تركت روث المنزل عندما كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري، بعد أن تعرض أبي لحادث سيارة خطير. وعلى ما أعتقد كان مخمورا، ومات في هذا الحادث سائق السيارة الأخرى الذي كان مزارعا من البيض. ظل أبونا في المستشفى فترة طويلة بلغت السنة، وعشت أنا وأخي روي بصفة أساسية معتمدين على أنفسنا. وعندما خرج من المستشفى ذهب لزيارتك أنت وأمك في هاواي. وأخبرنا حينها أنكما - أنت وأمك - ستعودان معه وسنعيش جميعا كأسرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لكنكما لم تأتيا معه عندما رجع وظللت أنا وروي نعيش معه بمفردنا.
بسبب الحادث بالطبع فقد أبونا وظيفته في وزارة الري، ولم يعد لدينا مكان نعيش فيه. ولفترة من الوقت أخذنا نتجول بين الأقارب لكنهم في النهاية قرروا طردنا لأن لديهم ما يكفي من المشكلات. بعد ذلك وجدنا منزلا حالته سيئة للغاية في جزء خطير من المدينة مشهور بالجرائم الكثيرة التي تحدث فيه، واستقررنا هناك سنوات عديدة. كانت أياما عصيبة. ذلك لأن أبانا لم يكن يملك من النقود سوى القليل؛ لذا كان مضطرا إلى الاقتراض من الأقارب لمجرد توفير الطعام. وهذا ما جعله أكثر خجلا من نفسه - على ما أعتقد - وازدادت طباعه حدة. ومع كل هذه المشكلات التي تعرضنا لها فإنه لم يعترف إطلاقا لي أو لروي بأن الأمور ليست على ما يرام. وأعتقد أن هذا هو ما جرحه لأقصى درجة؛ أي الأسلوب المتعجرف الذي كان لا يزال يخبرنا به بأننا أبناء الدكتور أوباما. كانت خزانات الطعام فارغة، لكنه كان يتبرع للجمعيات الخيرية حفاظا على المظاهر! كنت أناقشه في هذا الأمر في بعض الأحيان، لكنه لم يكن يقول شيئا سوى إنني فتاة حمقاء صغيرة لا أفهم ما يفعله.
كان الأمر أسوأ مع روي. فقد كانا يتشاجران مشاجرات عنيفة. مما أدى بروي في نهاية الأمر إلى ترك المنزل والعيش مع آخرين. لذا ظللت بمفردي مع والدي. وأحيانا كنت أظل مستيقظة لمنتصف الليل في انتظار مجيئه وهو يفتح الباب، قلقة من أن يكون قد حدث له مكروه. ومع الوقت اعتاد المجيء مترنحا من كثرة شرب الخمر، وكان يدخل غرفتي ويوقظني بحجة أنه يريد الجلوس في صحبة أحد أو تناول الطعام. وكان يتحدث معي بخصوص شعوره بالتعاسة وكيف تعرض للخيانة. لكنني في هذه الأحيان كنت أشعر بنعاس شديد فلا أفهم شيئا مما كان يقوله. وبدأت بيني وبين نفسي أتمنى أن يظل بالخارج إلى الأبد ولا يعود على الإطلاق.
الشيء الوحيد الذي أنقذني من هذه المأساة كان التحاقي بمدرسة كينيا الثانوية. إنها مدرسة للبنات كانت فيما مضى مخصصة للبريطانيات. وكانت هذه المدرسة صارمة القواعد للغاية وكانت ما زالت عنصرية، فلم يكن يسمح للمدرسين الأفارقة بالتدريس إلا في الوقت الذي التحقت بها فيه بعد رحيل معظم الطالبات البيضاوات. لكن مع كل هذه الأشياء فقد كنت طالبة نشطة. ولأنها كانت مدرسة داخلية فكنت أظل فيها في فترة الدراسة بدلا من المكوث مع أبي. وفي الواقع عرفت من هذه المدرسة معنى النظام. كما عرفت معنى أن يكون لديك شيء تتمسك به.
في إحدى سنواتي الدراسية لم يستطع أبي دفع مصاريف المدرسة، ولذا طردت منها. وكنت حينها غاية في الخجل وبكيت طوال الليل. ذلك لأنني لم أكن أعرف ماذا أفعل. لكنني رغم كل هذا كنت محظوظة. إذ سمعت إحدى المديرات بالمدرسة عما حل بي وأعطتني منحة دراسية سمحت لي بالبقاء في الدراسة. وعلى الرغم من قدر رعايتي لأبي وقلقي عليه فمن المؤسف أن أقول إنني كنت سعيدة لعدم اضطراري إلى العيش معه. لذا تركته بمفرده وتركت الماضي خلف ظهري.
في السنتين الأخيرتين في المدرسة الثانوية تحسنت أحوال أبي. كان ذلك عندما مات كينياتا وأصبح أبي قادرا إلى حد ما على العمل مرة أخرى في الحكومة. فحصل على وظيفة في وزارة المالية وبدأ ينعم بالمال من جديد إلى جانب السلطة. إلا أنني أعتقد أنه لم يتغلب أبدا على الشعور بالمرارة لما حدث له، خاصة عند رؤية زملائه الذين من عمره وهم يعملون في مناصب أعلى من منصبه حيث كانوا يتمتعون بالقدر الكافي من الذكاء السياسي الذي مكنهم من الوصول إلى هذه المناصب. بعد كل ذلك كان الوقت قد فات لجمع شتات عائلته. وظل فترة طويلة يعيش وحيدا في غرفة بأحد الفنادق حتى بعدما أصبح يستطيع ماديا شراء منزل. وكانت له علاقات عابرة مع نساء أوروبيات وأفريقيات إلا أن علاقته بأي منهن لم تدم طويلا. لم أكن ألتقي به تقريبا، وحتى عندما يتصادف ونتقابل لم يكن يعرف كيف يتعامل معي. أصبحنا كالغرباء لكنه كان لا يزال لديه الرغبة في التظاهر بأنه أب مثالي يوجه ابنته للتصرفات الصحيحة. أذكر أنني عندما حصلت على المنحة الدراسية للدراسة في ألمانيا كنت خائفة من أن أخبره. واعتقدت أنه ربما يقول إنني صغيرة جدا عن أن أذهب للدراسة في الخارج ويتدخل لإلغاء تأشيرتي كطالبة التي كان لا بد من أن تصدق عليها الحكومة. لذا سافرت دون أن أودعه.
ولم أبدأ في التخلص من بعض الغضب الذي كنت أشعر به نحوه إلا بعدما سافرت إلى ألمانيا. فمن بعيد استطعت التفكير جيدا فيما تعرض له وكيف أنه لم يستطع فهم أحد بالفعل حتى نفسه. وفي نهاية المطاف - بعد كل هذه الفوضى التي سببها لحياته - أعتقد أنه ربما كان على وشك الشروع في تغيير نفسه بالفعل. ذلك لأنني آخر مرة رأيته كان في رحلة عمل ممثلا كينيا في مؤتمر دولي في أوروبا. كنت قلقة للغاية من مقابلتنا لأننا لم نكن قد تحدثنا منذ زمن بعيد. لكنه عندما وصل إلى ألمانيا بدا متحررا بالفعل من التوتر العصبي بل ميالا للهدوء. وقضينا وقتا طيبا حقا. والواقع أنه كان جذابا حتى في أسوأ حالاته! اصطحبني معه إلى لندن حيث مكثنا في فندق فاخر، وهناك عرفني على جميع أصدقائه في النادي البريطاني. كان أبي يجذب لي المقعد لأجلس ويهتم بي اهتماما عظيما، مخبرا جميع أصدقائه كم هو فخور بي. وفي رحلة العودة من لندن لفت انتباهي في الطائرة كأس زجاجية صغيرة كان أبي يحتسي فيها الويسكي، ولأنها أعجبتني أخبرته بأنني سوف أسرقها، لكنه قال لي: «لا داعي لمثل هذه الأشياء.» واستدعى المضيفة وطلب منها، وكأنه يمتلك الطائرة، إحضار طقم كامل من هذه الكئوس. وعندما أعطتني المضيفة إياها شعرت بأنني عدت إلى الطفولة من جديد. أو بالأحرى شعرت بأنني أميرته المدللة.
في اليوم الأخير لزيارته لي في ألمانيا اصطحبني لتناول الغداء وتحدثنا عن المستقبل. وسألني إن كنت في حاجة إلى المال وأصر على منحي بعض المال. وأخبرني أنه بمجرد عودتي إلى كينيا سيجد لي زوجا صالحا. كم كان مؤثرا ما حاول فعله ... كما لو كان بوسعه تعويض كل الأوقات الضائعة. كان قد أصبح عندئذ أبا من جديد لطفل يدعى جورج أنجبه من سيدة شابة كان يعيش معها. لذا قلت له: «إنني وروي كبرنا بالفعل. وكل منا لديه حياته الخاصة وذكرياته، وما حدث بيننا جميعا من الصعب محوه من الذاكرة. أما جورج الرضيع فهو كالصفحة البيضاء التي لم يخط فيها قلم. وإن لديك الفرصة لتعامله معاملة حسنة حقا.» لم يفعل شيئا سوى هز رأسه، كما لو كان ... أقصد كما لو أنه ...»
لبرهة من الوقت، حملقت أوما في صورة أبي الفوتوغرافية بغير تركيز في الضوء الخافت. وبعدها وقفت واتجهت ناحية النافذة وأدارت ظهرها لي. قبضت أوما على جسدها وتسللت يداها ببطء شديد تجاه كتفيها المنحنيتين. وبدأت ترتعد بصورة عنيفة. فنهضت من مكاني وذهبت خلفها ولففت ذراعي حولها وهي تبكي، والحزن يأخذ طريقه إليها في صورة موجات بطيئة وعميقة. وقالت لي بين عبراتها: «أرأيت يا باراك؟» وتابعت قائلة: «كنت في بداية معرفتي به. وكنا قد وصلنا إلى المرحلة التي ... التي ربما استطاع فيها توضيح نفسه وتفسير تصرفاته. وفي بعض الأحيان أعتقد أنه ربما تجاوز المرحلة الحرجة بالفعل وبدأ في التحول نحو الأفضل. لكن بعدما مات شعرت بأنني ... مخدوعة للغاية. وهو الشعور الذي لا بد وأن يكون راودك.»
في الخارج سمعنا صوتا مرتفعا لسيارة عند زاوية الشارع ورأينا رجلا يعبر الشارع وحيدا في ظل الضوء الأصفر الصادر عن أعمدة الإنارة. وعلى حين غرة اعتدلت قامة أوما وانتظم تنفسها - كما لو كانت قوة إرادتها هي التي دفعتها لفعل ذلك - ومسحت عينيها بكم قميصها. وقالت وهي تبتسم ابتسامة سرعان ما اختفت من وجهها: «انظر إلى ما فعلته بأختك.» استدارت نحوي. وقالت: «أتعرف، اعتاد أبونا أن يتحدث عنك كثيرا! وكان يستعرض صورتك أمام الجميع متباهيا ويخبرنا عن مدى مهارتك في المدرسة. وأظن أنه ووالدتك اعتادا تبادل الخطابات. وهذه الخطابات - حسب اعتقادي - كانت تريحه دون شك. وفي الأوقات العصيبة - عندما توقف الجميع عن مساعدته - كان أبي يحضر خطاباتها إلى غرفتي ويقرؤها بصوت عال. كان يوقظني ويصر على أن أسمع، وعندما ينتهي من القراءة يمسك بالخطابات في يده ويذكر إلى أي مدى كانت أمك طيبة القلب وحنونا. وكان يقول: «أترين؟» ويتابع كلامه: «على الأقل هناك أناس يهتمون بأمري بإخلاص.» كان يقول ذلك لنفسه مرات ومرات عديدة ...»
Unknown page