Ahmad Curabi Zacim Muftara Calayhi
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
Genres
وبدا لمالت فأوعز إلى الخديو أن يتخلص من المأزق بعرض الأمر على السلطان، وحجته أن عثمان رفقي يحمل لقب الفريق، فلا يجوز لأحد غير السلطان أن ينزع منه هذا اللقب، وسرعان ما فعل توفيق كما أشار به مالت فزاد الأمور ارتباكا وتعقيدا.
ولقد أخطأ مالت خطأ كبيرا فيما أشار به، فإنه جرجر بذلك تركيا إلى الدخول في ذلك النضال، الأمر الذي كانت تحذره الدولتان أعظم الحذر، وإن كانت إحداهما تخفيه، بينما الأخرى لا تتحرج من أن تعلنه في كل مناسبة وتبديه ...
أما الوطنيون فقد غضبوا لذلك أشد الغضب، ورأوا فيه ضربا جديدا من لؤم مالت، فأجمعوا أن يمنعوا تدخل تركيا مهما كلفهم ذلك من وجوه الصعاب والمشاق. وبلغ الغضب برئيس الوزراء أن أعلن في عزم وتصميم: «أنه إذا أرسل الباب العالي أمرا بنقض حكم المجلس العسكري على الشراكسة السجناء، فإننا لن نطيع هذا الأمر، وإذا أرسل الباب العالي من قبله مندوبين، فسوف لا نسمح لهم أن يهبطوا مصر، وسوف نردهم بالقوة إذا لزم الأمر.»
4
وهذه لا ريب ثورة غضب من البارودي نعدها من أخطائه، فلقد أفضى بهذا التصريح إلى مالت، وهذا أرسله إلى حكومته وإنه لشديد الاغتباط به إذ يسوقه دليلا على أن الأمور قد بلغت غاية الحرج، ثم إنه يسوقه من جهة أخرى دليلا على صحة ما ذكره مرارا وهو تسلط زعماء الجيش واستهتارهم بكل سلطة. ولم ينج عرابي من حملات الكائدين له، وحمل مسؤولية هذا التصريح كأنما كان هو قائله، وأرجف المرجفون أن البارودي إنما يعمل بوحي من عرابي الذي يعد الحاكم الحقيقي للبلاد! ...
الحق أن البارودي قد أساء إلى القضية إساءة كبيرة بهذا التصريح. فهو فضلا عما ذكرنا، إنما يتحدى السلطان في ذلك الوقت العصيب فيضيف إلى أعدائه عدوا جديدا، وإن الذي يحيط به الأعداء من كل جانب لجدير به أن يحتال ليستل السخائم من صدورهم، أو ليكسب من الأعوان والأصدقاء من يكونون له في الشدة قوة وسندا.
وكانت النتيجة المباشرة لهذا التصريح استحكام الأزمة بين الوزارة والخديو، فلقد رأى توفيق أنه أصبح في الواقع وليس له من الأمر شيء، فإذا كان البارودي يقف هذا الموقف في وجه السلطان نفسه فكيف إذا جاءت المعارضة من الخديو؟ وهذا هو المعنى الذي لا يفتأ مالت وأعوانه يوحونه إلى الخديو في تلك الأزمة العصيبة.
ولو كانت الوزارة أصرت يومئذ على موقفها من العناد والصرامة لحملت قسطا كبيرا من التبعة عن تعقد الأمور وتحرجها، ولكنها ما لبثت أن خطت خطوة حميدة حقا كانت تنطوي على كثير من الكياسة وبعد النظر، فإنها تقدمت إلى الخديو تقترح أن يخفف هو الحكم من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى تركيا أو غيرها. والوزارة ترضى أن ينفى المحكوم عليهم من مصر إلى أي جهة من الجهات دون أن تمس رتبهم أو ألقابهم، وإنما تستبعد أسماءهم من سجلات الجيش المصري ...
وهذا المقترح لا ريب دليل صادق على حسن نية الوزارة ورغبتها في أن تنتهي المسألة وتنجو البلاد من كيد الأعداء، وهي فيما تقدمت به على هذا النحو متساهلة في الواقع أكبر التساهل، فما دام المجلس العسكري قد حكم بإدانة هؤلاء فإن إبعادهم من البلاد يقتضي إبعادهم من سجلات الجيش، ولكن الخديو وا أسفاه قد تنمر وتنكر، فرفض أن يجيبها حتى إلى هذا الاقتراح ...
وكان مالت من ورائه لا ينفك يوسوس له ويزين فعل السوء، وكان جرانفل قد أنكر من مالت ما أشار به على الخديو من دعوة تركيا إلى التدخل، فكتب إليه أن يسير على وفاق مع ممثل فرنسا، وفي هذا تلميح إلى ما كان في سياسته من خطأ، وكان ممثل فرنسا يسير بوحي من فرسنيه، ولكن عز على مالت أن يتراجع بعد هذه الخطوات فينقض ما نسجه من غزل بيده، فانظر إليه كيف يخلع النقاب على صورة قل أن يوجد مثيل لها في سجل السياسة العام فيكتب إلى جرانفل قائلا: «اسمحوا لي أن ألاحظ أنه عند النظر في الخطة التي يجب أن يسلكها الخديو بإزاء حكم المجلس العسكري يجب أن نلقي نظرة عامة على الحال كلها، وأن نذكر أن الوزارة الحاضرة تسعى لتضييق نطاق الحماية الإنجليزية الفرنسية، وأن نفوذنا آخذ كل يوم في النقصان، وقد يستحيل علينا أن نستعيد سلطتنا العليا حتى تخضد شوكة الحكم العسكري الذي يرزح القطر تحته الآن، وفي اعتقادي أنه لابد من حدوث ارتباكات شديدة قبل الوصول إلى حل مرض للمسألة المصرية، وأن الحكمة تقضي باستعجال هذه الارتباكات لا بتأجيلها.»
Unknown page