى المتأمل أفواجا من هؤلاء الصغار يجدفون ويلعنون ويأتون كل محرم بلا خجل، إذ لم يروا يدا تضمهم إلى صدر فيه حنان وانعطاف، ومدرسة تغذيهم بالتهذيب والعلم الصحيح.
إن هؤلاء الصغار هم مستقبل البلاد، فإذا شئتم أن يكون لكم مستقبل يرجى فهذبوهم.
أطلقوا، أيها الأغنياء، من شرفات قصوركم المعلقة بين السماء والأرض، وانظروا إلى أبناء إخوانكم هؤلاء الصغار، فإذا شبوا بين براثن الشقاء تعلموا الشراسة والقسوة، وعكروا في المستقبل كأس صفائكم. سيفسدون الهيئة الاجتماعية ويكونون حملا ثقيلا على منكب المجتمع إذ يزرعون الفساد فتحصدون أنتم الأكدار، وما هم زارعوه ولكن جهلهم هو الزارع.
أليس منهم اللص الأثيم وسفاك الدماء الرابض لكم في الطريق ليسلب أموالكم وينازعكم البقاء؟
فلو فكرتم بهذا قليلا وتأملتم به مليا، لو نظرتم إلى هذا الفقير البائس لعفتم بعض الكماليات وتركتم موائد القمار وأنفقتم جانبا من أموالكم على المدارس التي تروض الوحش في الإنسان، فيتسنى لكم العيش في راحة بال، وبهذا تأمنون اللصوص وتتركون أبوابكم في الليل مفتحة ليدخل منها الهواء الجديد المنعش.
كم صغير تنبعث نار الذكاء من جبينه قد ذهب ضحية الفقر وخسرته الإنسانية. كان يرجى أن يكون مخترعا أو عالما أو مهذبا أو ... ولكن عجزه عن اقتباس العلم أطفأ تلك الشعلة وأخمد ذلك القبس.
في أميركا لاموا كرنيجي المثري الشهير؛ لأنه أنفق معظم أمواله على بيوت العلم ولم يخص قسما منه ببيوت يأوي إليها الفقراء؛ لأن الكثيرين في البلاد التي نظن حجارتها ذهبا وفضة كانوا يتألمون من الجوع. أما نحن فنلوم أغنياءنا على إنفاقهم أموالهم في غير سبيلها، إذ لم نجد رجلا وقف أمواله على مدرسة خيرية تقبل في حضنها أبناء البلدة التي أبصر فيها النور.
لم نر بيننا من حول همه إلى إنماء المدارس الابتدائية في البلاد، بل كلهم على وتر واحد يضربون.
أما حان أن ننتبه من سنة الكرى ونهتم بصغارنا اهتمامنا بنفوسنا؟
المدارس الابتدائية ضرورية في كل بلدة في شرقنا العربي، وليس ذلك على الحكومة وحدها، فنحن أيضا مسئولون عن معاونتها. نقول هذا؛ لأننا نعلم أن في كل وطن من أوطاننا قرى عديدة محرومة من مدرسة ابتدائية تعلم الصبيان المبادئ الأولية من القراءة والكتابة.
فمتى تستيقظ من هذا السبات العميق، من هذا النوم المزعج المملوء أشباحا مخيفة وأحلاما رهيبة، ونهتم بشبيبتنا المقبلة؟
وإذا لم نجد من يهتم بنا فمن الضروري أن نهتم بنفوسنا ونعد لصبياننا مستقبلا سعيدا. فالذين لا يحسنون القراءة والكتابة في الأمم الراقية تسعة في المائة، أما عندنا فبالعكس.
وفي مناسبة افتتاح المدارس فلننظر إلى الذين تضيق المدارس عنهم وليس لهم مأوى أدبي، هذا إذا كان لهم المأوى الآخر.
فإلى جمعياتنا الخيرية التي أنشئت لإغاثة الفقير نوجه كلمتنا هذه سائلينها - وهي نصيرة البائس - أن تهتم للمدارس الابتدائية وتحول إليها همها، فالفقراء إلى الخبز عندنا قليلون أما فقراء العلم فلا يحصون.
إن مدارسنا أضيق من أن تتسع لناشئتنا، ووقفة قليلة أمام تلك البنايات تنبئنا بالحاجة القصوى إلى دور تتسع لأبنائنا.
إنكم أغنياء ببيوت اللهو على اختلاف أنواعها. فهلموا إلى هذه المكرمة يا من تطمعون بالأجر والصيت الحسن.
إلى الشباب المثقف
يظل هذا الفكر يصحبني ويمسيني كأنه طيف وحيد ابن الرومي، لي حيث انصرفت منه رفيق، عن شمالي وعن يميني، ومن خلفي وقدامي، فأين عنه أحيد؟
ثم غورت الفكرة في اللاشعور، فطفق يشتغل بها عني.
جرى كل هذا في نفسي وأنا غافل عما بي.
وكان إن ثقلت منذ ليال بعد العشاء، فراودني النعاس عن نفسي، فاستسلمت للتجربة.
وما عانقت مخدتي ذاك العناق البريء حتى أقبلت بنات فرويد وابن سيرين تخطر في هوادجها وحدائجها!
وإذا بي أرجع شرخا ، أتخطر في مكتبي كأني غصن بان يداعبه الهواء، وقد قلت في نفسي: ولم كل هذا العناء؟ فكما كنا نعالج في اشتداد أزمات التأليف الماضية، مواضيع: الحرية، وحب الوطن، والتأني، والصدق، فلنكتب اليوم عن امرئ القيس ودارة جلجل.
المواضيع كأزياء الثياب. فما علينا لو درنا حول دارة جلجل جولات، فأنكرنا وشككنا، وسفهنا حامل لواء الشعر في النار، وتطور الحلم؛ وللأحلام تطورات عجيبة، فما راعني إلا امرؤ القيس يسدد نحوي رمحه، فقمت فزعا.
إنها والله أول مرة رأيت فيها رمحا مسددا. فتماوت له، فأدرك أنه ينازل غير بطل، فوقف عند رأسي هازئا، وقال: تكفيني قروحي، فلا تنكأوها ببحوثكم البغيضة. هذا ينظر وجودي، وذاك يفسقني، وهذاك ينصرني! أفلا تستطيعون غير هذا العبث؟
لديكم مئات الدارات، وعندكم مئات العنيزات، وعشرات الحمامات. فما لكم تتأثرون عنيزتي، وتحتلون دارتي؟
إن دور اصطيافكم وطلولنا سيان. فاسألوا كما سألنا ... وقفت على الطلول مرة فوقف الشعراء وقفتي، ووقف الشعر.
فقلت في نفسي: قاتل الله الجاهلية! فألطف تحياتهم السيف والرمح. الفرار الفرار.
فجئت الفرزدق فقال لي: إن نار غالب قد طفئت.
وقابلني الأخطل بعباءته الموصلية البراقة، وابتسامته الكزة، وعلق يحلف بالصليب، ومار سرجس، إنه لا يريد قتالا.
أما إذا أزعجته فينتحي له من لياليه العوارم أول ... فهو يرى الهوامش التي تعلق على حواشيه أبرد من جلد الحية وأشد صمتا من السمكة، فما يراها تعني شيئا.
وفيما نحن نتجادل، أقبل علينا رجل مربوع غير ممتلئ فقال الأخطل: هو ذا الخطفي، قد أجمعنا أمرنا أمس، وبتنا على أن يتوجه أحدنا إليكم، فينبئكم أننا جد أصحاب في الأبدية، نأكل في قصعة واحدة، فإياكم وإيانا ...
أما جرير فقال، بعد أن احتبى: يا غياث، منو هذا الأرضي، وما يبتغي؟
فخبره خبري، فاحرنجم عني بعد إقبال، ولم يزد على أن قال: أشتهي والله أن أقول: «دامغة» ثانية فلا تكن موضوعها. وليتك تكون، فلي فيك مرعى خصيب.
ورأيتني أفر من هؤلاء الشياطين الثلاثة وأهيم على وجهي، وأرى عمر يقود الأغر، وحوله صويحباته الثلاث، والابتسامة ملء فمه ، وقد عرفته من ثنيتيه، ونظراته المتقدة كالتنور المسجور، فقلت في نفسي: ساعة رضى، لعل عمر يرخص لنا بالرعي في حماه.
ففهم عني بلا كلام، وحذرني مغبة عملي، ثم قال: أنتم يعنيكم الإخلاص في الحب. وأنا كان يعنيني من الدنيا اثنان: الجمال والفن. كلاهما متعة عندي، فاعملوا أنتم ولا تكونوا طفيليين. حسبي تعذيب رواتكم، فلا تزدني، عافاك الله.
فقلت في نفسي: إذن علي بالعميان، فإذا اشتد الخطب أهرب.
فأقبلت على بشار، فرأيته منبطحا في دهليزه كأنه جاموس، فما أحس بي حتى استوى قائلا: ليفهم الناس شعرنا ما استطاعوا، فويل جهلهم أخف من ويلات شروحكم السمجة.
وما صدقت أنه الجد حتى بل يده بقائم سيفه الذي يعاتب به الجبابرة فانصرفت راشدا.
وإذا بحماد عجرد يقهقه ويناديني: أتطلب الخير من عند القرد؟
فأجبته وأنا لا ألوي عليه: قردك يخيف يا حماد.
وسمعت شخيرا ونخيرا يتعالى من ماخور على الطريق، فرأيت والبة وأبا نواس سكرانين، فما رجوت عندهما خيرا.
ومر بي رجل من أهل السمت قيل لي: إنه ابن المقفع، فلم ألحق به.
ورحت أنشد الجاحظ في دكاكين الوراقين، فلقيني أعمى يتعكز على عصاه، فعرفته ورجوت أن يكون أرحب صدرا من زملائه، فأخذ الشيخ يتلوى كأنه ممغوص. ومما قال: هجرت الناس لأستريح فلم يكفوني شرهم، هذا يثقل علي في سجني برابطة المودة، زاعما أنه يعرف فضلي. وذاك يطوفني في الدنيا وأنا رجل ضرير مكسور العصا، ويزيدني نكاية بتقويلي ما لا أقول. ندمت والله، واستغفرت ربي ألف مرة؛ لأنني كتبت «عبث الوليد» فما عبثكم أنتم بنا يا أولادي؟ لست والله من عميان الكدية، أفي كل عصر لي ابن قارح يقرح قلبي وكبدي؟
فقلت في نفسي: ربما سئم هؤلاء المشاهير دروسا هي حقا أثقل من درس البيادر، فجاء في بالي دعبل الخزاعي، وإذا به يرتفع لي من بعيد، يحمل خشبته التي لم يصلبه عليها أحد، فحمد الله وأثنى عليه؛ لأنه استراح بشفاعة آل البيت من منهاج البكالوريا.
ومنيته، مواعد كاذبات فما صدق ولا اغتر. وكان وداعنا صرخة داوية، فاستيقظت على صوت صاعقة انقضت في مكان قريب. فقعدت في فراشي مذعورا أدلك عيني كالخفاش.
التشبه آفتنا الكبرى
إذا التقيت رجلا ورأيته مقطب الجبين ملبوكا مرتبكا، يضرب التل ولا يصيبه، فاعلم أن يده قد قصرت. وإذا حدثته وراح يشكو لك العسر والضائقة المالية، فاعلم أنه سقط في هوة التشبه فأسرف ولم يقف حتى استحال يسره عسرا.
إنه إما مبذر، وإما له زوجة غير حكيمة. ومتى اجتمع الاثنان في بيت فرح من دربه لئلا يطمرك ردمه، ولا عاصم لك!
من طبيعة المرأة أن تسأل القادم من أهلها عما صنع الداعون إذا كان آتيا من وليمة، أو من حفلة كوكتيل، والغاية من هذا السؤال هي أن تزيد عليهم حين تأتي نوبتها؛ ولتظهر أنها من سيدات المجتمع الراقيات ...
وإذا كانت المرأة مع زوجها والتقى صديقه وزوجته، فهي تنظر قبل كل شيء إلى ثياب تلك السيدة وحلاها، وتلسعها عقارب التشبه. لا يعنيها إلا تأمل ذلك الثوب، والسؤال عن ثمن ذراعه، وتكاليف خياطته و... و...
أما وجه صديقتها فهو في الدرجة الثانية من الأهمية؛ لأنه لا يمكن الحصول عليه من السوق.
الناس، وخصوصا في الشرق مطبوعون على حب الظهور، ولو كان يقطع الظهور. وأكثرهم يطلبون المعالي من غير أبوابها، ويظنون كسب المجد ببذل درهم يجمعونه مجبولا بعرق الجبين ومصبوغا بدم القلب.
إنهم ينفقون ما جمعوا في سبل كانوا في غنى عن سلوكهم؛ لأنها تؤدي بهم إلى صحراء التعاسة، بل إلى شيخوخة هم وذل ينضم فيها ضيق الصدر إلى ضيق ذات اليد. والمصيبتان لا تحتملان.
خذها من مجرب ولا تسأل عنها الحكيم: فالشعراء الذين نتهمهم بالكذب صادقون حين ينظمون الحكمة. أما قال أحدهم يصف التشبه:
من تردى برداء
ما رآه من ربيه
وابتغى ما قد تعالى
عنه مما يشتهيه
سوف يأتيه زمان
يتمنى الموت فيه
أجل لقد تفشت أوبئة التشبه والتبذير في هيئتنا الاجتماعية الحاضرة، اللابسة من المدنية ثوبا مستعارا، فصرت ترى أيا كان من الناس سواء في ذلك النائمون على مهاد الثروة وأولئك الذين يصلون الليل بالنهار بغية الحصول على ما يسدون به فراغا في بطونهم، تاركين للقدر عائلة يضنيها العوز. يتنافسون في تضحية الدينار على مذابح الكماليات غير مبالين بالحاجات الضرورية التي يطالبهم بها البيت والأسرة.
لقد بات التشبه يمتص دماء الثروة ويجعل الجيوب خاوية خالية، تشكو مرارة وحشة ذلك الوجه الأصفر الخلاب.
ولو أردنا أن نعدد عيالا جرها التشبه إلى الإسراف والتبذير وإنفاق المال جزافا، لضاق المقام؛ ولهذا نطوي تلك الصفحة؛ لأن كل من يفكر متأملا بخراب البيوت العريقة وسقوطها عن كراسي النعمة إلى حضيض الذل والفاقة يجد أن السبب الأكبر كان إنفاق الأموال بغير حساب، وهذا هو الداء العضال الذي أصيبت به ناس هذا العصر.
تجد الفتى يجد ليلا نهارا ليحصل في شهر بعض المال، ولا يكاد يقبض المبلغ المرقوم حتى ينفقه في الملاهي والملاعب، وعلى موائد الحانات، وبين الغواني اللواتي يبعنه الحب بالثمن الموجع، ويبدين له من ضروب التودد الزائف ما يصدق وإن كان لا يجهل سره.
ومع ذلك ينفق كل ما وصلت إليه يده، غير آسف على تعب قضاه، وشقاء قاساه، متشبها بصاحب الملايين، غير ناظر إلى الغد، ناسيا أن من يكلل شبيبته بالتبذير يتوج شيخوخته بالأشواك الدامية في الجراح.
فما أشد وطأة التبذير في هذا الزمان! وما أقوى شوكة التشبه الذي ألقى الكثيرين من شاهق قصور الرخاء إلى مهاوي الويل والبلايا.
ترى الإنسان يحمل نفسه فوق طاقتها، ويكلفها ما لا تستطيع النهوض بأثقاله؛ ليبرز في أبهة صاحب الثروة، حاسبا أن ذلك المظهر يخفي فقره وعوزه، لا بل تفاهة عقله، غير عالم أن الفقر سيظهر مهما حاولنا أن نخفيه. إنه كالنار الكامنة في أحشاء الأرض، فلا بد من أن تثور يوما وتدك شوامخ الجبال.
فمتى يا ترى يقف الرجل عند حده من هذه العظمة الكاذبة التي تحرم الهناء وتقلق راحة الحياة المطمئنة؟
متى نترك المساواة في هذا المجال، واضعين لحياتنا نظاما نسير عليه، لنأمن سوء العاقبة وشر المصير؟ ونسلك طرق الحياة على مهل، غير شاعرين بتعب ينهك الجسم ويضنيه ؟
فما فائدة الرجل من ليلة فخفخة وترف تهرب كالظل، وينقلب صاحبهما في ساعة من نعيم الحياة إلى شقاء قلق وعتب على دهره، ملوما حسيرا، يهمهم سابا الدهر، وهو الجاني على نفسه؛ لأنه لم يحسن إدارة بيته ولم يعرف كيف يصون ماله وينقذ أسرته من ويل يطحن حبات قلوبهم طحنا.
ومن أراد أن يعرف الغرور الذي وصلنا إليه في هذا العصر، عليه أن يدخل ناديا عاما، فيجد امرأة البقال والفوال تزمل بثوب زوجة صاحب الأموال الطائلة التي لو أكلها ذهبا لكفته مئونة الحياة. ونظر ابن الحمار والبغال بحلة ذي الثروة الطويلة العريضة. لا نظنه يستطيع بعد هذا أن يمنع دمعته من الفرار ويقول مع الشاعر:
أمور تضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها الحكيم
قضى التشبه على معظم قومنا بالخضوع لشرائعه القاسية، إذ حسبوا أن في انضمامهم تحت لواء المجد الكاذب كل العظمة.
لم يعلم أولئك المساكين أن الناس يهزءون بهم إذا رأوهم يطلبون العلاء بذراع من الجوخ، ويردة من الحرير، ومتر من الكتان!
فيا أيها الناس! رفقا ببيوتكم، فالدمار يتهددكم. وازنوا بين ظاهركم وباطنكم، لا تظهروا بمظاهر الترف والإسراف إذا كنتم لا تستطيعون أن تحملوا على عاتقكم هذا الحمل الثقيل.
وأنت، يا أخي الذي تضني شبابك الناضر وتذبل غصن حياتك الغض في معترك العمل لتحصل في آخر الشهر دينارين أو ثلاثة، ما ضرك لو أبقيت لغدك بعض ما تحصله؟ فلا تقل، هداك الله: «لا تهتموا بما للغد، فالغد يهتم بشأنه.» وتنفق مالك في سبل لا يرضى بها الشرف، وينفر منها الضمير، بل ادخر ما تستطيع ولو قليلا لساعة يكبل بها الهرم يديك بقيود الضعف وأغلال القصور.
إذا كنت تنفق كل ما تكسبه فثق أنك لا تبلغ ما تتمناه من الثروة ولو ربحت بيومك الألوف المؤلفة.
وأنت، أيتها السيدة الفقيرة التي يحملها غرورها وطيشها على تحدي النساء الموسرات لتقتدي بحركاتهن وسكناتهن، غير ناظرة إلى زوجها المسكين وما يعاني من الأتعاب والشقاء في جمع درهم تنفقه على أمور كانت في غنى عنها لولا تشبهها بمن هي أعمق ثروة، وأعظم قدرا وأعرض جاها. ما ضرك، يا سيدتي، لو كنت زوجة لا تهمها الخزعبلات، ولا تخدعها السفاسف، فتدخر اليوم ما يفرج ضيقها في الغد؟
فلنصغ إلى صوت الواجب، ولنسمع نداء الضمير، ولنكون رجالا، لا بإسرافنا وتبذيرنا، بل في اقتصادنا وادخار القرش الأبيض لليوم الأسود، كما يقولون. فبهذا نكفل لنا ولأسرتنا مستقبلا سعيدا، ولا نخشى جيوش الشدائد متى داهمتنا واحتلت ساحتنا. فالدينار لا يجمع بغير الاقتصاد وخلع ثوب التشبه والإسراف. فلنحذر هذه الأوهام العصرية التي لا ينال منها الإنسان غير الهموم والمهانة، فهي تجر عليه الفقر من حيث لا يدري ولا يظن.
يا سيدي وسيدتي، يقول المثل: «على قدر بساطك مد رجليك»، فما لكما والتطاول إلى ما لا تصل إليه يدكما؟
لا يغرركما ما يقول الناس عن مأدبتكما أو حفلتكما. ولا تنتظرا الإعجاب والثناء حين تظهر صورة مائدتكما. فكل هذا لا يساوي هم ربع ساعة.
الكرم فتوة، ولكن ما كلف نفسا فوق طاقتها.
إن الفقر يقف دائما خلف التبذير، وهو ينتظر منه أن يفتح له الأبواب، فلنغلقها جيدا نأمن شر هذا الضيف الثقيل.
لا يغرركم قول الشاعر: «وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم»، فهو لا يعني هذا التشبه الأحمق الذي يقول الكتاب الكريم في أصحابه:
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين . فحكمة الدهور تعلمنا: «على قدر بساطك مد رجليك.» وإن لم نصغ لها نمنا في العراء، فراشنا الأرض وغطاؤنا السماء.
هل من يعتبر
احتفل العالم المسيحي بذكرى الراقدين، وكما للمسيحيين يوم، كذلك للمسلمين يوم يسمونه خميس الأموات. والجميع يزورون المقابر، يحيون بالأزهار قبور ذويهم، ويحسنون إلى الفقراء والمعوزين بهذه المناسبة.
وبلا شعور رأيني أتوجه إلى مدينة من مدن الأموات، فأوحت إلي سكينتها وهمودها هذه الكلمات فقلت.
هنيئا لسكان هذه المنازل الهادئة، وسعدا للنائمين بين جدرانها الضيقة، فقد أمنوا شرور المجتمع، وويلات البشرية المعذبة التي تتمخض بالأوجاع لتلد البلايا والمصايب.
أمانا لتلك الأجساد الهامدة، فقد عرتها المنية من دقائق الحياة، فعادت إلى الطينة التي جبلت منها، مودعة حركة الوجود ، واستراحت من عناء الحياة وضوضى الناس المزعجة، واستكانت في مضجع الهدوء: في المقبرة، مدنية السكون والراحة، حيث تتلاشى مطامع هذا العالم الفاني، وتسقط أصنام المدنية عن كراسيها.
وقفت هنيهة أتأمل وأفتكر.
وقفت لأناجي عظام من سبقوني.
جئت لأتحدث إليهم بالفكر والقلب وأعيش هنيهة بين قوم تعروا من مطارف المادة، وتركوا معها أباطيل الدنيا وترهاتها.
ذهبت لأجالس قوما إذا غبت عنهم لا يغتابونني، وإن غفلت عن الآخرة يذكرونني، وإذا وثقت بهم فلا يغدرونني.
هناك، في تلك البيوت الحقيرة، بدت لعيني عظمة ليس بعدها عظمة. رأيت عظمة الآخرة في جانب الدنيا الزائلة التي تغر كثيرين من البشر فيبطرون ويرفسون.
حسبوا الحياة والسعادة بالخبز والمال، وما دروا أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وأن حياة النفوس الكبيرة والهمم العالية ترتكز على صخرة ضخمة لا تنال قنابل العلم منها شيئا، وتلك الصخرة هي الضمير.
إن عظمة البشر، مهما سمت وتعالت، فعند باب القبر تنتهي، ووراء جدرانه تضمحل وتتلاشى، ولكن الضمير الحي وحده يثبت في وجه العدوان ثبوت الصخرة أمام العاصفة. وتلك هي الحياة الثانية التي لا يلاشيها موت ولا تسحقها طوارق الحدثان ولا تنسخها أيدي الزمان.
إن حياة الذكر الحسن لهي أطول من حياة المادة وأكبر شأنا منها، فالتاريخ - وهو الكاتب العدل - يسجل مآثر قوم كانوا بإخوانهم بارين، ويمنحهم الطوبى، ويحرق لهم بخور الاحترام ويضفر أكاليل الثناء. وطمعا بهذا الإكرام كان ملوك أرض الفراعنة القدماء يمحون آثار سلفائهم عن المباني ويجعلون مكانها آثارهم لتنسب إليهم ويغنموا الثناء الطيب الدائم.
وقفت هنيهة في مدينة الأموات، فسمرتني بمكاني أفكاري، فقعدت على حجارة أضرحتهم، وخطرت ببالي عملية حسابية للذين عرفتهم فيمن ماتوا، ثم نهضت أنفض ثيابي، ورأيني مدفوعا إلى قبر عال قام على أعمدة من الرخام، مزين بالأكاليل المزركشة والتماثيل البديعة، فتقدمت ووقفت متأملا علي أرى ما يوحي إلي أسرار عظمة ساكنه، ومآثره التي قلد بها جيد الإنسانية، فوقع نظري على بلاطة رخامية أفادتني أن ساكن ذلك الجدث، بل القصر الشاهق، رجل قضى أيامه جامعا لشتات الدنانير ، محملا إخوانه في البشرية نيره الثقيل. فمن أتعاب أولئك التعساء وعرق جبينهم جمع الثروة التي كانت سببا لسعادته بضعة أيام وراحة عدة سنين.
عاش في حياته تحت سماء القصور غارقا بين حشايا الحرير، ورقد رقادا أبديا في ضريح أرفع من قبور الفقراء.
وقفت أمام ذلك الضريح العالي أقول في نفسي: ماذا يقصد هذا الغني من هذا الضريح الشاهق؟ أيطمع بذكر خالد ويرغب في الثناء الطويل؟ كل هذا كان قد ناله مضاعفا لو أنفق ما أنفقه على هذا القبر في سبيل البر والإحسان. إن هذا الأثر الباطل يزول ولكن آثار الرحمة لا تمحى مهما تعهدتها السماء بأمطارها، ولامستها الريح بأصابعها.
فيا أيها الغني صاحب الملايين والأملاك المترامية الأطراف ابن الضريح، نظفه من الأقذار ما شئت.
ويا أيها الناس ضمخوا فقيدكم بالعطر والطيب، وكفنوه بالحرير والديباج، واحفظوا جسده بين ألواح البلور، ولكن هيهات أن تحفظوه من الفساد، هيهات! فسيقبض عليه الفناء ويتلاشى ذلك الجسم الناعم، ويصبح مقبلا للدود والحشرات، ولا تبقى غير آثاره التي تستحق التخليد.
ثم حولت نظري إلى جانب ذلك الضريح فرأيت حفرة تبدو عليها المسكنة، تحرسها قطعة من خشب وقد كتب عليها: «هنا دفن فلان المسكين اللاجئ إلى هذا البلد.» فتأثرت وقلت: كيف يقولون: لاجئ وكلنا في هذه الدنيا لاجئون؟
فقير، نعم، وقد عرفته من ضريحه:
مساكين أهل «الفقر» حتى قبورهم
عليها تراب الذل دون الخلائق
أهكذا يعيش الفقير ذليل الجانب ويموت محتقرا مهانا؟
ثم أيها الفقير في رمسك فليس عليك بالمسكنة من عار، واعلم أن العظمة بالبساطة، وكلما ارتقى المرء، وازداد علما، واقترب من الروحيات؛ يعود إلى حضن الطبيعة منبع البساطة والسذاجة.
وهنا اشتد تأثري، فاغرورقت عيناي بالدموع. وحولت وجهي إلى ناحية أخرى من الجبانة، فشاهدت ضريح ولد صغير لم يبلغ الثالثة من سنيه. كان ترابه لا يزال رطبا، وكانت الأم منحنية عليه، وقد تصاعدت زفراتها، وامتد أنينها، فما رأتني حتى ظنتني شبحا طالما أرعب الناس في ظلام الليل فلم يأتوا المقابر خوفا منه. فهدأت روعها وقلت لها : لا تخافي، أنا إنسان لا خيال. جئت في هذه الساعة لأؤنس الأموات في وحشتها. أنت تبكين على ابنك وأنا أبكي على كل هؤلاء الراقدين، بل أبكي على جسدي الذي سيتفرق شمله، وتتبعثر أعضاؤه، ويصبح العقد المنظوم منثورا.
فضربت المرأة صدرها وقالت: ولدي، وا لوعتاه على ولدي، لم يعرف الخير من الشر. صغيري الملك الطاهر يموت، والعائثون في الأرض فسادا يعيشون؟ ابني يموت ولم يذق من حلاوة الدنيا، ويعيش أولئك الذين تمرغوا في حمأة الدنايا والرذائل؟ ابني يموت والسفاحون والجزارون يعيشون وينتعمون؟ أيعيش المرائي والنمام والكذاب والسفاك والسارق ويموت ولدي؟
فأجبتها: لا تتذمري أيتها المرأة، وسلمي لأحكام ربك، وتعزي على فقد وحيدك، فهنيئا له. لقد تخلص من متاعب الأرض ومفاسدها ومهما قصر عمر الإنسان كان سعيدا.
وتركتها أريد الخروج؛ لأن وطأة الأحزان كانت قد ثقلت علي، فرأيت على طريقي ضريحا مموها بالكلس، فتركته ولم أعرج عليه بل قلت: ما أكثر أمثال هذا الضريح بين البشر.
وكان على جانب القرافة الأيمن ضريح بسيط عرفت أنه مستودع عظام ذاب صاحبها حبا لأمته فقلت: أهذا جزاء من يخدم القلم في هذه البلاد، أيظل يصح بها القول: ما زال فيها الألمعي غريبا؟
رحمة الله عليك أيتها الأيدي البالية! فقد كنت تديرين الأقلام، وتحاربين الظلم والاستبداد والفساد. أهكذا يكون جزاؤك؟
لا فقد بدأت الأمة تشعر بفضل الذين يعلمونها واجباتها وحقوقها. فسوف تكرم رفات ذوي الفضل ويرفع منار العلم والأدب.
وفيما أنا أهم بالخروج، رأيت من عن يميني بلاطة رخامية ناصعة البياض لم يمر عليها أزميل نحات، ولم يحط عليها حرف، فسألت الخفير، قبر من هذا؟
فأجاب: يقال: إنه قبر رجل أوصى أن يظل شاهد قبره غير مكتوب عليه.
فقلت: هذه الصفحة البيضاء هي رمز التاريخ، نجيء الدنيا لنكتب عليها بيدنا أعمالنا، فمن مخبر عني قادة الشعوب المعتدين الجائرين أن هذه البلاطة في انتظارهم، وسيحفر عليها أزميل النحات الأكبر كلمات لا تزول.
وما وضعت رجلي على عتبة الباب حتى عدت وألقيت نظرة على تلك القبور، وقد تمثلت لي رهبة الموت وناديتها: يا بيت الإنسان الأخير، يا مقر الراحة من أتعاب الحياة، أيتها القبور، يخافك بعض الأغرار ويرتعدون من المرور بقربك في ظلمة الليل، ولو عقلوا لجزعوا من المدن والمراقص، وخافوا من المرور بجانب بعض الأحياء - وحوش الإنسانية - الذين يغيرون على بعضهم بلا حق وينصبون الفخاخ والمكايد.
يا مدينة الأموات! أنت مدرسة المتأمل المفكر، أنت تخبرين المرء عن مصير العظمة الكاذبة واضمحلال المال، عن فناء هذا العالم.
فهنيئا لمن يراك ويعتبر!
بصراحة
إن كلمة بصراحة محط كلام، صرنا نكررها ولا نحس بها.
نفتتح بها كل حديث، ونختتم بها كل محاورة، ونحن على ضهر القضيب وهي في وادي قنوبين.
يقول الواحد منا لجليسه: «اسمح لي أن أقول لك بكل صراحة.»
وإذا قال له: «تفضل، هات الحديث» راح يخمع في كلامه كالحصان المشكول، ويمغمغ فيما يقول، ويقول كل شيء ما عدا الصراحة.
جاءني واحد يخلط مكالمته بهذه الكلمة التي تدور على لسان الكثيرين: «موش مظبوط؟»
يقولها ويحدق إليك منتظرا أن تجيب بنعم وتومئ برأسك كالجرذون.
ثم يتبعها بعبارة ثانية هي بنت عمها لحا: «مظبوط وإلا لا؟» ثم ينتظر هذا الرجل الصريح، فإذا أجبت بلا عبس، أقبل عليك بوجه كالقدر، ولكنه يريد أن يحكي، فيصبر عليك، ويعيد الكرة تلو الكرة، منتظرا أن تؤمن حتى إذا لم تفعل عند كل عبارة؛ نكزك بجنبك وقال: «ما لك لا ترد؟ احك وكن صريحا مثلي.»
ولما كان يشقني حديثه البارد وقلت له: تريد الصراحة؟
فصاح: معلوم!
قلت: إذن، فاسمع يا جميل: الذين يتكلمون دائما بصراحة قلما نجدهم. فأين الصراحة حين تجامل من لا تريد أن تراه، وترحب بالثقلاء، وتمضي في تبجيلهم إلى المدى الأبعد؟ وأية صراحة هي صراحتك حين تجاري في المسايرة من يحدثك ويكذب عليك وتكذب عليه، وتقول في قلبك: «لا بد للرطل من رطل ووقية» حتى ترجح كفتك وتحوز قصب السبق في ميدان الرياء والكذب؟
رددت يا جميل كلمة الصراحة مائة مرة، حتى صارت لحمة حديثك وسداه. أتسمح لي أن أقول لك بصراحة : إن الصراحة مفقودة من بين بني البشر؟ فلو التقيت أحد معارفك وقال لك: «أنا مشتاق إليك جدا»، فهل تجيبه بصراحة أنك أنت غير مشتاق؟ وإذا قال لك آخر أمام الناس: «ما رأيك في فلان؟» أفتقول له ما كنت تقوله فيه بخلوتك؟
وإذا جاءك طالب، أتعين له ميعادا وفي نيتك ألا تخلفه؟
يقولون: إن الساسة غير صريحين، وأنا أقول: إن الصراحة تصرع إذا اصطدمت بالمصلحة. فليت الذين يوسعون حين يفصلون من جلد غيرهم يفعلون ذلك حين يمشي المقص في جلودهم.
سمعت أديبا كبيرا يكذب على المنبر، مع أن زياد بن أبيه قال في خطبته البتراء: «إن كذبة المنبر بلقاء!» فقلت له، حين انتظر تهنئتي له بخطابه التذكاري: أأنت مؤمن بما قلت؟
فأجاب: حط بالخرج، هذا رجل صار في دنيا الحق.
فقلت: أتتحدث عمن صار في دنيا الحق بكلام غير حق؟
فأجاب: وماذا كنت تفعل لو كنت محلي؟
فقلت: كنت اعتذرت.
فتنفش كديك الحبش، وارتفع عن الأرض شبرين وقال: التهرب جبن.
فأجبت بصراحة: عشت يا بطل الكلام الكاذب.
حول امتحان البكالوريا
إذا كان الشاعر العربي قال منذ مئات السنين: «وتحت الرغوة اللبن الصريح»، أفما حان لنا أن ننفح في الرغوة لنعلم كم عندنا من الحليب في الدلو؟ فكلمتنا الصريحة نرسلها اليوم حول المنهاج التعليمي باحثين عن الضعف في امتحاناتنا الرسمية. فلو كانت المعاهد تنقي التلاميذ المرشحين للشهادات، كما كانت تنقي المرحومة ستي قمحها وبرغلها حبة حبة، لما وصلنا إلى هذه النتيجة الرديئة، فمن ثلاثة آلاف ممتحن تقريبا لم يسلم الخمس، فأين العلة يا ترى؟
إن هذا ناتج عن تهافت أصحاب المدارس على التعبئة والحصول على أكثر عدد ممكن. ومتى كان هذا، فالطالب يفرض صفه على المدرسة، ثم يفرض بعدئذ ترشيحه للامتحان، وهكذا يكون السقوط عظيما.
يقول المثل: من القداحة شيء ومن الصوانة شيء، أما إذا كنت تقدح في حجر خفان فإنك تعود بلا شك بخفي حنين.
أصحاب المعاهد والتلاميذ تهمهم الشهادة. أما الثقافة الصحيحة فأمرها لله.
التلاميذ لاهون بالألعاب والأحزاب ورحلات شم الهواء، والمدارس يهمها أن تسلم لها كثرة العدد الناتجة من إحراز الشهادات.
وإذا ضاقت بها دروب الشهادات الرسمية، أعطت هي شهادات من عندها، وعلى حاملها أن يلجأ إلى زعيمه ليسعى في الدوائر الرسمية إلى معادلتها، ويكذب على صاحبه ووطنه، ويدخل في الدواوين والمصالح أنصاف الأميين من حاملي هذه الشهادات.
وإذا عذرنا، قلنا: إن برنامج البكالوريا عندنا مثقل بالمواد، وعلى المعلم والطالب أن يدرسها في عامين اسما. أما فعلا ففي أقل من عام. ففرصة الصيف أربعة أشهر، وفرصة الشتاء ثلاثة أسابيع، ومثلها فرصة الربيع. وهناك من الأعياد ما يعطى بالمفرق، فيعادل أكثر من فرصة فصلية كبيرة.
قد نسينا العطلات التي تفرضها الإضرابات فتضيع وقت التلاميذ وتفقد بها المدرسة مهابتها؛ لأنها تقف مكتوفة اليدين حين تسود الغوغاء.
أجل لقد فقدت أكثر المدارس سلطانها فضاعت البقية الباقية من هيبة المعلم.
المعلم أحد اثنين، إما ذو عضلات وقوة جسدية يكبل يديه القانون الذي يمنع الضرب، أو أنه قليل الظل فيضربه التلاميذ ... وتحتاج إذ ذاك المدرسة إلى مدير سرك يحكم بالسوط.
نحن لا نحبذ التربية بالقوة، ولكن بعد تجارب خمس وخمسين سنة تبين لنا أن ابن الإنسان هو ابن عم الدب كلالة، لا يعلمه إلا العصا. وقد قرأت في هذا العام أن إنكلترا رأت أن المعلمين فقدوا سلطانهم، فصارت السلطة للتلميذ حين بطل الضرب.
هذا من حيث التلاميذ. أما المدارس فملقى حبلها على غاربها، وما من يسأل عنها.
إننا نضع الحق على المنهاج. نعم، إن على المنهاج حقا، ولكن ليس كل الحق، فقبل أن نطبق المنهاج يجب أن نهيئ للتلميذ انضباطا يؤدي إلى الانتباه.
في أرضنا نضع الحق دائما على القوانين ونحاول إصلاحها، وكيف تصطلح القوانين إذا كان القيمون عليها غير قادرين؟
أسمعهم يقولون: «إن اللغة العربية صعبة المنال، فكيف يتعلمها أبناؤنا وهي على ما هي؟»
وإذا حكينا بصراحة قلنا: «علينا أن نعلم المعلمين أولا كيف يعلموا اللغة وأصولها.» «بادروا إلى حجز محلاتكم»، هكذا يقولون في آخر كل إعلان مدرسي. ويكون عندنا مائة مقعد وندعو ألفا، ويكون عندنا مكان يضيق عن المائة فنقبل ثلاثمائة.
وإذا فتشنا آخر العام المدرسي عن طالب ذي شخصية فلا نجده؛ لأن أساليبنا لا تكتشف الشخصيات. فالطالب بوق ينفخ فيه معلمه ألحانا ناشزة أكثرها مما وضعه القدماء من الذين عالجوا نقد الأدب.
إن كتبنا المنهجية ليست من معجن مصنفيها، ولا من خبز فرنهم وتنورهم. وهي تسمم عقلية الطلاب الذين يعتمدون عليها ليواجهوا بها الامتحانات الرسمية.
وهكذا، فإنك إذا فتشت عن شخصية بين معالجي أبحاث البكالوريا، فإنك لا تعثر إلا على إسطوانات ذوات ألحان مكسرة.
أما الموضوعات التي تلقى فهي تكرر كل عام بصورة أخرى؛ وسبب ذلك تلك الكتب السطحية المنهجية التي يقصد بها التجارة. فلم لا تؤلف الوزارة المسئولة لجنة تسهر على الكتب المدرسية وتنقيها من الزوان والشيلم؟ فهذه الكتب الفارغة إلا من الورق وهذا المنهاج المضخم الوارم يجب النظر فيها سريعا لتصان الثقافة قبل اندثارها الكلي.
فليتنا نعود إلى الشدة في المدارس والقسوة في الامتحانات، ففيهما صيانة كرامة العلم والتعليم.
كان المعلم يضرب بالمخمس؛ أي الكف، فصار الطالب يشهر المسدس، وكفى الله المؤمنين القتال.
وأخيرا أقول: ما بقي إلا أن تضع مدارسنا الابتدائية لشهاداتها بزة رسمية ذات شرابة وقبعة ورداء، فيكتمل النقل بالزعرور، ومن يمنعها؟
خطرات
1
لقد أراني ما طرأ على نظري من خلل أشياء لا عهد لي بجمالها، فتحقق لدي أن الجمال في نفس الناظر لا في نفس المنظور.
إن الاكتشافات الحديثة تغير النظريات المحاطة بهالة تقديس، ورب عظمة متحجرة هي أصدق من ملايين الكتب.
الباحث عن الجمال الفني في مختصر رائعة من روائع الأدباء المشهورين كالباحث عن الجمال الإنساني في الهيكل العظمي.
يسعد الإنسان بتخيلاته. فلولا خيال المشترعين لم تكن نار يخافها ابن آدم، ولا جنة يحلم أن يسعد بها، فيعمل الخير ويحيد عن الشر كما أوصي.
العلم يقتل التعزية والرجاء، فحين كان يظن الإنسان أن عمر الكون بضعة آلاف من السنين كان أسعد، ولكنه إذا صدق الرأي العلمي الحديث الذي يجعل عمر الكائنات مئات الملايين من السنين ، يرى أنه أقل من شعرة من قطر برج ممرد. فأين عظمة الإنسان إذن؟
إنها ولا شك في دماغه الذي جعله يخلق كل هذه المزاعم.
الأساطير أحلام لذيذة يعيش عليها الإنسان وينعم بها وهو يردد مع الشاعر:
متى إن تكن حقا فتلك هي المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
إن محاولة اكتشاف أسرار الفضاء ستزيدنا شقاء وعماوة قلب؛ لأن السماء فاضية.
ترى ماذا يحل بالموسيقى الرخيمة لو زادت قوة سمعنا أضعافا؟ قد أوحت إلي السماعة هذه الفكرة عندما استعنت بها على تقوية سمعي، فرميتها جانبا وفضلت قلة السمع على كثرته.
لو كنت قسيسا لقلت: «فلنضحك» بدلا من «فلنصل»؛ لأن الضحك لا يكون إلا في الفرح والفرج. أما الصلاة فتكون حامية حارة في الأزمات الشداد، وإذ ذاك تستبعد المرح وقد تعده مفسدا للصلاة، كما قال الرشيد لمضحكه ابن مريم.
قال لي واحد: ليتني أعرف لغة أجنبية لأقرأ ما كتبه برغسون عن الضحك.
فأجبته: عندك الجاحظ فاقرأ ما كتبه في مقدمة كتابه البخلاء.
أعجب كيف لم يقل الله في وصاياه العشر: «لا تغضب» بدلا من «لا تقتل»؛ لأن الغضب أبو الجرائم كبيرة كانت أو صغيرة. فكيفما سرنا في طريق الحياة يقفز الغضب من أمامنا. فقد يغضبنا أحدهم؛ لأنه أخل بمراسم السلام والتحية، ونحن نريدها طبقا للهندازة، أو بناء على مراسم القديم على قدمه. قد هدانا الشاعر القديم طريق الحياة المستقيم حين قال:
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساوئا
فصنها وقل: يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتي هي أحسن
وجاء في التوراة: «الغضب قساوة والسخط جراف.» ببطء الغضب تقنع الرئيس، واللسان اللين يكسر العظم.
إن الله يغفر لنا خطايانا ولكن جهازنا العصبي لا يغفر قط. فاحذر الغضب تتجنب قرحة المعدة والضغط العالي والسكري ومرض القلب.
الحياة بطارية مشحونة يمكنك أن تفرغها في الثلاثين، ويمكنك ادخارها إلى المائة ، فكن حذرا واقتصد.
ربما أنهم قالوا: «العجلة من الشيطان»؛ لأن الشيطان من نار في عرفهم، وهو مغامر جسور دق قرونه بالخالق العظيم. فهل رأيت بليدا متكاسلا أكل سمكا طازجا من البحر؟ إنه يأكله ميتا معروضا على طبق في ساحة السمك.
2
الابتذال يقتل الكلمة ويقبحها، فالأجل الأمجد ليس أفخم منها. ومع ذلك سمجت لما دارت على الأقلام، فأصبح الذوات يفضلون عليها السري الأمثل أو الوجيه الهمام.
شبهت الدنيا بقصر سميته قصر المسكونة. فالنوابغ والعباقرة يدخلون ويخرجون ثم لا يظفرون بمقابلة الأجل الأمجد. والظافر منهم هو الذي يكتب اسمه في سجل التشريفات ويمضي لسبيله.
لو لم يظهر السيد المسيح لامرأة أولا، لما انتشر خبر قيامته بتلك السرعة، مع انعدام وسائل الإذاعة والنشر.
ليس في الدنيا عصي على النقد، شرط أن تحك رأسك لتخرج الشرر، من أسنان المشط. فإذا كانت أسنان المشط تفعل ذلك، فكيف بذرات دماغك حين تتفاعل؟
ليتني أعطى عمرا آخر مع بقاء المخ سالما، فقد رأيت آخر العمر أنضج وأشهى، وليت الإنسان يستطيع أن يورث الآخرين علمه، فيبدأ العلم من حيث ارتفع.
أشعر نحو الكتب شعوري نحو الكائنات الحية. أتخيل الحبر على الورق كدم فوق الجلد لا تحته. فما أجمل أن تهدي إلى صديقك كتابا ينوره، لا زجاجة ويسكي تطيره.
لا أخاف العمى إلا لشيء واحد هو أني أصبح محتاجا إلى معونة إنسان غير الإنسان الذي هو في قميصي.
شاهدت أول طائرة في سماء بلادي وتعجبت.
قبل أن يلفظ القرن التاسع عشر أنفاسه سمعت أول أسطوانة تغني، ثم توالت الاختراعات ولا تزال، حتى تمنيت لو كان أجل مجيئي نصف قرن على الأقل.
عندما رأيت صورة الأقمار ترسل إلى الفضاء، تذكرت كيف كنا نطير الطيارات والقواعد سطوح بيوتنا. فهل يأتي بعدنا من يشبهنا هذا التشبيه؟
إذا كانت الأرض لم تشبعنا، فهيهات أن يشبعنا ذاك الذي سمته التوراة: «توهو بوهو» وجعلت روح الله يرف على وجه المياه ...
مساكن سكان الفضاء، فأكبر نكبة ستحل بهم هي ساعة نشرفهم بزيارة ومعنا عتادنا الجهنمي .
سيظل الدماغ البشري عظيما ما دام التفكير لا ينقطع، وما دام هناك طموح. وكم أضحكنا جنون المتنبي القائل:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
وكم أكبرت عبقرية ضرير المعرة حين قرأت وصفه اتساع رقعة الدهر بقوله:
ولو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر
فأين جدي الذي كان يقول بكل إيمان: «تؤلف ولا تؤلفان» أي: في نهاية ألفي سنة تمر على ميلاد ابن البشر تقوم القيامة وتذهب الكائنات إلى حيث ...
فها إن العلم يثبت أن الأرض التي خلقها رب موسى في ستة أيام عمرها ملايين، وإن زعم داروين وكفره في أعين الثائرين عليه أصبحا سكرا وترياقا:
ومن تأمل في الدنيا ومهجته
أقامه الفكر بين الضعف والتعب
ما أبطأ خطوات التطور، فكل سنة من أعمارنا تساوي مليون سنة في حساب التطور.
وعلى هذا القياس لا تصل نفوسنا إلى حضرة ربها إلا بعد ملايين السنين. فلينعم الملاحدة بالا؛ لأنهم يتطورون ويصيرون غيرهم قبل الوصول إلى حضرة من على العرش استوى، وسبحان الذي لا ينسى.
نحو حياة أفضل
عنوان كله طمع ومحبة ذات، فيا ليت شعر الذين يطلبون حياة أفضل، فهل هناك حياة أرفه وأفضل من حياة اليوم؟ وكيف تكون يا ترى؟
ما نسينا بعد ركوب الخيل، بل الحمير، يوم كنا نقضي يوما لنقطع مسافة نتجاوزها اليوم بساعة زمان قاعدين، لا راكبين.
ما نسينا عهد المرسال الذي كان يقضي يومين حتى يأتينا بخبر من المدينة، ولم ننس قول طرفة: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود.»
لا أتحدث عن الغيبيات؛ لأنه لم يثبت لدي بعد غير ما أدركه بحواسي الخمس، وإن تكن العين والأذن تخدعان أيضا.
كنت أؤمن أن الجمال في ذات الناظر، فإذا بي، عندما طرأ خلل على إحدى عيني، أري جمالات لم أكن أراها. فالحياة الفضلى هي إذن في أنفسنا، وكما نفكر نكون، فعبثا نطلب حياة أفضل في خارج أنفسنا. فالحياة المرضي عنها نحن نخلقها بأنفسنا لأنفسنا، وقد وصلنا إلى القمة وما زلنا نطلب أفقا أعلى وأبعد.
قد رأيت، بعد إمعان الروية، أن من يطلب حياة أفضل فليفتش عنها في ذاته. «إن الملكوت فيكم» هكذا قال المعلم، وهو يقول الحق.
وقال حكيم: «كما تفكر تكون.»
الطموح ضروري لرقي الإنسانية، ولكن السعادة في الحياة لا تأتي في الغلو والإيغال.
أجل، إن الحياة تدفعنا إلى الأمام دفعا، ولكن هذا الدفع لا يؤمن لنا الغبطة المنشودة، فشاعرنا الأكبر قال:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
وها قد كدنا ندرك النجوم، وتحققت لنا حياة أفضل، وما زلنا نطلب الحياة الفضلى، فمن وهب المعرفة يطلب أن يوهب أيضا المال. ومن أعطي الحكمة يتمنى لو كان جبارا عنيدا، وسلطانا مولى على رقاب العباد.
قال فورد عن الأحد، يوم الراحة الأسبوعي: «إننا نحتاج إلى بعض الوقت نرتاح فيه عقب قضاء يوم بلا عمل.»
اقرأ كتاب سلامة موسى: «حياتنا بعد الخمسين»؛ لتعلم رأي فورد جبار عالم الصناعة. فهو ينقل لنا عنه أنه قال في الثمانين من عمره: «سوف يكون العالم أفضل مما هو الآن للناس، وهو الآن خير مما كان حين كنت صبيا، وسيطرد في الارتقاء والتحسن، ولكن على الناس أن يتعلموا من اختباراتهم، وأن يعيشوا للمستقبل وليس للماضي.»
ونحن نقول: ليست الحياة الفضلى في مال نمرغ أنفسنا في أوحال مانحيه، ولا في ثروة نبيع لأجل كسبها ضمائرنا وعزة نفوسنا في المزاد العلني. فإذا كنا نريد حياة أفضل، فلا نتسابق على الفتات المتساقط عن موائد الجبابرة.
إن الحياة تكون أفضل إذا بعدت عن الكذب والدجل، وعن الذل المخزي. وأرى أن الحياة الفضلى، كما هي في نظر جبابرة الأرض، هي سبب كل الويلات وشقاء الإنسانية.
فأية سعادة لمن يطير ويقطع المسافات بمثل لمح البصر، إذا كانت نفسه تتسرب مع خشاش الأرض؟
إن النفوس لا تسعد إلا بالمال الحلال. ولا يكون المال حلالا زلالا إلا إذا عدنا إلى الشعار الإنساني القديم: «بعرق جبينك تأكل خبزك.»
إن عرق الجبين هو ملح الحياة، ومن يأكل طعامه بلا ملح؟
وقبل وبعد، فالحياة الخالية من الجهد والنشاط لهي أغنية على وتيرة واحدة. ومن ذا الذي ترون له مثل هذه الأغنية؟ فالحياة لا تحلو ولا تطيب إلا إذا تنوعت.
وإنني لا أتصور حياتي السعيدة في الفردوس حيث النعيم المقيم إلا وأخشى الضجر.
إن من يطلب عالما لا شر فيه، كمن يطلب لحما بلا عظم.
وكل باحة نلتمسها نجد متاعبها منها وفيها.
صور ومشاهد
ما أكثر مشاهد الحياة، وما أسرع مرورها!
إنها تمر كالبرق الخاطف الأبصار، وما على الناظر إلا التقاط ما تمثله سينما الحياة ناطقة وصامتة.
وهل نحن غير ممثلين يخرج كل منا دوره كوميديا أو تراجيديا؟
الزواج مشكلة هذا العصر. كان شاعرنا يقول فيما مضى:
وماذا تبتغي الشعراء مني
وقد جاوزت حد الأربعين
أما ذكور هذا الزمان - وقد أمسى الزواج عندهم قضاء واجب، كما يقولون - فليس يتذكره أحدهم إلا حين يذوي شبابه، أو يذهب ساقه وسماقه، كما تقول العوام.
يستفيق الرجل في عصر الحياة، يستيقظ من غفوته حين يقصر عن الكر والفر، فيفتش على ضوء شيبته عن أنثى يحجر عليها في بيته يوم يصبح في حاجة إلى ممرضة لا إلى زوجة.
إنها إحدى آفات المدنية التي تدعونا إلى معالجتها واجباتنا الاجتماعية. فالبستاني لا ينفك عن الطواف بين أشجاره المثمرة، تارة يلجأ إلى المنفخ ليكافح الجراثيم العائثة بالجذوع والأغصان والأوراق، وطورا يجيء بالمضخة للرش لتسلم من الكوارث شجراته الحبيبة.
أما نحن فقلما نبالي بجنيناتنا البشرية التي تتطلب منا جهودا جلى، واهتماما منقطع النظير.
إن تهرب الشبان من أعباء المسئولية البيتية هو الذي أكثر عدد العوانس في هذا الزمان.
ولكن على من الحق؟ ومن هو المخطئ؟ الفتاة أم الفتى؟
سوف أعرض الآن إحدى صفحتي هذه القضية الخطيرة، وإني لأرجو من القراء أن ينهجوا نهج حكام هذا العصر؛ أي ألا يصدروا حكمهم الآن بل يؤجل ذلك إلى ما بعد الاطلاع على الصفحة الثانية، عملا بنصيحة أحد القضاة القدامى الذي قال: «إذا جاءك شاك وقد قلعت عينه فلا تحكم له؛ لئلا يأتيك خصمه وقد قلعت عيناه.»
اجتمعت بشاب فات الأربعين ، وهو يزعم أنه قارب الثلاثين، فقلت له: أراك كبرت يا جميل عن الصبا، وقطعت تلك الناحية، أما وقعت بعد على بنت الحلال تقاسمك السراء والضراء؟
فتأفف صاحبنا ونفخ نفخة تذري بيدر دير، ثم صفع صلعته صفعة رنت لها القاعة التي كنا فيها. وأطرق يفكر، ورحت أنا أتأمل أصابعه المنطبعة على بطيخته، وأنتظر كلامه.
وأخيرا هونها الله وانفكت عقدة لسانه وقال: وكيف أتزوج يا شيخ، ولم أجد بعد فتاة واحدة ملأت عيني وقلبي؟
فقلت: عجيب! هل انقطع نسل حواء؟
فقال: نعم، اسمع حتى أخبرك. فأسما رشيقة القوام كأن الشاعر يعنيها بقوله:
إذا قامت لحاجتها تثنت
كأن عظامها من خيزران
بهية الطلعة، فتاة متنورة، بنت مثقفة، ذوق سليم، ذكاء حاد، تكفيها الإشارة لتفهم. ولكنها، وا أسفاه! شرسة، سريعة الانفعال، مستبدة برأيها، تريد أن تكون الكلمة الأخيرة لها، فكيف تصفو أيامي بقربها؟
وهند بنت بيت، جمال ساحر، ودوطة ضخمة، معها الكثير من الدنانير الرنانة لا المخشخشة، ولكنها متكبرة، شامخة بأنفها، تعد نفسها فوق البشر، لا تلتفت إلى من هم دونها إلا لتزدريهم. لا يعجبها أحد في الدنيا. فهل يطيب عيشي إذا اقترنت بها واتخذتها شريكة لحياتي؟
وسلمى أسيرة الموضة، تقضي أغلب ساعاتها منكبة على البيانو، تحب اللهو، ولا ترى إلا متنقلة من سينما إلى مسرح، ومن صالة إلى قاعة، لا تهتم إلا بما تهتز له أوتار قلبها، حملت والدها حملا ثقيلا من الدين، فهل يرجى أن تكون ربة بيت في المستقبل؟ وهل تحسن تربية الأولاد على الاقتصاد ما زالت هذه ميولها؟
وجوزفين جامعة لشتات المحاسن، إلا أنها تقامر كوالدتها، وتشرب أيضا ... وإحدى هاتين الآفتين تهدم أكبر بيت، فكيف بهما إذا اجتمعتا؟ ألا تحول بيتي منتدى وقهوة إذا ابتليت بها؟
عفوا، نسيت أن أخبرك أنها لا تدع السيكارة حتى تمسك نربيج الأركيلة، لا تحدثك إلا عن الماتينيه والسواريه، وعن حفلات الكوكتيل بعبارات هي كوكتيل حقا. وبألفاظ كأنها مسبحة الدرويش. - طيب، إياك أن تنسى شيئا، هات كل ما عندك.
فتنهد وقال: ونبيهة تعيش مع أهلها بكل رعونة وخشونة؛ ترفس أخاها، وتقاتل أمها، وتلعن أباها إن أغاظها، وتظل معبسة بوجه أهلها، في حين أنها تبتسم لعابري الطريق، وتذوب رقة ولطافة لدى مقابلتها زوارها. قل بحياة ربك، أفلا تعاملني كأهلها متى صارت زوجتي؟
قلت: ربما، وماذا بعد؟
قال: وأنيسة كسلانة، تطيل السهر ولا تستيقظ إلا عند الظهر، فتقضي ما بقي من النهار على غسل وجهها والتضمخ بالطيوب، وضفر شعرها، وتزجيج حاجبيها، وهي لا تقبل نصيحة أمها وتعد كل عمل عارا، تتأوه إن لمست الحرير، فكأن جسمها من النعنع، فما عساها تفيد البيت يا ترى؟ ألا تدك أساساته؟
وكريمة، لما زرناها قعدنا على مقعد حريري، ولكنه متواضع فتنكر في ثوب من الغبار، فكدنا لا نعرف لونه، وقد رأيت أثاث بيتها مبعثرا وثيابها غير نظيفة، لحظت أنها لا تهتم بشيء إلا بمطالعة الروايات السخيفة، ولا تتحدث إلا عن أبطال الشاشات البيضاء، فكيف يكون حالي إذا صارت حليلتي؟
وأليس لسانها أطول من حبل الجمال، ثرثارة، تثلم أعراض رفيقاتها ونظيراتها، مدعية، تجهل القراءة والكتابة. وتوهمك أنها فيلسوفة عصرها ... أنها جميلة جدا، وهل يكفي جمال وجه يخلو صاحبه من جمال العقل والأدب؟
وسعدى وقحة متفرنجة، حديثها مخلوطة، كلمة عربية، وكلمة أعجمية وهي نصف أمية، أقول: نصف أمية حتى لا أقول: نصف متعلمة؛ لأنها لا تستحق هذا اللقب، ومتى حمي التنور لا تنطق إلا باللعنات! وهل أقبح من أنثى تسب الدين؟ صدقني إذا قلت لك: إني سمعتها بأذني، رأيتها مرارا تضرب خادمتها كما تضرب الحيوان، وتقذفها بلعنات لا ينطق بها أولاد الشوارع.
وليلى مترجلة لا ينقصها إلا زوج شوارب، تتجول وحدها في الأزقة، تنفق كل ما يصل إلى يدها على توابل الحسن ومقبلاته، كأنها تجهل:
إن المليحة من كانت محاسنها
من صنعة الله لا من صنعة البشر
وجميلة لا تعلم شيئا من أمور تدبير البيت، تستعين بجاراتها على رتق ثوبها، ومن كانت لا تحسن تدبير نفسها فكيف يمكنها أن تدبر البيت بحكمة ونشاط؟ فأمي صارت على حافة قبرها، وأختاي واحدة تزوجت والثانية ماتت .
فقلت له: يبقى وجودك، ونفرح منك، وأخيرا؟
فقال: أخيرا، ولكن واحدة اسمها سليمة، أعجبتني جدا.
فقلت بصوت منخفض: الحمد لله.
وأتم هو كلامه: فهي سليمة الطوية صافية النية، ترف على وجهها روح الطهارة وتصبغ خمرة الحياء وجنتيها، وهي تحترم البشر. معلمة، مهذبة، مقتصدة، تكره الاغتياب والنميمة، لا تبالي بالأزياء، لا تميل إلى الملاعب والملاهي، ماهرة في أكثر الأشغال اليدوية، بنت أوادم تقوم بواجبات البيت حق القيام، طبخ ونفخ وهلم جرا.
فقاطعته وصحت صيحة فرح وقلت له: ساعة مباركة، خذها.
فقال: وكيف آخذها، وهي ما معها شي، وأنا طفران؟
فقلت له: زاد واحد يكفي اثنين.
فقال: يا ليت، ولكن من أين؟
فقلت: إذن، أنت تطلب العصفور وخيطه؟
قال: نعم.
قلت: إن شاء الله تعيش ... حتى يطلع الحشيش ...
علمتني الحياة
وكان الأصح أن يقال: ما هو أبلغ درس علمتنيه الحياة.
إن دروس الحياة في أمثالها؛ فالأمثال هي المواد الكلية من كتاب قانون الحياة. وقد قالت: إذا لم تعلم ابنك فالدهر يعلمه.
لم أكن من المؤمنين بالكلمة المأثورة: «اتق شر من أحسنت إليه»، ولكن ما صادفته عمليا في حياتي أثبت لي صدق هذا القول. فالذي تحسن إليه، كثيرا ما يتمنى زوالك لئلا تؤذيه رؤيتك حين يتذكر ما لك عليه من دين، وإن كنت أنت قد شطبت الحساب على الفور؛ ولذلك لم أعد أستغرب الجحود، ولم أعد أنتظر شكرا من أحد.
أما قول الحطيئة:
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
فالذي يريد تأجيل ديونه إلى يوم الله فله شأنه. أما الناس فلا ننتظر منهم عرفان جميل، فهم إذا شبعوا بطروا، وإذا قدروا رفسوا وعضوا.
في المثل: «كل ما تزرعه تقلعه إلا ابن آدم فإنك تزرعه ليقلعك»، فخير لك أن لا تزرع ولا تنصب هذا الحيوان الأسود الرأس المستوي القامة.
علمتني الحياة أن المال لا رائحة له، ولكنهم نسوا رائحة البخيل التي دونها نتانة القبور. أوليس البخيل قبرا جوالا يملأ محيطه قذارة ونتنا؟
كنت أهزأ بالشيخوخة، حتى إذا ما بلغت القمة الأولى من قمم العمر، وقفت متحيرا في الطريق المؤدي إلى القمم الأخرى.
يقولون: إن المعاشرة تؤثر، ولكن الحياة علمتني أن الطبع غلب التطبع.
ومكلف الإنسان ضد طباعه
متطلب في الماء جذوة نار
كانت حياتي كفاحا مستمرا، ولا تزال جهادا مرا. ومن هذا تعلمت ألا أيأس ولا أقنط، فكأني دائما أنتظر شيئا فأشمر للحاق به، ولعل هذا هو الذي جعل طريقي لا نهاية لها. لم أكن من تلامذة الحياة النجباء، فسقطت في الامتحان. وها أنا أجرر أذيال خيبتي في البشر.
أنا أعول كثيرا على المأثور من الكلام القديم شعرا ونثرا، فالشعر العربي مستودع الفكر الإنساني، والأمثال العامة هي زبدة فلسفة البشر، ولا عيب فيها إلا أنها تجمع المحاسن والأضداد.
علمتني الحياة أن تقديسنا للقديم يبقينا حيث نحن؛ ولذلك أراني أهش وأبش للجديد حيث أجده.
وبعد التفكير العميق وجدت أن الكذب هو سدى ما ننسجه من أحاديث ولحمته، من أهلا وسهلا ومرحبا، إلى شرفتمونا بزيارتكم، أعيدوها. فكلمة مشتاقون تخرج كل ثانية من فم كمغارة أفقا، وحديث المجاملة يتدفق كالشلال في كانون.
وقبل وبعد فأنا لم أتعلم شيئا من مدرسة الحياة في هذا الدور، فعسى أن أكون تلميذا نجيبا في الدهر العتيد.
الشجر تتهم البشر
ما أثقلك يا ظلام! وما أقساك يا ليل! فقد زدت الغابة وحشة، وأخفيت تحت جناحيك وحوشها المفترسة، وناديت الضواري: خلا لك الجو ...
الغابة في الليل كالمدينة في النهار، في الاثنين ذئاب تخشى أنيابها وبراثنها، ولكن لكواسر المدينة أنيابا من حديد وأظافر من نار، وهي أجرأ وأفتك وأحد نابا من وحوش الغابة.
دخلت الغابة تحت لواء الظلام فهمس الضمير في أذني: «امش في النور ما دام لك النور.»
نعم سمعت صوتك أيها الضمير، ولكن أتجهل أن من أحشاء الغيوم السوداء تنبثق الكهرباء الساطعة؟
ما هذا الصراخ والعويل؟ ما هذا البكاء الجارح؟ أرى أشباح الموت تلوح في الفضاء، وزفرات المنية قد ملأت الغابة.
ليست الأشجار ببشر ليزاحم بعضها بعضا وتقتل وتتبادل الغارات. إذن فما الذي أقلق خاطر الليل ، وأزعج بال الهدوء والسكينة؟
لا بد من أن تكون لابن الإنسان يد في هذه الضوضاء وفضل على نشأتها، فلنتقدم وننظر. أما قال الشاعر في ذلك الزمان:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير؟
وكان الخوف ينمو كلما اخترقت قلب الغابة، فتثقل علي وطأة الرعب، والصوت يزداد قوة ويحمله الهواء على منكبيه طائرا به في أقطار الغابة الموحشة.
ذعرت الضواري وتركت الطيور وكناتها، وفر الذئب هاربا خوفا من ريحة الإنس. أما أنا فتقدمت مستقبلا ما يكون بصدري، فقد علمتني الحوادث ألا أدير ظهري لطاعن فأمكنه من مقاتلي.
وكان الصوت ينبعث من كهف ضفرت له يد الطبيعة إكليلا من العليق والعوسج، واهتديت إلى بابه فدخلته قائلا: إن التاريخ يعيد نفسه، وهذا نظير جريح أريحا، فما ضرني لو كنت ذلك السامري؟ وما وقعت عيني على ذلك المتوجع حتى سمعته ينادي: «ويلهم قتلوني.»
تفرست بالصارخ، فإذا هو فتاة غضة الشباب، جميلة، غطى شعرها الأسود الطويل وجهها البديع الناصع البياض. ناديتها فأعرضت عني مغطية وجهها بيديها الناعمتين، وصاحت: «إلى هذه البرية لا تزالون تقتفون أثري؟ دعوني أعيش في هذه الغابة كالنساك، فقد سئمت أعمالكم يا بني البشر. لقد جرتم علي، وسحقتم قلبي، وحطمتم مجدي! اضطهدتموني واحتملت كل ما لحق بي من ظلمكم، أيها القساة، فدعوني الآن أستريح في هذه البرية بنفس راضية، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.» ثم أعولت فملأ صراخها الفضاء، فتفطر قلبي لوعة عليها.
وسألتها: من أنت أيتها الفتاة؟ وأية جناية ارتكبت فأبعدت إلى هذه الغابة حيث لا يؤنسك غير نعيق البوم والغراب، وفحيح الأفاعي وخوار الضباع؟ أأنت تموتين وتودعين الوجود؟ ومن يرضى عن موت غادة مثلك؟ فقومي تنقلي بين الأزاهر، فإنك لا تزالين زهرة ناضرة لم تنفتح العين على أجمل منها، وحدثيني عما نزل بك من مصائب الدهر فلعل لدائك عندي دواء.
فأجابت: قضي الأمر ولم يعد لي من الحياة نصيب، فأنصاري قد ماتوا، وأنى توجهت لا أرى إلا وجوها كالحة، وجباها مقطبة، وحناجر مفتحة كالقبور ، وسم الأفاعي تحت الشفاه. ينظرون إلي نظرة القضاة إلى لص مجرم، ولا يريدون غير رجمي؛ ولهذا تركت معترك المدن حيث تتطاحن البشر، وجئت إلى هذه الغابة أنشد السلامة والاطمئنان. هجرت الهيئة الاجتماعية وطويت عنها كشحا.
فقلت لها: ضاق صدري، ولم يبق في قوس الصبر منزع. فهل أنت ساردة لي تاريخ حياتك؟ يظهر أنك غريبة الأطوار وأسرارك عميقة!
فأجابت بطرف مكسور: أنا هي العذراء التي افتخر بها الإنسان القديم، وتغزل بها كبار النفوس، وتعشقها الفلاسفة والمطلعون على أسرار البشرية. أنا هي المحور الذي تدور عليه رحى الحياة، والشمس التي تلقي أنوارها على المجتمع الإنساني فتنعش ما ذبل من رياضه، وتبدد ظلمات لياليه الحالكة. أنا هي الروح لجسم المدنية الحاضرة، وما نفع الجسم إذا فارقته الروح؟
أنا هي نعيم هذه الحياة، فمن لجأ إلي أمن الويل والنوازل، ومن أعرض عني عاش معذبا في جهنم الضمير، فالويل للذين جاروا علي وتركوني، فعاقبة حياتهم وخيمة، وأيامهم سوداء مظلمة. أنا هي عروس الشعراء، بل عروس كل ذي نفس تشعر، فكم من رجل أراد الصعود إلى سماء المجد، ولكن كرهه لي أدى إلى هبوطه من أعلى إلى أسفل. وكم من فتى أحب أن يسود بدوني فلم يوفق.
فصحت بها: يا أختاه! دعي قول أنا وأنا، فما قلته تغني عنه كلمة، فقوليها بالله عليك.
فنظرت إلي شزرا وقالت: أنا هي «الأمانة» والويل للبشر إذا فقدوني. فالقائد إن لم يكن حائزا على جانب عظيم من الأمانة يخون دولته ويقوض دعائم مجدها. والخادم إذا لم يكن صادقا مخلصا، يدس لسيده السم فيميته شر ميتة، والصديق إذا لم يكن أمينا، كان ويلا يوقع من اصطفاه في شراك البلايا، والتاجر إذا لم يكن صادقا أمينا يبيع ذمته وينهب أموال البشر ولا يبالي إلا بجمع الثروة، سواء أعن طريق الشهامة جاءت أو عن طريق اللؤم والدناءة. وقصارى الكلام أن كل ذي شأن في الهيئة الاجتماعية إذا لم يكن صادقا فهو مكروه وممقوت من البشر.
فأجبتها: خففي عنك، ولينعم بالك، فإن أنصارك كثيرون . كثيرون هم الأمناء الصادقون والذين يرون الخيانة جبنا وعارا. فعندنا التاجر والخادم والمخدوم والصديق يحمون ذمارك ويفدونك بدمائهم، فقد ورثوا هذه الخلة الكريمة عن أجدادهم الذين اشتهروا بها ورفعوا لواءها.
أما هي فأجابتني: لقد عم الطمع والرياء، وأصيبت الناس بداء حب الثراء، وانتشرت المداجاة حتى سموها سياسة عصرية، وهذا الذي رغب إلي الاعتزال.
فقلت: وكيف تعتزلين هنا، فالأشجار وحدها تقضي عليك؟
فحدقت إلي شجرة كهلة وقالت: فتح عينك، نحن شجر لا بشر. انظر تر أننا لا نقتتل على شيء، كل واحدة منا تقف حيث هي فلا نتنازع لا على الماء ولا على الهواء، ولا على النور. إن صفوفنا لا تتحرك ولا تعلن حربا، فهذه الغابة تعيش أشجارها بسلام، تتعانق أغصانها ولا منافسة بينها على شيء، فعند السماء والأرض خير كثير. أصغ، أصغ، ما لك مبهوتا؟! - كلي آذان، يا سيدتي، فقولي ما عندك.
فقالت الشجرة: هل سمعت صوتا غير حفيف الأوراق؟ اعلم وخبر جماعتك الناس أن شريعتنا شريعة السلام والاطمئنان. وإذا كان عندنا جور وبغي، فهو يأتينا من القرى والمدن. إن الذنب هو ذنب الدم، أما الماء الذي يجري في عروقنا فلا يحملنا على الجريمة. إن ذوي الدم وذواته هم الذين يزعجون الغابة، وإذ قلتم ذامين قادحين: «شريعة الغاب»، فالذنب ذنبكم أنتم وذنب الحيوانات، وكأنكم أدركتم ذلك فقلتم عن أنفسكم: «فلان دمه حار، وفلان دمه بارد، وفلان دموي؛ أي سفاح.»
قال أحد مجانينكم: «من خلق علق»، وكلمته هذه تصدق فينا؛ لأننا لا نسعى، نعطي ولا نأخذ، ويغار علينا ولا نغير على أحد. تأتوننا بفئوسكم ومناجلكم، فنقابل شركم بالخير، ونعطيكم كل ما نملك حتى أنفسنا.
جبلتم على الشر والأذى؛ ولذلك تقولون: «الدم لا يصير ماء.» لا أقول لك: اخرج من غابتنا؛ لأننا خلقنا لا نرد أحدا. أما أنتم فقد يقتل بعضكم بعضا من أجل عود من عيداننا.
أما هذه الفتاة، فقد جاءت إلى حمانا، ونحن نضمها إلى صدورنا، وإذا اعتدى عليها أحد فلا يكون إلا من ذوي الدم. فاذهب من حيث جئت ، ودع عندنا هذه اللاجئة وشأنها. لقد جاءت إلينا، ونحن لها.
قصة السعادة
بين ثنايا جلباب الدهور وغضون جبين الأزل فتشت عنها فلم أجدها. وبتلسكوب هذا الزمان حدقت إلى خيالها الضئيل فرأيته يتوارى ويضمحل وراء ضباب المدنية.
في صحارى الآمال، وعلى شواطئ بحار المطامع، بحثت عنها فوجدت الرياح ذرتها رملا في الأحداق فعميت عنها العيون وابتلعتها اللجج، فكان الغائص عليها من المغرقين.
قالوا إنها بذور إلهية نثرتها يد الخفاء على وجه الكرة الأرضية قبل ظهور الحياة، فبحثت جيولوجيا فلم أجدها بين بقايا إنسان الكهوف ومدى الصوان وفئوسه.
لقد التقط عقبان الأبد ونسور الأزل بذور الآلهة وطارت محلقة في الأفق المجهول. سمعت حفيف أجنحتها ولم أرها. ما رأيت إلا شبح العدم جاثما على جبهة الوعر يرقب ساعة يبحث فيها عن عرشه المفقود ويعصب رأسه بثلجه.
إنه ليوم رهيب يوم ظفر العدم، إذ تصبح أشباح النوابغ رمما بالية، يضحك منها الفناء ويهزأ بها اللاشيء. يوم يقبض العدم على قضيب ملكه «ويؤدب المتشردين». وهذا هو لقب نوابغ الأرض في مملكة العدم.
تصفحت الأسفار وقرأت سطورها وما بين السطور فلم أجد إلا شكوكا مدلهمة تزداد على البحث ظلاما. استعرضت جنود العلماء والفلاسفة وفي أيديهم سيوف البراهين وقنابلها؛ فرأيت تلك منثلمة وهذه محشوة رمادا. رأيتهم نياما في ظلال الشكوك، والتهكم يقهقه فوق رءوسهم صائحا بهم: ناموا واستريحوا يا نوابغ الأرض فقد ضللتم الناس وضللتم.
مع عمالقة التاريخ وجبابرة الإنسانية سرت برعدة. خلتهم راكضين وراء السعادة، فأسرعت معهم، فاختفوا عن نظري في صحراء التيه فدخلت أرض الفراعنة وحدي.
رأيت جلال ملوكها أبناء الشمس. تصفحت أسفارهم في هياكلهم، ومع موسى الذي تدرب على حكمتها أمعنت النظر فيها، رأيت عصي الكهان تناسب حيات تحت أقدام الفراعنة فاتبعتها إلى هيكل إيزيريس، رأيت هناك الإله الثور وعلى ظهره النسر فقلت: هذا هو السعادة، صعق الكهان؛ لأن الثور قد مات، واضطرب الوادي حزنا على الإله، فقلت: لا سعادة هنا.
طفت حول الأهرام واستنطقت أبا الهول فأجابتني مومياء من قبور الفراعنة: فتش عن السعادة في غير هذه الأرض، فقد حنطنا أجسادنا لتراها صور أرواحنا إن وجدها أحد بعدنا.
سرت على طريق الهند فرأيت رفيقي في هيكل الآلهة - موسى - يلتفت يمينا وشمالا، وإذ لم ير أحدا قتل المصري وطمره في الرمل، فسألته عن ضالتي فهز كتفيه مشيرا إلى المصري المقتول.
طويت الصحراء فشاهدت فيها آثار الأنهار فأيقنت أن المدينة رحالة يجوب الأقطار وله في كل منطقة طلول وآثار. ولما وصلت ضفاف الكنج حملت تياراته أثقالا من الآمال وجبالا من التسآل.
تحت أقدام برهما، ثالوث الهنود، وبين غطرسة كهانه لم أجد أثرا للسعادة. وفي مطاوي «الفيدا» لم أعثر إلا على بعض متحجرات صقلوها ونادوا على الدر والألماس.
اضطرب البراهمة؛ لأن إلها جديدا ولد من خاصرة أمه. يمد يده ليقوض أركان فلسفتهم ويمزق أسفارهم فأسرعت الخطى إليه. أركبني بوذا في مركبته «الإلهية» فجرت بنا تطوي سهول الخيال وتعبر أودية الأشباح فسرنا نفتش عن السعادة في جيوب الغيوم، فكنا كالقابض على الماء. تركته متربعا في ظل شجرته الأزلية يستمد الروح العلوية لتبدد انقباض نفسه، فازداد بركانها ثورانا؛ لأن السعادة طائر لا يستكن في ظل شجرة يستظل بها البشر.
رأيت كنفوشيوس يعلم في الصين، وسمعت تلاميذه يطلبون منه ما أطلب، وهو يعللهم بطبخة الحصى، فناموا ولم ينضج الطعام.
عدت إلى أثينا فرأيت في رواق هيكل الحكمة فيلسوفها الخارج على المألوف، المتمرد على التقاليد، نائما في برميله، فسألته عن السعادة فدفع إلي مصباحه وقال لي: فتش عنها، فقد فتشت قبلك فلم أجد «الرجل» السعيد.
صعدت إلى قمم الأريمنت فلم أر الطهارة والسعادة كما قال شعراء اليونان، فانحدرت إلى الشاطئ وأبحرت إلى بيبلس مدينة الثالوث الأقدس الفينيقي، لأبحث في كتب سنكنتين وطاليس، فرأيت الشعب يبكي الإله المقتول الذي افترسه الدب في الغينة، فغادرت شعبا يفترس إلهه دب، أتعثر بأذيال الخيبة ميمما أرض إسرائيل.
قلت في نفسي: ما لي أفتش عن السعادة ولا أرى إلا بشرية متألمة، ولا أسمع غير النحيب والعويل.
في سفح الطور أعييت فجلست أفكر في تعاسة الباحثين ، ضاحكا من المتفلسفين، باكيا على المتمنطقين، فرأيت موسى اتقد غضبا ورمى لوحي الشريعة فكسرهما في أسفل الجبل. فقلت له: ما بالك يا جبار الأنبياء، يا قاتل المصري، يا شاق البحر الأحمر، يا فالق الصخرة بعصاه ... أمثلك يغضب؟ فأجابني: من سعى وراء إسعاد البشر ذابت نفسه وأكلته الكآبة.
نمت تحت أقدام الجبل نوم فتية الكهف، واستيقظت عندما سمعت راحيل تبكي على بنيها، فجلت بأقدام اليأس في خيام الأنبياء، وأكواخ شعراء إسرائيل، ورأيت الشاعر أيوب مفترشا الرماد يدعو على نهاره وليله واللعنة ملء فمه. رأيت شاول صريعا على جبل الجلبوع ومجن الجبابرة معفرا بالتراب. رأيت داود يئن على عرشه موقعا بكاءه على العود والقيثارة. رأيت سليمان طائفا في الهيكل، تائها في الشوارع، متغزلا بنشيده وقد صادفه حارس المدينة. رأيت حول سريره ستين جبارا وكل منهم سيفه على فخذه لأهوال الليل، فقلت: هذا أسعد البشر، فأصغيت إليه فسمعته مرددا: كل شيء باطل.
سمعت أشعيا بن أموص صارخا في مدينة ذلك الزمان: رؤساؤك عصاة وشركاء للسراق. رأيت أرميا باكيا في صهيون. ومر أمامي موكب من الشعراء الأنبياء الصغار وكلهم غائصون في بحور الأحلام ينتظرون فرعا جديدا من جوع يسي فانتظرت ذلك الآتي ... عله يرشدني إلى ما أفتش عنه.
جاء فرأيته في بستان الزيتون رافعا يديه إلى السماء صارخا: يا أبتاه أجزعني هذه الكأس ... وسمعته يبكت تلاميذه قائلا لهم: ألا تسهرون معي ساعة واحدة؟ فقلت: ما لي وللسؤال فقد جئته يوم بؤسه. فبارحت أورشليم تاركا خلفي ضوضاء الكتبة وجلبة الفريسيين، نافضا ما علق بأذيالي من غبار تلك الدهور. يممت جزيرة العرب لأسأل عباد اللات والعزى عن السعادة، فشهدت مقتل كليب ويوم أوارة وسوم عكاز. وسمعت وقع أقدام نبي عربي فأسرعت الخطى إلى المدينة فصادفته هاربا يتسلق الصخور، ويتسرب في المغاور والكهوف فلم استحسن السؤال ...
فعدت واليأس ملء صدري من رحلة استغرقت سنين، فالتقيت في ضواحي دمشق شيخا جليلا ألبسته الأيام جبة لحمتها العصور وسداها الدهور. رأيت بقربه مركبة نارية دونها إتقانا طائرات هذا الزمان. فصحت به : تسم يا شيخ؛ فأدرك إنني استهنته، فجرد سيفا، لا أدري من أين جاء به ولا أين كان يخفيه، فاتقد شعلة نارية، فتذكرت صورة في إحدى الكنائس وقلت في نفسي: هذا إيليا لم تخمد نار حدته الأجيال. وماذا يصنع هزيل الأسفار أمام من يستنزل من السماء النار، ويقتل ثلاثمائة وخمسين من الكهان؟ فسألته الصفح عن غلاظتي، فابتسم ابتسامة روعتني - وكم من ابتسامة ترتعد لها الفرائص - وبعد حديث طويل أطلعته على خفايا نفسي وأخبرته أنني طفت في الأرض مفتشا عن السعادة.
فقال لي: إنك تفتش، يا ابن اليوم، عما يفتش عنه شيخ الأجيال. فإن شئت إزاحة اللثام عن وجه الحقيقة فاصعد إلى الأعالي وقابل رب الأرباب. إنما كن جسورا فهنالك من يقفل الباب بوجهك.
فتنهدت قائلا: قبل الدخول عقبات يا شيخ. يا أيها النبي الحي المخلد على رغم الموت، مهد لي الطريق حتى أتعلق بأذيال الباب؛ لأسمعك صراخا تردد صداه الأرض.
فأركبني مركبته النارية التي أقلته مرة إلى السماء ... فاخترقت الأعالي فأفزعت ضوضاؤها سكان المريخ، وأطل علينا من سكان الكواكب أشكال وألوان.
وقفت المركبة على باب السموات فرأيته مفتوحا، ولا حاجب هناك ولا بواب، يلجه جميع أبناء البشر ولا يسأل أحد هناك إلا عن حسناته. فسمعت صوتا يناديني: من أين القادم؟
حدقت النظر إلى المكان الخارج منه الصوت ولما لم أر أحدا قلت بعد هنيهة: من الأرض.
فأجابني: ولماذا جئت إلى هنا؟
فقلت: أفتش عن السعادة.
فقال: ألم تجدها؟
فقلت: كلا.
فأجابني: ولن تجدها، فمطامع المادة لا تحد، إن السعادة روح وهيهات أن تستولي الهيولى على الأرواح. لقد أقلقتم مسامعي يا أبناء التراب فكدت أصير مثلكم لا سعادة لي فارجع من حيث أتيت، واسأل سفرائي في أرضكم عنها.
فأجبت: لقد طفت في مشارق الأرض ومغاربها، رأيت الرسل والأنبياء والفلاسفة فلم أجد أحدا منهم سعيدا. أما سفراؤك فما رأيتهم ولا أعرف قصورهم.
فقال: نحن الأرواح لا نستسفر غير الأرواح، فسفيري هو ما تسمونه «الوجدان والضمير» في لغتكم ...
وابتسم البرق وقهقه الرعد فاضطربت . وبعد هنيهة وجدتني في برية مقفرة عاينت على صخورها آثارها دم هابيل ... فاستيقظت من حلمي الرهيب على قرع ناقوس الواجب ...
تأملت في ما رأيت وأخذت أندب حظ إنسانية تحمل على رأسها دم أبنائها الذين ضحتهم المطامع على مذابح آلهة كذبة، آلهة السعادة والأمل.
قلت في نفسي: ما تفاحة حواء وحكايتها إلا رمز السعادة المفقودة. إن ترنيمة «ملتون» الخالدة لهي رمز السعادة وهيهات أن يلتقي «الفردوس الضائع». إن ذلك الطائر الجميل الذي صورته قرائح الشعراء قد أفلت من قفصه وهيهات أن يعود ...
فيا أيتها السعادة.
أنت سر من الأسرار، عظمته في اختفائه وإن أدركه البشر يئسوا وملوا الوجود، وما أشقى حياة يملها الناس.
أنت خيال النفس المستقرة في الجسد كالخيال في المرآة، تدركه العين ولا تقبض عليه اليد. وما الفلاسفة غير أطفال يحاولون القبض على خيالاتهم في المرايا.
السعادة تحقيق الأمل، والأمل ابن الطمع، والطمع بحر أزلي لا ينضب ولا يتبخر.
السعادة شبع النفوس الجائعة والنفوس لا تشبع. تجري المادة وراء السعادة، وراء ذلك الخيال، فلا تجده إلا بموت الآمال، ولا تموت الآمال إلا بالموت، وهل من سعادة في ظلال الموت؟
العين والسعادة فرسا رهان، من رأى تمنى، ومن تمنى قد ينال، ومن نال ما ينال تمنى ما لا ينال، فلا سعادة لذي عينين.
وبعد تفكر قليل نهضت إلى عملي ولم أعد أسمع إلا عويل المادة بين مخالب العدم، فما أمر اليقظة وأقسى جبار الأبدية والأزل.
إلى المرأة
يا سيدتي:
لا تصدقيني إن قلت لك: أمسيت لا يعنيني أمر المرأة، لا يا سيدتي، فأنت دائما في البال، ولا تبرحين من دنيا الخاطر، ولو صار الجسم حطبا ... فأنت الأم ومن ينسى أمه؟! وأنت الأخت ومن ينسى حنان أخته ومحبتها؟! وأنت رفيقة الحياة، ومن ينسى رفقة عمر أتت ثمارها وأكلها ذرية صالحة يتألف من خيوطها العلم الذي هو عنوان الوطن؟!
وقبل وبعد، فأنت، منذ تكون العالم، بحسب رواية من شئنا - من موسى حتى داروين - كنت تسيرين إلى جانب الرجل، يدك في يده. في الكهف كنت إلى جانبه تحتملين مثله شظف العيش وتجرين في مضمار الحياة، محاولة بلوغ الغاية، وفي القصور اتكأت على الخز والديباج، وجعلت بيتك جنة ذات حور وولدان، فلولاك أيتها الأم، والأخت، والزوج، والبنت، كان الوجود عبئا ثقيلا، وكانت الأرض جهنم حمراء.
تقول التوراة: إن يهوه رأى الوجود ناقصا حين خلق آدم، فخلق المرأة، فسد وجودها ذلك الفراغ الذي أحس به المبدع الأسمى والناقد الأول.
وهكذا تكون المرأة ذلك الوتر الذي تمت به آلة التكوين الشجية الألحان، ولولا هذا الوتر الطريف لظلت شوهاء جوفاء، لا ترسل النغم الرخيم الذي يشرد الأحزان ويبدد ظلمات الأشجان، وما أكثرها في دنيانا.
فإذا صحت الرواية، وما في رواية الكتب المقدسة شك، كنت ضلعا من أضلاع الرجل، وهكذا يكون الله، تعالى وجلت قدرته، قد خصك منذ البدء بهذا الخلق، ولله في خلقه شئون، وشتان ما بين التراب واللحم، وإذا كان هذا الأخير منه قبل أن ينفح فيه روح الله.
وإذا كنت لم تخلقي على تلك الصورة فيكون القالبان قد صبا في وقت معا، ولا مجال إذن لهذا التفريق بين المخلوقين، الرجل والمرأة. إن حكاية الفردوس الأرضي تؤكد لنا المساواة بين الرجل والأنثى، فلو اعتبرها المشترع أقل عقلا من أخيها الرجل لما عوقبت مثله. فنهضة المرأة للمطالبة بحقوقها ليست بدعة جديدة، وهذا الانتقاص لم يوجد إلا يوم استبد الرجل بالأمر ووضع هو الشرائع والقوانين.
كان الرجل والمرأة قبل ذلك متساويين، ولم تحبس في قفصها الذهبي إلا عندما مدت المدنية براثنها إلى أقفال البيوت، فهب الرجل يصون كنزه الثمين من أيدي العابثين، ومن لا يفكر بأثمن ما عنده حين ينتشر الذعر ويضطرب حبل الأمن؟ فالأسوار التي رفعت حولك لم تكن إلا لصيانتك أيتها الدرة الثمينة، فارحبي صدرا بها، ولا تحاولي أن تدكيها كلها وتجعليها قاعا صفصفا.
يظن الناس أن المدنية والرقي قاما على أكتاف الرجل، أما الواقع فيرينا أن المرأة ساهمت في بنائهما، فإذا عدنا إلى فجر التاريخ، رأينا المرأة والرجل آدم وحواء، راحيل ورفقا، ويعقوب وإسحق يضربان في مجاهل الأرض عرضا وطولا. وكم رأينا الرجل عاجزا في بعض الميادين فتنبري المرأة للجهاد وتحفظ الأمة والوطن.
ولكن الرجال قالوا: الرجل أفضل من المرأة. أما التاريخ فينتصب على قدميه ليقول: لا، فهذه التوراة تنبئنا أن امرأة اسمها دبورة كانت قاضية وفيها يقول سفر القضاة (ف4 ص5):
كانت دبورة تجلس تحت نخلة بين الرامة وبيت إيل في جبل إفرائيم، وكان الرجال يصعدون إليها لتقضي لهم. وهي التي دفعت باراق لقتال سيسرا فظفر به.
بدأت بالأمر دبورة القاضية وأتمته ياعيل امرأة حاير العيني، فقتلت سيسرا، حين دخل خيمتها فارا، وأذلت الكنعانيين أمام شعبها.
ويروي الكتاب أخبارا كثيرة عن نساء أخريات ساهمن في شئون جلى فكانت لهن جولات مشهورة في جميع الميادين الاجتماعية.
وإذا تقدمنا في التاريخ إلى فجر المسيحية سمعنا القديس بولس، في إحدى رسائله، يوصي الرجال بالنساء خيرا فيقول لهم: ولا تكونوا قساة عليهن. ثم نتقدم قليلا فنسمع الحديث الشريف: رفقا بالقوارير.
لقد سماك قارورة فلا تحاولي أن تجعلي نفسك باطية
1
شغل اللاذقية ... أي: لا تطلبي الأشغال الشاقة فهي لا تخلق لك ولم تخلقي لها، فأنت في نظري قارورة من بلور فلا تتمني أن تكوني أجانة من فولاذ، فخير الأمور ما كان بين بين. لا تتهمي قومك بهضم حقوقك. فهذه قوانين نابليون، الصادرة عن أمة سبقت جميع شعوب الأرض الحديثة إلى الحرية لم تكن أرأف بالمرأة من الشريعة السمحاء التي «فرضت» لك ورفعت عنك كل حيف وجور. ترى «قوانين نابليون» أنه لا يسوغ أن يتولى الوصاية والعضوية في المجالس العائلية: القصر والمحجور عليهم والنساء وكل من اشتهر بسوء السيرة. وتقول أيضا: لا تستطيع المرأة الحضور في المرافعات أمام هيئة القضاة بلا تفويض من زوجها.
وفي المادة 217 تقول: لا تستطيع المرأة أن تهب ولا تبيع، ولا أن تقتني من غير إذن زوجها ومشاركته. بينا نرى في التوراة إن إحدى النساء بعد أن رفض زوجها أن يرسل زادا إلى داود، عندما كان فارا من وجه شاول، جاءت إليه تحمل الزاد والخمر.
وفي المادة 222 تقول: إذا كان الزوج محجورا عليه، أو غائبا فإن في استطاعة القاضي أن يفوض المرأة في المثول أمام القضاء.
وتقول في المادة 224: إذا كان الزوج قاصرا فلا بد للمرأة من الحصول على تفويض من القاضي للحضور أمام هيئة القضاة لإبرام عقد.
وهذا ما حمل رنان الفيلسوف الفرنسي على الإعجاب بالشرائع القديمة ففضلها على شرائع أمته إذ قال: إن هذه الشريعة أكثر إنسانية وعدالة من كل ما كتب في ذلك العهد.
ولشعراء العهد العتيق أقوال طيبة في المرأة المنشودة، قالوا:
من يجد المرأة الفاضلة؟ إن قيمتها أثمن من اللآلي.
تبسط كفيها إلى البائس، وتمد يديها إلى المسكين.
لا تخشى على بيتها من الثلج؛ لأن أهل بيتها جميعا لابسون الحلل.
تلقي يديها على المكب، وأناملها تمسك المغزل.
تفتح فاها بالحكمة، وفي لسانها سنة الرأفة.
رجلها معروف في الأبواب حيث يجلس بين شيوخ الأرض.
تلاحظ طرق بيتها، ولا تأكل خبز الكسل.
المرأة الحكيمة تبني بيتها، إنها إكليل لزوجها.
لطف المرأة ينعم رجلها وأدبها يسمن عظامه.
الشمس تشرق من علا الرب، وجمال المرأة في عالم بيتها.
سيداتي:
لقد أطريتكن نعتا فلا يغرنكن ثنائي. اطلبن ما شئتن فهذه مطالب يحققها الزمن، فبريطانيا المعروفة بالمحافظة على التقاليد، جارت روح العصر وأعطت النساء ما أعطت من حقوق. فكان منهن المحافظات ورئيسات مجالس مقاطعات، وقد عينت أخيرا سيدة في مجلس الملك الاستشاري الخاص. وقد دل الإحصاء، كما قرأت منذ أيام، على أن عدد الموظفات اللواتي يشغلن مناصب رئيسية قد بلغ 3500 سيدة.
إن كل ما تطلبن جائز إلا طلب بعضكن أن تخاطبن بالواو والميم كالرجال بدلا من التاء والنون، إن هذا شطط. إنه لطمع تأباه موسيقى لغتنا. فنعومة التاء ورخامة النون أليق بكن من خشونة الميم، وضخامة الواو؛ لهذا خص سلفاؤنا الأذكياء جمعكن المؤنث بالتاء والنون لملائمتهما أنوثتكن. ولم يقصر اللغويون العرب عن النحاة في الذوق الفني فقالوا: صفقت الرجال وصفحت النساء.
أرأيتن الفرق بين صفق وصفح، فلا تطلبن الزيادة لئلا تقعن في النقصان. قد يكون لي معكن غير هذا الحديث من وراء حجاب المذياع، وما أكثفه، ولكن لا بأس، فكأن من أبدعه خاف أن يسحركن جمالي الرهيب، وللمخترعين في خلقهم شئون. وأنا في كل حال لا أخاف منكن ما خافه الأخطل حين قال:
وإذا دعونك عمهن فإنه
لقب يزيدك عندهن خبالا
فالشيب ما هو عيب والسلام.
حفلة ناشفة
67 مرة توالى علي يوم 9 شباط، وبينا كنت قاعدا أستريح ذهب بي الفكر إلى الماضي البعيد، وإذا بالسبعة والستين مارون الذين طواهم الدهر يبرزون لي مهنئين بعيد مولدي، مترجين لي العمر الطويل ... وبعد مجاملات المعايدة ابتدرني أحدهم بقوله: أي مارون منا أحب إليك؟
فقلت: يا بارك الله! من أين جئتم؟ فيكم البركة! كلكم أنا. تفضلوا تفضلوا اقعدوا. وهفا قلبي لمارون الصبي فقلت له: أتذكر القتلات التي كان يطعمك إياها جدك؟ فقهقه قهقهة ولد ورش.
وبعد هنيهة أدخل مارون شاب يده في عبه، فعرفت أنه أعد قصيدة تهنئة، من تلك البلادات المدرسية التي كنا نهيئها لأعياد معلمينا، فقطعت عليه الطريق بقولي: الضغط عال يا أخا الشباب، لا تزده ارتفاعا.
فامتثل وأمسك، ولكن خبيثا من السبعة والستين قال بابتسام: المشايخ تحب التحدث عن الماضي، هات خبرنا عما مر عليك من أخطار نجوت منها.
فقلت له: أقال لك أحد إني كبرت حتى جئت تمتحنني، أم أردت أن تعرف كم مرة أفلت من يد عزرائيل؟
فحنى رأسه كالمستحي، ومط بغنج كلمة لا. ثم قال: ولكن الأحباب يتذاكرون، ونحن من تعرف.
فقلت له: كأنك راض عن أخاديد وجهي، وحواجبي المنتفشة كريش القنفذ، وتحب أن تعرف أين صار دماغي، فإذا كان الأمر هكذا فخذ: سقطت مرة عن رأس الدرج متدحرجا يوم كنت ابن أربع خمس سنوات، وانكسر عظم جبهتي، ولكني نجوت، وكتبت تلك الوقعة على جبهتي كلمة «لا» بالمقلوب إلى أن أخفتها يد الأربعين وإخوانها. ثم سقطت ثانية عن رأس سطح بيت مع حجر كبير ولكنه لم يمعسني. ومرة ثالثة تدهورت أنا والمحدلة عن سطح «مدرسة النصر» ولكني سلمت أيضا.
وكنت سائرا مرة بالليل فضللت الطريق قبالة قرطبا، وصرت على قاب قدمين من الهاوية، ولكن الله ستر وإلا كانت تخت عظامي.
والتفت إليهم فرأيت «الموارنة» الصغار يضحكون. فقلت: ما بالكم؟! فهتفوا بمرح الصبيان: كمل.
فقلت: ودنوت مرة من حائط لأقضي حاجتي على طريقة بني إسرائيل ... فإذا بالحيط أفعى راصدة ولو لم أنتبه لها لاصطدمت بالثعبان وقضي الأمر ...
وسهرت مرة في قهوة رأس العين ببعلبك، وفي عودتي إلى «الأوتيل» أطلقوا علي الرصاص وهم يحسبوني غيري، ولكن العمر كان لا يزال طويلا.
ومرة كمن لي أحدهم في الطريق ليلا فتبادل التحيات الرصاصية مع غيري وفزت أنا؛ لأني لم أشهد المعركة ...
ومرة أطلقت الرصاص من مسدسي في حفلة مرفعية، وأعدته إلى زناري فانطلقت الرصاصة الباقية في شروالي ... ولكنها زلقت على المرحوم كرشي، فما أصيب أحد من السكان ...
وهنا قاطعني أحد السبعة والستين وقال: أكل حياتك أخطار؟ حدثنا عن أيام ملذاتك.
فأجبته: صدقني يا عزيزي، إذا قلت لك: إنه قلما كان لي يوم فراغ ألتذ فيه، كل لذات حياتي كانت «على الماشي» كما يقولون. الحياة ركض وراء الرغيف، والرغيف دولاب كما تعلم، والدولاب أسرع من الرجلين. حياتي كلها عمل متواصل، حركة بلا بركة، وإذا مت لا يجدون في جيبي حق الكفن، أتصدقني؟! والله ما زلت كما تركتموني.
فقال شاب منهم: طيب؛ خبرنا عن العظائم التي أحدثت بعدنا.
فقلت لهذا الوقح الساخر: بلا أكل حلاوة ... جئت تهني أم جئت تتهكم؟ تظن أنك تحدث الإسكندر ذا القرنين أو نابليون. ليس في حياتي قمم تحتاج إلى مصعد كمصعد الأرز، ولا هوى تحتاج إلى حبال. النضال مستمر بيني وبين الحبر والورق، وأظنك ما نسيت مثل الحبر والورق. كلا الأخوين ...
نسيت يا ربي، أن أخبركم حادثة مهمة؛ عندما كنت صحفيا عام 1907-1914 حاولوا أن يستريحوا مني، ولكني سلمت وبقيت حتى اليوم لأثرثر معكم في هذه الساعة.
فانتصب واحد منهم، فأمرته بالانطواء فتكوم وهو يقول: حياة اليوم أفضل من حياة الأمس؟
فقلت: حياة اليوم فيها راحة ولكن حياة الأمس كانت ألذ، ومتى كثرت الراحة قلت اللذة. فقال غيره: أنت رجل عركتك الدنيا، فما أمر خيبة عانيتها؟
فأجبته: كأنك تخاطب ابن تسعين. تقول الدنيا: عركتني، فلو كانت عركتني لكانت فزرتني، أما أكبر الآلام فهي خيبة الأمل، وضياع الفضل.
فصاحوا جميعا: أتندم على الإحسان؟
فقلت: كأنكم تحدثون روكفلر وفورد. لا لم أندم، وسأظل أتبرع «بالملايين» حتى تأتي الراحة الكبرى ...
فقال خبيث منهم: أما وقد تحدثت عن الراحة الأبدية، فما رأيك في الموت؟
فقلت: الله يبعده، يظهر أنك قليل الذوق.
وحاول أن يتكلم فقلت: بس، بس، قصر حديثك. إن ذكر الموت أمام من كان في عمري مؤلم كنكران الجميل.
فقال واحد منهم، ما زلت أتذكر وجهه جيدا: حدثنا عن أشد ما يؤلمك. فقلت: ضياع الفضل والتعب.
وقال ثان: وأشد ما يضحكك؟ قلت: مارون عبود الباقي.
وقال آخر: وأشد ما يحزنك؟ قلت: ذكرى مارون عبود الذي راح.
فقالوا جميعا بصوت واحد: إذن أنت تتمنى طول العمر؟ فصرخت بهم: هذا سؤال يا حمير؟
فضجوا قائلين: قم رح معنا، ولماذا ترجو الحياة؟
قلت: لماذا أرجو الحياة؟ أتمناها لنحيا معا يا أذكياء.
وما انتهيت حتى رأيت السبعة والستين مارون يخرجون مصطفين كأنهم تلاميذ مدرسة.
فكان مشهدهم مثيرا للضحك، وخصوصا عندما أخذوا يصيحون واحدا واحدا: باي باي. باي باي.
فصرخت بهم: تخيبوا، الله لا يردكم، نسيتم لغتكم!
فرددوها بصوت واحد نكاية بي، وهكذا قطعوا علي حلم يقظتي.
لوحة الجميل الخالدة
عندما كنت أروح وأجيء - وما زلت أفعل ذلك عند الاضطرار - أذكر أنني لم أكن أقصر عن قبول دعوة إلى سهرة أو حفلة أدبية أو فنية.
خصصت الأدب والفن؛ لأنني لست ممن يدعون إلى حفلة انتخاب ملكة جمال، مثلا، وإن كنت لا أقبل إلا بالانتخاب.
وفي عام 1940 دعيت إلى معرض أصدقاء الفن، وكان مكانه في السماء الثالثة من ندوة النواب، هناك عرضت على ذوي الأبصار والبصائر روائع الذين يجعلون الآلهة تصاوير وتماثيل. رقيت إليها على درج مزين بمسوخ نخل مغروسة بالأصص، كالعقول الكبيرة في الأقاليم الضيقة.
ذكرتني بذلك صورة نشرتها الصحف فرأيت فيها الرئيس الأول يعلق على صدر الفنان اللبناني وساما يعلن تقدير لبنان للعبقرية والنبوغ الفنيين؛ ولهذا عن لي أن أعود إلى ذلك الماضي وأنشر ما كتبت مرة من تعليقات على هامش ذلك المعرض الناجح.
دخلت ذلك الهيكل العابس فرأيتني فيه لدى كتاب ومنشئين يدرسون آثار زملائهم يستنطقون تلك الروائع، فتجيبهم بقدر ما في نفوسهم هم من وعي وإلهام، وفي بلادنا السعيدة لا يقرأ الشاعر غير الشاعر، ولا الكاتب إلا الكاتب، فكأن الفنانين عندنا لا يصورون إلا لنا، ونحن لا نكتب إلا لهم. ما رأيت إلا بصرا حائرا يرتع في جمال صامت، فيستيقظ الهوى المكتوم ويبوح بسره للقلم.
استقبلتني شخوص الفنان الشهير الأستاذ يوسف الحويك فملت إليها فإذا برب تلك الأسرة المباركة في نقاش حامي الوطيس مع سيدة، كأنه يلقي عليها دروسا في الفن ولكنها تلميذة رصينة تأخذ وتعطي - في الموضوع فقط - ولا تقبل نفسها إلا ما يقطع عقلها. استنظرني المثال فلم أستطع؛ لأنني كنت على منهج. وطفت في ذلك الفردوس وكان فرجيلي الجميل. وقع نظري على سيدة منبطحة - ظن خيرا فهي تصميم - إنها مبدأ أولي لفكرة لم ينضجها الحويك بعد، وآثار الفنان كعملية الخلق في سفر التكوين، تكون أولا «توهو بوهو» وروح الفنان ترف عليها. وأطل على موكب مليحات الجميل، من وثنيات وجذعات وقارحات، عذارى دوار ولكن بلا ملاء مذيل، طالعات من بحيرة دارة جلجل لكل امرئ قيس ... هذه بالورب وتلك بالعرض، أوضاع شتى إلى مثلها يرنو الحليم صبابة. جمال مثير لم أغلغل النظر فيه؛ لأنه جاء بعد تخمة، وما شكرت لئلا أزاد ...
ثم غربت في تلك القاعة فإذا بالمسيح مستريح على الأرض بعد موعظة الصليب الشاقة. زوى الجميل عنه غانياته الخالعات أكثر من العذار ... فهو في واد وهن في واد، مع أنه القائل: الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب.
طول لوحة مسيح الجميل 320 سنتيمترا، وعرضها 95، وبحق أسميها لوحة؛ لأنها لوح حقا، بل هي لوح وصايا جديدة لفن جديد، أبدعها قيصر لتنام سيدة في الجوزة ببيت الشباب، أبدعها بناء على طلب المهاجرين، ولولا سخاؤهم لم تكن هذه الطرفة الفنية الخالدة، وكم للمهاجرين عندنا من يد يعجز الفنان: فن القلم وفن الريشة عن تصويرها. وعلى ذكر سيدة الجوزة أقول: إن صديقي قيصر ضرب الحجر في الجوزة فأكل وأطعم الفن.
لست أقول لك: إن الجميل حاذق متقدم في فنه، متمكن من صناعته، فإذا عرفته أدركت مثلي أنه فنان شكلا ولحما ودما، وإذا حدثته نم لك عن طبيعته الفنية ما يرويه من روائع الأدبين: الفصيح والعامي. فصاحبنا فنان في حركاته وابتساماته ورموزه وغمزاته.
كثيرا ما أفتش عن الفكرة في فن اليوم، وقلما أجدها، فأكثر المحدثين قد أهملوها كأنما الشعر والتصوير كخيل الطراد، السابق منها الجواد. أما الجميل فهو من المخضرمين، له جديد المحدثين وبديع القدماء، فهو يدرس موضوعه درسا نفسيا، ويحلله تحليلا فنيا قبل أن يهبه الحياة؛ ولذلك نرى في مسيحه بطلا بين براثن الموت، ثائرا متمردا وراء الآباد والآزال، لم يأخذ الموت منه ما وهبته له الحياة. ففي موته بلاغة ناصعة ألوانها لا يدرك تأويلها إلا الراسخون في العلم ...
أشهد أنني أعرف مسيح الجميل أين رأيته، ولا عجب فالفنان الأصيل أبو روائعه، وهل تختفي ملامح الآباء في الأبناء.
كأن كلمة «حمل الله» بطلت من قاموس الجميل، فمسيحه بطل مغلوب على أمره، ويا ويل الدنيا من الخالدين المغلوبين، فلغبتهم انتصار وانكسارهم ظفر.
إن الوهاد الأزلية التي خلقها الجميل في جسم مسيحه المسجى تظل علينا منها آلاف المواعظ، وفي رؤيتها غناء عن سماع تلك. السيد غلب وذاق حتى الموت موت الصليب، ولكن صرامة شفتيه تعبر لنا حلمه بالغلبة والانتصار، ولكنه في كل حال حلم مفرط في الآلام تحاول الأمومة المفجوعة بالشباب تفسيره فتحار فيه. تنحني العذراء مريم أم يسوع فوقه مفتشة بألف عين عن الحياة الضائعة فلا تجدها، وتحاول أن تبثها فيه من عينيها فلا تفلح، كأني بها لم تصدق أنه مات ... - صبرا يا سيدتنا، إن حبة الحنطة إن لم تمت لا تعش هكذا قال ابنك، وستأتيك المجدلية بالخير بعد غد.
ليس للمقاييس قيمة في نظر الجميل فهو يرسم كأنه يخربش، ويصور كأنه يدهن، ريشته مكنسة، وهندازه ذوقه، وبركاره عيناه، ومن بين منفرجهما تخرج الخطوط متناسقة متوازية، ونكتة فنه أنه من ذوي الوزارتين، يتذوق الأدب إلى حد بعيد، ويكتب كأديب مثقف، ولا غرو فالأدب والتصوير أخوان. بل هما كتاب الجمال والحق في مجلدين.
ولنعد أيضا إلى يسوع واحة الفن الخالدة. مات السيد فكان وليمة أزلية أين منها الأرغفة السبعة ... صار جسده مأكلا حقا، ودمه مشربا حقا ... أما الفن وهو من أبناء المعاني، فكان قنوعا فجعل مأدبته ذكرى حياته، وخصوصا مأساة موته حديث الإنسانية الخالد. ولقيصر الجميل، خصوصا، مرعى خصيب في حقل يسوع، فصديقنا رضع حب المخلص مع حليب أمه. فتلك الأم التقية الصالحة تحوط ابنها باسم الصليب المقدس كل ليلة، ولا يهنأ لها نوم إن لم تفعل، فقد تخشى على وحيدها من التوابع والزوابع وهي لا تدري أن قيصرها زوبعة. أما جدوده الجميليون فلم تشب دمهم المسيحي شائبة، وهذا ما ورثه عنهم فتاهم فهو لا يتخيل ابن الله إلا كما رسموه له، أو كما رآه فيهم فيجيء مسيحه لبنانيا يجمع إلى السذاجة تلك القوة الصارمة التي تخلق منه رجلا غير عبراني، عضلات مفتولة تدل على أنه نبت عند مغارة أفقا أو نبع قاديشا ...
أفتش عن العظمة في يسوع فلا أجدها في الإله بل في الإنسان منه، والفن تمجيد للإنسان؛ وكي نمجد الله يمثله لنا الفن بصورة الإنسان، ثم يخلع عليه ما يخلع من خير سيماء الناس، ويستنبط من يستنبط من المثل العليا، والفنان بل كل ذي رسالة خالد ومخلد بما يعبر عنه.
دع الإبداع الوسط الذي يملأ الأسواق، فالخلق في الفن خير من الواقع، فليكن وكدنا الخلق البديع. إن فن التصوير عندنا رسما كان أو نحتا، سار في طريق الجديد، وقد يكون أفلح أكثر من الأدب لندرة الفنانين وكثرة المتأدبين، وبلية الأدباء هؤلاء الذين لا يعدون العشرة فيلقون جيفهم على قارعة الطريق.
قلت: إن الفن التصوير قد شمر وعدا وإن استراح فتحت عين الشمس. من كان قبل اليوم ينفق الوقت والمال ليصور رجلا أو مشهدا عاديين لا معنى لهما في نظر الأرستقراطيين؟ فالأدب الشعبي استيقظ ثم مات مع الجاحظ، إلى أن بعث منذ أعوام، والتصوير خرج عندنا منذ سنين من عتمة الكنائس والقصور إلى الأكواخ والغابات والجداول يحمد الله على الحرية والنور.
إن الفكرة التي يهملها اليوم الفن الحديث تحل المحل الأول في مسيح الجميل الميت، وكذلك في صورة «مسيحه» الشاب، فهو ليس ممن يحولون لك خدهم الأيسر إذا ضربتهم على الأيمن ... والدرس النفسي الذي يتجلى لنا في مسيح الجميل الشاب فما فارقه قط وهو ممدد على الأرض في سفح جبل صهيون، وستزعم زعمي إذا قدر لك ورأيت هذه الصورة الطريفة التي هي بدعة جديدة في الفن، في الأسلوب والتلوين، ألوان خلقها المؤلف من المعادن فلاءم الكساء ذلك الهيكل الخالد، ألوان تبص.
قال الجميل مؤلفها: إنها من «اللاك» فهمهمت كمن فهم ولم أستقص. وما كانت الألوان قط حقيقة لا غبار عليها، بل هي كلمات الفن للتعبير عما في نفوس أصحابه، هي جمال الذكورة والأنوثة، وخلق فتنة وإغراء غايتهما بقاء النوع الذي نعبر عنه في لغة الأرواح بالخلود.
انظر إلى القمم التي تحرس الإله الراقد، تر الجميل أنصف شاعر الجليل الأبدي فخلد إلى جانبه محيطا عز عليه الانفصال عنه، مع أنه عائد إلى أبيه السماوي، فصرخ إذ تذكره: يا أبتاه نجني من هذه الساعة.
ثم لا تنس تلك القمة الخالدة التي خلقها الفنان من كتف ستنا مريم، فكانت متممة لهذه الصورة بل لهذا «الكل» الذي ينطبق بألسنة عديدة كالتلاميذ في العلية. وانظر إلى الصخر المشقق فقد يكون رسمه الجميل تتميما للكتاب ... فما أجمل المصطاف والمتربع في أقاليم حياة يسوع.
قد ينكر أصحاب المقاييس كتف مريم الضخمة، ولكن الكتف التي حملت (حامل خطايا العالم) ... لا تتجاوز المقدار مهما غالى المصور، فالذهن يكذب فيها العين فتبطل المقاييس وتتعطل المصطلحات ... وإذا رأيت ذراع يسوع ضخمة، فلا تنس أنها ذراع الرب ... ناهيك أن مقاييس الجميل هي ما اقتضاه التوازن، والجمال اتزان وملائمة. وإذا أغرتك كما أغرتني هذه اللوحة وتبحرت في معانيها فلا تسأل عن النبات القائم حول الشهيد، فالكتاب قد تم في نيسان ...
وبعد فلا تتعجب إن رأيتني بين نقدة التصاوير فقبلي قد تنبأ شاول، فإن أعجبتك نبوتي فأثن علي بما أنا أهله، وإلا فباستطاعتك أن تقول لي ما قال ذاك المصور للإسكاف: احصر كلامك في الحذاء. أما أنا فأقول لك: كل الدروب تؤدي إلى الطاحون، ونحن نقوم الفن بما يلهمنا إياه الذوق، وإن قال قبلنا تولستوي: ليس الفن متاعا أو لذة أو ألهية، بل الفن عضو حياتي في الإنسانية ينقل إلى حقل العاطفة إدراكات العقل.
ويتوقع الفيلسوف الأكبر أن يخلق الفن بين الناس الوحدة العامة الشاملة ويمحو الجاهلية والعسف والإكراه.
حاشية - إن جولتي في منطقة «أصدقاء الفن» كانت على قدر وقتي في تلك الساعة من عام ألف وتسعماية وأربعين، فلم أتجاوز، غربا، مسيح الجميل، ولم أتعد، شرقا، تصميم الحويك، فللفنانين الآخرين ثنائي العاطر، فبينهم من عرفت فضله وأقدر نبوغه كالأستاذ مصطفى فروخ - ولكن ما نفع الثناء والإطراء، أهكذا تستثار همم أصدقاء الفن؟!
إن ما نكتب من تقريظ ونقد هو نقد غير رائج في السوق، ولا يصلح رأس مال للتبضع، لشراء القماش والدهان وجميع حوائج النحت والتصوير، ولكن هناك نقدا آخر مكتوب عليه «تدفع لحاملها شكا على باريس، أو لندن». أما أوراق «عفاريم، برافو كويس كثير»، فلا تمكن صديقنا الفنان من عشا ليلة.
اللهم، لطفا بأقرب عبيدك إليك، يمثلونك لعابد المال فترتاح نفسه المتبرمة، وينفتح صدره وتنبلج أسرته المعبسة كوجه صندوقه، ولكن يده تظل كالدبوس، وشعاره لا يزال إياه، صوب الكيس لا تقرب.
هذا ظن يشبه اليقين، ولعلي أسمع أن فلانا الفلاني دفع كذا وكذا تعويضا مما أنفقه أصدقاء الفن في سبيل عرض روائعهم التي حسنت ظن الناس بنا.
فهل من يكذبني؟
Unknown page