ففي هاتيك الأيام، أيام السلف الصالح كنا نرى اللبن والبيض بأعيننا ولا نذوقهما، ولو بكينا حتى تبيض عيوننا. - عيب يا ابني، الصوم كله سبع جمع!
كنت في السابعة أو الثامنة من عمري، وكان والدي يقول لي: أنت شب طويل عريض، وكيف لا تصوم. أترضى أن تكون مثل الأولاد الصغار. عيب عليك، ما سمعت قول المثل: الصلاة عادة والصوم جلادة.
وأنظر أنا إلى عرضي وطولي فأجدني بين بين، فلا أنا شب ولا أنا طفل، فأخضع للأمر الواقع. وأخيرا تعودت فصرت صائم الدهر لا تطلب نفسي (الترويقة) أبدا. وإذا فككت ريقي ذهب نشاطي، و(رواقي)، فأنعس ويمتنع علي العمل في ذلك النهار.
كنا ننتظر جرس الظهر، حتى إذا ما دق، سكتت الضيعة وحسر الجميع عن رءوسهم. الصمت في كل مكان، الراعي يسكت مزماره، والفلاح يقف فدانه، فلا تسمع في الحقول صوت نابس. ومدرسة الضيعة تصلي صلاة التبشير بصوت جهوري وتفك أولادها وجميعهم صائمون، إلا من هم دون السابعة من العمر. كنت أطرب لسماع أجراس الظهر تقرع في الصوم، أما اليوم فلا أسمع إلا جرس دير معاد. فالناس كلهم مفطرون ولماذا تقرع الأجراس، ولمن؟
صوموا تصحوا هكذا قيل، ومع ذلك ترك الصوم، وكذلك صار حظ الصلاة ضئيلا جدا، فأولئك المشايخ الذين كانوا يقيمون الصلاة خلت الكنائس منهم، فلا قارئ ولا مرتل، حتى ولا كاهن. فأكثر قرى بلاد جبيل لا خوري فيها، مع أنها أبرشية البطريرك.
الكل متراخون متهاونون. ارتفعت الكلفة بينهم وبين ربهم فصاروا لا يهابونه ولا يصلون له مبتهلين. والكهنة الموارنة (تليتنوا) أي صار صيام الشباب منهم لاتينيا. وجبة خفيفة صباحا، وغداء يملأ الكرش ظهرا، وعشاء بين البينين مساء. وهذا صيام له أجره عند ربك الغفور الرحيم.
جاء الضيعة كاهن يعرفني يوم خميس الأسرار، وشرفني بزيارة فدعوته إلى الترويقة، مجاملة، حين ودع لينتقل إلى قرية تبعد عنا نصف ساعة ركوبا، فلبى الدعوة.
وكان والدي جالسا معنا فعبس وتولى حين قام الكاهن إلى المائدة. وقال والدي: يا الله. وغادر البيت.
ولما ذهب الخوري عاد الوالد وقد وقفت شعرات جفونه كريش القنفذ. وقال: راح المحترم؟ إلى أين مسافر حضرته؟ إلى بجه! جدك وأنا كنا نمشي خمس ساعات على رجلينا ولا نفطر في يوم عادي من أيام الصوم، فكيف يوم خميس الأسرار في جمعة الآلام. يا حسرتي على الرز ضاعت ملاعقه. هذا البيت ما أفطر فيه أحد في الجمعة الحزينة يا مارون، تكارم ما شئت واعزم على الناس، ولكن بعد العيد. لا تزعج عظام جدك.
وأذكر أن رجلا ماتت عنده غنمة في الصوم فقعد (يقورمها) على مرآى من أولاده، ولم يذقها هو ولا أحد من أهل بيته. وكان ابن البقرة السعيد الحظ هو الذي يولد في الصوم فيبقى له لبن أمه. وإذا حلبت فيما بعد فلكي يصنع حليبها جبنا أو لبنة لفرحة العيد.
Unknown page