Ahadith Mazini
أحاديث المازني
Genres
ولجواب صاحبنا على الرغم مما انطوى عليه. وجه صحيح. هو أن الرأي العام هو رأي الكثرة من الناس. أو الجمهور. أو الجماعة الكبيرة ولكنه ليس رأي الفرد الذي ينتهي إليه فيما بينه وبين نفسه. أو الذي يقتنع به ويذهب إليه بعد البحث مع واحد أو اثنين أو عدد قليل محدود من الناس.
وعسى أن يسأل سائل: هل معنى هذا أن رأي الفرد وهو وحده فى أمر ما. يخالف رأيه حين يكون في جماعة كبيرة؟ وهل وجوده في جماعة كبيرة يدفعه إلى غير ما كان خليقا أن يذهب إليه وهو خال بنفسه؟
وجوابي أن أسوق عبارة للباحث المشهور ماكس نورداو. بمعناها لا بلفظها. وهي من فصل له في كتابه «الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة» وفي هذا الفصل يتكلم عن المجالس النيابية وجدواها - وقد فرض أن مجلسا نيابيا كل أعضائه من طبقة العظماء والعباقرة في كل باب. مثل شكسبير. وبيكون. وجوتيه. وكانت. وداروين. وبيتهوفن. ونابليون. والإسكندر الأكبر. وهرمر. وسقراط. وأفلاطون. وأرسطو. وأضراب هؤلاء من جميع الأمم والعصور.
وقال لنفرض أن خمسمائة من هذه الطبقة التي لم تنجب الإنسانية أرفع منها . اجتمعوا في صعيد واحد. فماذا تكون النتيجة؟ وقال في جواب ذلك أن كل واحد من هؤلاء العظماء الذي يعي الزمان مكان أندادهم. ينفرد بمزية. ويشبه الآخرين فيما عدا ذلك. مما يعد صفات أو طباعا إنسانية عامة مشتركة. فلشكسبير شاعريته. ولكانت فلسفته. لبيتهوفن نبوغه في الموسيقى. وللإسكندر عبقريته الحربية. وكل واحد من هذه المزايا أو المواهب قائمة بنفسها مستقلة عما عداها. لا تشبه الأخريات لا تماثلها أو تقاربها أو تأتلف معها. ولكن هؤلاء جميعا على تفاوت مواهبهم. خلق واحد فطرته واحدة. فإذا رمزنا إلى العنصر الإنساني المشترك بحرف «ع» وإلى كل موهبة ينفرد بها واحد منهم ويتميز بحرف خاص مستقل. اجتمع عندنا خمسمائة «ع» وألف واحدة وباء واحدة وجيم واحدة وهكذا. القاعدة الحسابية التي تعلمناها في المدارس هي أن المختلفات لا تجمع لأنها لا تأتلف. وإنما يجمع ما هو من نوع واحد. وكما أنك لا تستطيع أن تقول عندي خمس برتقالات. إذا كان عندك برتقالة واحدة وتفاحة واحدة إلى آخره. كذلك لا تستطيع أن تجمع هذه المواهب المتفاوتة. فالنتيجة إذن هي أن خمسمائة عين مجتمعة. مؤتلفة. تتكون منه كتلة أو قوة تقابل وتواجه وتقاوم مواهب متنافرة لا تتساير. ولا تتعاون. ولا تتجمع. ولا تتآلف منها قوة واحدة متآزرة. ومؤدى هذا أن العنصر الإنساني المشترك بين هؤلاء العظماء المحشودين يتغلب بقدرته على الائتلاف على المواهب المتفرقة المختلفة التي يتميز بها كل منهم. فلا يبقى لهذه المواهب فعل أو تأثير فيما يسفر عنه اجتماعهم من رأي. وإنما يكون الفعل والأثر والعامل الإنساني المشترك ولا داعي إلى مسايرة ماكس نورداو إلى غايته وهى أنه لا فرق بين مجلس نيابى من الأوساط العاديين ومجلس آخر من العظماء إذا اعتبرنا النتيجة وهذا بحث آخر لا يعنينا هنا فلا نستطرد معه إليه. وحسبا الحقيقة الثابتة وهي أن الجماعة تتأثر بقوة العوامل الإنسانية المشتركة لا بالمزايا والمواهب الفردية. لأن هذه لكونها مفردة لا تستطيع أن تقاوم ما اجتمع من تلك. ومن هنا ما يسمونه روح الجماعة وقد لا يرضى الفرد عنها وهو بمعزل. ولكنه وهو في الجماعة ينساق معها عن رضى واختيار أو بقوة اندفاع التيار الذي لا يملك وحده صده.
ويجوز لنا الآن أن نقول أن الرأي العام هو مظهر روح الجماعة لا روح أفرادها كل على حدة. أو هو التيار الذي تحدثه الخصائص المشتركة بين الشعب. وقد لا يكون هذا تعريفا علميا مضبوط الحدود. وما أظن أن في الوسع تعريف الرأي العام على وجه الدقة. ولكني أظن أن ما وصفته به، وإن خلا من الدقة والإحكام، كاف في التعريف به وبيان المقصود منه.
وأعود إلى جواب من سئل عن الرأي العام فقال أنه الناس جميعا ما عدانا. فأقول إنه لا سبيل إلى إسقاط هذا الرأي العام من الحساب لأنه يسيرنا برغمنا ما دمنا مخلوقات اجتماعية بالطبع. وليس في وسع أحد أن يحيا في عزلة تامة. ومهما بلغ من استقلال الفرد فإنه مضطر أن يحسب لهذا الرأي العام حسابه. في كل ما يصدر عنه من قول أو عمل. وليكن المرء منا أديبا أو سياسيا. أو محاميا. أو طبيبا. أو معلما. أو عالما. فإن للرأي العام حسابه عنده. سواء اعترف بذلك أم أنكره وكابر فيه.
وليس من الضروري أن يكون الرأي العام مخطئا في كل حال. أو مصيبا في كل حال. فإنه يخطئ ويصيب. ويضل ويهتدي. ولا ضابط لهذا ولا قاعدة. ولكنه، أخطأ أم أصاب، يفرض علينا اتجاهات عامة يتعذر التعرج عنها. ولا معدى لنا عن مراعاتها إلى حد ما إذا أردنا أن تكون حياتنا محتملة. ودع عنك النجاح فإن رضى الرأي العام شرط له ولا سبيل إليه بغيره.
والآن نستطيع أن نقول كلمة في رأينا العام المصري. فكيف هو. وما هي خصائصه؟
وأبدأ فأقول أن خصائص الشعوب معظمها موروث. وليس في وسع شعب أن يتخلص من أثر التاريخ والعقائد والتقاليد التي يتلقاها جيل عن جيل وما خلفته في نفسه أطوار الحكم المختلفة التي تعاقبت عليه ولا شك أن للتعليم والتربية أثرهما في التهذيب والصقل. ولكن الصقل لا يغير الأصل ولا يعدل بالطباع عن متوجهها.
والذي يعرف المصريين معرفتهم يستطيع أن يفطن إلى اتجاه الرأي العام في كل حال فلا تخطئ فراسته. وهذا كلام يصدق على كل أمة في الحقيقة. ومن أجل هذا نرى كثيرين يستطيعون أن يعرفوا سلفا هل يقبل الرأي العام هذا الأمر أو لا يقبله. وماذا عسى أن يكون مبلغ رضاه عنه أو تسامحه فيه.
Unknown page