وتجد الواحد منهم يقول: «آه يا باري ... لماذا لم تتصل بي؟ تعال معي سأصحبك لتقابل بعض أصدقائي.»
أما الأمسيات فقد استسلمت أنا وأوما لعدد لا ينتهي من الدعوات التي كانت توجه إلينا من أعمامنا وأبناء إخوتنا وأولاد أعمامنا أو أولاد عماتنا، وجميعهم يطلبون منا، مخاطرين بأن نجرح مشاعرهم، أن نجلس ونتناول الطعام، مهما يكن توقيت الزيارة أو عدد الوجبات التي تناولناها بالفعل.
وتجدهم يقولون: «آه يا باري ... ربما لا يكون لدينا الكثير هنا في كينيا، لكن ما دمت هنا فسيكون لديك دائما شيء لتأكله!»
في البداية كان رد فعلي على كل هذه الرعاية مثل رد فعل طفل تجاه حضن أمه؛ مليء بعرفان تام وبسيط للجميل. وكان ذلك يتفق مع فكرتي عن أفريقيا والأفريقيين، وهو تناقض واضح للعزلة المتزايدة في الحياة الأمريكية، وهو تناقض تفهمته في إطار ثقافي وليس عنصريا. مقياس لما ضحينا به من أجل التكنولوجيا وسهولة الحركة، لكن ذلك المقياس هنا ، كما كان الحال في قرى السكان الأصليين خارج جاكرتا أو قرى أيرلندا أو اليونان، ظل في جوهره كما هو: السعادة الشديدة برفقة الأشخاص الآخرين ومتعة دفء العلاقات الإنسانية.
ومع ذلك بمرور الأيام أصبح القلق والشك يشوبان سعادتي. ويرجع هذا إلى حد ما إلى ما تحدثت عنه أوما تلك الليلة في السيارة؛ إدراك مفاجئ وحاد لثروتي الجيدة نسبيا، والأسئلة المزعجة التي تشير إليها تلك الثروة. ولم تكن المشكلة بالضبط أن أقرباءنا يعانون. فكل من جين وزيتوني لديهما عمل ثابت، وكيزيا تعيش من الدخل الذي يدره عليها بيع الأقمشة في الأسواق. وإذا كان هناك عجز في النقود فيمكن إرسال الأطفال إلى الجزء الداخلي من البلاد لبعض الوقت حيث كان يقيم هناك، كما قيل لي، أخ آخر اسمه آبو، مع عم في كندو باي حيث يوجد دائما عمل يومي للقيام به وطعام على مائدتهم وسقف يظلهم.
ومع ذلك فقد كان الحال في نيروبي سيئا ويزداد سوءا. فكانت الملابس التي يرتدونها غالبا مستعملة، والذهاب للطبيب لا يكون إلا في حالات الطوارئ القصوى. وكان معظم أفراد العائلة من الشباب لا يعملون، ومن بينهم الاثنان أو الثلاثة الذين تمكنوا من أن يتخرجوا في واحدة من جامعات كينيا رغم ظروف المنافسة الصعبة. وإذا ما أصاب المرض جين أو زيتوني، أو إذا ما أغلقت الشركتان اللتان تعملان بهما أبوابهما أو استغنتا عنهما، فإن الحكومة لن تقدم لهما أي معونة مالية، ولن يبقى سوى العائلة فقط، الأقارب، وهم أشخاص مثقلون بصعاب مماثلة.
ذكرت نفسي في ذلك الوقت بأنني أصبحت جزءا من العائلة، والآن لدي مسئوليات. ولكن ماذا يعني هذا بالضبط؟ في الولايات المتحدة استطعت أن أترجم هذه المشاعر إلى العمل في السياسة وتنظيم المجتمع وإلى نوع محدد من إنكار الذات. أما في كينيا فهذه الاستراتيجيات تبدو أفكارا مجردة بلا أمل، بل حتى منغمسة في ذاتها. فالالتزام بالعمل على منح السود مكانة وسلطة في المجتمع لن يساعد في إيجاد عمل لبرنارد. والإيمان بالديمقراطية القائمة على المشاركة لا يمكن أن يشتري لجين طقم ملاءات جديدا. ولأول مرة في حياتي أجد نفسي أفكر بشدة في النقود؛ افتقاري إليها والسعي للحصول عليها، والسلام البسيط الذي لا يمكن إنكاره والذي بوسعها أن تشتريه. وتمنى جزء مني لو أنني أستطيع أن أكون أهلا للصورة التي تخيلها أقربائي الجدد لي: محام في شركة أو رجل أعمال أمريكي أضع يدي على الصمام ومستعد لأن أمطر عليهم من ثروات الغرب.
ولكني بالطبع لم أكن أيا من الاثنين، وحتى في الولايات المتحدة تتضمن الثروة موازنة بين أشياء لا تجتمع معا لمن لم يولد في حضن هذه الثروة، وهو النوع نفسه من الموازنة التي أرى أن أوما تقوم بها الآن، وهي تحاول، بطريقتها الخاصة، أن تحقق توقعات العائلة. فكانت في ذلك الصيف تعمل بوظيفتين؛ تدرس في دورات لتعليم اللغة الألمانية لرجال الأعمال الكينيين إلى جانب وظيفتها في الجامعة. ولم تكن تريد أن تستخدم المال الذي ادخرته في إصلاح منزل الجدة في أليجو فحسب، بل أرادت أيضا أن تشتري قطعة أرض حول نيروبي، شيئا تزداد قيمته بمرور الزمن، وقاعدة تبدأ منها عملية البناء. كان لديها خطط وجداول وميزانيات ومواعيد لإنجاز العمل، وهي جميع الأشياء التي تعلمت أنها مطلوبة للتعامل مع العالم الحديث. المشكلة أن هذه الجداول كانت تعني أيضا الابتعاد عن شئون العائلة، وميزانيتها تعني الاعتذار عن الطلبات الدائمة للنقود التي كانت توجه إليها. وعندما يحدث هذا - عندما أصرت على الذهاب إلى منزلها قبل أن تقدم جين العشاء لأن الاجتماع العائلي بدأ متأخرا ساعتين عن موعده، أو عندما رفضت أن تترك ثمانية أشخاص يتكدسون في سيارتها لأنها مصممة لاستيعاب أربعة أشخاص فقط، وأن هذا سيمزق المقاعد - تجد نظرات الجراح الصامتة، التي لا تختلف كثيرا عن نظرات الاستياء، تبرق في جميع أنحاء الغرفة. لقد كان قلقها واستقلالها واستعدادها الدائم لأن تفكر في المستقبل، جميع هذه الأشياء صدمت العائلة على أنها غير طبيعية بطريقة ما . غير طبيعية ... وغير أفريقية.
إنها المعضلة نفسها التي طرحها أمامي فرانك العجوز تلك السنة التي تركت فيها هاواي ، التوتر نفسه الذي قد يشعر به بعض الأطفال في ألتجيلد إذا كانوا يستمتعون بشدة بأداء واجباتهم المدرسية، الشعور الغريب بذنب النجاح نفسه الذي أتوقع الشعور به إذا ما حاولت كسب النقود والمرور بحشود الشباب السود في زوايا الشوارع وأنا أسلك طريقي إلى مكتب في وسط المدينة. فبدون قوة للجماعة، بل جماعة أكبر حتى من العائلة الكبيرة، فإن نجاحنا يهدد دائما أن يترك آخرين خلفنا. وربما تكون هذه الحقيقة هي التي تركتني غير مستقر - حقيقة أنه حتى هنا في أفريقيا الأنماط نفسها التي تدفع المرء إلى الجنون هي التي تفرض سلطانها، وأنه لا أحد هنا يستطيع أن يخبرني ما الذي تتطلبه صلة القرابة، أو كيف يمكن التوفيق بين هذه المطالب وفكرة اتحاد البشر الأكبر. كان الأمر كما لو أننا، أنا وأوما وروي وبرنارد، نختلقها ونحن نتقدم في طريقنا. كما لو أن الخريطة التي قد تكون قاست في يوم من الأيام اتجاه وقوة حبنا، والشفرة التي من الممكن أن تفتح الحظ الوافر لنا، فقدت قبل وقت طويل، دفنت مع أجدادنا تحت الأرض الصامتة. •••
قرب نهاية أسبوعي الأول في نيروبي اصطحبتني زيتوني لزيارة عمتي الأخرى سارة. وظلت أوما غير راغبة في الذهاب، ولكن نظرا لأنه اتضح أن الميكانيكي الذي يصلح سيارتها يعيش بالقرب من سارة، فقد عرضت علينا أن تقلنا إلى الورشة، وقالت إنه من هناك يمكننا الذهاب سيرا. وفي صباح يوم السبت ذهبنا أنا وأوما لاصطحاب زيتوني واتجهنا شرقا مرورا بمبان أسمنتية وقطع أراض جافة بها قاذورات، حتى وصلنا في النهاية إلى حافة واد واسع معروف باسم «ماثار». أوقفت أوما السيارة ونظرت أنا من النافذة لأرى بالأسفل الجزء الفقير من المدينة، والأميال الممتدة من الأسطح المتموجة التي تومض تحت أشعة الشمس مثل أوراق طافية من نبات زنبق الماء الأبيض وهي تنبعج وتغطس في تسلسل مستمر عبر أرض الوادي.
Unknown page