Ahkam
كتاب الأحكام في الحلال والحرام
Investigator
تجميع : أبو الحسن علي بن أحمد بن أبي حريصة
Edition Number
الأولى
Publication Year
1410 - 1990 م
كتاب الأحكام في الحلال والحرام ج 1
Page 26
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على محمد وآله (وعليه نتوكل وهو حسبنا ونعم الوكيل) قال أبو الحسن علي ابن الحسن بن أحمد بن أبي حريصه: بعد حمد الله بمحامده كلها، والثناء عليه بمدائحه وفضلها، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وآله الأتقياء:
هذا كتاب الأحكام الذي صنفه وألفه الإمام الهادي إلى الحق يحيى ابن الحسين عليه وعلى آبائه السلام حسب ما قال، إذ قال: فرأينا ان نضع كتابا مستقصى، فيه أصول ما يحتاج إليه من الحلال والحرام، مما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله ليعمل به ويتكل عليه من ذكرنا، قال أبو الحسن: وإني وجدت في هذا الكتاب أبوابا متفرقة، وعن مواضعها نادرة في خلال الأبواب غير المشاكلة لها غير مرتبة، ولقد سألني غير واحد ما باله لم ينظمه نسقا واحدا، ويتبع كل فن منه فنا؟ فأجبته بأن امره رضي الله عنه كان أشهر وأدل من أن يغبى عذره في ذلك، إذ كان حلس فرسه، وضجيع سيفه ليلا ونهار الاحياء دين الله، وإنفاذ أمره جاهدا مجتهدا، لا يكاد تأويه دار ولا يلزمه قرار، وكلما وجد فيقه أو اغتنم في أيامه فرصة أثبت الفصل من كتابه، ورسم الباب من أبوابه، إذ كان رحمة الله عليه إنما ألفه خشيك الذي ذكر في الفصل الذي يقول فيه:
فنظرنا في أمورنا وأمور من نخلفه من بعدنا فإنه رضي الله عنه إنما جعله جزءا من دينه وبعض مفترضاته، ليهدي به حائرا أو يرد به عن البينات جائرا، سالكا في ذلك سبيل من أخذ الله عليه ميثاقه، لتبيننه للناس ولا
Page 27
تكتمونه، فكان لا يكاد يتم ذلك الفصل حتى ينجم منتهك لحرمات الله سبحانه، أو جاحد لكتابه، يروم إطفاء نوره ودرس آياته، فيخلي ما هو فيه من ذلك صارفا وجهه بل باذلا مهجته دون دين الله تعالى أن يبتك، وعن حرماته أن تنتهك، ومع ذلك لا ينفك من سائل متفهم، أو باحث مسترشد، أو سائل متعنت.
ولقد حدثني من رحمه الله أنه شاهده في يوم من أيام حروبه بنجران وأن سائلا يسأله من لدن أن أمر بإسراج فرسه، إلى أن استوي في متنه، إلي أن زحف إلي عدوه، وهو يجيبه، فلما تراءى الجمعان وألح عليه ذلك الانسان، أنشد هذه الأبيات من شعر الغروي:
ويل الشجي من الخلي فإنه نصب الفؤاد بشجوه مغموم وتري الخلي قرير عين لاهيا وعلى الشجي كآبة وهموم ويقول مالك لا تقول مقالتي ولسان ذا طلق وذا مكظوم فيجيبه عن المسألة بباب، ويفهمه ذلك بأوسع جواب، ليبالغ في هدايته، ويوسع في تعريفه، ثم يرسم عنه ذلك الجواب في غير موضعه، ويقرن بغير فنه، ناسقا ذلك على ما معه من الأصول المتقدمة في أول كتابه، فخشيت إذ ذاك أن يفزع إليه ذو النازلة، أو يرومه باغي الفائدة، فتغبى عنه فايدته إذا هو طلبها في كتابه، أو تأملها في فنها المعبر عنها، فيظن أن مؤلفها رضي الله عنه أغفلها تاركا، وأطرحها من تصنيفه جانبا، فألحقت كل فن ببابه، وأتبعت كل فرع بأصله، مع أني ما زدت في ذلك حرفا، ولا نقصت من معناه شيئا، وأني ذلك! وإنما به وبآبائه عليهم السلام اهتدينا، وبهم طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله اقتدينا، ومن بحور نتائجهم وبرائكهم ارتوينا، نسأل الله فوزا بمرافقة نبيه المصطفى وآله الأتقياء، فإنه حسبنا ونعم الوكيل.
Page 28
مبتدأ كتاب الأحكام
Page 29
بسم الله الرحمن الرحيم حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد (1) الضهري *، قال: حدثنا محمد بن الفتح بن يوسف قال: قرأت هذا الكتاب على محمد بن الهادي إلي الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه وسألته أروي عنك ما قرأت عليك؟ قال: نعم. قال محمد بن يحيى: قال يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه وعلي آبائه السلام:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا تراه العيون، ولا تحيط به الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا يجزي أنعمه العاملون (2)، المحمود على السراء والضراء والشدة والرخاء، الذي ليس له حد ينال، ولا شبه تضرب له به الأمثال، وهو ذو القوة والقدرة والمحال، الذي دنا فنأى، وأحاطبا لأشياء علما وخبرا، وفطرها كيف شاء فطرا، فلم يمتنع من مفطوراتها عليه سبحانه
Page 31
مفطور، ولم يستتر عنه من محجوبات سرائرها مستور، بل علمه بما سيكون من كل مكون كعلمه بما كان وظهر وتبين، لا يخفى عليه شئ مما تنطوي عليه الجوانح والقلوب، ولا يحتجب عنه شئ من خفيات الغيوب، الذي نبتت بأمره الأشجار، واستقلت بقدرته الأقطار، وزخرت بقوته البحار، وهطلت بمشيته الأمطار.
وأشهد أن لا إله إلا الله حقا حقا، أقولها تعبدا لله سبحانه ورقا، مقالة مخلص من العباد قايل صدقا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله برسالاته فبلغ ما أمر بتبليغه، وجهد لربه ونصح لامته، وعبد إلهه حتى أتاه اليقين، جاهدا مجتهدا ناصحا صابرا محتسبا متعبدا، حتى أقام دعوة الحق، وأظهر كلمة الصدق، ووحد الله جهارا، وعبده ليلا ونهارا، ثم قبضه الله إليه وقد رضي عمله، وتقبل سعيه، وشكر أمره، فعليه أفضل صلاة المصلين، وعلى أهل بيته الطيبين.
ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله:
أما بعد فإنا نظرنا في أمورنا وأمور من نخلفه من بعدنا، من أولادنا واخواننا، وأهل مقالتنا، ممن يميل إلى آل الرسول صلى الله عليه وعليهم ويتعلق بحبلهم، ويتمسك بدينهم، وينتحل ولايتهم، ويقول بما أوجب الله عز وجل عليه من تفضيلهم، فلما أن نظرنا في ذلك علمنا أنا ميتون، والى الله صائرون، ومن دار الغرور خارجون، وإلى دار المجازات آيبون، وإلى المناقشة والحساب راجعون، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون،
Page 32
وعلمنا ما قد زخرفه بعض الجهلة المخالفين لآل الرسول عليهم السلام، المدعين للعلم والتمام، وقالوا فيه بأهوائهم، وتركوا الاقتداء بعلمائهم الذين أمرهم الله بالاقتداء بهم، من أهل بيت نبيهم، الذين أمروا بقصدهم وسؤالهم، وذلك قول الله سبحانه: ﴿فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ (٣) وأهل الذكر فهم آل محمد، الذين أنزل الله عليهم الكتاب، وهدوا به إلى القول بالصواب، فرفضوا آل الرسول ظلما وطغيانا، وأبدوا لله في ذلك خلافا وعصيانا، وقالوا في كل نازلة نزلت من حلال أو حرام بأهوائهم، اجتراء على ذي الجلال والاكرام وتعمدا في ذلك لخلاف آل محمد عليهم السلام، وجنبوا في كثير من أقاويلهم عن الكتاب والسنة والمعقول، فتبارك الله ذو الجلال والطول ثم لم يقتصروا على ذلك، حتى كفروا من لم يكن كذلك، فكلهم يدعوا الجهال إليه، ويزعم لهم أن الصواب في يديه، وهو مجنب عن الحق حاير عن طريق الصدق يعند عن الحق والهدى، ويتبع الغي والهوى، قد صدوا عن الله عباده وأظهر وجهارا عناده، وأزاحوا الحق عن مغرسه الذي اختاره الله له، فجعله سبحانه وركبه لعلمه به فيه، وبنى دعائم الدين عليه، وذلك قوله عز وجل: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة﴾ (٤) ويقول: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) (٥) ويقول: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا﴾ (6) فرأينا أن نضع كتابا مستقصى،، فيه أصول ما يحتاج إليه من الحلال والحرام، مما جاء به السول عليه السلام، ليعمل به ويتكل
Page 33
عليه من ذكرنا، ولا يلتفت إلى ما في أيدي الجهلة الضلال، أهل التكمه في المحال مذوي البغي والايغال.
فكان أول ما ينبغي لنا أن نذكره، ونصفه وندل عليه ونشرحه، توحيد ربنا، والقول بالحق في خالقنا، فقلنا: إن أول ما ينبغي لمن أراد التخلص من الهلكة والدخول في باب النجاة، أن يعلم أن الله واحد أحد، ليس له ند ولا شبيه ولا نظير، وأنه سبحانه على خلاف ما يتوهم المتوهمون، أو يظن المتظننون (7)، فينفي عنه جل جلاله عن أن يحويه قول، أو يناله شبه خلقه، وكل ما كان فيهم ولهم من الأدوات والآلات من الأيدي والأرجل والوجوه والشفاه، والألسن والأسماع والابعاض والأعين، حتى يخرج من قلبه، ويصح في عقله وعقده، أنه بخلاف ما ذكرنا من خلقه، ويعلم أن لكل ما ذكر الله من ذلك في نفسه معنى وتأويلا معروفا عند أهل التنزيل الذين أو تمنوا عليه، وأمروا بالقيام فيه والدعاء إليه، وقد فسرنا جميع ما يحتاج إليه من ذلك في كتاب التوحيد، الذي وضعناه لمن أراد معرفة الله من العبيد، فإذا علم ذلك، وصح عنده كذلك، ونفى عن الله تعالى شبه خلقه، ما عظم منه وما صغر وما دق منه وما كبر، وجب عليه أن يعلم أن الله سبحانه وعز وجل عن كل شأن شأنه عدل في جميع أفعاله، وأنه برئ من مقالة الجاهلين، متقدس عن ظلم المظلومين، بعيد عن القضاء بالفساد للمفسدين، متعال عن الرضى بمعاصي العاصين، برئ من أفعال العباد، غير مدخل لعباده في الفساد، ولا مخرج لهم من الخير والرشاد، وكيف يجوز ذلك على حكيم، أو يكون من صفة رحيم، فتعالى الله عن ذلك وتقدس عن أن
Page 34
يكون كذلك، وكيف يقضي بالمعاصي، وهو ينهى عنها، ويذم العاصين ويأمر بالطاعة ويشكر المطيعين، ولو كان كذلك لما سمى ولا دعا أحدا ممن خلق بالعصيان، بل كانوا كلهم عنده في حد الطاعة والايمان، إذ قوله الصدق وفعله الحق، لأنه كان لو قضى بالفجور والكفر على الكافرين، وبالتقى والايمان على المؤمنين، لكان كل عباده لامره سبحانه مطيعين، ولقضائه منفذين، وفي إرادته ساعين، ولما كان يوجد في الخلق ذو عصيان، بل كان كلهم ذا طاعة لله وايمان، فإذا علم أن الله سبحانه لا يقضي بالفواحش والمنكر، ولا يشاء غير ما به من الطاعة أمر، وفي ذلك ما يقول ذو الجلال والطول:
﴿أن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾ (٨) ويقول ﴿ان الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (٩) وجب عليه أن يعلم أن كل ما وعد وأوعد الواحد ذو الجلال الصمد حق لا مرية فيه، ولا لبس من الحساب والحشر، وما أعد الله للمؤمنين من الثواب، وأعد للكافرين من العقاب، وأن من دخل الجنة أو النار، من الأبرار والفجار، فإنه غير خارج من أيهما صار إليها، وحل بفعله فيها، أبد الأبد، لا ما يقول الجاهلون: من خروج المعذبين من العذاب المهين، إلى دار المتقين، ومحل المؤمنين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: ﴿خالدين فيها أبدا﴾ (١٠) ويقول عز وجل: ﴿يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم﴾ (11) ففي كل ذلك يخبر أن كل من
Page 35
دخل النار فهو مقيم فيها غير خارج منها، من بعد مصيره إليها، فنعوذ بالله من الجهل والعمى، ونسأله العون والهدى، فإنه ولي كل نعماء، ودافع كل الاسواء.
فإذا عرف ذلك واعتقده، فقد صحت له معرفة خالقه، وصار بإذن الله بالله من العارفين، وله سبحانه من الموحدين، القائلين على الله بالحق واليقين. فحينئذ يجب عليه أن يعلم أن كل ما جاء به الرسول عليه السلام، وشرعه من حلال أو حرام، أو سنة وكدها، وعلى الأمة فرضها - فرض من ذي الجلال والاكرام، لقوله الله سبحانه: ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾ (١٢) وقوله عز وجل: ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾ (١٣) وأنه لم يفرض ولم يقل من الأمور صغيرا ولا كبيرا إلا وهو الله رضا، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد نصح لله في عباده، وأصلح جاهدا له في بلاده، حتى قبضه الله إليه راضيا عنه، قابلا لذلك منه وأنه لم يترك الأمة في عميا من أمرها، بل قد أوضح لها جميع أسبابها، ودلها على أبواب نجاتها، وشرع لها ما تحتاج إليه من أمورها بالدلالات النيرات، والعلامات الواضحات، والإشارات الكافيات، والأقاويل الصادقات. ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة وأن الله لسميع عليم﴾ (14).
فإذا فهم ذلك، وكان في ضمير قلبه كذلك، وجب عليه أن يعرف ويفهم، ويعتقد ويعلم، أن ولاية أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب رحمة الله عليه (15) واجبة على جميع المسلمين فرض من الله
Page 36
رب العالمين، ولا ينجو أحد من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الايمان، حتى يعتقد ذلك بأيقن الايقان، لان الله سبحانه يقول: ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾ (١٦) فكان ذلك أمير المؤمنين رحمة الله عليه، (١٧) دون جميع المسلمين، إذ كان المتصدق في صلاته، المؤدي لما يقربه من ربه من زكاته، وفيه ما يقول الرحمن فيما نزل من واضح القرآن ﴿والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم﴾ (١٨) فكان السابق إلى ربه غير مسبوق، وفيه ما يقول تبارك وتعالى: ﴿أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون﴾ (١٩) فكان الهادي إلى الحق غير مهدى، والداعي إلى الصراط السوي، والسالك طريق الرسول الزكي، ومن سبق إلى الله، وكان الهادي إلى غامض أحكام كتاب الله، فهو أحق بالإمامة، لان أسبقهم أهداهم، وأهداهم أتقاهم، وأتقاهم خيرهم، وخيرهم بكل خير أولاهم، وما جاء له من الذكر الجميل في واضح التنزيل فكثير غير قليل، وفيه انزل الله على رسوله بغدير خم: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس﴾ (20) فوقف صلى الله عليه وآله وسلم وقطع سيره، ولم يستجز أن يتقدم خطوة واحدة، حتى ينفذ ما عزم به عليه في علي عليه السلام، فنزل تحت الدوحة مكانه وجمع الناس ثم قال: (يا أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا:
Page 37
بلى يا رسول الله فقال: اللهم اشهد، ثم قال: اللهم اشهد، ثم قال:
فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره)، وفيه يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وفي ذلك دليل على أنه قد أوجب له ما كان يجب لهارون مع موسى ما خلا النبوءة.
وهارون صلى الله عليه فقد كان يستحق مقام موسى، وكان شريكه في كل أمره، وكان أولى الناس بمقامه، وفى ذلك ما يقول موسى عليه السلام حين سأل ذا الجلال والاكرام فقال: ﴿واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا﴾ ﴿٢١) فقال الله سبحانه قد أوتيت سؤلك يا موسى﴾ (22) فأعطاه الله سؤله في إشراكه لهارون في أمر موسى، فمن أنكر أن يكون علي أولى الناس بمقام الرسول صلى الله عليه وآله فقد رد كتاب الله ذي الجلال والاكرام والطول، وأبطل قول رب العالمين، وخالف في ذلك ما نطق به الكتاب المبين، وأخرج هارون من أمر موسى كله، وأكذب رسول الله صلى الله عليه وآله في قوله، وأبطل ما حكم به في أمير المؤمنين، فلابد أن يكون من كذب بهذين المعنيين في دين الله فاجرا، وعند جميع المسلمين كافرا.
حدثني أبي عن أبيه أنه سئل عن إمامة علي بن أبي طالب رحمة الله عليه أفرض هي من الله؟ فقال: كذلك نقول وكذلك يقول العلماء من آل الرسول عليه وعلى آله السلام، قولا واحدا لا يختلفون فيه. لسبقه إلى الايمان بالله، ولما كان عليه من العلم بأحكام الله، وأعلم العباد بالله
Page 38
أخشاهم الله. كما قال الله سبحانه: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور﴾ (٢٣) فأخشاهم أهداهم، وأهداهم أتقاهم، وقد قال الله سبحانه: ﴿أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون﴾ (٢٤) وقال تبارك وتعالى: ﴿والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم﴾ (25) فأسبق المؤمنين إلى ربه أولاهم جميعا به، وأدناهم إليه وأكرمهم عليه. وأكرم العباد على الله ربه أولاهم جميعا به، وأدناهم إليه وأكرمهم عليه. وأكرم العباد على الله ألاهم بالإمامة في دين الله، وهذا بين والحمد لله لكل مرتاد طالب في علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، لا يجهله ألا متجاهل جائر ولا ينكر الحق فيه إلا ألد مكابر.
حدثني أبي عن أبيه أنه سئل عن من حارب أمير المؤمنين؟ وعمن تخلف عنه في حربه فلم يكن معه ولا عليه؟ فقال : من حاربه فهو حرب لله ولرسوله، ومن قعد عنه بغير إذنه فضال هالك في دينه.
وحدثني أبي عن أبيه أنه سئل عمن يشتم أمير المؤمنين، أو قذفه استخفافا بالفضل وأهله، وجهلا بما جعل الله لأمير المؤمنين عليه السلام من فضله؟ فقال: يحكم عليه الإمام بما يرى ويكون بشتمه إياه فاسقا كافرا، فإذا فهم ولاية أمير المؤمنين عليه السلام واعتقدها، وقال في كل الأمور سرا وعلانية بها، وجب عليه التفضيل والاعتقاد، والقول بإمامة الحسن والحسين الإمامين الطاهرين، سبطي الرسول المفضلين، اللذين أشار إليهما الرسول، ودل عليهما، وافترض الله سبحانه حبهما، وحب من كان مثلهما في فعلهما من ذريتهما، حين
Page 39
يقول لرسوله صلى الله عليه وآله: ﴿قل لا أسألكم عليه أجرا ألا المودة في القربى﴾ (٢٦) ويقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ (27) ويقول في جدهما وأبيهما وأمهما وفيهما: (أن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا - إلى قوله - فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (28)، وفيهما ما يقول الرسول عليه السلام: كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما)، فهما ابناه وولداه بفرض الله وحكمه، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى في إبراهيم صلى الله عليه: (ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكرياء ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) (29) فذكر أن عيسى من ذرية إبراهيم، كما موسى وهارون من ذريته، وإنما جعله الله ولده وذريته بولادة مريم، وكان سواء عنده سبحانه في معنى الولادة والقرابة ولادة الابن وولادة البنت، إذ قد أجرى موسى وعيسى مجرى واحدا من إبراهيم صلى الله عليه، ويقول بالرسول صلى الله عليه وآله: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة "، ويقول الرسول عليه السلام: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن الطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " ويقول صلى الله عليه وآله:
" مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى "، ويقول صلى الله عليه وآله: " ما أحبنا أهل البيت أحد
Page 40
فزلت به قدم الا ثبتته قدم حتى ينجيه الله يوم القيامة " وفيهم يقول:
ب " النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض، أتى أهل الأرض ما يوعدون ".
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: أولئك الصالحون من آله صلى الله عليه وعليهم أجمعين وما جاء لهم من الذكر الجميل، في كتاب الله ذي الجلال والاكرام، وما قاله فيهم الرسول عليه السلام، مما يطول به الكتاب، وتتصل به الأقاويل في كل الأسباب، مما يجزي قليله عن كثيره، ويكتفي أهل الايمان عن كثيره بيسيره.
فإذا أقام معرفة ولايتهما، وقال بتفضيلهما وإمامتهما، وجب عليه أن يعرف أولي الامر من ذريتهما، الذين أمر الخلق بطاعتهم، فيعلم أن الأمر والنهي والحكمة والإمامة من بعدهما في ذريتهما دون غيرهما، لا تجوز إلا فيهم ولا ترد إلا إليهم وأن الإمام من بعدهما من ذريتهما من سار بسيرتهما، وكان مثلهما، واحتذا بحذوهما فكان ورعا تقيا، صحيحا نقيا، وفي أمر الله سبحانه جاهدا، وفي حطام الدنيا زاهدا، وكان فهما بما يحتاج إليه، عالما بتفسير ما يرد عليه، شجاعا كميا، بذولا سخيا، رؤوفا بالرعية رحيما، متعطفا متحننا حليما، مواسيا لهم بنفسه، مشركا لهم في أمره، غير مستأثر عليهم، ولا حاكم بغير حكم الله فيهم، قائما شاهرا لسيفه، داعيا إلى ربه، رافعا لرايته، مجتهدا في دعوته، مفرقا للدعاة في البلاد، غير مقصر في تألف العباد، مخيفا للظالمين، ومؤمنا للمؤمنين، لا يأمن الفاسقين ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه، قد باينهم وباينوه، وناصبهم وناصبوه، فهم له خائفون، وعلى إهلاكه جاهدون، يبغيهم الغوائل، ويدعو إلى جهادهم القبائل،
Page 41
متشردا عنهم، خائفا منهم، لا يردعه عن أمر الله رادع، ولا تهوله الأخواف، ولا يمنعه عن الجهاد عليهم كثرة الارجاف ، شمري مشمر، مجتهد غير مقصر فمن كان كذلك من ذرية السبطين الحسن والحسين، فهو الإمام المفترضة طاعته، الواجبة على الأمة نصرته، ومن قصر عن ذلك ولم ينصب نفسه لله، ويشهر سيفه له، ويباين الظالمين ويباينوه، ويبين أمره، ويرفع رايته، ليكمل الحجة لربه على جميع بريته، بما يظهر لهم من حسن سيرته، وظاهر ما يبدو لهم من سريرته، فتجب طاعته على الأمة والمهاجرة إليه والمصابرة معه ولديه، فمن فعل ذلك من الأمة معه من بعد أن قد أبان لهم صاحبهم نفسه، وقصد ربه وشهر سيفه، وكشف بالمباينة للظالمين رأسه، فقد أدى إلى الله فرضه، ومن قصر في ذلك كانت الحجة عليه لله قائمة ساطعة منيرة بينه قاطعة ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة أن الله لسميع عليم﴾ (30) مثل من قام من ذريتهما من الأئمة الطاهرين (*) الصابرين لله المحتسبين.
مثل زيد بن علي رضي الله عنه إمام المتقين، والقائم بحجة رب العالمين.
ومثل يحيى ابنه المحتذي بفعله، ومثل محمد بن عبد الله، وإبراهيم أخيه المجتهدين لله، المصممين في أمر الله، الذين لم تأخذهما في الله لومة لائم، الذين مضيا قدما قدما، صابرين محتسبين ، وقد مثل بابائهما وعمومتها أقبح المثل، وقتلوا أفحش القتل، فما ردعهما ذلك عن إقامة أمر خالقهما والاجتهاد في رضا ربهما فصلوات الله على أرواح تلك المشايخ وبركاته، فلقد صبروا الله واحتسبوا وما وهنوا ولا
Page 42
جزعوا بل كانوا كما قال الله وذكر عمن مضى من آبائهم حين يقول:
﴿فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين﴾ (31).
ومثل الحسين بن علي الفخي، الشهيد المحرم المجرد لله سبحانه، المصمم الباذل نفسه لله في عصابة قليلة من المؤمنين، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويضربون ويضربون، حتى لقوا الله على ذلك وقد رضي عنهم، وقبل فعلهم منهم، فرحمة الله وبركاته عليهم.
ويحيي بن عبد الله ابن الحسن القائم لله، المحتسب الصابر لله على الشدة والغضب، ومحمد بن إبراهيم بن إسماعيل القائم بحجة الله الجليل الداعي إلى الحق، والناهي عن الفسق، المتفرد لله، الصابر له في كل أمره، الحاكم في كل الأمور بحقه.
ومثل القسم بن إبراهيم الفاضل العالم الكريم، المجرد لسيفه، المصمم الباذل لنفسه، المباين للظالمين، الداعي إلى الحق المبين صلوات الله عليهم أجمعين ورحمته وبركاته، فمن كان كذلك من ذرية الحسن والحسين، فهو إمام لجميع المسلمين لا يسعهم عصيانه، ولا يحل لهم خذلانه، بل يجب عليهم طاعته وموالاته، ويعذب الله من خذله، ويثيب من نصره، ويتولى من تولاه، ويعادي من عاداه.
فأما من عبث بنفسه وتمنى، وإقام في أهله وولده وتلهى، وساير الظالمين وداجاهم، وقضوا حوائجه، وقضى حوائجهم، وعاشروهم، وعاشرهم، وأمنوه وأمنهم، وكفوا عنه وكف عنهم، وغمد سيفه وطوى رايته، وستر منهم نفسه، وموه على الجهال، وأهل الغفلة من الظلال،
Page 43
وادعى الإمامة، ووهمهم أنه يريد القيام، وهو عند الله من القاعدين النيام، ذوي الفترة والوناء، طلاب الراحة والرخاء، وهو يظهر للرعية ويعرض لهم، ويدخل قلوبهم أنه قائم غير قائد، وأنه مباين للظالمين مجاهد، يوهمهم ذلك ويعرض لهم أنه كذلك، ليحتلب من درهم حلبا وخيما دويا، ويأكل بذلك من أموالهم حراما دنيا، قد لبس عليهم أمورهم بتمويهه عليهم، وقعد لهم بطريق رشدهم، يصدهم بتمويهه عن ربهم، ويمنعهم بتلبيسه عليهم من أداء فرضهم، والقيام بما يجب لخالقهم فهو دائب في التحيل لأكل أموالهم بما يلبس عليهم من أحوالهم، وتمويهه لجاهلهم (32) أنه قائم غير قائد، وأنه أحد يوميه ناهض على الظالمين مجاهد، والله يعلم من سرائره وباطن أمره غير ما يوهم الجاهلين، ويكتبه بذلك عنده أنه من الصادين عن سبيله، الذين يبغونها عوجا، فهو يهلك نفسه عند ربه بفعله وفعل غيره، ويفرق عن الحق والمحقين الأنام، ويجمع بذلك عليه الآثام، ويمكن بذلك دعوة الظالمين، ويقيم عمد ملك الفاسقين ويوهن دعوة الحق والمحقين بما يموه به على الجاهلين للترؤس عليهم، ولأكل أوساخ أيديهم، يأكل سحتا تافها حراما، ويجترم العظائم بالصد عن الله العظيم اجتراما، يفرق كلمة المؤمنين ويشتت رأي المسلمين، ولا يألوا الحق خبالا، يتأول في ذلك التأويلات ويتقحم على الله فيه بالقحمات ضميره إذا رجع إلى نفسه، وناقشها في كل فعله، وأوقفها على على خفي سره، مخالف لظاهره وفعاله في باطنه فغير ما يبديه الناس في ظاهره، يخادع الله والذين آمنوا وما يخادع إلا نفسه، كما قال الله تعالى، (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا
Page 44
ولهم عذاب أليم) (٣٣) كأن لم يسمع الله عز وجل يقول: ﴿وأسروا قولكم أو جهروا به إنه عليم بذات الصدور﴾ (٣٤) فهو يمكر بالله وبالمؤمنين، والله يمكر به وهو خير الماكرين. فهو في بلية من نفسه، من تحيله لديناره ودرهمه، والاستدامة لما هو فيه من تافه نعمته، يلبس الحرير والديباج والقز، ويلتحف ويفترش السمور والفتك والخز، لا يرتمض في أمور الله، ولا يصلح شأن عباد الله، فأين من كان كذلك، فقط من الإمامة. كلا لعمره أنه عنها لبعيد مجنب، ومنها غير دان ولا مقرب، وان لعب بنفسه، وخدع من كان من شكله بزخرف قوله وكذبه واجترائه على الله: ﴿ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا﴾ (35) فلعمري إن من كان كذلك فقط لبعيد عما يدعي وينتحل مما لم يجعله الله له أهلا، ولم يشرع له إليه سبيلا، فكيف لو ذكرنا بعض ما يذكر عن بعض من يدعي ذلك، من الغلو والمهالك، مما ينقله عنهم أشياعهم، ويذكره من قولهم في أنفسهم اتباعهم، مما نرجوا أن يكونوا عليهم فيه كاذبين وبغير الحق فيهم قائلين من ادعاء صفات الجبار، والمشاركة له في علم خفيات الاسرار، والاطلاع على ما أجنت بطون البحار، والقدرة على صرف ما يشاء صرفه وأثبات ما يشاء اثباته، ومن إباحة الفروج، وإظهار الفواحش والهروج وتناول الشهوات، وارتكاب اللذات، من معاصي الرحمن وما تنهى عنه آيات القرآن، وترك الصلوات وغلول الزكوات، ورفض صيام شهر رمضان، وتعطيل كلما نطق به الفرقان، وترك الاغتسال من
Page 45
الجنابات، وارتكاب جميع الفاحشات، وغير ذلك مما يجل ذكره، ويعظم أمره من الغلو والمنكر . وذلك أنهم في أصل قولهم يقولون أعرف إمامك، واعمل ما شئت غير معاقب ولا مأثوم وذلك من قولهم عند جميع الأمة فمعلوم مع يأتون به ويقولون به من الكفران والافتراء على الله والجحدان للرحمن، وجعلهم لخالقهم بزعمهم جسما ينتقل في صورة الانسان (*)، ويؤاكلهم ويشاربهم ويداخلهم ويخارجهم، ويبايعهم، ويشاريهم، ويجعلونه، مرة موسى، وثانية عيسى، وثالثه عليا، ينتقل في صورة الآدميين، وكذلك رووا عن الشياطين أنها تتصور في صور المربوبين، فتبارك الله عن ذلك رب العالمين، وتقدس عما يقول فيه الجاهلون، وينسب إليه الضالون. فيا لمن قال بذلك الويل الطويل، والعويل والعذاب الجليل، لقد أتى شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا.
فإذا علم المسترشد ذلك وعرف كل من ذكرنا بصفاتهم، ووقف على أولي الامر منهم بدلالتهم، ودان الله سبحانه بولايتهم، وجب عليه من بعد ذلك أن يعتقد معرفة فضل الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يعلم أن ذلك أكبر فروض الله المفترضة عليه، فيظهر جهاد الظالمين، وينوي مباينة الفاسقين، بيده ولسانه وقلبه وبما يقدر عليه من طاقته، ثم يجب عليه من بعد. أن يتطهر للصلوات بطهورهن ويصليهن ويقيمهن بحدودهن، ويحافظ عليهن في الأوقات اللواتي جعلها الله لهن أوقاتا من الساعات، وأن يؤدي ما أمر الله به من الزكوات على ما شرعه الرسول عليه السلام، وجعله فرضا مثبتا على ذوي المقدرات من الأنام وأن يصوم شهر رمضان الذي افترض صومه الرحمن وأن يحج إلى البيت
Page 46