فكرت في هذا كله قبل أن يغلبها النوم، وحلمت بهذا كله بعد أن اشتملها النوم، ثم أفاقت من نومها وانسلت من غرفتها وذهبت إلى رئيستها لعلها أن تكون في حاجة إلى بعض العون، ولكن الرئيسة لقيتها باسمة وردتها رفيقة وألحت عليها في حزم أن تستكمل حظها من الراحة ونصيبها من النوم، فعادت الفتاة إلى غرفتها وأوت إلى سريرها وأخذت تغالب هذا الأرق مستعينة على ذلك بالتفكير فيما يدخر لها الغد من ساعات حلوة تقضيها مع أخيها خارج المنزل في هذه الضاحية أو تلك، ومضت تتصور أخاها وتسمع حديثه وتلقي إليه حديثها وتقترح عليه ويقترح عليها، وتداعبه ويداعبها ، وتغاضبه ويغاضبها، ثم تراضيه ويراضيها حتى عاد إليها النوم فردها إلى كنفه مرة أخرى، ثم لم تفق حتى كانت الشمس قد أشرقت فملأت الأرض بهجة وجمالا وملأت النفوس قوة ويقينا، وبعثت في الأجسام حياة ونشاطا، وكانت نفسها أشد ما تكون قوة على احتمال الجهد وإيمانا بنفع هذا الجهد وحرصا على بذل المعونة الصادقة لمن يحتاج إلى المعونة الصادقة، وكانت حياتها قوية إلى غير حد، وكان نشاطها بعيدا إلى غير مدى، وكان وجهها كله ابتساما، وكان قلبها كله رحمة، وأنفقت صباحها في حركة متصلة لا تحس جهدا ولا نصبا ولا تشعر بإعياء، وإنما هي ينبوع من الرحمة والحنان والمواساة يجري في طرقات المستشفى ويفيض على ما يقوم في جوانبها من الغرفات والحجرات.
وإنها لفي ذلك وإذ هي تحس نبأة تراع لها أول الأمر، ثم تثبت لها بعد ذلك بقليل: لقد استؤنفت الفتنة مع الضحى، وكان لهذه الفتنة صرعى قد كثرت فيهم الجراحات، وها هم أولاء يحملون إلى المستشفى كثيرين، منهم من فقد الحركة والألم، ومنهم من لا يزال شاعرا يجد الألم ويصبر عليه، ومنهم من تجاوز الألم طوقه فأخرجه عن الصمت إلى الأنين أو إلى الصياح، كلهم في حاجة إلى العون وكلهم في حاجة إلى المواساة، وكلهم في حاجة إلى الرحمة والعزاء، فليتجدد النشاط إن كان قد فتر، وليضاعف النشاط إن كان لم يدركه الفتور، ولتدم القلوب في الصدور ليظهر برغم ذلك الابتسام على الثغور، ولتنطق الألسنة بهذه الكلمات التي تقع من الجرحى أحسن موقع وتقع من قائليها أشد المواقع ألما وإيذاء، وليكثر هذا الكذب الحلو البريء الذي يمنحه الأطباء والممرضون للمرضى والمنكوبين ليعينوهم به على الصبر واحتمال المكروه، وليمكنوهم به من مقاومة المرض ومقاومة الموت أيضا.
وهذه الفتاة قد سمعت هذه النبأة فارتاعت لها أول الأمر، ثم ثابت إليها نفسها، ثم وجدت هذا الكنز الذي خبأته في قلبها الكريم والذي لا ينفد ما فيه من العطف والبر ومن الحب والحنان، ثم ملكتها هذه الأريحية التي تملك النفس الكريمة فتدفعها إلى البذل من هذا الكنز من غير حساب، وإذا هي تندفع اندفاعا إلى حيث النشاط والحركة، وإذا هي قد تسلحت بالشجاعة والحب لتصارع المرض والموت وتستنقذ منهما هؤلاء البائسين المنكوبين.
أقبلي أقبلي أيتها الفتاة على هذا المصاب، امنحيه ما تملكين من عون، هبيه ما تستطيعين من عناية، ردي إليه بعض الحياة، ردي إليه بعض الحس فقد اشتد عليه الألم حتى ما يحس ألما، وتدنو الفتاة ذاهبة القلب باسمة الثغر، فلا تكاد تلقي نظرة على هذا الفتى الذي تدعى لإسعافه حتى تنفرج شفتاها عن صرخة يدوي لها المستشفى، ثم تضطرب يداها في الهواء ثم تسقط، وإذا هي في حاجة إلى الإسعاف، وإلى من يمنحها بعض هذا العون الذي كانت تريد أن تمنحه لهذا الفتى، وإلى من يرد عليها بعض هذا الحس الذي كانت تريد أن ترده على هذا الفتى، وإلى من يكذب عليها كما كانت تريد أن تكذب على هذا الفتى، وإلى من يواسيها كما كانت تريد أن تواسي هذا الفتى.
لم تنفرج شفتاها عن تلك الصرخة الداوية فرقا ولا خوفا؛ فقد تعودت أن ترى صرعى المرض وصرعى الموت، ولم تضطرب يداها في الهواء ضعفا ولا جبنا؛ فإن لها في صراع العلل والموت بلاء محمودا، ولم تسقط إلى الأرض خورا ولا تهالكا؛ فقد طالما ثبتت لأبشع ما يثبت له الممرضون والممرضات، ولكن عاطفة الأخوة فوق هذه الشجاعة المكتسبة وفوق هذا الجلد المصنوع وفوق هذا الصبر الذي يتعلم في المدارس ويأخذ الناس به أنفسهم أخذا.
رفقا بهذه الفتاة، ورحمة لهذه الفتاة، وعطفا على هذه الفتاة؛ فإنها لم تر مريضا ولا جريحا، وإنما رأت أخاها وقد اشتمله الموت، وكانت تقدر بل كانت تهيئ نفسها لتلقاه موفور القوة والنشاط وتقص عليه آخر النهار بلاءها في أوله.
ها هي هذه ترد إلى حياتها أو ترد إليها حياتها، وها هي هذه ترد إلى شجاعتها أو ترد إليها شجاعتها. لن تستطيع مواساة المرضى ولا معونة الجرحى في المستشفى لأن هناك في مكان بعيد عن هذه المدينة جريحين هما أحق بهذه المواساة وأجدر بهذا العون، فلتسرع إليهما ولتحمل إليهما نبأ الكارثة، ولتحمل إليهما مع هذا النبأ الأليم عزاء البنت البرة عن الابن الشهيد.
ديسمبر 1935
الذوق
لا أريد أن أكون مؤرخا أو ناقدا أو أديبا، فقد يعرض لي كما يعرض لك أن نسأم التاريخ والنقد والأدب، وأن نرغب في هذا الحديث الهادئ المطمئن الذي لا يثير خصومة ولا جدالا، وإنما يريح الناس ويعينهم على إنفاق الوقت إذا أخذوا فيه وتجاذبوا أطرافه كما يقولون.
Unknown page