ولكن هذه الدعوى لا تصدق في جميع الأحوال؛ بل تختلف المذاهب في صلاحها حتى يأتي منها الضرر، حيث تراد المنفعة. فمنها ما يصلح كثيرا، وما يصلح قليلا، ومنها ما يعطل الإصلاح ويفسده؛ لأنه بطبيعته مناقض لطبيعة الإصلاح.
مذهب الماركسيين - فيما نعتقد - من هذه المذاهب التي تناقض الإصلاح بطبيعتها، وتعطل الحركات المصلحة أن تستقيم في وجهتها، وتضيع جهود الأمم التي ينبغي أن تتوفر، وتصان عن الضياع، وقد تعرف هذه الحقيقة بالتفصيل، وقد يكفي فيها القليل من البيان؛ لأنها لا تحتجب إلا حين تحجبها عماية الهوى ولجاجة الغرض، وهي لولا ذلك أقرب الحقائق إلى الظهور والجلاء.
فلا حاجة بالإنسان إلى البحث الطويل ليعلم أن الطب الذي يداوي جميع الأمراض بدواء واحد طب فاسد، أو ليعلم أن الطبيب الذي يعالج كل بنية بوصفة واحدة يدعي الطب ولا يصلح للتطبيب.
فإذا كان الطب طب الأمم والمجتمعات فعلامة الجهل، أو علامة التدجيل، أن يحاول الطبيب المزعوم مداواتها من جميع العلل بوصفة واحدة، وأن ينسى ذلك الطبيب أن الأمم تتفاوت في الطبائع، وتتفاوت في العلل، وتتباعد في أسباب الشكوى، كما تتباعد في أسباب البرء من شكواها، ولا يحدث في وقت من الأوقات أن تشكو كلها علة واحدة، وتصح كلها بعلاج واحد، فقد يكون الشفاء لواحدة منها مرضا لغيرها، وقد يكون النظام الذي يضرها في فترة من الزمن، هو المنفعة كل المنفعة في غير تلك الفترة.
إن الأمة من الأمم تحس شكواها فتبحث عن علتها، وقد تهتدي إلى العلة مرة، وتضل عنها مرة، وهي في اهتدائها وضلالها على السواء، تتعلم وتقترب يوما بعد يوم من العلاج المفيد.
وهكذا يكون العلاج الذي تستمده الأمة من كيانها، وتعتمد فيه على تجاربها وهداية فكرها ووجدانها، فتختار حكومة بعد حكومة، وتنشئ نظاما بعد نظام، وتشرع في التجربة، ثم تمضي فيها، أو تعدل عنها، أو تحتال على تعديلها، وبهذه المحاولات تتربى الأمم وتتقدم، وتبلغ رشدها من طريق النمو الطبيعي الذي ينمو عليه جميع الأحياء.
ماذا يصنع الماركسيون، أو الشيوعيون لأمم الأرض في هذا العصر الذي نشطوا فيه للدعوة أو للإصلاح المزعوم؟
هل تركوا الأمم تتربى وتتعلم، وتستفيد من التجربة، وتتخذ لها من ماضيها سبيلا إلى حاضرها، ومن حاضرها سبيلا إلى مستقبلها؟
كلا. لم يفعلوا ذلك، ولم يميزوا بين أمة وأمة في علل فسادها، وأسباب صلاحها، بل جعلوا الأمم كلها مريضا واحدا يتداوى بعلاج واحد، وصنعوا كما يصنع الخرافيون، الذين يدعون الناس إلى ترك دوائهم وترك أطبائهم، ويصفون لهم المعجزة التي تشفي من جميع السقام، وتبرئ من جميع الشكايات.
إن اسم الدجال هو الاسم الذي يطلقه الناس بداهة على من يتصدى للعلاج وليس لديه غير علاج واحد يصفه لمن يشكو بجوفه، ويصفه لمن يشكو بعظامه، ومن يشكو بأعصابه، أو يصفه للطفل في الرابعة وللفتى في العشرين وللشيخ في الستين والسبعين، أو يصفه للعجوز والفتاة والصبية والجارية، كما يصفه للرجال في جميع الأسنان، وعلى اختلاف الأمزجة والأجسام.
Unknown page