لقد عرفني وأحبني عامة الناس هنا، وخصوصا الأطفال، مع أنهم عند بدء تكلمي معهم وتعرفي بهم شكوا في إخلاصي، وعاملوني بجفاء، ولكنني لم أتعال عن التقرب إليهم وخطب مودتهم. من هذا تحققت شيئا طالما لاحظته، وهو أن الطبقة العالية تميل كثيرا لأن تجعل بينها وبين من هم أقل منها مسافة وبينا، كما لو كان تواصل الطرفين مفسدا لعظمة الأولين هادما لأبهتهم. ولكن ما أكبر صلف، بل جهل، ذلك السيد النبيل، يتنازل من عليائه في وقت ما، فيتواضع مع الرجل العامي البسيط، ثم يهمله ويحتقره في أوقات أخرى! إن هذه الحياة لن تعرف المساواة، بل إن الرجل الذي يظن أنه يحرز ميزة خاصة ومركزا واحتراما بتجنبه غيره، لهو أحط شأوا من الجبان، يتفادى العدو خوف وثوبه عليه.
في ذات يوم كنت عند الينبوع، فرأيت فتاة على الدرج الأسفل ودلوها بجانبها، تنتظر إحدى رفيقاتها لتعاونها في رفعه إلى رأسها، فابتدرتها بالتحية قائلا: «اسمحي لي يا عزيزتي أن أعاونك في رفعه.» فاحمرت خجلا وأجابت متأدبة: «كلا يا سيدي.» ولكنني نبذت التقاليد والعادات وساعدتها، فشكرتني بابتسامة كانت لي خير جزاء.
الرسالة السادسة
17 مايو
لي هنا الآن معارف كثيرون، بيد أنني لا أزال في حاجة إلى الاجتماع، ولست أدري سببا في التفاف الأهلين حولي وسرورهم بمرافقتي في رياضتي، وأسفي عند اضطراري لمفارقتهم. أنت تسألني أي نوع من الناس هم، إذا فاسمع الجواب، إنهم أناس كالذين تجدهم في كل مكان، إن عمل الطبيعة واحد أبدا، ولكن الحظوظ هي التي تخلق الفروق والاختلافات. إن السواد الأعظم من الناس ملزم بوقف الجزء الأكبر من حياته على العمل، ليحصل على حاجاته الضرورية، بينا تجد الشطر الباقي من وقته يظهر مجهدا مملا، حتى إنه يعمل للخلاص منه، كذلك خلق الإنسان.
على أنني مسرور بمعارفي الجديدين، ماذا؟ إن المتعجرف يقول: «إنني أنسى نفسي.» ولكنني أؤكد له أنني «أمتع نفسي» بجلوسي إلى مائدة تجمع بين الكرم وطيب الأخلاق، وسروري بالموافقة على ما يقترح رفاقي من سير أو رقص أو أضرابهما من أنواع اللهو، ولكن ما يجبه سروري حقيقة هو اضطراري أحيانا للاستخفاء عنهم، لئلا يكون وجودي سببا في خجلهم متى شعروا بضعتهم.
ثم أذكر بعد هذا صديقتي الراحلة، صديقة صباي التي لم يقدر لي أن أعرفها إلا لأبكيها، إيه يا للذكرى المؤلمة! لقد ذهبت وتوارت أمامي في القبر، والعالم الآن موحش قفر، ولكن يكفي، يكفي.
لقيت منذ أيام المهذب هرب؛ شاب طلق المحيا، بارق الثغر، ترك منذ عهد قريب جامعة أبسالا
Upsala ، ولكنه لا يختال بما أوتي من علم مع شعوره بتفوقه على جل البيئة التي هو فيها، على أن اجتهاده وجده يظهر أنهما يفوقان مداركه ومواهبه العقلية، زارني إذ علم بمعرفتي اليونانية وولعي بالتصوير - شيئان يعتبران أعجوبة في هذه الأرجاء - فأفرغ أمامي في أثناء الحديث جعبته مما وعى من العلوم، ومن سيرة المؤلفين الذين درسهم، وقال إنه قرأ كل القسم الأول من نظرية سالتزر
Sultzer
Unknown page