ذكرت لك وكررت تقدير الكونت ومشايعته لي، تناولت طعام الغداء معه أمس، وهو اليوم الذي يلتقي فيه بمنزله كل ذوي المراكز العالية، ولم أفطن قط إلى الجماعة وإبعادهم أتباعهم في ذلك الوقت. وذهبنا بعد الطعام إلى البهو نتحدث ونتمشى، وكان الكولونيل «ب» يزور الكونت أيضا، فدخل معنا في حلبة الحديث، وكذلك قضينا الوقت حتى أقبل النبلاء، ويعلم الله أنني لم أكن مستعدا البتة حين دخلت لادي «س» - أشرف السيدات وأنبلهن - مصحوبة بزوجها وابنتها - فتاة خرقاء ذات خصر قصير وصدر منبسط - فمرت بي ناظرة إلي باحتقار وصلف شديد، وعزمت على مغادرة المكان لاحتقاري أمثال هؤلاء، ولم يبق علي إلا البقاء لاستئذان الكونت الذي كان مشغولا بالتحيات الواهنة العقيمة. ودخلت في هذه اللحظة الآنسة بوير، فتأخرت قليلا لأحادثها؛ لأن وجودها يسرني دائما، وكنت مستندا على مؤخر مقعدها، فلحظت أخيرا أن هناك هرجا لم أره في أول الأمر قلل من لطفها ورقتها، وأدهشني هذا التغير الفجائي، ففكرت قائلا: «أمن الممكن أن تكون هي أيضا كباقي الجماعة؟» وساءني ذلك، وكدت أنسحب لولا شوقي إلى تعرف السبب.
ووصل الآن باقي الجماعة، وكان بينهم بارون معروف بسترته القديمة المحبوبة وكونت آخر، يظهر اختلاف ملابسه العتيقة عن أزياء اليوم أيما ظهور. وحادثت كل من أعرف منهم، فلاحظت أنهم يتباعدون، وأدهشني جدا سلوك الآنسة بوير، وشغل هذا كل التفاتي؛ فلم ألاحظ - كما أخبرت منذ ذلك الوقت - أن السيدات يتهامسن فيما بينهن، وأن هذا الهمس قد انقلب طنينا بين السادة الرجال، ويظهر أنه كان بين السيدة «س» والكونت مناقشة حارة في الموضوع، وأخيرا أخذ بيدي الكونت إلى جانب من الغرفة، وقال لي بمنتهى الرقة: «أنت تدري خرق التقاليد، وهنا بعض ممن لا يرضيهم وجودك، وأنه ليحزنني جدا ...» فقلت: «أرجوك عفوا؛ فقد كان من الواجب أن أفطن إلى ذلك، ولكنني واثق أن كرم نفسك سيتجاوز عن هذا السهو، ولقد كان في عزمي الانصراف منذ حين طويل، ولكن شيطاني اعترضني.» وابتسمت منحنيا، وانصرفت بعد أن صافحني بإخلاص نم عن صفاء قلبه، وانحنيت أيضا للسادة «النبلاء»، وأسرعت إلى مركبتي الخفيفة، ميمما قرية مجاورة؛ حيث شهدت غروب الشمس من قمة تل هناك، وتلهيت قليلا بمطالعة هومر، وكان ما قرأت بالصدفة ذلك الوصف الجميل لمقابلة ملك إثاكا الكريمة للرعاة المخلصين. وبعد أن متعت نفسي بذلك عدت أدراجي، ودخلت قاعة العشاء في المساء، فلم أجد إلا بضعة أنفار يتلهون بالنرد، فحياني ألديهيم «الرقيق»، وهمس في أذني قائلا: «لقد كانت حادثة سيئة، وهكذا اضطرك الكونت إلى مغادرة الجماعة!» فأجبت: «الجماعة! لقد سررت جدا بمفارقتهم.» وهكذا كان.
والشيء الوحيد الذي يغضبني هو الخبر الوقح الذي انتشر، ثم أخذت أفكر في المسألة بجد، وخيل إلي أن الكل ينظرون إلي وأنا جالس إلى المائدة بشأن الحادثة، فآلمني هذا في أعماق فؤادي، وحيثما ذهبت الآن أسمع الناس يرثون لي، ويقول أعدائي الظافرون: «هكذا يقع أبدا لهؤلاء الناس الوضيعين المتظاهرين باحتقار المراكز، وهم مع ذلك يسعون للظهور والشهرة.»
أواه! إنني لأمزق فؤادي! إن الجلد يجب أن يكون عنصرا جوهريا في الفلسفة؛ فلو أننا لا نلقى السفاسف، على العموم، إلا بالسخرية، ولكنها إذا أنتجت عواقب سيئة كانت خطيرة، وإذا استخدمتها الدناءة المنقبة لأغراضها كانت أصلا للغم والحزن.
الرسالة التاسعة والأربعون
15 مارس
كل ما يحدث يزيد في غيظي وكدري، لقيت اليوم الآنسة بوير، فاستفسرت منها عن سبب سلوكها الأخير، فقالت متهيجة: «آه يا فرتر! أنت يا من تعرف قلبي، يجب أن تشعر بما تحملته من أجلك لأول ما دخلت القاعة؛ فقد تنبأت بنتائج وجودك هناك، ورغبت في فرصة أكشف لك فيها عن مخاوفي؛ إذ كنت واثقة تمام الوثوق بأنه كان هناك من يغادر الجماعة حالا إذا بقيت، وقد جرح الكونت كثيرا، ولكنه لم يكن في مقدوره أن يغضبهم، ثم حدث اللغط حينذاك.» وحاولت أن أخفي عواطفي الثائرة، فقلت: «أي لغط؟» فأجابت والدموع في عينيها: «آه لشد ما سبب لي ذلك من القلق!» وكان هذا الدليل الإرادي على عطفها وودادها مهدئا لاستيائي، ومعزيا لقلبي، فكدت أقع على قدمي محاميتي الجميلة، وصحت قائلا: «كوني صريحة.» فتزايدت دموعها وقالت: «آه يا سيدي! لقد كانت عمتي - وأنت تعرف طباعها - حاضرة. يا للسماء! ما أشد غموض خواطرها! ومع ذلك فهي تفخر بمعرفتها للحياة وحنكتها، وحبها للعدل والتهذيب. فرتر، فرتر، آه لو عرفت كيف عنفتني في الليلة الماضية وهذا الصباح لتعارفنا! وكيف حاولت الحط من قدرك، بينا لم أستطع أن أفوه بكلمة واحدة دفاعا عنك!» وكانت كل كلمة خنجرا في صدري، ولكن يا للنفس المحبوبة! إنها لم تكن تشعر أن من الإشفاق علي كتمان كل ما أخبرتني به. وكذلك حدثتني عن الأحاديث الباطلة التي أذاعتها الوقاحة النشطة، ونقحها الحقد والافتراء، وازداد ألمي منذ ذلك الوقت، حتى أمسكت بالسيف أكثر من مرة لأريح به قلبي. لقد قرأت عن بعض الخيل الحارة الروح أنها إذا ما أرادت التخلص من شوط ثقيل، فتحت بالغريزة وريدا بواسطة أسنانها، وطالما رغبت في فتح أحد أوردتي، وكذلك أستريح راحة أبدية.
الرسالة الخمسون
24 مارس
كتبت إلى البلاط أستأذن في الاستقالة، وأعتقد أنها لا تنكر علي، وأرى واجبا عليك أن تعفو عني؛ إذ لم أسألك رأيك؛ فإن مبارحتي هنا محتمة لازمة. أنا أعلم أنك تسر بإقناعي بالعدول عن عزمي، ولكن عبثا تذهب كل محاولة، وأرجو أن تفضي بهذا إلى أمي بتحفظ ورفق، وبما أنني عاجز عن عمل شيء لنفسي، فلا ينتظر مني خدمة للغير. أنا أدري أنها ستحزن لذلك، ستحزن كثيرا حين تسمع بأن ولدها قد وقف في هذا الميدان الذي كان سيرفعه تدريجا إلى رتبة مستشار خاص أو سفير. قد تجادل كما تريد، وتقدم أقوى الأسباب لبقائي.
Unknown page