قلت ساهما وأنا سارح على أجنحة الذكريات: أولادك هم أولادي يا حاج، هل هذا كلام؟ المهم ترضي أخواتك البنات وأولاد المرحوم أخيك الكبير ...
قال مؤكدا: الجميع راضون والحمد لله، ولمن أتعب وأبني إلا لكم؟ أليس هو بيت العائلة في البداية وفي النهاية؟ ألا يقدر الجميع أنني أمثلكم هنا في البلد وأنوب عنكم في المناسبات؟ ثم إنكم ...
أشرت إليه قائلا: لا تكمل، أنت بخير والحمد لله، أولادك سيعوضون كل شيء ويحصلون على أعلى الشهادات، ثم إن ربنا أراحك من العلم وتعبه، لقد اغتنمت فرصة خلو اليوم من المحاضرات وقلت أخطف رجلي على البلد، غدا صباحا عندي اجتماع للقسم، ومساء اليوم نفسه مناقشة رسالة علمية، لا يمكنك أن تقدر مدى التعب والمسئوليات و... قال أخي مقاطعا ومستدركا: وجرنا الكلام في ذيوله فلا شربنا ولا أكلنا، زمانك على لحم بطنك من الصبح، يا ولد، يا ولد يا عدوي، الشاي يا ولد، اخطف رجلك على البيت وهات الكعك والقرص وبقية الإفطار، قل لهم يستعجلوا في تجهيز الغداء لأن الدكتور مستعجل. قلت معترضا: قلت لك وقتي محدود ولا داعي لغداء ولا عشاء، وإلى أن يأتي الشاي سأصعد السلالم وألقي نظرة على المقاعد القديمة وعلى حجرة نومي أنا وصديقي بستان. ضحك أخي وقال: صديقك راح وراحت أيامه، المهم تاخد بالك وأنت طالع السلم لأنهم الآن يفكون السقف المسلح وربما ... قلت: لا تخف، المهم عندي أن أطل على مرابع الطفولة والصبا والشباب، وأن أقبل ذا الجدار وذا الجدار كما يقول ... هتف أخي ضاحكا: المجنون! قيس المجنون!
3
أصعد السلم الذي طالما طلعت ونزلت عليه وأنا طفل وصبي وشاب. ها أنا ذا ألتقط أنفاسي بصعوبة بعد أن بدأ الشعر يشيب وامتلأت الرأس بالحكمة والحمق، بالجدل والدجل وملاحم الثرثرة في كل شيء، وأجلس على البسطة أمام الفجوة الكبيرة التي ثقبوها أثناء الهدم لما كان من قبل سقفا تقفين يا أمي وتتحركين عليه. في الصباح الباكر وقبل صلاة الفجر تقفين هناك وأنت ترفعين ذراعيك إلى السماء وتدعين: أصبحنا وأصبح الملك لله، يا رب يا علام الغيوب استرها مع أولادي، أصلح أحوالهم يا ربي وأوقف لهم أولاد الحلال في كل طريق ، يا رب يا عالم بكل شيء ولا يخفى عليك شيء، أحسن يا رب ختامنا كما أحسنت بدايتنا وارزقنا الحمد لك والشكر لك يا قادر يا كريم، وتبدئين رحلة العذاب والشقاء بعد أن تصلي الفجر وتتلي الآيات القليلة من قصار السور التي استطعنا - إخوتي وأنا - أن نحفظك إياها بالتكرار المستمر على مدار الشهور والسنين، تطلعين للاطمئنان على الدجاج والبط والحمام في السطوح، وترفعين يدك بالدعاء لله يحميها من العرس والقطط والثعابين، وتجددين لها العلف والماء، ثم تنزلين إلى السطح مرة أخرى وتنهمكين في العجين والخبيز والغسيل وتحضير الفطور ثم الغداء، وتجرين يا حبيبتي من حجرة الخزين إلى حجرة الفرن والكانون، ومن تجهيز الشاي والجبن والفول والعسل إلى تحضير صواني السمك أو البطاطس أو المكرونة مع السلاطة للغداء، وتظلين طوال اليوم تعملين وتعملين وتنبحين صوتك على النائم واليقظ وعلى القريب والبعيد دون أن تفتر لك همة أو يرتخي جفن أو تهمد يد أو قدم أو ذراع، وفي آخر المطاف يا حبيبتي لا تجدين غير الزمجرة والبرطمة والتبطر على نعم الله، وما أندر ما تلقيت كلمة شكر أو حمد من إنسان. حتى يخيم الليل ويأتي العشاء فتصلين ورأسك تهتز وتميل على صدرك فترفعين صوتك بالتكبير لكيلا تغفلي أو تنامي أمام من لا يغفل ولا ينام، ويذهب الجميع إلى أعمالهم باستثنائي أنا المدلل وثالث التوءمين اللذين آثرا العقل وذهبا إلى بارئهما بعد ولادتهما بشهور وتركاني لحياة يقول عنها المغني المصري القديم مع المنشد في الكورس الإغريقي في أنتيجونا: ليتني ما ولدت أبدا، أو ليتني رجعت بمجرد ولادتي إلى رحم العدم الذي خرجت منه. نعم أنا الوحش الثقافي الصغير الذي لم يعرف الراحة، ولا الاستقرار حتى كتابة هذه السطور. معتكف أنا كالعادة في غرفتي الصغيرة ذات السرير الصغير والمكتب الضئيل الذي ثبتت فوقه على الحائط لمبة نمرة عشرة تسمح بأن أقرأ عليها وأكتب، وأقوم وأنظر في الحجرة التي كانت موضع سري وحياتي وعالمي الخاص. ما زالت على ما هي عليه، لولا أن التراب قد علا كل شيء؛ ملاءة السرير والجريدة والكتب والدوريات القليلة على المكتب، وحتى زجاج اللمبة كاد أن يصبح قطعة من الطين أو من سواد الليل. في هذه الحجرة كم ذاكرت وقرأت وحاولت أن أكتب؛ تصاريف الأفعال الإنجليزية والفرنسية كم حفظتها وسمعتها، أفلاطون ومحاوراته التي اطلعت عليها صدفة وبغير سابق إنذار فصرت من محبي الحوار ومجربيه في محاوراتي الساذجة ومسرحياتي الرديئة، هل أذكر أيضا كيف رحت - من الابتدائي والثانوي حتى الجامعة - أنظم الشعر السيئ حتى أقلعت عنه تماما بعد أن تأكد لي فقري في الأصالة والخيال المجدد والتفرد الحقيقي في الأسلوب والرؤية والتعبير؟ في كل المناسبات تقريبا كتبت قصائد خلصتني أمي منها - كما قلت بعد ذلك في مقدمة أحد كتبي الذي ارتبط اسمه باسمي - خلصتني منها وحمت بها الفرن أكثر من مرة بدلا من عذاب الحطب والقش والجاز والكبريت. كنت أيام الثانوي أعشق مجلة الرسالة وأهيم بأسلوب صاحبها وتعلمت كذلك من زملاء شقيقي الأزهري كيف أصبر على قراءة الرافعي وأفك طلاسم تركيباته المصطنعة بلا مضمون فكري وراءها، حتى أعارني بقال صغير وصديق لابن شقيقتي كتابا أو اثنين لصاحب «النبي» والأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة والمواكب، فزلزلني وأشعل الحرائق في كياني بصورة الثائرة اللاهبة، وبعد سنين في قراءة صاحب الأيام وعلى هامش السيرة وقادة الفكر وغيرها وغيرها وقعت صدفة أيضا على أهل الكهف وزهرة العمر وشهر زاد وسليمان الحكيم؛ على الحكيم الذي فك أسري من سلاسل البلاغيين والإنشائيين، وعلمني أن أقلع للأبد عن معارضة شوقي والمعري أو التفكير أصلا في نظم الشعر، وما أعظم هذا الدرس في الأدب والمسرح الفلسفي، وفي البناء الحواري والجدلي المدهش الذكي، وبدأت محاولات أخرى لم تزل مستمرة في الكتابة للمسرح الأدبي الذي لم تكد تعبأ به الفرق والخشبات الرسمية والشعبية، وها أنا ذا الوحش الثقافي الذي لم يبرأ من توحشه ونهمه ولهفته على الحرف المكتوب في معظم حقول المعرفة. من هنا ومن تعدد الاهتمامات إلى حد التشتت والضياع لم يكن أحد يعترف بقصصي ومسرحياتي، ربما حازت بعض دراساتي ومقالاتي، لا سيما بعد أن سافرت في منحة للخارج وجنيت على نفسي بالدكترة التي صرت مع الزمن ضحية لها وحق علي حتى اليوم الضلال في متاهاتها ودروبها المسدودة أو المفضية إلى صحارى أتجول فيها وأتنقل من سراب إلى سراب، لكن حسرتي الحقيقية يا أمي، كانت منذ ذلك اليوم الذي أتذكره الآن قبل أن يهدم هذا البيت وتردم فيه حتى الذكريات، ذلك اليوم الذي كان آخر يوم أراك فيه وحرمت نفسي وحرمتك، لكن لأبدأ ذلك اليوم من أوله، لأحرق قلبي مرة أخرى بالسهم القاتل الذي نفذ فيه بيدي لا بيد غيري.
4
كان يوما غريبا وعجيبا، أشعر كلما فكرت فيه منذ رحيل أمي أن كياني كله يضطرب ويرتجف من جذوره. هل أحسست لحظة واحدة بأنه سيكون يوم الفراق الأبدي المحتوم؟ هل دب في قلبي هاجس الخوف من أن أرجع في الزيارة التالية فلا أراها، بل أذهب إلى المدفن العتيق وأركع أمام قبرها وأنا أتزلزل بالألم وأرتعش في قبضة الإحساس الموجع بالندم، وأبكي بكاء مرا لا أظن أنني جربته قبل ذلك أو بعده؟ حتى بستان - صديقي ورفيقي القط الأسود - كان أيضا في ذلك اليوم في غاية من الاضطراب. أخذ ينونو منذ فتحت عيني في الصباح وكأنه يريد أن يعاتبني: أحقا ستتركنا وتغادر وربما لا أراك بعد ذلك؟ وراح يتبعني في كل خطوة، يتعثر بين رجلي ويجعلني أتعثر في جريي من حجرة المكتب إلى حجرة البوفيه، مهموما بتجميع الكتب والأوراق والمسودات التي دونتها أثناء وجودي في الإجازة القصيرة التي كانت مشحونة بالاطلاع والكتابة والتحضير للندوة أو اللقاء المنتظر مع الأصدقاء، حاولت أن أهدئه وتصورت لحظات أنه ربما يكون مفجوعا كعادته، وذهبت لأمي المشغولة هي الأخرى في غرفة الفرن وأعددت له طبقا وضعت فيه اللبن والجبن والخبز فشمه ممتعضا وانطلق في أنينه ونواحه، آه! كيف لم يلهمني الحدس المعتاد بأن اللحظات الباقية من ذلك اليوم هي اللحظات الفارقة والفاصلة، وهل اعتقدت حينئذ - معتمدا على الكسل العقلي الدائم - أن كل شيء سيبقى على ما هو عليه، أو أنني سأرجع يوما - بعد شهور أو حتى أسابيع قليلة - فأجد أمي وأبي وإخوتي وأخواتي وكأن التغير لم يعد هو قانون الطبيعة والحياة، أو كأن العبارة التي تقول إن دوام الحال من المحال قد فقدت مصداقيتها في بلدنا العصي على التغيير؟!
كنت قد صحوت من نومي مبكرا وفكرة السفر والتبعات التي تنتظرني في القاهرة تطاردني وتلاحقني منذ أن نمت نوما مضطربا واستيقظت على الآلام المبرحة في الرأس والمعدة. نعم! كانت تبعات ثقيلة كلفني بها الأصدقاء في جمعيتنا الأدبية والفنية ولكنها كانت خفيفة على قلبي وحبيبة، وكنا قد ألفنا هذه الجمعية ورحنا نجتمع كل مرة في مسكن أحد أساتذتنا أو في مسكن واحد منا. نتناقش في الأحوال الثقافية والسياسية ونستمع لقراءات متنوعة؛ قصائد وقصص ومقالات ومشروعات كتب موعودة. كان كل واحد منا يكلف من قبل الأعضاء أو من ذات نفسه بالمشاركة في هذه اللقاءات التي كنا نعتبرها المظهر الوحيد لحريتنا بعد أن صادرت الثورة - التي قامت قبل ذلك بسنوات قليلة - جميع الحريات وحلت الأحزاب وأعلنت قوانين الطوارئ وأحكمت قبضة الاستبداد العسكري على كل شيء وكل إنسان. لم نكن خلية سرية بأي معنى، ولم نكن نعمل تحت الأرض أو نصدر المنشورات، وباستثناء بيان قصير في الصحف أعلنا فيه مطالبتنا بالحرية والديمقراطية وعودة الأحزاب وحق التعبير الحر لم يكن لنا أي نشاط سياسي محدد. قنعنا بإثبات حريتنا المحدودة في تجاربنا الشعرية والقصصية والمسرحية والبحثية والتزمنا - في وقت كان فيه الالتزام على كل لسان! - بأن الأدب حرية وأنه للحياة.
كنت قد استطعت في تلك الإجازة القصيرة من عملي الممل بالقاهرة؛ أن أكتب قصتين وأترجم قصتين أخريين عن الإيطالية التي كنت قد بدأت في تعلمها مع الألمانية وقطعت فيهما شوطا معقولا، وكان الأصدقاء - حين شعروا بميولي الاشتراكية المثالية التي يشاركني بعضهم فيها - قد كلفوني بأن أعرض عليهم نبذة عن تيارات الاشتراكية الطوباوية ومدنها الفاضلة ومشروعاتها الخيالية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم كلفت نفسي فضلا عن ذلك بأن أتحدث إليهم عن الوجه الإنساني الحر لماركس كما يتجلى في كتابات شبابه، لا سيما في مخطوطاته الاقتصادية الفلسفية التي كنت قد عكفت على الاطلاع عليها في إطار اهتمامي بمشكلة الاغتراب (كم كنا مغتربين في تلك السنين! كم حاولنا أن نؤكد انتماءنا للحرية وللإنسان العادي الذي كنا على يقين بأنه لا يشعر بنا وربما لن يحس أبدا بوجودنا).
بدأت على عجل في ترتيب حقيبة ملابسي وكتبي، كل شيء في ذلك اليوم كان ملهوفا ومتسرعا وكأنما يتم مع آخر الأنفاس. رحت أجري بين حجرة مكتبي الصغيرة التي تكدست فيها الأوراق والمسودات وبين حجرة البوفيه - بشمعدانها الأثري الجليل الجميل! - التي كنا، شقيقي الأزهري وأنا، قد ملأنا رفوف الدولاب الثقيل فيها وأدراج البوفيه نفسه بكتبنا ومجلاتنا المتباينة المشارب والاتجاهات والاهتمامات. انهمكت في اختيار بعض الكتب وبعض أعداد الرسالة التي قدرت أنني ربما أحتاج للرجوع إليها سواء في كتابة مقالاتي أو ترسيخ ميولي القصصية والمسرحية والفلسفية أو لمجرد الرغبة في الاطلاع حبا في الاستمتاع بالقراءة لذاتها لا لأي غرض آخر، ورحت أجري، وبستان دائم التعثر في رجلي، دائم الشكوى والاستغاثة والأنين، بين الحجرتين، أحمل صفوفا من الكتب وأقف لمراجعتها قبل وضعها في الحقيبة، وأستبقي منها أشياء وأستبعد أو أؤجل أشياء لوقت آخر أو فرصة أخرى، كنت - لجهلي وغفلتي وغبائي - أعتقد بيقين أنهما حتما قادمان.
Unknown page