وسكت دقيقة وظلت أشباح ألفاظه تدب على جدران الغرفة، ثم عاد فنظر إلي وإلى سلمى بوقت واحد وقال همسا: لا تدعوا طبيبا ليطيل بمساحيقه ساعات سجني، لأن أيام العبودية قد مضت، فطلبت روحي حرية الفضاء، ولا تدعوا كاهنا إلى جانب فراشي، لأن تعازيمه لا تكفر عن ذنوبي إن كنت خاطئا، ولا تسرع بي إلى الجنة إن كنت بارا. إن إرادة البشر لا تغير مشيئة الله، كما أن المنجمين لا يحولون مسير النجوم. أما بعد موتي فليفعل الأطباء والكهان ما شاءوا، فاللجة تنادي اللجة، أما السفينة فتظل سائرة حتى تبلغ الساحل ... •••
عندما انتصف ذلك الليل المخيف فتح فارس كرامة عينيه الغارقتين في ظلمة النزع، فتحهما لآخر مرة، وحولهما نحو ابنته الجاثية بجانب مضجعه، ثم حاول الكلام فلم يستطع، لأن الموت كان قد تشرب صوته فخرجت هذه الألفاظ لهاثا عميقا من بين شفتيه: ها قد ذهب الليل ... وجاء الصباح ... يا سلمى. يا. يا سلمى ...
ثم نكس رأسه وابيض وجهه وابتسمت شفتاه وأسلم الروح.
ومدت سلمى يدها ولمست يد والدها فوجدتها باردة كالثلج، فرفعت رأسها ونظرت إليه فرأت وجهه مبرقعا بنقاب الموت، فجمدت الحياة في جسدها وجفت الدموع في محاجرها، فلم تتحرك ولم تصرخ ولم تتأوه، بل بقيت محدقة به بعينين جامدتين كعيني التمثال، ثم تراخت أعضاؤها مثلما تتراخى طيات الثوب البليل، وهبطت حتى لمست جبهتها الأرض ثم قالت بهدوء: أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة. •••
مات فارس كرامة وعانقت الأبدية روحه واسترجع التراب جسده، واستولى منصور بك على أمواله، وظلت ابنته أسيرة تعاستها ترى الحياة مأساة هائلة تمثلها المخاوف أمام عينيها.
أما أنا فكنت ضائعا بين أحلامي وهواجسي، تنتابني الأيام والليالي مثلما تنتاب النسور والعقبان لحمان الفريسة، فكم حاولت أن أفقد ذاتي بين صفحات الكتب لعلني أستأنس بأخيلة الذين طواهم الدهر، وكم جربت أن أنسى حاضري لأعود بقراءة الأسفار إلى مسارح الأجيال الغابرة، فلم يجدني كل ذلك نفعا، بل كنت كمن يحاول إخماد النار بالزيت، لأنني لم أكن أرى من مواكب الأجيال سوى أشباحها السوداء، ولا أسمع من أنغام الأمم غير الندب والنواح، فسفر أيوب كان عندي أجمل من مزامير داود، ومراثي أرميا كان أحب لدي من نشيد سليمان، ونكبة البرامكة أشد وقعا في نفسي من عظمة العباسيين، وقصيدة ابن زريق أكثر تأثيرا من رباعيات الخيام، ورواية هملت أقرب إلى قلبي من كل ما كتبه الإفرنج.
كذا يضعف القنوط بصيرتنا، فلا نرى غير أشباحنا الرهيبة، وهكذا يصم اليأس آذاننا، فلا نسمع غير طرقات قلوبنا المضطربة.
بين عشتروت والمسيح
بين تلك البساتين والتلول التي تصل أطراف بيروت بأذيال لبنان يوجد معبد صغير قديم العهد محفور في قلب صخرة بيضاء قائمة بين أشجار الزيتون واللوز والصفصاف. ومع أن هذا المعبد لا يبعد أكثر من نصف ميل عن طريق المركبات، فقد قل من عرفه من محبي الآثار والخرائب القديمة، فهو مثل أشياء كثيرة خطيرة في سوريا مختبئ وراء ستائر الإهمال، فكأن الإهمال قد أبقاه محجوبا عن عيون الأثريين ليجعله خلوة لنفوس المتعبين ومزارا للمحبين المستوحشين.
والداخل إلى هذا المعبد العجيب يرى على الجدار الشرقي منه صورة فينيقية الشواهد والبينات، محفورة في الصخر، قد محت أصابع الدهر بعض خطوطها ولونت الفصول معالمها؛ وهي تمثل عشتروت ربة الحب والجمال جالسة على عرش فخم، ومن حولها سبع عذارى عاريات واقفات بهيئات مختلفة، فالواحدة منهن تحمل مشعلا، والثانية قيثارة، والثالثة مبخرة، والرابعة جرة من الخمر، والخامسة غصنا من الورد، والسادسة إكليلا من الغار، والسابعة قوسا وسهاما، وجميعهن ناظرات إلى عشتروت، وعلى وجوههن سماء الخضوع والامتثال.
Unknown page