Ahadith Mazini
أحاديث المازني
Genres
ولست أظن أني أبعد حين أقول إن الشعر في هذا الطور يكون مستوحى من حياة الجماعة، ومردودا إليها في الوقت نفسه، ومن هنا قال العرب ما معناه إن الشاعر كان لسان القبيلة والمنافح عنها والزائد عن حياضها، ومن هنا أيضا كانت أسواق العرب التي كانوا ينشدون فيها الشعر ويتنافسون في ذلك، إلى جانب التجارة.
ثم تتحضر الأمة فيتحدث التخصص، ويذهب كل فن مذهبه، ولكن الصلة القديمة مازالت باقية، فالرقص لا يستغنى عن الموسيقى، وإن استغنى عن الشعر، والشعر وثيق الصلة بالموسيقى، وإن كان لا يفتقر إلى جماعة ترقص وتصفق، وطبلة تقرع، ومزمار ينفخ فيه، ومع الحضارة واتساعها، صارت الفنون، وفي جملتها الشعر، (ذاتية) وأصبح الشاعر يستمد وحيه من روحه وتجربته، ونوع استجابته للحياة.
فالشعر كان عملا من أعمال الجماعة، أو لعل الأصح أن نقول إنه كان عملا توحي به روح الجماعة وتشجع عليه، وتشارك فيه حتى لقد ضاعت حقوق التأليف في بداية هذا الطور، كما تضيع حقوق التأليف إلى الآن بين جماعات العمال وهم يزالون ما يكلفون، ويستعينون على الجهد المطلوب بالغناء، والإنشاد والترجيع، ثم أصبح - أي الشعر - عملا فرديا ذاتيا، ومازال يستمد بواعثه من روح الجماعة، ولكن نطاقه اتسع وأفقه رحب، وتزاوجت فيه العاطفة والعقل، وتعددت أغراضه ومناحيه، وصارت له أصول وفروع وظلال.
وفي كل أمة، وكل عنصر يظهر الشعراء، ولكن أكثرهم ينسون كأنهم ما كانوا، لأن النبوغ لا يؤتاه إلا الأقلون، ولأن دنيا الشعر - كدنيا الفنون قاطبة - لا يخلد فيها إلا الأعلون، أو الذين يقول فيكتور هيجو إن حرارة نفوسهم تبلغ درجة الغليان التي ما فوقها درجة. وما أكثر من قالوا الشعر في كل أمة، وكل جيل من أجيالها، وما أقل من بقيت حتى أسماؤهم مذكورة. لأن الأواسط لا يحصون وذاكرة الدنيا أضعف وأضيق من أن تعي غير الأفذاذ. والوسط، كالرديء في ميزانها وحسابها، كلاهما يسقط من الحساب أو يشيل في الميزان.
ولقد أقام مجمعنا مسابقة للشعر فتقدم إليه أكثر من ثلاثين ديوانا، كلها من الوسط، ولا غرابة فى هذا فإن الوسط فى كل باب وكل ميدان هو الجمهور الأكبر، فكان بين أمرين: أن يتشبث بالمثل الأعلى، وذلك عزيز، أو أن يؤثر التشجيع وهو أهدى سبيلا فآثره، ونظر في الشعر الذي عرض عليه متسامحا، وراعى أمرين: الشاعرية والصورة، ذلك أن الشاعرية هبة واستعداد وليست بالذي يكتسب، وإن كانت القدرة على النظم تستفاد، أما الصورة التي تتبدى فيها المعاني - أي الأداء - فملكة واكتساب في آن معا.
وعلى هذا غربل ونخل، واستخلص أربعة دواوين ستسمعون بعد قليل أسماء أصحابها وما فازوا به من جوائز رؤي توزيعها عليهم وقسمتها بينهم لتعذر المفاضلة الصريحة مع التقارب الشديد.
من هذه الدواوين الأربعة ما يجري على النهج القديم أو التقليدي، وما يؤثر نهجا جديدا، وما يتبع القديم حينا وينحرف عنه حينا، ولكن فيها كلها اجتهادا واضحا، وإخلاصا بينا، وكثير مما تركت أجازته ليس دون هذه كثيرا ولكنه كان لابد من مقياس للمفاضلة. وقد قلت أن المقياس هو وضوح الشاعرية وحسن الأداء ووفاؤه، أو على الأقل سلامته من الشوائب.
وإن المجتمع ليرجو أن يكون فيما آثره من التشجيع استحثاث للهمم فإن نهضة الأدب بشير لا يكذب بنهضة الأمة عامة، وما من أمة ينبغ فيها ولو شاعر واحد إلا وذلك إيذانا بأنها قاب قوسين أو أدنى من العزة والمجد.»
الفصل الثالث والعشرون
الزواج
Unknown page