كان المطعم المفترض أن نتناول العشاء فيه مكسيكيا، وكان بجانب مرفأ صغير. اخترنا طاولة عشاء تطل على المياه مباشرة، وطلبت جعة وطلب روي كأسا من كوكتيل المارجريتا، وتحدثنا بعض الوقت عن عملي وعمله محاسبا في إحدى الشركات الكبرى للتمويل العقاري. أكل روي باستمتاع شديد واحتسى كأسا أخرى من المارجريتا، إلى جانب أنه ضحك ومزح عند حديثه على مغامراته في أمريكا. لكن ما إن نفد الطعام حتى بدأت آثار المجهود الذي بذله تظهر عليه، وفي النهاية سألته لماذا لم تصحبنا زوجته على العشاء، فتلاشت ابتسامته وقال: «أعتقد أننا على وشك الطلاق.» «أنا آسف لسماعي هذا الخبر.» «قالت لي إنها سئمت من بقائي خارج المنزل لساعة متأخرة من الليل، وإنني أفرط في شرب الخمر، بالإضافة إلى أنها أخبرتني أنني أصبح تدريجيا نسخة من أبي.» «وما رأيك في ذلك؟» «ما رأيي؟» أدنى رأسه، ثم نظر إلي بشجن فرأيت في عدستي نظارته لهب الشموع يتراقص كمشاعل الاحتفالات الصغيرة. قال لي وهو يتكئ بجسده للأمام: «الحقيقة هي أنني أعتقد أنني أكره نفسي، وأنني ألوم أبي في ذلك.»
على مدار الساعة التالية قص علي روي جميع الصعاب التي تحدثت عنها أوما من قبل؛ عن انتزاعه من أمه وكل شيء اعتاده، وعن فقر أبينا المفاجئ، وعن المشاجرات والمشكلات، وعن رحلته الأخيرة. أخبرني عن حياته بعد أن ترك منزل أبينا متنقلا بين منازل أقاربه واحدا تلو آخر وكيف جرى قبول التحاقه بجامعة نيروبي ثم حصوله فيما بعد على وظيفة في مكتب محاسبة محلي بعد التخرج، وكيف علم نفسه الانضباط في العمل؛ فكان يصل إلى عمله مبكرا ويكمل المهام المنوط به أداؤها بصرف النظر عن سهره طويلا خارج المنزل في الليلة السابقة. شعرت وأنا أستمع إليه بالإعجاب نفسه الذي شعرت به عند سماعي أوما وهي تتحدث عن حياتها وعن قدرتهما على الاحتمال التي أظهراها في الأوقات العصيبة، وعن العند نفسه الذي أخرجهما من ظروفهما الصعبة. على أنني شعرت أن أوما - وليس روي - مستعدة لأن تترك الماضي وراء ظهرها، وأن لديها إلى حد ما المقدرة على أن تسامح، إن لم يكن من الضروري أن تنسى. أما روي فقد بدت ذكرياته عن أبينا أكثر تعلقا بحاضره وأشد سخرية، وظل الماضي عنده جرحا لم يندمل.
أثناء رفع الأطباق من على المائدة في المطعم قال لي روي: «لم يكن - أبي - يعجبه شيء، وكان ذكيا ولم يكن ليسمح لك بالإهمال إطلاقا. وإن عدت يوما إلى المنزل تحمل شهادة تفيد حصولك على ثاني أفضل درجات في الفصل يسألك لماذا لم تحرز الدرجات النهائية، وكان يقول «إنك من عائلة أوباما، وعليك أن تكون الأفضل دائما.» وكان يصدق ذلك بالفعل. بعد ذلك كنت أراه مخمورا ولا يملك مالا ويعيش حياة المتسولين. فكنت أسأل نفسي: كيف يمكن لأحد بمثل هذا الذكاء الحاد أن تنهار حياته بهذا الشكل المأساوي؟ لم يبد هذا منطقيا لي على الإطلاق.
وبعد أن أصبحت أعيش معتمدا على نفسي، حتى بعد مماته، كنت أحاول حل هذا اللغز كما لو كنت لا أستطيع الهروب منه. إنني أتذكر أنه كان علينا نقل جثته إلى أليجو لإقامة الجنازة، ولأنني كنت الابن الأكبر سنا كنت مسئولا عن ترتيبات الجنازة، وقد أرادت الحكومة أن يكون الدفن طبقا للشريعة المسيحية، لكن العائلة أرادت أن يتم طبقا للشريعة الإسلامية. حضر الناس إلى ميدان هوم من كل مكان، وكان علينا أن ننتحب عليه طبقا لتقاليد قبيلة لوو، وأن نحرق الخشب ثلاثة أيام، ونستمع إلى بكاء الناس وعويلهم. لم أكن أعرف نصف هؤلاء الناس النائحين الذين كانوا يريدون تناول الطعام واحتساء الجعة. وتهامس البعض بأن أبانا تسمم وأنني لا بد من أن آخذ بثأره، وسرق بعضهم أشياء من المنزل. بعد ذلك بدأ أقاربنا يتشاجرون على إرث أبي، من ضمنهم آخر صديقة له أم أخينا الرضيع جورج التي كانت تريد الحصول على كل شيء ووقف في جانبها البعض ومنهم العمة سارة، وانحاز البعض الآخر إلى أمي. كان الأمر برمته ضربا من ضروب الجنون، وبدا الخلل في كل شيء.
بعد انتهاء الجنازة لم تكن لدي رغبة في مصاحبة أحد ؛ فالإنسان الوحيد الذي كنت أثق به كان ديفيد أخانا الصغير. اسمح لي أن أقول لك إن هذا الرجل كان حسنا، وكان يشبهك قليلا لكنه كان يصغرك سنا ... إذ كان في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره. حاولت أمه روث أن تربيه طبقا لأسلوب الحياة الأمريكية، لكن ديفيد تمرد عليها؛ فقد أحب الجميع وترك منزله كي يأتي ويعيش معي. وعندما طلبت منه العودة إلى المنزل مرة أخرى رفض وقال لي إنه لا يريد أن يصبح أمريكيا؛ كان ديفيد أفريقيا من عائلة أوباما بحق.
عندما مات ديفيد كانت الضربة القاضية لي. وكنت متأكدا من أن العائلة بأكملها شقيت لسماع هذا الخبر. فبدأت أشرب الخمر وأتشاجر ولم أعد أهتم بأي شيء. قلت لنفسي إن كان أبي وديفيد قد ماتا فإنني حتما سأموت. في بعض الأحيان كنت أتساءل عما كان يمكن أن يحدث إن بقيت في كينيا. في هذه الأثناء فكرت في نانسي، الفتاة الأمريكية التي كنت على علاقة بها والتي كانت عندئذ قد عادت إلى أمريكا؛ لذا اتصلت بها ذات يوم وقلت لها إنني أريد أن أذهب إليها. وعندما وافقت اشتريت تذكرة وركبت أول طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة. لم آخذ أمتعتي أو أخبر المكتب الذي كنت أعمل به أو أودع أحدا أو أي شيء.
فكرت في هذا الوقت أن باستطاعتي أن أبدأ من جديد. لكنني الآن موقن من أنني لا أستطيع إطلاقا أن أبدأ من جديد. ليس في واقع الأمر. يعتقد المرء أن لديه القدرة على التحكم في حياته، لكنه في الواقع مثل السمكة في شبكة شخص آخر. في بعض الأحيان أفكر أن هذا هو سبب تعلقي بوظيفة المحاسبة. ذلك لأنني طوال اليوم أتعامل مع الأرقام. أضيفها وأضربها، وإن كنت دقيقا في حساباتي فسيكون لدي حل دائم لأية مشكلة. فالعملية برمتها قائمة على التسلسل والترتيب. لذا مع الأرقام يستطيع المرء التحكم ...»
احتسى روي رشفة أخرى من مشروبه وأبطأ من وتيرة حديثه على حين غرة كأنه سقط بعيدا في أعماق مكان آخر أو كأن روح أبينا قد تملكته. وقال: «إنني أكبر إخوتي، كما ترى. وطبقا لتقاليد قبيلة لوو فإنني الآن رب المنزل. أنا مسئول عنك وعن أوما وعن كل الإخوة الأصغر سنا. ومسئوليتي هي تقويم الأمور جميعها. ودفع مصاريف المدرسة لإخوتي. والتأكد من ارتباط أوما بزوج صالح. وبناء منزل ملائم ولم شمل العائلة من جديد.»
مددت يدي على الطاولة ولمست يده. وقلت له: «ليس عليك أن تفعل ذلك بمفردك يا أخي.» وتابعت: «يمكننا أن نشترك معا في هذه المسئولية.»
لكن بدا لي أنه لم يسمعني. وحملق فقط في النافذة، وبعد ذلك لوح للنادل فجأة كما لو كان قد استيقظ من حالة لاوعي. «أتريد شرابا آخر؟» «لماذا لا نطلب الحساب الآن؟»
Unknown page