فمغمغ الثور: تف لهذا الزمان ما أردأه! صار المقام الرفيع فيه للكلب. كان يمشي خلفنا ذليلا، وكانوا يتنجسون منه إذا لمسهم لمسا، فصار ينام على السرير، يأخذون حليبنا ليطعموه إياه في صحن صيني ونحن ما زلنا نأكل في المعالف، وننام على زبلنا وزبل غيرنا، ونشرب من الجرن العفن الأزرق.
فقال الحمار: لا تحسد الكلاب، يكفي أن فرعا منا يأخذ بثأرنا من البشر. الناس الجبناء الذين يغدرون، ويقتلون في الخفاء. فلو كانت لهم سلامة النية والشجاعة ما احتاجوا إلى كلاب تدل على المجرمين منهم. حسبنا فخرا أن حيوانا واحدا من جنسنا يكشف مظالم الإنسان المستبد المعتقد أن الله سلطه علينا فيذبحنا ساعة يشاء. ثم يذبح أخاه الإنسان ليأخذ ماله وهو غير محتاج إليه. هل سمعت أن حيوانا اهتم للغد، فطالب بأكثر من القوت؟ ومع ذلك يسعون للاستغناء عنا بآلات صماء، فما عساه يحل بنا في الغد؟ حقيقة إن المستقبل مظلم.
فقال الثور: والله ما أعرف لماذا لا نفكر بأن يكون لنا ضمان جماعي يؤمننا مخاوف الشيخوخة عند العجز عن السعي، أما قال المثل: من سعى على رجله رعى، وهل يحمل الرجل غير البطن الملآن.
فقال الحمار: أنا متكل على الذي خلقني. ومع ذلك أقول، وأعني ما أقول، إذا كان ليس عند الناس في لبنان مثل هذا الضمان، فكيف يكون لنا نحن البهائم.
وبينما هما يتناجيان انشق باب القبو فدخل كلب غريب لم يعرفا له صورة وجه من قبل، فظناه الكلب الذي تحدثت الصحف عن عبقريته والاستقبال الذي جرى له في المطار، فنفخ الثور وعج. ونهق الحمار وحاول أن يقطع الرسن. تمثل له شبح جريمته وتذكر حديث الكلب الذي ينبش المجرمين، فخال أنه هو، وأنه جاء ليقبض عليه، أما الثور، وهو البريء من كل إثم، فتشدد وقال: مرحبا بالضيف، شرفتنا بهذه الزيارة أيها النسيب العزيز، الضيف له الكرامة، ولكن بيتنا خال حتى من عظمة، وكل ما نرجوه منك غض النظر عن جريمتنا، ولا تفضحنا بين الناس فيشمتوا بنا. كن نصيرا لبني عمك، فنحن كلنا من ذوي الأذناب وهم بشر ظالمون. إذا قتلنا واحدا منهم خطأ فكم قتلوا من الملايين منا عمدا. كن حيوانا ولا تبع دم بني عمك بطعام مريء يعدونه لك، كنا مظلومين ففار دمنا وقتلنا صاحبنا عن غير سابق تصور وتصميم.
أما الكلب فوقف مبهوتا صامتا لا يفهم شيئا مما حكاه الثور. وتشجع الحمار وقاطع الثور قائلا: يقولون إنك ذكي جدا يا بن العم، والذكي مثلك لا يجهل المادة الكلية القائلة: جناية العجماء جبار، وخصوصا أن الجاني حمار، ثم زوى ما بين عينيه ونصب أذنيه وقال: إذا كان (الاجتهاد) يبرئ الإنسان العاقل من جناية القتل عمدا، أفلا يبرئ هذا النص الواضح كعين الشمس جحشا مثلي! كن فهيما. هذا نص وليس حيلة تلبس رداء القانون.
فابتهج الثور واستضحك في عبه وقال: ومتى تعلم الحقوق هذا الحمار.
ولم يفهم الحمار ما قاله الثور وأتم حديثه: ثم لو سلمتني ماذا يصير؟ إنهم يخلون سبيلي بلا كفالة. في هذا البلد جناة كثيرون، فإذا أردت أن تبيض وجهك مع أصحابك فاقبض على واحد منهم بدلا مني. لا تخف أن تتعب ضميرك، ففي اليوم الواحد ترتكب عدة جنايات.
وبينما كان الثور يحاول إقناع الكلب، والكلب لا يفهم شيئا مما يقال، كان الحمار يتهيأ لمغامرة. يريد أن يموت قبل أن يستسلم لكلب، فلو كان أسدا أو نمرا لهان عليه الأمر. إذا كان المثل يقول: يأكلها السبع ولا يأكلها الضبع، فكيف بالكلب؟!
ولم تنجل الغمرة إلا عندما لف الكلب ذنبه وخرج. وظل الحمار حينا قلقا مشغول الفكر يبكته ضميره حتى عرف أن الكلب سوقي لا بوليصي ، وقد مر من هناك عرضا.
Unknown page