Ahadith Mazini
أحاديث المازني
Genres
وقد حكوا عن الإمبراطور تيبريس أنه أخطأ مرة في كلمة فرده بعضهم إلى الصواب، فقال منافق إن الإمبراطور نطق بها صحيحة وجاء بها على وجهها، فإذا لم يكن هذا كذلك. فأحر بأنه يصبح ما قاله هو الصواب.
فعاد الأول يقول: «هذا كذب ونفاق أيها القيصر، فإنك تستطيع أن تمنح الناس الجنسية الرومانية، ولكن الألفاظ فوق سلطانك».
وهنا موضع التحرز، فإن اللغة لغتان، واحدة تستقر وتثبت على صورة فلا يلحقها التغيير إلا في النادر وإلا فيما لا يمس الأصول، وهذه هي التي تكتب ولها آداب، وأخرى هي اللهجات، أي لغات الكلام وهذه دائمة التغيير، ولا ثبات لها على حال، لأنها لم ترزق ما يفيدها الضبط ويصدها عن التبدل والتحول المستمرين. واللهجات أسبق من اللغات الثابتة، أو لغات الكتابة والأدب.
وليست لغة الكتابة والأدب إلا إحدى اللهجات، وما كانت لغتنا العربية إلا واحدة من لهجات العرب في الجاهلية، وقد كتب لها السيادة وقسم لها الاستعلاء، قبل الإسلام بقليل، ثم ثبت لها ذلك بنزول القرآن الكريم بها، فاندمجت فيها اللهجات الأخرى، ولولا القرآن لما عجزت اللهجات الأخرى عن الحياة، ولكان من الممكن - إذا ساعفت إحداها الأحوال - أن تفيد قوة، تسترد بها مكانتها.
واللهجات ليست محلية أو إقليمية فحسب، فإن هناك لهجات طائفية أيضا لا عداد لها، مثل لهجات الرعاة والفرسان، والجنود، والزراع، والبحارة، وأصحاب الحرف.
ومن هنا - على سبيل المثال - كثرة أسماء السيف وغيره من ضروب السلاح، وما يطلق على الخيل وحملها ونتاجها وأسنانها وخلقها وصفاتها ونعوتها وألوانها وشياتها وأصواتها وعيوبها وأدوائها وعدوها، وربطها وعلفها وسرجها. ونعوت الإبل في إخلافها وحلبها وكثرة ألبانها أو قلتها وضعفها أو هزالها وأسنمتها وألوانها وأوبارها إلى آخر هذا وأمثاله ومن هنا أيضا هذا التدقيق الشديد في أسماء الجماعات من الناس وغيرهم. ومرجع هذا إلى نوع الحياة التي تحياها الجماعة أو القبيلة وانحصارها في نطاق ضيق. فتصبح العناية بالتفاصيل ميسورة، كما لا يمكن أن تكون في جماعة كبيرة متحضرة جوانب حياتها عديدة.
وبعد، فإن ابن لغة الكتابة والأدب لا يسعه إلا أن يلم بها وبأصولها وأدبها - أي بقانونها الذي اكتسب صفة الثبات، وروحها الذي يكن أن نسميه «الغريزي» إذا هو أراد أن يمضي على النهج القويم، فما يمكن أن يتصرف فيها تصرف الأقدار أو أن يقضي فيها بأمره كما كان يقضي. سلاطين الأتراك، أو أصحاب الحكم بأمرهم في زماننا. حتى العامية أو اللهجات، لا يتسنى فيها مثل هذا التعسف.
وصحيح أن الفرد هو الذي يستحدث الألفاظ أو الصور الجديدة، ولكنه إنما يستطيع أن يفعل ذلك بعد أن يتسرب بروحه في الجماعة، ثم هو لا يفعل هذا عن عمد وبعد إعمال فكر، وطول تأمل وتدبر، وإنما يصدر عنه ما يصدر وهو غير مدرك أو دار، لأنه إنما يتصرف وفق قوانين طبيعية لا سلطان له عليها ولا سيطرة، وبعد تهيؤ روح الجماعة أو الطائف التي هو منها.
الفصل الحادي عشر
من دروس الحياة
Unknown page