65

Ahlam Min Abi

أحلام من أبي: قصة عرق وإرث

Genres

بعد زيارتي هذه بأربعة عشر عاما، أصبحت المدينة أكثر جمالا. وكان ذلك أيضا في يوليو حيث كانت أشعة الشمس تتلألأ خلال الأشجار ذات اللون الأخضر الغامق. ولم تكن القوارب في مراسيها إذ بدت أشرعتها من بعيد كأجنحة اليمام فوق بحيرة ميشيجان. أخبرني مارتي أنه سيكون مشغولا في الأيام القليلة الأولى؛ لذا ظللت بمفردي أتصرف كما يحلو لي. فاشتريت خريطة واسترشدت بها في السير بطريق مارتن لوثر كينج درايف من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ثم اتجهت شمالا إلى مدينة كوتيدج جروف، ثم جنوبا عبر الطرق الجانبية والأزقة مرورا بالمباني السكنية والأراضي الفضاء والمتاجر الصغيرة والمنازل ذات الطابق الواحد. وفي طريقي تذكرت صفارة قطارات «إلينوي سنترال» وهي تحمل الآلاف ممن أتوا من الجنوب قبل سنوات طويلة ... آلاف من الرجال السود ونسائهم وأطفالهم، المتسخين من سخام عربات القطارات، قابضين على أمتعتهم التي أعدوها على عجل، وهم يشقون طريقهم إلى كنيسة أرض كنعان. وحينها تخيلت فرانك - وهو يرتدي حلة فضفاضة، طية صدرها عريضة - واقفا أمام سينما ريجال القديمة في انتظار رؤية ديوك أو إيلا، وهما خارجان من عربة بحصان واحد. كان ساعي البريد الذي رأيته يوزع البريد هو ريتشارد رايت قبل بيع كتابه الأول، وكانت البنت الصغيرة ذات النظارة والضفائر المجدولة التي رأيتها تمارس قفز الحبل، هي ريجينا. لقد ربطت بين حياتي والوجوه التي رأيتها، مستعيرا ذكريات الآخرين، وبهذه الطريقة حاولت الإلمام بكل تفاصيل المدينة والاستحواذ عليها. وهذا أيضا سحر من نوع آخر!

في يومي الثالث في شيكاغو مررت على صالون سميتي للحلاقة بواجهته التي تطل على الشارع والتي يبلغ عرضها خمسة عشر قدما وطولها ثلاثين قدما. يقع صالون سميتي على أطراف هايد بارك ويشتمل من الداخل على أربعة مقاعد للحلاقة ومنضدة صغيرة تطوى لتأخذ حيزا أقل لمقلم الأظافر - لاتيشا - الذي يعمل نصف دوام. كان الباب شبه مفتوح عندما دخلت وكان مسنودا بدعامة لمنعه من الانغلاق، وكان الصالون تنبعث منه رائحة كريم شعر ومطهر تمتزج مع صوت ضحكات رجال وطنين مراوح تعمل ببطء. واتضح أن سميتي رجل أسود عجوز يعلو رأسه الشيب، وكان نحيلا متقوس الظهر. لم يكن هناك أحد يجلس على كرسي الحلاقة أمام سميتي؛ لذا جلست على الكرسي وسرعان ما اشتركت في الحديث المعتاد في صالونات الحلاقة عن الرياضة والسيدات والعناوين الرئيسية في جرائد الأمس، تلك المحادثات التي توحي بالألفة على الرغم من جهل الرجال - الذين اتفقوا على ترك مشكلاتهم الشخصية بالخارج - بعضهم بعضا.

سرد أحدهم قصة أحد جيرانه، الذي أمسكت به زوجته في الفراش مع ابنة عمها، وخرج يجري عاريا في الشارع وهي خلفه تطارده بسكين المطبخ، وبعده مباشرة تحولت دفة الحديث إلى السياسة. «إن فردولياك وسائر البيض الحقراء لا يعرفون متى يكفون عما يفعلونه»، هكذا قال الرجل الذي كانت بيده الجريدة وهو يهز رأسه تأففا مما يحدث. وأضاف: «عندما كان ريتشارد دالي في منصب العمدة لم يتحدث أحد عندما جعل أعضاء مجلس المدينة كلهم من هؤلاء الأيرلنديين. وبمجرد أن حاول هارولد تعيين بعض الرجال السود لتحقيق المساواة بين البيض والسود، أطلقوا على هذه المحاولة عنصرية مضادة.» «هكذا الحال دائما. كلما حصل رجل أسود على السلطة وجدتهم يحاولون تغيير القواعد.» «الأسوأ من ذلك أن الجرائد تشيع أن السود هم من تسببوا في كل هذه الفوضى.» «ماذا تتوقع من جرائد منحازة للرجل الأبيض؟» «نعم هذا صحيح. إن هارولد يعلم ماذا يفعل. ومع ذلك فهو ينتظر حتى تسنح الفرصة لفعل ما يريد عندما يحين موعد الانتخابات القادمة.»

هكذا يتحدث السود عن عمدة شيكاغو، بألفة وتعاطف وكأنهم يتحدثون عن أحد أقربائهم. وكانت صور هارولد في كل مكان؛ على جدران محلات إصلاح الأحذية، وصالونات التجميل، وكانت لا تزال ملصقة على أعمدة الإنارة بالشارع منذ حملة الانتخابات الأخيرة، وكانت لا تزال موجودة على نوافذ محلات التنظيف الجاف الكورية ومتاجر البقالة العربية، وكانت معروضة بطريقة واضحة وكأنها رمز مقدس يمنح الحماية. بدا الرجل في الصورة الملصقة على جدار صالون الحلاقة وكأنه ينظر إلي، وكان وسيما أشيب وله شارب كث وحاجبان كثيفان وعينان لامعتان. لاحظني سميتي وأنا أنظر إلى الصورة وسألني هل كنت في شيكاغو وقت الانتخابات. فأجبته بالنفي. فهز رأسه وأخذ يتحدث. «كان من الضروري أن تكون هنا قبل أن يمسك هارولد بزمام الأمور لتفهم ماذا يعني لهذه المدينة.» وتابع: «فقبله بدا الأمر وكأننا دائما مواطنون من الدرجة الثانية.»

قال الرجل صاحب الجريدة: «مستعمرة سياسية.»

رد سميتي وقال: «كان الحال هكذا دائما.» واستكمل قائلا: «مستعمرة سياسية. فيها يعمل السود في أحط الوظائف. ويقطنون أوضع المنازل. ويتعرضون لأسوأ معاملة على يد رجال الشرطة الهمجيين. لكن عندما يحين وقت انتخاب من يطلق عليهم أعضاء اللجان السود يكون علينا الاتحاد والتصويت لمصلحة الحزب الديمقراطي القويم. يتعين علينا حينئذ تقديم أرواحنا لشخص أحمق. ومكافأة لهم على البصق في وجوهنا نصوت لمصلحتهم في الانتخابات.»

أثناء سماعي حديث الرجال - وهم يتذكرون صعود هارولد للسلطة وإمساكه بزمام الأمور - سقط بعض خصل الشعر على حجري. لقد ذكروا أنه رشح نفسه في إحدى المرات سابقا بعد أن مات ريتشارد دالي بفترة قصيرة، لكن ترشيحه للمنصب تعثر آنذاك، وأخبروني كيف كان هذا مبعثا للخزي إذ حدث بسبب افتقار المجتمع الأسود لوحدة الصف وانتشار الشكوك التي كان لا بد من التغلب عليها. على أن هارولد كرر المحاولة مرة أخرى، وآنذاك كان الناس مستعدين. حيث وقفوا بجانبه عندما سلطت الصحافة الأضواء بشدة على مشكلته مع ضرائب الدخل التي لم يستطع دفعها (وكأن البيض لا يغشون في أي شيء طوال حياتهم). فاحتشدوا وراءه عندما أعلن أعضاء اللجنة الديمقراطيون - مثل فردولياك وغيره - دعمهم للمرشح الجمهوري بقولهم إن المدينة ستزداد فيها الأحوال سوءا إذا ما أمسك بزمام الأمور فيها عمدة أسود. تجمع هؤلاء الناس بأعداد هائلة ليلة الانتخاب؛ خدام كنائس ورجال عصابات؛ كبار السن منهم والشباب.

وبعد كل ذلك كوفئوا على هذا الإخلاص. وقال سميتي: «دعوني أخبركم ماذا حدث ليلة فوز هارولد؛ أخذ الناس يركضون في الشوارع. وكان يوما شبيها باليوم الذي فاز فيه الملاكم جو لويس على شميلينج. وكان هو الشعور نفسه بالانتصار. ولم يكن الناس فخورين بهارولد فقط. بل كانوا فخورين بأنفسهم أيضا. وفي هذا اليوم مكثت داخل المنزل لكنني لم أستطع النوم وكذلك زوجتي حتى الثالثة صباحا، لأننا كنا نشعر بالحماس والسعادة البالغة. وعندما استيقظت في صباح اليوم التالي شعرت بأن هذا اليوم هو أجمل يوم في حياتي.»

انخفض صوت سميتي بعد ذلك وبدا كأنه يهمس، وابتسم كل شخص في صالون الحلاقة. إنني من على بعد شاركتهم هذا الشعور بالفخر - وأنا أقرأ الجرائد في نيويورك - نعم، الشعور نفسه بالفخر الذي جعلني أشجع بحماس أي فريق كرة قدم محترف تعاقد مع ظهير رباعي أسود. لكن كان هناك شيء مختلف بخصوص ما كنت أسمعه في ذلك الحين؛ حيث بدا صوت سميتي وكأنه ينم عن حماسة متوهجة تجاوزت الأمور السياسية. قال لي سميتي: «كان من الضروري أن تكون هنا قبل أن يمسك هارولد بزمام الأمور لتفهم.» وكان يعني بقوله هنا «شيكاغو»، لكنه ربما قصد أيضا «في مكاني» باعتباره رجلا أسود يكبرني سنا، كان ما زال يعاني إهانات ظلت تلاحقه وتجرحه طوال حياته، ويتألم بسبب طموحات أحبطت، وطموحات أخرى تخلى عنها قبل أن يحاول تحقيقها. وحينها سألت نفسي هل استطعت فهم الأمر فعلا. وتوصلت دون نقاش إلى أنني بالفعل فهمته. وأعتقد أن هؤلاء الرجال قد افترضوا نفس الافتراض بعد رؤيتي. ولكن ترى هل كان سيراودهم الشعور نفسه إذا عرفوا المزيد من التفاصيل عني؟ طرحت على نفسي هذا السؤال. وحاولت أن أتخيل ماذا كان سيحدث إذا ما دخل جدي صالون الحلاقة في هذه اللحظة بالذات، وكيف كان سيتوقف الحديث، وكيف كان السحر سيتوقف، وكيف كانت ستنتهي الافتراضات التي تجري على قدم وساق.

أعطاني سميتي المرآة للتطلع إلى صنيع يديه، ثم خلع عني ثوب الحلاقة، ونظف بالفرشاة الجزء الخلفي من قميصي. وقلت له وأنا أقف: «أشكرك على درس التاريخ هذا.» «حسنا، هذا الدرس مجاني. وسأتقاضى عن الحلاقة 10 دولارات. ما اسمك على أية حال؟» «باراك.» «باراك، إمممم. مسلم؟» «كان جدي مسلما.»

Unknown page