قالت له أوما وصوتها يرتجف: «يجب أن تشعر بالخزي من نفسك.» وتابعت: «يجب أن تشعر بالخزي.»
أجاب عليها النادل بلهجة فظة باللغة السواحيلية.
فقالت له: «لا أبالي بعدد الأفواه التي يتحتم عليك إطعامها، ولكن لا يمكنك أن تعامل شعبك مثل الكلاب. انظر ...» وفتحت حقيبتها وأخرجت منها ورقة نقدية متجعدة فئة 100 شلن وصاحت: «أترى!» وتابعت: «يمكنني أن أدفع ثمن الطعام اللعين.»
وألقت الورقة على الأرض، ثم اتجهت نحو الشارع. ولعدة دقائق أخذنا نتجول دون وجهة محددة، حتى اقترحت أنا في النهاية أن نجلس على مقعد بجوار مكتب البريد المركزي.
ثم سألتها: «هل أنت بخير؟»
فأومأت برأسها. وقالت: «كان ذلك غباء مني، أقصد إلقاء النقود على الأرض بهذا الشكل.» وضعت حقيبتها إلى جوارها وأخذنا نراقب حركة المرور. ثم قالت: «أتدري، لا يمكنني الذهاب إلى النادي في أي من هذه الفنادق إذا كنت بصحبة سيدة أفريقية.» وتابعت: «سيطردنا رجال الشرطة للخارج ظانين أننا عاهرات. والأمر نفسه ينطبق على هذه المباني الإدارية الضخمة؛ إذا لم تكن تعمل هناك، وأنت أفريقي، فسيوقفونك حتى تخبرهم ماذا تريد. ولكن إذا كنت بصحبة صديق ألماني فستجد الابتسامات على وجوههم. وهم يسألونك: «مساء الخير يا آنسة، كيف حالك اليوم؟» وهزت أوما رأسها. وقالت: «لهذا كينيا هي أضحوكة باقي أفريقيا، مهما كان إجمالي الناتج القومي لها، وبصرف النظر عن الأشياء التي يمكنك شراؤها هنا. إنها عاهرة أفريقيا يا باراك. تفتح ساقيها لكل من يدفع.»
أخبرت أوما أنها قاسية للغاية على الكينيين وأن الأمر نفسه يحدث في جاكرتا أو مكسيكو سيتي، إنها مسألة اقتصادية فحسب. ولكن عندما بدأنا نسلك طريقنا عائدين إلى المنزل كنت أعلم أن كلماتي لم تفلح على الإطلاق في التخفيف من حدة ما تشعر به من مرارة. فظننت أنها على حق؛ فليس جميع السياح في نيروبي جاءوا لمشاهدة الحياة البرية. بعضهم أتى لأن كينيا تعرض عليهم دون خجل العودة للعصر الذي كانت فيه حياة البيض على الأراضي الأجنبية تقف شامخة على أعناق الأجناس السوداء؛ عصر من البراءة قبل أن ينشر رجال مثل كيماثي، والرجال الآخرون الغاضبون في سويتو أو ديترويت أو دلتا الميكونج، الجريمة والثورة في الشوارع. وفي كينيا كان لا يزال بإمكان الرجل الأبيض أن يسير في منزل إيزاك دينسين، ويتخيل قصة حب مع بارونة شابة غامضة، أو يحتسي الخمر أسفل مراوح السقف في فندق لورد ديلامير، ويعجب بصورة هيمنجواي وهو يبتسم بعد رحلة صيد ناجحة، محاطا بالوجوه المتجهمة للعمال الآسيويين البلهاء. يمكن أن يخدمه رجل أسود دون خوف أو شعور بالذنب، ويتعجب من سعر الصرف، ويترك بقشيشا كبيرا؛ وإذا شعر بعسر هضم عند رؤيته لمتسولين مصابين بالجذام خارج الفندق فيمكنه دائما أن يأمر بإحضار دواء منشط. ومع ذلك فقد جاء عهد السود. هذا بلدهم، ونحن مجرد زوار.
هل كان النادل يعلم أن عصر السود قد أتى؟ هل يعني ذلك أي شيء له؟ وفكرت في نفسي ربما سيعرف ذلك يوما ما. هذا عندما تتقدم سنه فتسمح له أن يعرف الاستقلال وصيحات الحرية باللغة السواحيلية ورفع الأعلام الجديدة. لكن مثل هذه الذكريات قد تبدو له الآن خيالية وبعيدة وساذجة. لقد تعلم النادل أن من كانوا يحكمون الدولة قبل الاستقلال لا يزالون يحكمونها، وهو لا يزال لا يمكنه أن يأكل في المطاعم أو يقيم في الفنادق التي بناها الرجل الأبيض. ويرى أموال المدينة تدور فوق رأسه والتكنولوجيا التي تلفظ بضائع من فمها الآلي. وإذا كان طموحا فسيبذل قصارى جهده ليتعلم لغة الرجل الأبيض، ويستخدم ماكينات الرجل الأبيض محاولا أن يجعل الغايات تتلاقى بالطريقة نفسها التي يفعل بها من يصلح أجهزة الكمبيوتر في نيوآرك أو سائق الحافلة في شيكاغو، بموجات متعاقبة من الحماس أو الإحباط، لكن غالبا باستكانة. وإذا أخبرته أنه يخدم بهذا مصلحة الاستعمار الحديث أو شيئا من هذا القبيل، فسيكون رده أنه يوافق على فعل ذلك إذا كان هذا هو المطلوب. فالمحظوظون هم من يخدمون، أما غير المحظوظين فينجرفون في تيار المهن غير الشريفة أو الغريبة المعتمة، والكثير منهم سيغرقون.
وقد لا يكون هذا هو كل ما يشعر به النادل. ربما لا يزال جزء منه يتمسك بقصص ماو، الجزء نفسه الذي يتذكر صمت الليل في القرية أو صوت أمه وهي تطحن الذرة أسفل مطحنة حجرية. ولا يزال شيء بداخله يخبره أن طرق الرجل الأبيض ليست طرقه، وأن الأشياء التي قد يستخدمها كل يوم ليست من صنعه. ويتذكر وقتا وطريقة لتخيل نفسه، يتركهما فقط كي يعاني. فلا يمكنه الهروب من قبضة ذكرياته، ومن ثم فإنه يباعد بين عالمين لا يشعر بالثقة في أي منهما، ودائما يكون غير متوازن، ويلعب أية لعبة تدرأ عنه الفقر المدقع الذي لا ينتهي، وهو حريص على أن يترك غضبه ينصب على الذين في مثل حالته فقط.
وهناك صوت يقول له نعم لقد حل التغيير، وتدمرت الطرق القديمة، ويجب أن تجد طريقة بأسرع ما يمكنك كي تكسب قوت يومك وتمنع الرجل الأبيض من الضحك عليك.
Unknown page