وما أحب أن أتحدث الآن عن هذه الآثار المختلفة المتنوعة التي تعظم حتى تبلغ الروعة، والتي تدق حتى لا يكاد يبلغها الحس، وإنها على ذلك لمصدر للجمال البارع، وإنها على ذلك لنفاذة إلى أعماق النفوس.
وما أحب أن أتحدث الآن عن هذه الآثار، فلست من الحديث عنها في شيء، وإنما أسجل هذه الظاهرة الغريبة التي يجدها من يزور هذه البقعة من الصحراء، فيضطر إلى أن يعرف هذه الخصلة التي تميز مصر تمييزا ظاهرا: خصلة الوحدة الخالدة مهما تختلف الظروف، ومهما تتباعد العصور، ومهما تتباين الأطوار.
في هذه الصحراء آثار وثنية مغرقة في وثنيتها، منها الفرعوني، ومنها اليوناني، ومنها الروماني، ولكنها كلها قد طبعت بالطابع المصري، فلم تستطع أن تمتاز من مصر أو تنفرد عنها، وفي أثناء هذه الآثار المغرقة في الوثنية والقدم، يظفر الباحثون بصليب من صلبان النصارى، كيف اندس هذا الصليب في أعماق الصحراء؟ وكيف أقام في هذه الوثنية المغرقة في القدم؟ وفي أثناء هذه الآثار يظفر الباحثون بألوان من القربان أرسلها الوثنيون من المصريين القدماء إلى آلهتهم أو حملوها إلى هؤلاء الآلهة، على نحو ما يرسل المصريون المحدثون ويحملون إلى الأولياء والقديسين من الهدايا والنذور، ومهما أنس فلن أنسى هذه اللفافات الضئيلة من البردي قد لفت لفا محكما وختمت بالطين وأرسلت إلى الآلهة، تحمل إليهم من الأقطار البعيدة ما كان يضطرب في نفوس أصحابها من الأماني والآمال ومن ضروب الخوف وفنون الرجاء.
ومن حول هذه الآثار وعلى آماد غير بعيدة تنبث في الوادي قرى كثيرة يعيش فيها المسلمون والمسيحيون من المصريين، قد أقام أولئك وهؤلاء على ما ورثوا من دين وما ألفوا من عقيدة. يختلف أولئك وهؤلاء إلى مساجدهم وكنائسهم، ولكن انظر إلى هذا الأثر القائم بين آثار إخناتون، ما هذه الدماء التي جمدت حوله؟ وما هذه الدماء التي لطخ بها تلطيخا؟ إنها دماء الضحايا التي يقبل بها أولئك وهؤلاء بين حين وحين فيذبحون عند هذا الأثر، ويلطخون بدمائها هذا الأثر، ويطعمون وينعمون حول هذا الأثر، ثم ينصرفون وقد استقر في نفوسهم الأمل بل الثقة بأن حاجاتهم سترضى، وبأن دعواتهم ستجاب.
ومن حول هذه الآثار وعلى آماد غير بعيدة يقوم هذا الدير المتهدم المتخرب الذي أهملته مصلحة الآثار المصرية - أو العربية لا أدري - أشد الإهمال، وإنه لخليق بالعناية، وقد أقبل على هذا الدير الخرب راهب لم تعجبه الحياة في الأديرة العامرة، فآثر النسك وحده في أعماق الصحراء، وآوى إلى هذا الدير فأقام فيه. انظر إليه قد جلس على الأرض ومن حوله شباب من المسيحيين قد أقبلوا إليه من القرى القريبة والبعيدة، وهم يرتلون ما يرتلون من الأدعية والصلوات، وانظر إليه حين يقبل عليه الزائرون من أمثالنا، فينهض إليهم هاشا باشا، ويتلقاهم أحسن لقاء، ويبسط لهم رداءه ليجلسوا عليه، ويهم أن يقدم إليهم الشاي، وإنهم لفي ذلك وإذا حمار الراهب قد أقبل منفلتا من موقفه فدخل عليهم الدير في أناة وهدوء.
ويثير هذا كله في نفسك ذكريات الرهبانية المسيحية المصرية في أول عهد مصر بالنصرانية، فما أظن أن حياة الرهبان في ذلك العصر القديم كانت تختلف اختلافا كثيرا عن حياة هذا الراهب الحديث الذي يعيش في القرن العشرين بعد المسيح.
وتستطيع أن تخترق الصحراء في سيارتك، وأن تحتمل قفز السيارة بك بين الصخور والكثبان ساعة أو ساعتين من نهار، وإذا أنت أمام دير من الأديرة المصرية القديمة قد دفع إلى التجديد دفعا عنيفا، وتخفف من المحافظة تخففا شديدا، فجدد فيه كل شيء، ولم يكد يحتفظ من آثاره القديمة بشيء، ولم يبق فيه من القديم إلا هذه العادات والصلوات الدينية التي تقام في السحر إلى أن يشرق الصبح، والتي تقام في المساء إلى أن يظلم الليل.
في هذه الرقعة الضيقة من الصحراء تعيش مصر القديمة بوثنيتها الفرعونية واليونانية والرومانية، وتعيش مصر القرون الوسطى بإسلامها الساذج ومسيحيتها الساذجة، وتعيش مصر الحديثة ببحثها عن العلم، وتقصيها للآثار ، وأخذها بأسباب الحضارة الحديثة عن أحسن وجه وأكمله، ويشرف على هذه الصور المختلفة لمصر في عصورها المختلفة وأطوارها المتباينة روح واحد خالد لا يختلف ولا يتغير، ولا يضعف ولا يدركه الفتور، وإنما هو هو دائما يبعث فيما حوله وفيمن حوله الحياة والنشاط والأمل والثقة واليقين، وهو روح مصر الخالدة، التي بقيت، وستبقى، مهما تختلف الأحداث، ومهما تتباين الظروف.
أليس هذا كله خليقا أن ينسيك ما لقيت أثناء الرحلة إليه مما يثير الغضب والحزن ويطلق الألسنة بهذه الأسئلة: لماذا ندفع الضرائب؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نمنحها ما ينبغي لها من الطاعة والإذعان للنظام؟ بلى إنه لينسيك هذا كله، ويطلق لسانك، ويملأ نفسك بخواطر أخرى، أيسرها أن من الهين أن نحتمل المشقة، ونبذل الجهد، ونلقى ألوان العناء، لنشهد مصر المختلفة المتفقة، المتعددة الواحدة، الخالدة على كل حال.
يناير 1940
Unknown page