المذاهب الهدامة
العلم والمذاهب الهدامة
بارود لم ينفجر وطباعة لم تطبع
قدوة غير صالحة
الإصلاح والمذاهب الهدامة
الدعوات الهدامة والناشئة (1)
الدعوات الهدامة والناشئة (2)
العائلة والوطن والدين
العامل والماركسية
الحرية والإذاعة
الشيوعية والإسلام
القرم الإسلامية والمذاهب الهدامة
الأدب والمذاهب الهدامة
الوجودية
الوجودية أو الوجدانية
الوجودية بين أنصارها وخصومها
الفوضوية والوجودية
المدرسة الرمزية
المصير
المذاهب الهدامة
العلم والمذاهب الهدامة
بارود لم ينفجر وطباعة لم تطبع
قدوة غير صالحة
الإصلاح والمذاهب الهدامة
الدعوات الهدامة والناشئة (1)
الدعوات الهدامة والناشئة (2)
العائلة والوطن والدين
العامل والماركسية
الحرية والإذاعة
الشيوعية والإسلام
القرم الإسلامية والمذاهب الهدامة
الأدب والمذاهب الهدامة
الوجودية
الوجودية أو الوجدانية
الوجودية بين أنصارها وخصومها
الفوضوية والوجودية
المدرسة الرمزية
المصير
أفيون الشعوب
أفيون الشعوب
تأليف
عباس محمود العقاد
المذاهب الهدامة
يقول كارل ماركس وأتباعه: إن الأديان أفيون الشعوب، وإن الناس يقبلون على الدين لأنه يخدرهم ويلهيهم عن شقاء الحياة.
وهذا القول الهراء عن الدين آخر وصف يمكن أن ينطبق عليه، وأول وصف ينطبق على مذهب كارل ماركس بجميع معانيه.
فالشعور بالمسئولية والمسكرات نقيضان، وما من دين إلا وهو يوقظ في نفس المتدين شعورا حاضرا بالمسئولية في السر والعلانية، ويجعله على حذر من مقارفة الذنوب بينه وبين ضميره، ويوحي إلى الفقراء والأغنياء على السواء أنهم لن يستحقوا أجر السماء بغير عمل، وغير جزاء.
وشتان هذا، وقول القائلين: إن الدين يخدر المرء، كما تخدره المسكرات وعقاقير الأفيون.
إنما المسكر حقا هو مذهب كارل ماركس من جميع نواحيه؛ لأنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسئولية ويغريه بالتطاول والبذاء على ذوي الأقدار والعظماء.
إنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسئولية؛ لأنه يلقي بالمسئوليات كلها على المجتمع، ويقول ويعيد للعجزة وذوي الجرائم والآثام إنهم ضحاياه المظلومون، وإن التبعة كلها في عجزهم وإجرامهم واقعة عليه، ويتمم عمل السكر بحذافيره حين يطلق ألسنتهم بالاتهام على كل ذي شأن ينظرون إليه نظرة الحسد والضغينة، ويعز عليهم أن يساووه بالعزيمة والاجتهاد.
ولو أنك نظرت إلى فعل «السكرة» في المخمور لم تجد لها في نفسه شهوة تستهويه غير هذا الشعور بإسقاط المسئولية، وهذا التطاول على أعظم عظيم، كما يقول كل سكران غابت به السكرة عن حقائق الأشياء. وما كان للماركسية من سحر يستهوي السفلة إليه غير هذا السحر الذي يبذلون فيه الدراهم ويجدونه في الماركسية جما بغير ثمن، وعليه المزيد من التغرير بالعقول، وشفاء أدواء الحسد والانتقام.
سكرة رخيصة لا أكثر ولا أقل.
وإنهم ليتحدثون عن «المذهب العلمي» أو يتحدثون عن التفسير «العلمي» للتاريخ، ويكثرون من ذكر العلم والبحث والاستقراء، ثم تنظر فيمن يستهوونهم بهذا الهراء، فلا ترى أحدا منهم يحفل بالعلم، أو يعنيه أمر المعرفة والاستقراء، ولكنك واجد فيهم - على يقين - من يعميهم الحسد عن كل فضيلة، وتندفع بهم الغرائز كما تندفع السائمة على غير هداية، ومن يعملون ولا يفكرون في عاقبة ما يعملون.
إن «الماركسية» إذن لهي الحقيقة بما تفتريه من وصف للأديان والمعتقدات، وإنها لأفيون الشعوب بغير مراء، وكلما بحثت عن سبب صالح لشيوع المسكرات في بيئة من البيئات؛ فاعلم أنه سبب صالح كذلك لشيوع المذاهب الهدامة، ولتفسير هذه الشهوات التي تتلخص في أول الأعراض التي تبدو على السكران: بإسقاط للتبعة، وخلع للحياء، واستمراء للتطاول والبذاء على كل محسود، وإن لم يكن من الأغنياء.
وفي هذه الكلمة الوجيزة - وما يلي من الأحاديث المذاعة في حينها - تنبيه سريع إلى هذه الحقيقة البينة.
ولكنه تنبيه لمن؟
لا للمخمور الغارق في سكرته، فإنه لا يفيق، ولا يحب أن يفيق، وفي رأسه بقية من خمار.
ولكنها تنبيه لمن ينظرون، لا يكلفهم إلا أن يديروا إليه الآذان والعيون.
عباس محمود العقاد
العلم والمذاهب الهدامة
من الدعاوى العريضة التي يدعيها أصحاب المذاهب الهدامة أنهم يعتمدون على الحقائق العلمية، ويتجنبون الأوهام والخيالات التي تعلق بها دعاة الإصلاح الأقدمون. ومن أجل هذا يسمون الاشتراكيين السابقين لهم بالحالمين، ويقولون عنهم إنهم خادعون مخدوعون، وإن الاشتراكية الحديثة التي يبشرون بها هي الاشتراكية العلمية التي لا تقيم وزنا لغير الواقع المقرر بالتجربة والمشاهدة، ولا تعد الناس شيئا إلا أن يكون مضمونا حاصلا أو في حكم الحاصل بعد زمن قريب.
وإذا كان أصحاب المذاهب الهدامة مضللين أو مضللين في كثير من الأمور، فالأمر الأول منها: هو هذه الصفة العلمية التي يسبغونها على مذهبهم، وهو مناقض لكل علم، مخالف لكل حساب صحيح.
مثال ذلك، أنهم يسمون مذهبهم بالمذهب المادي، ويعنون به أنهم يفسرون كل حادث من حوادث التاريخ بالأسباب المادية، ولكنهم يخطئون في تفسير أكبر الحوادث، كما يخطئون في تفسير أصغرها وأهونها، كلما طبقوا عليها سببا من تلك الأسباب.
فإنهم يتحدثون مثلا عن عصور الفرسان والنبلاء، ويعللون زوال هذه العصور بظهور البارود وظهور المدن التجارية، ومن يتحكمون فيها من كبار التجار وأصحاب الأموال.
قالوا: إن الفرسان كانوا يسودون الولايات لخبرتهم بفنون الحرب وأصول الفروسية، واعتصامهم بالقلاع والحصون، وإن سلطانهم قد زال بعد اختراع البارود؛ لأن البارود قد جعل استخدام السلاح هينا سهلا على عامة الناس. وقد جعل الهجوم على القلاع والحصون هينا سهلا كذلك على العامة ومن يقودهم من الأعيان والأغنياء.
وقالوا أيضا: إن انتشار المدن التجارية قد حول النفوذ إلى أيدي أصحاب الأموال والتجار الذين يعرفونهم باسم البرجوازيين، ولهذا زالت سيادة الفرسان الإقطاعيين، وقامت بعدها سيادة التجار وأصحاب الأموال، أو سيادة الطبقة البرجوازية.
ولا يخفى أن تفسير الحركة البرجوازية هو أهم المسائل في الدعوات الهدامة، لأن ظهور هذه الطبقة عندهم هو الدليل على صدق حرب الطبقات، وهو المقدمة عندهم لزوال النظام الحاضر الذي يسمونه بنظام رأس المال.
فهل صحيح أن البارود والمدن التجارية تفعل هذا الفعل في تطورات التاريخ؟
ألم يظهر البارود في الصين قبل ظهوره في القارة الأوروبية؟ ألم تظهر المطبعة نفسها في الصين قبل ظهورها في الغرب بعدة أجيال؟ ألم يكن في الصين سادة يملكون الأقاليم الواسعة من الضياع والبقاع؟ ألم تكن في الصين مدن تجارية راجت فيها التجارة من قبل عصر الميلاد؟ فلماذا لم يحدث في الصين ما حدث في القارة الأوروبية، إن صح ما يزعمون عن تفسيراتهم للتاريخ؟ ولماذا صنع البارود وصنعت المدن التجارية في الغرب ما لم تصنعه في مملكة ابن السماء .
ندع هذا وننظر في نبوءاتهم عن المستقبل، وهي في اعتقادهم حق محتوم كالنبوءات الفلكية عن اقتران الكواكب وعن الكسوف والخسوف.
فمن هذه النبوءات عن المستقبل أن البلاد التي تتقدم فيها الصناعة هي البلاد التي تسرع إلى الدعوة الماركسية قبل غيرها، ويتعرض فيها نظام رأس المال للتداعي والانهيار.
فهل هذا هو الواقع المشاهد كما يدعون؟
كلا! بل الواقع المشاهد أن الماركسية ظهرت في البلاد التي تأخرت فيها الصناعة، وأن نسبة المذاهب الهدامة فيها كنسبتها في التأخر، على النقيض من تفسيرات الماديين.
فالصحيح أنه على قدر التأخر في الصناعة يكون الاندفاع إلى المذاهب الهدامة، ولهذا ظهرت في روسيا ثم في إيطاليا وإسبانيا، ثم في البلاد الصناعية الأخرى على درجات تناسب نصيبها من الصناعة الكبرى، وقد بلغت العصمة من المذاهب الهدامة أشدها في الأمم الصناعية العريقة، كما يشاهد في الولايات المتحدة والجزر البريطانية وبلاد الشمال التي أخذت من الصناعة بنصيب موفور.
وتكاد هذه القاعدة أن تطرد في آسيا كما اطردت في أوروبة وأمريكا، ومن هنا كانت الصين أقرب إلى الشيوعية من اليابان. ولم تنجح الشيوعية بين اليابانيين كما نجحت بين الصينيين الذين لم يمارسوا الصناعة الكبرى، ولم يمارسوا ما هو دونها من الصناعات.
ومن نبوءات هؤلاء القوم الذين يفخرون بالنبوءات العلمية أن العمال والصناع تنقص أجورهم، كلما تضخمت المصانع وتضاعف رأس المال، ولا يزال النقص مستمرا حتى يعز القوت على العامل، ولا يبقى عنده شيء يفقده غير السلاسل والقيود، ويومئذ يطيع من يدعونه إلى الثورة العالمية؛ لأنها تعطيه ملك العالم كله ولا تضيع عليه شيئا غير تلك السلاسل والقيود.
تلك هي النبوءة العلمية التي لا تحسب عندهم من الخرافات ولا من الأوهام، أما الواقع العملي الذي لا شك فيه، فهو أن الأجور تزداد مع تقدم الصناعة، وأن العمال يزدادون اعتمادا على الوسائل الدستورية أو البرلمانية في تحسين أحوالهم، ويزدادون نفورا من الوسائل التي تعرف بالوسائل المباشرة، أي وسائل الثورة والانقلاب.
ومن الجهل بالحقائق أن يقال: إن الثورات التي تحدث في هذا العصر دليل على صدق النبوءات الشيوعية، وأن العالم يمضي إلى الخاتمة التي تنبأ بها كارل ماركس وتلاميذه المؤمنون بما تخيله وادعاه.
فالثورات والفتن لم تنقطع في القرن التاسع عشر، ولم تنقطع في القرن الثامن عشر، ولم تنقطع في القرون الوسطى، ولم تنقطع قبل ذلك في عهد الدولة الرومانية، ولكنها كانت تحدث لأسباب كثيرة تارة لأجل العقيدة، وتارة لأجل الوطن، وتارة لتبديل حاكم بحاكم أو دولة بدولة. وكل ما تدل عليه أن هناك أسبابا كثيرة لسخط الأمم واندفاعها إلى إصلاح الحكومات.
ولعل هذا العصر الذي نحن فيه يمتاز بخاصة لم تكن شائعة في العصور الغابرة، وهي الدعوة المتوالية إلى السلام والتحكيم وتوحيد المعاملات والعلاقات. فإنها لم تعهد بهذا الإجماع في زمن قبل الزمن الحاضر، وإن كانت لا تزال في مبدئها ناقصة مختلة، ككل عمل إنساني كبير في حالة الابتداء.
والخلاصة مما تقدم أن الاشتراكية العلمية المزعومة ليست من العلم في شيء، وليست نبوءاتها ولا مقرراتها بأصدق من بشائر المخرفين والحالمين من أدعياء الإصلاح في أزمة الجهالة، وربما كانت نبوءتها الكبرى هي أكذوبتها الكبرى، كما سينجلي بعد حين، ولعله قد انجلى من اليوم لعيان الكثيرين.
فالنبوءة الكبرى في عرف الماركسيين هي نبوءتهم عن اليوم الذي تزول فيه الطبقات التي تستولي على وسائل الإنتاج، ولا يبقى فيه أحد غير المعامل والعمال.
فمن اليوم قد تبين أن وسائل الإنتاج تئول شيئا فشيئا إلى أيدي خبراء الصناعة، وخبراء الاقتصاد، وخبراء الدعوة، ومن اليوم قد تبين أن إدارة المعامل وتدبير الثروة لا تئول إلى العامل الصغير بمجرد زوال رأس المال؛ بل تستولي على تلك الإدارة طبقة من ذوي الاختصاص الفني لا تستغني عنها الحكومة؛ بل ستكون هي الحكومة المتصرفة في الإنتاج، وفي المطالب المختلفة، وفي التوزيع والإشراف على طلب الخامات وتصريف المصنوعات، كما قلنا في حديث غير هذا الحديث.
وعلى نقيض ما يزعمه الماركسيون، يأتي الحاضر بتكذيب النبوءات الهدامة واحدة بعد واحدة، ولا يتقدم الزمن فترة بعد فترة إلا انهدم ركن من مذهب هدام، ولحقت به أركان لا تقوى على الثبات. •••
لو كانت المذاهب الهدامة فلسفة مقنعة لما عول أصحابها على الجهلاء الذين لا يفكرون ولا يهتدون إلى الحقائق ولو صبروا على التفكير فيها. فإن الحكم على حقائق التاريخ في أطوار الإنسانية جميعها مطلب عسير لا يقدر عليه الجهلاء الذين يجندهم الهدامون للتخريب والفتنة العمياء، ومثل هؤلاء قد انقادوا من قبل لكل ناعق، ولم يسألوه قط عن فلسفة ولا برهان مقنع، وحسبهم من الدعاة أنهم يقودونهم إلى الشر والفوضى، ويفتحون أمامهم مصرفا لما طبعوا عليه من نوازع الجهل والخراب.
وقد يتفق للهدامين أن يستجيب لهم طائفة من المتعلمين أو العلماء، فمن عرف هذه الطائفة أيقن أنها لا تخلو من أحد اثنين: فالعالم الذي يستجيب لمذاهب الهدم إما أن يكون من زمرة ممسوخة الطبائع، مطوية على الحسد والبغضاء، ممتلئة بالغرور الذي يسول لها أن تطاوع كل نقمة، وتستكثر الخير على كل إنسان، فإن لم يكن العالم المستجيب للمذاهب الهدامة من هذه الزمرة فهو مخدوع فيها يتحول عنها بعد العلم بحقائقها والاطلاع على مساوئها، كما قد تحول عنها كثير من الكتاب والحكماء الذين أقبلوا عليها مخلصين، ثم أعرضوا عنها مخلصين. •••
إن الاشتراكية العلمية إذن خرافة لا علم فيها، وقد يطول شرح هدف الاشتراكية، ويطول البحث في قواعدها ومبادئها، وفي مواطن الضعف منها، ولكن العقل الذي يعرف شيئا من العلم والفهم، لا يحتاج إلى شرح طويل ليعلم أن نظرة القوم إلى أطوار الإنسانية نظرة باطلة، وأن حكمهم على المستقبل القريب أو البعيد حكم مردود.
إنهم يدعون أن زعيمهم كارل ماركس قد فرض على المستقبل نظاما لن يختلف بعد آلاف السنين، وأنه قد أجرى حكمه على المجتمعات الإنسانية إجراء حاسما دائما، لن يقبل التبديل والتنويع، وقد تجوز على العقل الآدمي المستقيم كل خرافة من خرافات الأساطير، قبل أن تجوز عليه خرافة تزعم أن الفرد الواحد يسلط فكره على الدهور المقبلة إلى غير نهاية، فإن الغول والعنقاء لأقرب إلى العلم من هذه الدعوى التي لا علم فيها ولا تقدم، والتي يروجها دعاتها مع هذا، وهم يفخرون بأنهم هم العلميون، وهم التقدميون.
بارود لم ينفجر وطباعة لم تطبع
تواتر القول بأن اختراع المطبعة واختراع البارود قد كانا فاتحة عهد، أو نقطة تحول في تاريخ الحضارة الحديثة. وبين المطبعة والبارود مناسبة، أو مشابهة قريبة، وهي مشابهة «التعميم».
فقد أصبح الكتاب ميسورا لكل من يطلبه بعد نشر الطباعة، وقد كان قبل ذلك موقوفا على رجال الدين أو على الذين يتفرغون لنسخ الكتب ودرسها، وكلاهما يلجئ الطالب إلى تفرغ وانتظار.
وقد أصبح حمل السلاح ميسورا لمئات الألوف وألوف الألوف بعد صنع الرامية البارودية، وقد كان السلاح الفعال حكرا قبل ذلك لفرسان القلاع.
ولهذا ارتبطت العلاقة بين المطبعة والبارود وبين الديمقراطية وحرية الشعوب، وصور المؤرخون هذه العلاقة على صور شتى يصح بعضها، ويحيط الخطأ الكثير ببعضها الآخر. وهو الذي نتناوله هنا بالتصحيح.
فالخطأ الكبير أن يقال إن المطبعة والبارود هما سبب التحول، أو سبب القضاء على دولة الكهانة، ودولة الفرسان.
والصواب أن يقال: إنهما أداة التحول أو علامة التحول، وإن الفكرة الإنسانية هي السبب الفعال وراء كل أداة.
فالقلعة قد انهدمت في اليوم الذي أنكر فيه الناس سلطانها، وطلبوا السلاح الذي يقاومها ويغني عنها، ومسألة السلاح واختراعه بعد ذلك، هي مسألة زمن، أو مسألة تجويد لصناعة من الصناعات المستحدثة، كما تحتاج كل صناعة إلى زمن للتجويد.
والكهانة قد انهدمت يوم أنكر الناس علمها بكل شيء، واطلاعها على كل سر، وحاجة الإنسان إليها في خلاص روحه من الهلاك، وخلاص عقله من الجهالة. ومسألة الكتب وانتشارها بعد ذلك هي مسألة الوسيلة التي ارتسمت غايتها قبل اختراع آلاتها. •••
حذار في هذه القضايا التاريخية من اثنين: أحدهما القائل الذي يحب تسيير الأقوال، وإبرام الأحكام، فهو يتخير الأعاجيب لتسير، ويفضل من الأحكام أسرعها إلى الإبرام.
وثانيهما: الخليق بأن نحذره، هو المفسر المادي للتاريخ، فإنه يرفض كل سبب يرجع إلى النفس والوجدان، حتى إذا عثر على سبب يرجع إلى مادة جامدة هلل له وكبر، وكانت صحة السبب عنده على قدر جموده وخلوه من الفكر والضمير.
أما حقيقة الأسباب التي لا شك فيها، فهي أن الفكرة الإنسانية هي الأداة وراء كل أداة، وأن الأدوات والمكنات، ما لم تكن وسيلة لفكرة إنسانية هي والحجارة المنبوذة بالعراء سواء. •••
قالوا: إن البارود هو الذي هدم القلعة، وإنه هو الذي نقل السلطان من أبطال الحصون إلى أبطال المدن التجارية.
وهذه حركة قوامها عند المفسرين الماديين للتاريخ، هو براميل البارود والنبلاء وتجار المدن، ولا سيما المدن التي على البحار.
هذه هي عناصر الحركة التي نقلت الدنيا من عهد الإقطاع إلى عهد «البورجوازية»، إلى ما وراءه من العهود.
وهذه العناصر كلها كانت في الصين من عشرات القرون، البارود والنبلاء والمدن التجارية، فلم تنتقل خطوة واحدة من تلك الخطوات التي حركت الحضارة الأوروبية من أطوار القرون الوسطى إلى أطوارها في القرن العشرين.
إن بعض المؤرخين يشك في سبق أهل الصين إلى اختراع البارود؛ لأنه يربط اختراعه بالكشف الذي سجله «روجرز باكون» في معمله عند منتصف القرن الثالث عشر، ويرى أن وجود البارود يتوقف على وجود ملحه
Saltpetre ، وهو لم يكن معروفا - في زعمه - قبل روجرز باكون.
إلا أن الراجح، أن روجرز باكون نفسه قد عثر على الصيغة الكيمية في المرجع العربي، الذي أشار إليه «أومان» في تاريخ فن الحرب، فإن لم يصح هذا، فالصحيح بلا مراء أن هذا الملح يوجد على سطح الأرض في بلاد آسيا الشرقية، ومنها الهند التي يوجد بها على سطح الأرض إلى اليوم.
وندع هذا، ونرجع إلى الزمن الذي انقضى بين كشف البارود والانتفاع به في الحملات على القلاع والحصون.
لقد مضت ثلاثة قرون منذ جاء ذكر البارود في أوراق روجرز باكون، إلى أن أصبح قوة فعالة في الهجوم على المعاقل المحصنة، وقد مضت هذه القرون في تنقية الأخلاط، وضبط المقادير الصالحة لسرعة الانفجار، وتركيب هذه الأخلاط تركيبا موافقا للأدوات التي أمكن اختراعها يومئذ، سواء أكانت مما تحمله اليد، أم تجره الخيول، وكانت مشكلة الوقت الذي ينقضي بين إطلاق القذيفة، وتعبئة المدفع أو الرامية عقبة معوقة، ولم تكن من أسباب الإسراع والتغلب.
ولا شك أن المنجنيق الذي كان يقذف الحجارة على قرب قد كان أفعل من المدافع الأولى في تهديد الحصون والقلاع، بل استطاع الهوجنوت إلى أوائل القرن الثامن عشر أن يقاوموا المدفع حول الحصون بمتاريس التراب، وما إليها، فلم يكن البارود إذن هو القوة الحاسمة في تغلب نظام على نظام، ولم يكن استخدام المدفع الأول أسهل من فنون الفروسية، التي احتكرها نبلاء القرون الوسطى.
وأصح من هذا أن يقال إن البارود في أوروبة، قد أفاد في ميدان الصناعة قبل أن يفيد في ميدان القتال، لأن بدعة الأسلحة النارية حولت الأنظار إلى البحث عن الحديد والفحم، فنشطت حركة التعدين، واستفادت منها الصناعات الحديثة، مع توالي الطلب عليه حسب حاجة العصر الحديث. •••
إن كان في سبق أهل الصين إلى اختراع البارود قليل من الشك، أو كثير فليس هناك قليل من الشك أو كثير في سبقهم إلى اختراع المطبعة بنوعيها، ونعني بالنوعين المطبعة الثابتة التي تطبع الصفحات دفعة واحدة، والمطبعة التي تعتمد على الحروف المنفصلة قبل تركيبها في الصفحات.
هذان النوعان من الطباعة وجدا في الصين واليابان وكورية، منذ اثني عشر قرنا أو تزيد، ولكن الطباعة بنوعيها، لم تنقل الصين من أطوارها التي كانت عليها في القرون الأولى للميلاد إلى أطوار القرن العشرين كما شهدتها البلاد الأوروبية.
فلماذا لم يحدث هذا الانتقال في الصين بفضل المطبعة، كما حدث في البلاد الأوروبية؟
لاختلاف الفكرة واختلاف الثقافة. فإن الفكرة التي اخترعت الكتابة الصينية قد جعلت لزاما على الطابع أن يستعد بمئات العلامات قبل أن يحيط بمقاطع الهجاء، فلم يكن في الطباعة تيسير، ولم يكن فيها إسراع ولا إيجاز، ولم تنفع أصحابها الذين سبقوا الغرب إلى اختراعها بعدة قرون.
أما اختلاف الثقافة، فهو ها هنا بيت القصيد.
في الغرب كانت الثقافة هي التي طلبت المطبعة؛ فوجدت المطبعة سدا لحاجة مطلوبة.
وفي الصين وجدت المطبعة، ولم تطلبها الثقافة، فوقفت المطبعة عند غايتها الأولى، وهي نقش الحرير وغيره من المنسوجات، ولم تكن المطبعة وحدها هي القوة الفعالة في توجيه الأفكار وتنبيه النفوس.
وها نحن أولاء نبصر المطابع بيننا على أحسن صنع وأحدث طراز، ونبصر كل يوم صنوفا من الكتب والمجلات والصحف تنشرها هذه المطابع، وتيسر عرضها، وتعلن القراء بظهورها، ولكنني أسعى إلى كتاب فأطلبه، وأبذل فيه ثمنه، وأمر بعشرات غيره فلا أطلبها، ولا أقبلها بغير ثمن، لأن المطبعة في الواقع هي الأداة التي تكمن وراءها الفكرة الإنسانية، وليست هي العامل الحاسم الذي يملي على الإنسان ما يقرأه، وما يحب قراءته، فضلا عما يأباه، ولا يلقي عليه نظرة، ولو كان بين يديه.
وقد قيل إن المطبعة هي التي هدمت سلطان الكهانة، ونسي هؤلاء القائلون أن سلطان الكهانة كان هو «العميل الأكبر» للمطبعة، ولا يزال حتى اليوم كذلك. فإن ملايين النسخ من الكتب الدينية لم تزل تصدر كل عام من المطابع منذ منتصف القرن الخامس عشر إلى يومنا هذا، ولو أننا أحصينا نسخ الأناجيل والشروح الدينية، وأحصينا نسخ الكتب الأدبية والعلمية لكانت مادة الدين أرجح من كل مادة منفردة في أبواب العلوم والفنون والآداب، ولو شاء قائل أن يقول إن المطبعة عززت سلطان الكهانة؛ لكان له من الإحصاء دليل لا يقل في صدقه ووفرة شواهده، عن أدلة القائلين بالهدم والتقويض.
والمطبعة هي هي في كل مكان، فما بال المطبعة في بلد تخرج للناس مليون مصحف، وتخرج في البلد الآخر مليون إنجيل؟! بل ما بال المطبعة في البلد الواحد تخرج هنا صحيفة محافظة، وتخرج إلى جانبها صحيفة حرة، وتخرج معهما صحيفة بين بين، ولا تمتد يد القارئ إلا إلى الصحيفة التي يعرفها، ويريديها، ويقبل آراءها؟!
إن سبب هذا كله في رأس الإنسان وبين جوانحه، وليس مرجعه إلى حديدة كبيرة هنا، أو حديدة صغيرة هناك، أو إلى مطبعة تخرج مليونا في الساعة، ومطبعة لا تخرج غير الألوف في الساعات والأيام.
ولقد كانت المطبعة حقا «نقطة تحول» في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولكن الإنسان هو الذي تحول؛ فحولها، وهو الذي طلب الكتاب؛ فأوجد الأداة التي تعطيه الكتاب.
وإذا كان في هذا العالم أناس ينظرون إلى العقول وهي تزدهر، وإلى النفوس وهي تتوثب، فلا يستريحون حتى يردوا ذلك كله إلى رطل من الحديد، أو حفنة من الملح المسحوق، فمن حقنا نحن أن لا نستريح كلما رأينا أداة تصنع الأعاجيب وتزودنا بسلاح المعرفة أو سلاح القوة، إلا أن نشير من وراء ذلك إلى النفس المتوثبة، والعقل الخالد والقريحة المنجبة لنا ما نريد.
قدوة غير صالحة
تعود بعض الناس أن يعطلوا عقولهم عند وزن الكلام الذي يعرض عليهم، فهم لا يزنونه بميزان النقد والعلم والخبرة الصادقة، ولكنهم يتركون حقائق الأقوال، ويغترون بمظاهر القائلين. فإن كان قائل الكلام غنيا، أو وجيها، أو صاحب نفوذ فكلامه صادق وبليغ ومقبول، وإن لم يكن كذلك فحكمته جهالة، وصدقه كذب، وإخلاصه مشكوك فيه.
لهذا جاء في المثل السائر: «انظر إلى ما قيل، لا إلى من قال.» وهي نصيحة رشيدة، إذا كان الغرض منها أن نهتم بحقائق الأقوال، ولا نجعل اهتمامنا كله مقصورا على مظاهر القائلين.
إلا أن تمحيص الكلام لا يغنينا عن تمحيص المتكلم في كثير من الأحوال، ولهذا يهتم الناس دائما بتراجم العظماء، وسير البلغاء، ليعرفوا موضع الثقة، ويتبينوا الفرق بين المخلصين وغير المخلصين في الهداية ودعوات الإصلاح. وقد أشرنا إلى ذلك في مقام آخر فقلنا: «إن الكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها.» وكلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أعج
ب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من السخط على الحياة. فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة، ودرس الشئون التي تكون بها عذبة أو مرة، ونكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من أمور عرضية لا تكفي للحكم على ماهية الحياة. وقد يقول أحدهم إن الدنيا كلها شر وظلم؛ لأنه كان يطمع في عشرين قرشا، فلم يصل إلى أكثر من عشرة قروش.
فنحن نعرف الكثير من دعاة الإصلاح خاصة إذا عرفنا كيف كانوا يطبقون كلامهم على أنفسهم، ونتبين الفرق بين الجدير منهم بالثقة، والجدير منهم بالشك والريبة، إذا عرفنا أمانتهم في تطبيق المذهب الذي يدعون إليه.
على هذه القاعدة نعرض في هذا الحديث لسيرة زعيم من زعماء المذاهب الهدامة؛ بل لعله أكبر زعيم من زعمائها، وهو كارل ماركس الذي تنسب إليه الشيوعية، فتسمى بالماركسية في بعض الأحيان.
كان هذا الزعيم يبني مذهبه كله على أساس واحد، وهو: «أن من لا يعمل لا يأكل» ... وبهذا المبدأ أراد في دعواه أن يبطل استغلال العاطلين للعاملين.
فإذا رجعنا إلى سيرته في حياته، فماذا نرى من دلائل الأمانة في تطبيق هذا المبدأ، الذي أراد أن يكون فيه قدوة للمقتدين؟
خلاصة الحقائق المستمدة من حياته أن الناس جميعا لو جروا على طريقته لماتوا جوعا، وأنه هو لو عاش بما كسبه من عمله لما عاش أكثر من سنة واحدة على أبعد احتمال.
في خطاب من خطابات أبيه المحفوظة يقول له: «ماذا تظن! كأننا مصنوعون من الذهب؟» وفي خطاب آخر يقول له: «لسوء الحظ أراك تؤيد بسلوكك رأيي الذي كونته عنك، وهو أنك على ما فيك من خصال حسنة - أناني تغلب الأنانية على جميع صفاتك.»
وإنما كتب أبوه إليه ما كتب في هاتين الرسالتين، لأنه كان لا ينتهي من طلب المال وإنفاقه في غير جدوى، وكان يثقل على أبيه بالطلب مع علمه باتساع أسرته، وقد كان فيها ثمانية أبناء يحتاجون إلى التربية والتعليم.
ومات أبوه فوجب أن يخلفه هو في رعاية بيته، ولكن الذي حدث هو أنه لبث إلى الرابعة والعشرين من عمره عالة على أمه وإخوته؛ فاضطرت أمه أن تكتب إليه ومعها أخته التي كانت تسمى صوفي، وقالتا له: إنه لا ينتظر بالبداهة أن يعيش «طفيليا أبديا»، وأنذرتاه بقطع المعونة عنه إذا لم يبحث له عن مورد رزق يغنيه.
في تلك الآونة كانت تصدر في بلاد الرين صحيفة تسمى «رنيش جازيت
Rhenish Gazette » وكانت تتطرف في دعوتها إلى الاشتراكية، فأنذرتها الحكومة بالإغلاق إذا هي لم تعدل عن خطتها وتخرج منها الكاتب المسئول عن سياستها، وكان شابا من أصحاب كارل ماركس اسمه روتنبرج
Rutenberg . فلما سئل كارل ماركس عن رأيه في موقف الحكومة أشار بإخراج ذلك الكاتب، وقبل أن يتولى تحرير الصحيفة بعده. وتولى التحرير فعلا على خطة جديدة تنحي على الاشتراكية والاشتراكيين، وأعدادها التي كتب فيها تلك الحملات محفوظة إلى اليوم.
أغلقت الصحيفة بعد شهور من أجل مقالة تتعلق بالطلاق والزواج ولا شأن لها بالدعوة الاشتراكية، فهجر كارل ماركس بلده وذهب إلى باريس ليعلن الدعوة الاشتراكية التي كان ينحي عليها، فلم تفلح الصحيفة الجديدة، وعاد كما كان بلا عمل ولا رغبة في العمل، وظل يعيش من معونة كان يتلقاها من بعض أصهاره في هولندة، حتى انقطع هذا المورد فألقى عبأه كله على أصحابه ومريديه.
قد يخطر لأحد أن الرجل كان يترك طلب الرزق لأنه كان مشغولا بالدعوة إلى مذهبه، سواء كان مخلصا لهذا المذهب أو كان متهما في إخلاصه.
لكن الواقع أنه كان لا يطيق العمل لطلب الرزق ولا لنشر الدعوة. ففي هذه الأثناء أشفق عليه بعض رفقائه فأقنعوا لسكي
leske
بالاتفاق معه على تأليف كتاب في موضوع الاقتصاد وعلاقته بالسياسة، وهو الموضوع الذي تدور عليه دعوته الشيوعية. فتم الاتفاق في سنة 1844 وقبض كارل ماركس من ثمن الكتاب ألفا وخمسمائة فرنك، ومضت أربع عشرة سنة، ولم يظهر الكتاب. وحلت سنة 1858؛ فإذا بكارل ماركس يتفق مرة أخرى مع ناشر آخر على تأليف الكتاب. وكان الناشر الجديد هو الهر دنكر
Dunker
الذي كان ينشر رسائل الزعيم الاشتراكي لاسال فانقضت السنون، ولم يظهر الكتاب الموعود.
وضاقت موارد الرزق بالرجل لكسله وإخلافه لوعوده واتفاقاته، وكان قد انتقل إلى العاصمة الإنجليزية، وسعى بعض عارفيه لتدبير عمل له يواظب عليه، ويكسب منه قوته. فاتفق مع صحيفة نيويورك تربيون
Tribune
على مقال أسبوعي أو مقالين يرسلهما إليها من العاصمة الإنجليزية، ويؤجر على كل مقال بعشرين شلنا، فلم ينشط لكتابة هذه الرسائل، واعتمد على زميله أنجيلز ليكتبها باسمه، ويساعده مع ذلك بمعونة من عنده، ولم يزل كذلك حتى انقطعت مراسلته للتربيون.
ويعتبر كتاب «رأس المال» إنجيل الشيوعية المقدس عند أتباعها. فكان من المعقول أن يفرغ نبي الشيوعية لإتمام إنجيله الذي تقوم عليه دعوته، ولكن النبي لم يكن يقترب من صفحات إنجيله إلا تحت ضغط شديد من الحاجة العاجلة الملحة. وما هو إلا أن استقل زميله أنجيلز بتجارة أبيه واستطاع أن يخصص لكارل ماركس معاشا سنويا دائما، حتى طوى النبي كتابه المقدس طي الأبد، وتركه ناقصا كما بقي حتى الآن.
هذا هو الإمام الذي خرج للناس ليبشرهم بقداسة العمل، ويبغضهم في المتبطلين الذين يعيشون عالة على غيرهم. فلو أنه عومل بالشريعة التي أراد أن يفرضها على الناس، لهلك جوعا، وأنصفته الدنيا على حد قوله: «من لا يعمل لا يأكل»، ولم يكن هو من الذين يعرفون أمانة العمل، ويتحرجون من أخذ المال بغير جزاء.
والعجب العاجب في أمر هذا الرجل الذي استباح الأجر بغير عمل، أنه خشي من منافسة الزعيم باكونين، وبحث عن سبب للتشهير به وتجريحه وحمل المؤتمر الاشتراكي على فصله، فماذا كان السبب الذي بنى عليه حملة التشهير، وطلب الفصل والتحقير؟ سبب عجيب من كارل ماركس: وهو أن باكونين قد دنس سمعة الاشتراكيين، لأنه اتفق مع ناشر في روسيا على ترجمة كتاب، ولم ينجز ترجمة ذلك الكتاب.
ونص الحملة موجود في سجلات المؤتمر، ونص الاتفاق بين ماركس وبين لسكي وبين دنكر موجود كذلك في تراجم هذا الرجل المريب.
فإذا كانت هذه الصفحة المدنسة مفتقرة إلى سواد فوق سوادها، فقد يزيدها سوادا، أن نعلم أن باكونين كان استاذا لكارل ماركس في الآراء الديمقراطية، وأن هذا الجزاء السيئ كان نصيب كل أستاذ، وكل زميل، وكل صاحب اتصلت حياته بحياة هذا الرجل. وقد مضى بنا اسم الزعيم لاسال في هذا الحديث، وعرفنا منه أنه توسط لكارل ماركس عند ناشر مؤلفاته ليساعده بنشر كتابه، فمن شاء أن يرجع إلى رسائل كارل ماركس فلينظر، كيف كان وفاؤه لهذا الفضل عليه؟ إنه كان يقول عن لاسال أنه يفكر تفكير الزنوج، وأن ملامحه تدل على وراثة زنجية، ثم يشفع ذلك بالتلميح إلى عفاف أمهاته قبل جيل!
ويستطيع من شاء أن يرجع إلى أسماء أساتذته وزملائه واحدا واحدا، فلن يجد إنسانا منهم سلم من تهمة شائنة أو وصف بغيض. ولا استثناء لغير شخص واحد هو الذي كان محتاجا إلى معونته المالية مدى الحياة، وهو فردريك أنجيلز. ومع ذلك نقرأ رسائل أنجيلز إليه فنرى كيف وصفه في إحداها بجمود العاطفة والأنانية، ونقص المروءة والشعور. •••
إن الحقائق التي لخصناها هنا عن زعيم الشيوعية بعض ما عرف عنه من هذا القبيل، وكلها مستمد من سجلات الحركة الشيوعية، التي دونها دعاتها وأنصارها، فمن كان لا يعميه غرض ولا هوى، فلا صعوبة عليه في فهم الرجل على حقيقته التي لا تحتمل المغالطة والخداع، فهو مثل في التطفل، ومثل في طوية الشر والكنود، ومن كان كذلك لا يقتدى به في شريعة العمل، ولا تفيض نفسه بخير صحيح لمن يجهلهم من بني آدم وحواء، وقد كان أقربهم إليه يلقون منه الشر في موضع الخير، ولا يجدون فيه موضعا للثقة والاقتداء.
الإصلاح والمذاهب الهدامة
كل مذهب من المذاهب الاجتماعية، فالداعون إليه يزعمون أنهم يريدون به الخير ويقصدون إلى الإصلاح.
ولكن هذه الدعوى لا تصدق في جميع الأحوال؛ بل تختلف المذاهب في صلاحها حتى يأتي منها الضرر، حيث تراد المنفعة. فمنها ما يصلح كثيرا، وما يصلح قليلا، ومنها ما يعطل الإصلاح ويفسده؛ لأنه بطبيعته مناقض لطبيعة الإصلاح.
مذهب الماركسيين - فيما نعتقد - من هذه المذاهب التي تناقض الإصلاح بطبيعتها، وتعطل الحركات المصلحة أن تستقيم في وجهتها، وتضيع جهود الأمم التي ينبغي أن تتوفر، وتصان عن الضياع، وقد تعرف هذه الحقيقة بالتفصيل، وقد يكفي فيها القليل من البيان؛ لأنها لا تحتجب إلا حين تحجبها عماية الهوى ولجاجة الغرض، وهي لولا ذلك أقرب الحقائق إلى الظهور والجلاء.
فلا حاجة بالإنسان إلى البحث الطويل ليعلم أن الطب الذي يداوي جميع الأمراض بدواء واحد طب فاسد، أو ليعلم أن الطبيب الذي يعالج كل بنية بوصفة واحدة يدعي الطب ولا يصلح للتطبيب.
فإذا كان الطب طب الأمم والمجتمعات فعلامة الجهل، أو علامة التدجيل، أن يحاول الطبيب المزعوم مداواتها من جميع العلل بوصفة واحدة، وأن ينسى ذلك الطبيب أن الأمم تتفاوت في الطبائع، وتتفاوت في العلل، وتتباعد في أسباب الشكوى، كما تتباعد في أسباب البرء من شكواها، ولا يحدث في وقت من الأوقات أن تشكو كلها علة واحدة، وتصح كلها بعلاج واحد، فقد يكون الشفاء لواحدة منها مرضا لغيرها، وقد يكون النظام الذي يضرها في فترة من الزمن، هو المنفعة كل المنفعة في غير تلك الفترة.
إن الأمة من الأمم تحس شكواها فتبحث عن علتها، وقد تهتدي إلى العلة مرة، وتضل عنها مرة، وهي في اهتدائها وضلالها على السواء، تتعلم وتقترب يوما بعد يوم من العلاج المفيد.
وهكذا يكون العلاج الذي تستمده الأمة من كيانها، وتعتمد فيه على تجاربها وهداية فكرها ووجدانها، فتختار حكومة بعد حكومة، وتنشئ نظاما بعد نظام، وتشرع في التجربة، ثم تمضي فيها، أو تعدل عنها، أو تحتال على تعديلها، وبهذه المحاولات تتربى الأمم وتتقدم، وتبلغ رشدها من طريق النمو الطبيعي الذي ينمو عليه جميع الأحياء.
ماذا يصنع الماركسيون، أو الشيوعيون لأمم الأرض في هذا العصر الذي نشطوا فيه للدعوة أو للإصلاح المزعوم؟
هل تركوا الأمم تتربى وتتعلم، وتستفيد من التجربة، وتتخذ لها من ماضيها سبيلا إلى حاضرها، ومن حاضرها سبيلا إلى مستقبلها؟
كلا. لم يفعلوا ذلك، ولم يميزوا بين أمة وأمة في علل فسادها، وأسباب صلاحها، بل جعلوا الأمم كلها مريضا واحدا يتداوى بعلاج واحد، وصنعوا كما يصنع الخرافيون، الذين يدعون الناس إلى ترك دوائهم وترك أطبائهم، ويصفون لهم المعجزة التي تشفي من جميع السقام، وتبرئ من جميع الشكايات.
إن اسم الدجال هو الاسم الذي يطلقه الناس بداهة على من يتصدى للعلاج وليس لديه غير علاج واحد يصفه لمن يشكو بجوفه، ويصفه لمن يشكو بعظامه، ومن يشكو بأعصابه، أو يصفه للطفل في الرابعة وللفتى في العشرين وللشيخ في الستين والسبعين، أو يصفه للعجوز والفتاة والصبية والجارية، كما يصفه للرجال في جميع الأسنان، وعلى اختلاف الأمزجة والأجسام.
إن اسم الدجال هو الاسم الوحيد الذي ينطبق على من يتعاطى الطب على هذه الوتيرة، ولكن هؤلاء الماركسيين أو الشيوعيين، ينكرون أنهم دجالون، ويؤكدون للناس أنهم هم الأطباء النطاسيون، ووصفتهم مع هذا - وصفة واحدة للصين والهند، وللعراق ومصر، ولروسيا وفرنسا، وللجزر البريطانية والولايات الأمريكية - معجزة لا معجزة مثلها في خرافات الأولين والآخرين، تشفي من الحمى والجذام، وتشفي من السل والزكام، وتشفي من الهيضة والطاعون، وتشفي من العته والجنون، وتشفي من الكسور والجراح، ومن العجز والكساح، ومن الورم والسرطان، وتصلح لكل إنسان، في كل أمة وفي كل مكان.
وآفة هذا المذهب الخبيث أنه يعطل الإصلاح، ويضلل عن طريق الصلاح، فلا يعالج الأمم من دائها، ولا يتركها تلتمس دواءها من تجاربها ومحاولاتها، ولا سبيل إلى تقدم أمة بغير هذه التجارب والمحاولات.
ولقد ظهرت عواقب هذا البلاء، وتزداد ظهورا مع الأيام والأعوام، ولكننا نتمثلها، ونتمثل مبلغها من الضرر الوخيم إذا رجعنا مع الزمن، وقدرنا أن هذه الدعوة الماركسية قد شاعت قبل خمسين سنة، أو قبل مائة سنة، فماذا تكون العاقبة اليوم؟ وأين تذهب الجهود التي أثمرت ثمراتها في هذه السنين؟ أين كانت تذهب اليقظة التي تيقظتها الصين؟ وأين كانت تذهب نهضة الحرية في الهند، وأين كانت تذهب حركات الاستقلال في أقطار المشرق والمغرب؟ وأين كانت تذهب العلوم والصناعات التي أسفرت عنها دعوات الإصلاح، كما تنوعت بين أنواع الأمم والأقوام؟
لو قال قائل للأمم قبل خمسين سنة: إن الإصلاح كله عبث ضائع، وإن الدواء كله هو الثورة العالمية التي يبشر بها الماركسيون، فأي خسارة كانت تحيق بالأمم، وأي ضياع للجهود كانت تبتلى به لو سمعت منهم ذلك النعيب، وانطلقت معهم في الهدم والتخريب؟
لا فرق بين كثير من الأمم في وقتنا هذا، وبين كثير من الأمم كما كانت قبل خمسين سنة، ولا تزال هذه الأمم في حاجة إلى التقدم بوسائلها، التي لا تتشابه بين أمة وأمة، ولا يتأتى الاعتماد فيها على شيء غير تراث الأمة في ماضيها وتجاربها في حاضرها، فإذا ابتليت إحداها بدعوة الشيوعية فسوف تعوقها خمسين سنة عن طريقها ثم تعود بعد زوال الغاشية إلى نفسها لتستأنف جهودها في طريق تعترضه الخرائب والإطلال.
وكما تعوق الماركسية إصلاح الشعوب، تتسرب إلى ضمائر الأفراد؛ فتعوق إصلاحهم، وتصرفهم حتى عن محاولة الإصلاح بالوسيلة التي تم بها كل إصلاح، وهي وسيلة الندم، ومحاسبة النفس، وعرفان الخطأ، والعمل على اجتنابه، والخلاص من جرائره ومغرياته ودواعيه.
فمن قديم الزمن، لم يعرف الإنسان سبيلا إلى إصلاح عيوبه غير محاسبة النفس، والعودة عليها باللائمة في حالة التقصير، فيندم المخطئ على خطئه، ويجتهد العاجز في استدراك نقصه، والأخلاق كلها تقوم على شعور الإنسان بمسئوليته أو إيمانه بأنه مكلف مسئول عن عمله.
أما الماركسية فهي تهدم هذا الأساس الذي لا قوام للأخلاق بغيره. وتقول للمذنبين والمقصرين إنكم جميعا أبرياء من التهمة، منزهون من الوصمة، لأن اللوم كله على المجتمع في عجز العاجز، وفساد الفاسد، وإجرام المجرم، وتقصير المقصر؛ فليس على اللص أن يعف عن مال غيره؛ لأن المجتمع كله قائم على السرقة والاستغلال، وليس العجز من عيوب الإنسان؛ لأن القادرين في المجتمع هم المتغلبون بالقوة، والفائزون بغير استحقاق، وليس الكذب عيبا، ما دامت العلاقات الاجتماعية قائمة على النفاق والاختلاق، وليست الفحشاء عارا؛ لأنها نتيجة محتومة لنظام العائلة والزواج، كلما شاعت آداب رأس المال، وليس السقوط في مراتب الاجتماع نقصا يلام عليه الساقط؛ لأن المزايا الاجتماعية غش وخداع واختلاس، وهذا وأشباهه هو الذي يقال للعجزة والساقطين، فيصرفهم عن الاجتهاد في إصلاح نفوسهم، ويفعل في ضمائرهم فعل المسكرات والسموم.
وإذا فرضنا نجاح الشيوعية يوما، فإن مقاييس الأخلاق بعد نجاحها أهبط وأدنأ من مقاييسها في إبان نشر الدعوة إليها؛ لأنها لا تعلم الناس أن يمتنعوا عن السرقة؛ عفة وأنفة من خستها، ولا تعلمهم أن يمتنعوا عن الظلم برا بالضعيف وإيمانا بمبادئ العدل والكرامة، ولا تعلمهم أن يمتنعوا عن الفساد؛ صيانة للأعراض وغيرة على الأنساب. كلا، إنها لا تعلم الناس الفضيلة بل تصور لهم المجتمع الشيوعي كأنه عالم يمتنع فيه السرقة؛ لامتناع وسائلها وعجز الناس عن ارتكابها، ويمتنع فيه الظلم لامتناع الاستغلال، وامتناع التسلط الذي ينشأ من الاستغلال، ويمتنع فيه الفساد؛ لأن المباح والمحرم يستويان في الأنظمة الشيوعية، فكل ما عند المجتمع الشيوعي من وعود الإصلاح هو تجريد اللص من السلاح، وإخلاء الصندوق من المال المطموع فيه، ولن يقوم مجتمع قط على هذه الخلائق السلبية التي لا تعترف بقوة الضمير، فليس فيه فضيلة، إلا وهي في حقيقتها رذيلة موقوفة التنفيذ.
وصلاح العقل مهدد في النظام الشيوعي كصلاح الأخلاق، لأن المطلوب فيه من العلم أن يوافق المبادئ الشيوعية، وليس المطلوب فيه من المبادئ الشيوعية أن توافق العلم، أو توافق المنطق المعترف به بين جميع الناس. وعندهم أن العلم ينبغي أن يكون علما شيوعيا، خاضعا لتفكير ماركس ولنين وستالين، وكلامهم عن ذلك صريح يعلنونه في الخطب، وينشرونه في الكتب. ومنه كلام الأستاذ فافيلوف
Vavilov
رئيس مجمع العلوم في موسكو، حيث يقول من بحثه عن العلم السوفيتي في صورته الجديدة: «إن العلم السوفيتي لم يكن قصاراه أنه فرع من العلم العالمي يتخذ مكانه في الجمهوريات الروسية المتحدة. كلا، بل هو علم منعزل مختلف بطبيعته ونطاقه. ومزيته الأولى، هي أنه دون غيره يقوم على أساس فلسفي واضح، وهو الأساس الذي لا غنى عنه للبحوث العلمية، وعلمنا نحن له أساس من المادية الثنائية التي قررها ماركس وأنجلز وزكاها لينين وستالين.»
وهذا هو البيان الصريح الذي يجهر به رئيس مجمع العلوم في البلاد الشيوعية، ولا يخلو كلام للعلماء الشيوعيين أمثاله من عبارات الحزبية العلمية كحديثهم عن روح الحزب في الرياضيات والنظريات الماركسية اللنينية في الجراحة، فكل فكرة علمية أو فلسفية أو أدبية تخالف الأصول التي وضعها ماركس ولنين وستالين فهي تهمة للعالم، أو الفيلسوف، أو الأديب الذي يهتدي إليها، وشبهة على إخلاصه للحزب والمذهب والدعوة كلها في جملتها، ولم يعرف التاريخ في أظلم عصور الظلام حجرا على العقل البشري، كهذا الحجر العنيف في منتصف القرن العشرين، الذي يقال عنه إنه عصر الحرية والنور. •••
إن الحياة الإنسانية كثيرة النقائص والعيوب، وإنها لفي حاجة دائمة إلى الإصلاح والعلاج، وإن المذاهب الاجتماعية التي تدعو إلى إصلاحها لكثيرة منوعة، ولكننا نهتدي إلى شيء نافع، حين نعرف منها المذاهب التي تعالج مشاكل الناس بحكمة وتؤده، وتتجنب المذاهب الهدامة، ولا سيما المذهب الوخيم الذي يشعوذ على الأمم المختلفة بعلاج واحد، ويسقط عن الإنسان مسئولية عمله، ويحجر على العقل البشري أن يمضي في طريقه المستقيم.
الدعوات الهدامة والناشئة (1)
يستحق أن يسمى مذهبا هداما كل مذهب يقضي على جهود الإنسانية في تاريخها القديم والحديث، ولا سيما الجهود التي بذلها الإنسان للارتفاع بنفسه من الإباحية الحيوانية إلى مرتبة المخلوق، الذي يعرف حرية الفكر، وحرية الضمير.
ومذهب كارل ماركس - صاحب الدعوة التي اشتهرت باسم الاشتراكية العلمية - في مقدمة المذاهب التي تهدم ما بنته الإنسانية في تاريخها الطويل؛ لأنه يبيح لكل طبقة أن تهدم ما بنته الطبقة التي تقدمتها، كأنه لم يكن من عمل بني الإنسان.
هذه المذاهب ينتقدها المنتقدون من الوجهة العلمية، كما ينتقدونها من الوجهة التاريخية، ولولا أنها مذاهب تختلط بالغرائز والشهوات، وتسري بين الأغرار والجهلاء، لما تحملت شيئا من النقد العلمي، ولا من النقد التاريخي، لأن بطلانها أظهر من أن يحتاج إلى عناء شديد في النقد والتفنيد.
فمهما يكن نصيب الإنسان من العلم قليلا، ومهما يكن نصيبه من استقلال الفكر محدودا، فهو - لولا الغرائز والشهوات - يستطيع أن يفهم أن العلم الإنساني لن ينتهي إلى إنسان واحد كائنا ما كان، ويستطيع أن يفهم أن الرأس الذي يدعي أنه أحاط بأسرار الكون كله، ونفذ إلى حقائق التاريخ كلها، ووصل إلى النتيجة التي لا تتغير من بعده ولا يطرأ عليها تعديل ولا تبديل إلى آخر الزمان - هذا الرأس يدعي ما لا يقبله عقل عاقل، ولا يصلح لهداية الإنسانية في طريق العمار والفلاح.
وكارل ماركس لا يدعي شيئا أقل من هذه الدعوى العريضة التي لم يجترئ على ادعائها أحد من قبله؛ لأنه يزعم أن فلسفته أحاطت بأسرار المادة والحياة، وأسرار التاريخ والاجتماع، ووجب أن يدين بها الناس فلا يغيروا منها كثيرا ولا قليلا، فيما يأتي من الدهور والأجيال؛ بل وجب أن يعتمد الناس على فلسفته هذه ليهدموا عالمهم بأيديهم، كأنه معصوم من كل خطأ يدعو إلى التردد قبل هذه المجازفة، وأي مجازفة؟ إنها المجازفة بتحطيم عالم كامل، لا بمجرد تحطيم بيت أو مدينة أو وطن واحد يجمع المدن والبيوت.
لا حاجة إلى الإطالة في البحث العلمي لإنكار هذه الدعوى من أساسها، فهي كلام لا يحتمل البحث الجدي، ولا يصغي إليه المرء، وهو مفيق من غمرة الشهوات والغرائز العمياء.
على أن بطلانها من ناحية الشعور لا يقل عن بطلانها من ناحية التفكير.
فعندما يخاطب كارل ماركس أتباعه ويأمرهم بتخريب المجتمعات قاطبة يقول لهم ما معناه: اخربوها فليس عندكم ما تفقدونه فيها ...؟
وما من عقل يفيق من غمرة الشهوات والغرائز العمياء، يسمع هذه الدعوة فيخطر له أنها دعوة خير وفلاح؛ لأنها حركة يأس وقنوط، ولن يتحقق رجاء العالم من وراء اليأس والقنوط، ولن يصلح العالم من لا يبالون بخرابه ولا يترددون في تحطيمه. ولن يعطي الإنسانية أملا من فقد كل أمل، وتساوى عنده التخريب والتعمير. بل أصبح التخريب أحب إلى نفسه من التعمير.
اليائس لا يفكر ولا يبالي، ولأنه لا يفكر ولا يبالي يخاطبه دعاة التخريب والتحطيم، ولا يهمه صدقوا أو كذبوا في وعودهم. فإن صدقوا فهو مخرب، وإن كذبوا فهو مخرب. وويل للإنسانية من مصير يهجم عليه من فقد العقل والرجاء.
ومن الجائز أن يوجد بين الناس من يستبيحون تخريب العالم لأنهم محرومون فيه. ولكنها إذن حركة شر لا حركة خير، ولا فرق بين هذه الحركة، وبين حركة السباع التي تنطلق من الغابات في طلب الفريسة؛ فليست هي على هذا الاعتبار عقيدة إنسانية، أو مذهبا من مذاهب الفكر التي تقنع بالدليل، وتقبل المناقشة بالبرهان. وإنما هي كارثة تمسخ الطبيعة الآدمية فترتد إلى ضراوة الوحشية، ولا تميز بين العمار والخراب.
وفي العصر الحاضر كثير من الشبان المتعلمين تروعهم حالة البؤس والفاقة التي يبتلى بها المحرومون، وهي حالة تروع النفوس الكريمة، وتحزن من يفكرون فيها، ولا يلام أحد على إنكارها ، وطلب الخلاص منها، ولم يكن بلاء الحرمان فقط موضع خلاف بين طلاب الإصلاح، وإنما الخلاف في العلاج الذي يدعو إليه طلاب الهدم والخراب. فإذا كان العلاج سما فهو شر من الداء الذي يعانيه المريض. ومن الواجب على من ينكر المرض أن ينكر السم من باب أولى.
ما من أحد يقول إن المريض غير مريض، ولكن الذي يقولونه هو أن الطبيب غير طبيب، وأن الدواء الذي يصفه سم يميت، ولا يرجى منه شفاء، وفرق عظيم بين القولين.
على أن الحلال بين، والحرام بين، وللحق علاماته وللباطل كذلك علاماته، وأبناء هذا الجيل - ممن أصابوا حظا من العلم، خليقون أن يعرفوا تلك العلامات من تجارب الإنسانية التي نسميها التاريخ، ومن بداهة الفكر التي يهتدي إليها الطبع السليم.
فلا حق ولا صلاح في مذهب يدعي علم الماضي كله، وعلم المستقبل كله، ويرسم لأبناء هذه الدنيا مستقبلا لا ينحرفون عنه ولا يتصرفون فيه أو تصرفهم فيه نواميس الكون وطبائع الأمور.
ولا حق ولا صلاح في مذهب يجعل الأطوار التاريخية جميعها مرهونة بالفوارق بين الناس في المال أو في إنتاج المال، وينسى تلك الفوارق التي لا عداد لها بين القوي والضعيف، وبين الذكي والغبي، وبين المجتهد والكسلان، وبين الطموح والقانع، وبين الجميل والقبيح، وبين المنجب والعقيم. فإن كان هناك عقل يتوهم أن هذه الفوارق ملغاة معطلة في تاريخ الإنسانية، وأن الفارق الوحيد الذي يعمل في هذا التاريخ هو فارق الأجور وأسباب الإنتاج، فهو هو العقل المعطل أو العقل المضلل الذي لا يدرك طبائع البشر، ولا يصلح لهدايتهم إلى سبيل التقدم والفلاح.
ولا حق ولا رجاء في مذهب يقوم على اليأس والقنوط، ويأمر بالشر والعداء، ويوجه خطابه إلى أسوأ الأخلاق في أسوأ النفوس، مستعينا بالحسد تارة وبالحقد تارة أخرى، وبالغرور والتواكل في جميع الأحوال.
ولا حق ولا إنصاف في مذهب يمحو مسئولية الفرد ويلقي المسئولية كلها فيما يعيبه على المجتمعات والأمم، بعد أن تقدم الفرد في طريق الحرية، وكاد أن ينحصر التقدم الإنساني في نتيجة واحدة: وهي المسئولية الفردية: مسئولية الإنسان الذي يحاسب بأخلاقه وأعماله، ولا يفرض فيه أنه في قبضة المجتمع آلة من الآلات.
ولا حق ولا تمييز في مذهب يطلق نوع الإنسان بعضه على بعض وحوشا تتوثب على وحوش، مذهب يجهل نوع الإنسان أو يتجاهله تعصبا لطبقة واحدة منه دون سائر الطبقات، كأنها هي وحدها التي تستحق صفة الإنسانية، وما عداها من غير بني الإنسان.
فليس الأغنياء كلهم بالشياطين الأشرار، وليس الفقراء كلهم بالملائكة الأخيار. وقد أساء الأغنياء قديما وحديثا، ويسيئون غدا إلى غير نهاية، وأساء الفقراء قديما وحديثا، ويسيئون غدا إلى غير نهاية.
فما كان الغنى كله إثما وإجراما، ولا كان الفقر كله طهرا وبراءة. وقد استفادت الإنسانية من عمل الأغنياء كما استفادت من عمل الفقراء. بل لولا الغنى الذي مكن لبعض الناس من إقامة الصروح الباذخة والتدثر بالملابس الفاخرة، واقتناء التحف الثمينة، لما وجدت هذه الصناعات التي يعيش منها ألوف العاملين في كل بقعة من بقاع العالم المعمور، ولولا مطالب الغني في الأزمنة الماضية لما سارت القوافل في القفار، ولا مخرت السفن المشحونة عباب البحار، ولا اهتم أحد برصد الأفلاك التي تهدي الراحلين في الملاحة والسياحة، ولا ارتقى فن البناء، أو فن النجارة، أو فن النسيج، وما إليها من هذه الفنون التي عم نفعها الغني والفقير والمالك والأجير.
وإن كاتب هذه السطور يبغض الشيوعية، وليس هو من الأغنياء، ولم يكن قط من الأغنياء ولن يكون يوما من الأغنياء. ولكنه يرى أن الفقير الذي يحجب الحقيقة عن نظره بيديه يحرم نفسه نعمة الفهم، ويجمع خسارة العقل إلى خسارة المال. ومن ظن أن مذهبا من المذاهب سيمحو عيوب الأغنياء، ويترك بني الإنسان مبرئين من العيوب فهو غافل راض عن الغفلة، ومثل هذا أجدر بالرثاء له من الجائع والمحروم.
كل أولئك المذاهب والدعوات بين الضلال والبطلان، ولا يستعصي على أحد أن يلمح علامات بطلانه إذا جرد نفسه من الهوى المفسد للشعور والتفكير؛ لأنه يعمي ويصم كما يقولون.
إنما يرجى صلاح الإنسانية من المذاهب التي تبشر بالتعاون والإخاء، لا من المذاهب التي تثير العداوة والبغضاء. إنما تتقدم الإنسانية بجميع أجزائها لا بجزء واحد منها نسميه باسم طبقة ما في كل عصر من العصور.
ومن علامات المخربين والهدامين أنهم يخدعون الناس بالأباطيل، ومن علامات الخداع بالأباطيل أن يقال لليائسين إنكم إن خربتم هذا العالم بما فيه من الفساد جاءكم عالم آخر كله صلاح وعدل وإنصاف.
فالحق الذي لا شك فيه أن الناس لن يستغنوا عن إصلاح جديد في كل عصر جديد؛ كأنهم الطفل الذي يودع نقص الطفولة ليعالج نقص الشباب، ويودع نقص الشباب ليعالج نقص الرجولة، ويترقى بذلك درجة بعد درجة في معارج الكمال.
وغاية الفرق بين الفرد والنوع الإنساني أن الفرد يشيخ، والنوع الإنساني لا يشيخ. وأولى الناس أن يؤمنوا بهذه الحقيقة هم أبناء الجيل الجديد. لأنهم شباب يرجى منه العمل لتخليد الشباب. وتلك دون غيرها هي العصمة من آفة الهدم؛ لأنها دعامة كل بناء.
الدعوات الهدامة والناشئة (2)
اشتهر عصرنا هذا بالدراسات النفسية، وتناول الباحثون بهذه الدراسات أحوال الأفراد على اختلافهم، وأحوال الأمم على اختلافها، فبحثوا في نفسية البطل، ونفسية العبقري، ونفسية المجرم، ونفسية الطفل والمراهق، وبحثوا كذلك في أطوار الجماعات وعقائدها، وعوامل التأثير فيها. واستفاد الناس من هذه المباحث فوائد شتى في شئون التربية والتعليم والسياسة.
ولكن هذه الدراسات النفسية قد أصابها ما يصيب كل بدعة جديدة يلهج الناس زمنا من الأزمان: أصابها الإفراط في تطبيقها على كل شيء وكل حالة، فأصبحنا ونحن نسمع بالعقد النفسية في تعليل كل مشكلة من المشكلات الخاصة أو العامة، وكلما ذكر الذاكرون بدعة في سلوك بعض الجماعات، أو سلوك بعض الأفراد، وجدنا من يقول: هذه عقدة نفسية، هذه نزعة مكبوتة، هذه حالة من حالات الوسواس التي يعالجها الأطباء النفسانيون، وليس الأمر دائما على هذا الوصف الذي يصفونه، فإن المشكلات الاجتماعية كثيرا ما ترجع إلى أسباب لا علاقة لها على الإطلاق بالعقد النفسية، سواء بحثنا عن هذه العقد في نفوس الأمم أو نفوس الأفراد، ومن الواجب أن نعرف هذه الحقيقة إذا أردنا أن نواجه مشكلاتنا، ونصلح من أمورنا؛ لأن الصواب في تشخيص الداء هو نصف العلاج.
من المشكلات التي يردونها إلى العقد النفسية مشكلة الشاب العصري وموقفه من الدعوات الهدامة ومذاهب الفوضى والانقلاب.
فمن المحقق أن الأمراض النفسية تدفع ببعض الشبان إلى الإصغاء لهذه الدعوات، بغير بحث فيها ولا معرفة لحقيقتها.
ولكن من المحقق أيضا أن مشكلة الشاب العصري - في هذه المسألة - لا ترجع كلها إلى الأمراض النفسية المزعومة؛ بل يرجع الكثير منها إلى أحوال تتعلق بنظام التعليم، أو تتعلق باتساع التعليم، أو باتساع العلاقات العالمية واشتراك بني الإنسان جميعا في ظروف متشابهة، وكل أولئك لا شأن له بالأمراض النفسية ولا بالأطباء النفسانيين، وقد يكون الشأن فيه للمصلحين من رجال التربية والسياسة، قبل غيرهم من القائمين بالإصلاح.
فمن المصاعب التي تصادف الشاب العصري أنه يبقى في المدارس إلى نحو الخامسة والعشرين من عمره، إذا أراد أن يتخرج من المدرسة العالية.
لم تكن هذه المشكلة مما يواجه الشاب في العصور الماضية، لأنه كان يكتفي بمعرفة القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، وشيء من المعارف العامة، ولا يبلغ الخامسة عشرة حتى يكون قد أخذ نصيبه في المعرفة اللازمة له في معيشته، ثم يتزوج وهو في باكورة صباه، فيحمل أثقال المسئولية ولا يتسع وقته لغير شواغله الخاصة، أو يشتغل بما يسمعه من المسائل العامة، وهو على انفراد. لأنه لا يجتمع بالمئات والألوف من أقرانه كما يجتمع اليوم طلاب الكليات والجامعات.
أما اليوم فالشاب يتعلم في مدرسة بعد مدرسة حتى يبلغ الخامسة والعشرين أو يجاوزها أحيانا إلى الثلاثين. فهو يقضي فورة الشباب الأولى في دور التعليم. لا يزاول تجارب الحياة، ولا تثقله تكاليف المسئولية، ولا تتيسر له المعيشة الزوجية قبل إتمام تعليمه، واستعداده للعمل في المجتمع، أو في وظائف الحكومة، ومع خلوه من المسئوليات والتجارب التي تضطره إلى التأني والتردد، لا يزال في قلق الشباب مشتركا مع المئات من أقرانه في مثل هذا القلق، ومثل هذا الخلو من المسئولية، وهذه فرصة سانحة لمن ينشرون دعوات الهدم والفوضى ، فإذا استغلوا فرصتهم فهناك أسباب غير العقد النفسية تفسر هذا الاستغلال، أو تفسر موقف الشاب العصري من تلك الدعوات.
وهذا الشاب الذي يتعلم حتى يناهز الثلاثين، يفوق في المعرفة أنداده من أبناء العصور الماضية بلا مراء، ولكنه لا يفوقهم في الخبرة، ولا في المسئولية. لأن الشاب في العصور الماضية إذا بلغ الثلاثين كان صاحب أسرة ومسئولية، وكان قد مارس التجارب عدة سنين، فهو يعوض بالتجربة والمسئولية ما فاته من المعارف المدرسية التي يتعلمها الشبان العصريون في هذه الأيام.
على أن المعرفة القليلة كانت كافية للشاب في العصور الماضية؛ لأن المسائل العامة التي تشغله قلما تتخطى حدود قريته أو حدود وطنه، وهي لا تتطلب منه رأيا جديدا، أو حلا جديدا لمشكلات ذلك الوطن أو تلك القرية.
أما اليوم فأخبار العالم من جميع القارات تصل إلى البيوت في كل قطر وكل بلدة: تصل من طريق الإذاعة، أو من طريق الصحف، أو من طريق الصور المتحركة. فالمعارف الكثيرة التي يتلقاها الشاب العصري في المدرسة لا تكفي لإدراك مشكلات العالم بأسره، ولا تغني في الإحاطة بأسبابها ودواعيها ووجوه النظر فيها، ومنها ما يحتاج إلى دراسة التاريخ الإنساني من أوله، ومنها ما تشتبك فيه معضلات العلم والاقتصاد والسياسة والتشريع، فهو بالنسبة إلى أنداده في العصور الماضية أقل منهم قدرة على فهم مشكلاته وتدبير سلوكه، وإن كان أوفر نصيبا في الدرس والاطلاع.
وإذا أردنا أن نضرب مثلا للفرق بينهما، قلنا: إن الشاب في العصور الماضية كان يستضيء بشمعة واحدة ولكنها تنير له مسكنه كله، لأنه كان يسكن في حجرة صغيرة.
أما الشاب العصري فإنه يستضيء بعشرات الشموع، ولكنه لا يزال في الظلام، لأنه يريد أن يضيء منزلا متعدد الغرف والحجرات. •••
وهناك فارق آخر بين الشاب العصري والشاب في العصور الماضية، يرجع أيضا إلى اختلاف النظم الاجتماعية والسياسية، ولا يرجع إلى مرض من أمراض النفس المزعومة، ولكنه فارق يؤثر في اختلاف الموقف بينهما من ناحية المذاهب أو الآراء الاجتماعية.
هذا الفارق الكبير هو فارق الحرية في العصور الحديثة.
ففي العصور الماضية كانت سياسة الدول سرا من أسرار القصور لا يطلع عليها أحد غير حكام الدول والمقربين إليهم، وإذا اتصل خبر من أخبارها بعامة الناس تلقوه بين التصديق والتكذيب، واغتبطوا بالاطلاع عليه والتحدث فيه، كأنهم قد اطلعوا على نبأ من أنباء العالم الآخر، ولم يكن خبر من هذه الأخبار ينتشر بين الناس في صورة الوقائع العلنية التي يتناولها الكلام الصريح والتعليق المتواتر، سواء كان ذلك الخبر من الأسرار الشخصية الخاصة، أو من أسرار الدولة ومعلومات السياسة العليا كما يقولون في هذه الأيام.
وكان من نتيجة هذا الكتمان الذي يحيط بأعمال الحكام وأحوالهم أن عيوبهم ونقائصهم ظلت مجهولة مشكوكا فيها، ولم تكن على الأقل موضوع الأحاديث الشائعة في المحافل والبيوت، فاحتفظوا بالهيبة التي تعصمهم من الابتذال، وأحاطت بهم شعائر التوقير التي توجب الثقة والاطمئنان.
أما اليوم - في ظل الحكومات الديمقراطية - فأحوال الحكام معلومة ونقائصهم مشهورة، وهم يتنازعون فيما بينهم، ويجتهد كل فريق منهم في إعلان أخطاء خصومه ومنافسيه، وربما شاع اللغط بشئونهم الخاصة في بعض الصحف أو النشرات التي لا تتورع عن الخوض في هذه الشئون. وكثيرا ما يحدث أن حكام دولة يحملون على حكام دولة أخرى، ليتهموهم بنقض العهود وتعكير صفو السلام وتهديد العالم بالمنازعات والحروب.
ومن البديهي أن هذه العيوب كانت موجودة في حكام العصور الماضية، وربما كان حكام العصر الحديث خيرا من أسلافهم في كثير من المزايا والصفات، ولكن الحكام في العصور الماضية كانوا مستورين فكانوا موضع الاحترام والثقة والاطمئنان، أما حكام العصر الحديث فلا تخفى عيوبهم ونقائصهم كما تخفى عيوب الأقدمين ونقائصهم، فلا عجب إذا اجترأ عليهم المجترئون، واستعدت الأسماع دائما لقبول الطعن في الحكومات وقبول دعوات التغيير والتبديل؛ بل قبول دعوات الفوضى والانقلاب، وبخاصة إذا كان السامعون خلوا من التجربة، قاصرين عن فهم المقارنة بين الحاضر والماضي، والمقارنة بين الحاضر والمستقبل، مسرعين إلى استجابة كل صوت ينادي بالتغيير، عن جهل منهم بسوء النية وسوء المصير.
واتفقت هذه الفوارق، في جيلين متعاقبين، شهد كل منهما حربا عالمية عمت جوانب الكرة الأرضية، ديست فيها الحقوق والحرمات، وتخللها ما يتخلل الحروب من شر وفساد واجتراء على الأنفس والأعراض، واختلال في توزيع الثروة بالكسب الحلال أو بالكسب الحرام، ونشأ الأطفال والصبية في هذين الجيلين وآباؤهم مشغولون عنهم في ميادين القتال أو في ميادين السعي والاجتهاد، فلم يشعروا بالوازع الأخلاقي الذي كان الناشئون يشعرون به فيما مضى، وينتفعون به في التأني والتريث قبل الاندفاع فيما يجهلون عقباه.
هذه العوارض كلها ترجع إلى أسباب نظامية أو سياسية لا علاقة لها بالعقد النفسية التي يتردد ذكرها في هذا الزمن، وليس حديثنا اليوم مما يتسع للبحث في علاجها واتقاء أضرارها، لأن البحث في هذا الموضوع مهمة يشترك فيها المصلحون من أقطاب التربية والتشريع والسياسة. وتستلزم النظر في تقدير زمان التعليم ومكانه، والتوفيق بين تحصيل العلم ومسئوليات الحياة البيتية أو الحياة الزوجية، وكل أولئك محل للتأمل والمراجعة وتكرار التجارب في مختلف البيئات والمجتمعات.
إنما أردنا بالإشارة إلى هذه العوامل أن نرجع ببدعة العقد النفسية إلى حدودها المعقولة. فليست كل مشكلة اجتماعية عقدة نفسية في الأمة، وليس كل نزعة طارئة عقدة نفسية في هذا الإنسان أو ذاك، وللمشكلات الكبرى والصغرى أسباب غير العقد النفسية والأمراض النفسية، فما كانت هذه الدنيا مستشفى نعلل كل حادث فيه بالعلل. ونحول كل داخل فيه إلى حجرة الإسعاف. ولكنها دنيا معاش وعمل، قد تطرأ شكاياتها من جانب الصحة كما تطرأ من جانب المرض. والمهم أن نعرف ما نشكوه على حقيقته، لأننا لا نزيل الشكوى ونحن نجهل أسبابها، ومن عرف ماذا يشكو، عرف كيف يطلب السلامة والنجاة.
العائلة والوطن والدين
العائلة والوطن والدين أقوى الدعائم التي قام عليها بناء الحضارة الإنسانية.
ولو أننا نزعنا من تاريخ الإنسان كل ما استفاده من تكوين العائلة والوطن والدين؛ لما بقي من الإنسان المتحضر أثر، ولعاد الإنسان كرة أخرى إلى الهمجية، بل إلى الوحشية، لأن الفارق الأكبر بين أبناء الحضارة وبين الهمج أو الوحوش، هو الألفة بين الإنسان وأهله وإخوته في وطنه، وهو الهداية التي استمدها من شرائع الوطن وآداب الدين.
ومن تعاسة الهدامين الداعين إلى الفوضى والفساد أنهم يهدمون كل دعامة من هذه الدعائم، ويزعمون أن الخير كل الخير في نقضها ومحو آثارها وإعلان العداء للماضي بأسره، كأنهم يعلنون العداء على ماضي نوع آخر من الحيوان، غير نوع الإنسان.
ولو كان التقدم الذي يتحدثون به معناه أن يهدم الناس كل ما بنته الإنسانية في غابر عصورها، لوجب أن نلغي ما تعلمناه من صناعاتها في مآكلنا وملابسنا ومساكننا وآلات المعيشة في بيوتنا ومجتمعاتنا، ولكن دعاة الهدم والتخريب لا يجترئون على الدعوة إلى هذه الحماقة، لأن الخراب الذي تؤدي إليه محسوس ملموس لا يقبل الجدل ولا المغالطة، ويخيل إليهم أن الخراب الذي يؤدي إليه هدم العائلة والوطن والعقيدة أهون من ذلك الخراب الذي نحسه ونلمسه، والواقع أن هدم العائلة والوطن والدين أسوأ عاقبة من هدم الأماكن والبيوت.
من العائلة دون غيرها تعلم الإنسان أصول الاجتماع وقواعد الأخلاق وعلاقات التعاون بين العاملين في البيئة الواحدة، وفي كل لغة من لغات العالم شواهد على ذلك تظهر لنا من مراجعة الكلمات التي تدل على الفضائل والصفات المحمودة.
فالرحمة مأخوذة من الرحم وهو القرابة في الأمهات والآباء.
والكرم مأخوذ من الأصل العريق المنزه عن الأخلاط والأوشاب.
والحرية أيضا تفيد هذا المعنى بعينه، فيطلق وصف الحر على النسب الخالص من الهجنة والعبودية.
والعزة تطلق على الأسرة التي لا تغلب لكثرتها، «وإنما العزة للكاثر»، كما قال الشاعر المعتز بقبيلته وقومه.
والشيخ والكبير والرئيس هي كلها كلمات كانت تطلق على الأب الذي تقدم في السن، ثم أطلقت على كل متقدم في جماعة من الجماعات، حتى أطلقت على الحكيم الفيلسوف، كما سمي ابن سينا بالشيخ الرئيس.
وإلى العائلة يرجع الفضل في حفظ كثير من الصناعات التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.
وإلى العائلة يرجع الفضل في عمل العاملين للمستقبل، وسعي الإنسان لما بعد حياته.
وعيب العائلة في رأي دعاة الهدم والفوضى أنها تحرض الآباء والأمهات على توريث الأبناء والبنات، وقد يكون في نظام التوريث عيب كبير أو صغير لا يستحيل إصلاحه بالقوانين وآداب الاجتماع. أما المستحيل قطعا فهو إلغاء الوراثة من قوانين الطبيعة. فإن الأب يورث ابنه الحميد والذميم من أخلاقه، ويورثه القوي والضعيف من وظائف بنيته، ويورثه الصحيح والسقيم من طباعه وأعضائه، ويورثه الجميل والقبيح من ملامحه وقسمات وجهه، وليس من حق المجتمع أن يحرم الولد كل ميراثه من مال أبيه إذا كان المجتمع عاجزا عن حماية هذا الولد من وراثة الضعف والقبح وسوء الاستعداد، بل ليس من مصلحة المجتمع أن يسوي بين الرجل الذي يعمل للغد، والرجل الذي يعمل لساعته والرجل الذي يتواكل ويتوانى ولا يعمل لغده ولا لساعته، لأنه قانع بالعيش من معونة المجتمع وفضل إحسانه.
إن الهدامين المخربين سريعون إلى الهدم والتخريب لغير سبب يقنع أحدا ممن يكرهون الهدم والتخريب، ولولا شهوة الخراب في نفوسهم الممسوخة لما تهجموا على نظام الأسرة ذلك التهجم الذي لا يقنع أحدا بهدم جحر من جحور الحشرات، على أن التهجم في دعوتهم إلى هدم الوطن أغرب من هذا التهجم على هدم العائلة، لأن التدبير العالم بغير أوطان مستحيل، أما تدبير المجتمع بغير عائلة فقد يتيسر إلى حين.
فما من وطن من الأوطان يزرع كل ما يحتاج إليه أو يخرج من المعادن كل ما يستخدمه في صناعاته، وما من حكومة تستطيع أن تنفرد في مكان واحد بتنظيم المحصولات والمصنوعات على حسب الحاجة في كل وطن على حدة، وما من حكومة تستطيع أن تنفرد في مكان واحد بتنظيم مواصلات البر والبحر والهواء على حسب المواعيد التي توافق جميع الأقطار والأنحاء، فلا غنى في نهاية الأمر عن الإدارة الوطنية، ولا غنى عن استقلال كل وطن بشئونه، ثم اشتراك جميع الأوطان في الشئون العالمية، وكلما اتسع العالم تعددت فيه جوانب التخصص، ووجب أن يختص فريق من الناس بجانب من هذه الجوانب. فلماذا نهدم الأوطان ونحن أحوج إليها في هذا الزمن الذي شاع فيه التخصص وتوزيع الأعمال؟
يقول دعاة الهدم والفوضى: إن الوطن للغني وحده وإنه لا وطن للفقير ، ويقولون: إن الغرض من قوة الوطن هو حماية الدولة التي يسيطر عليها الأغنياء.
ولم ينكر أحد أن الأغنياء يطمعون وأن الفقراء يهانون، ولم يقل دعاة الهدم والفوضى في اتهام الأغنياء إلا بعض ما قالته كتب الدين، ومنه: إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، ومنه: إن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني إلى ملكوت السماوات.
لم ينكر أحد هذا، ولم يقل دعاة الهدم والفوضى إلا بعض هذا، ولكن الذي ننكره ولا ينكره أعداء الهدم والفوضى هو تقبيح الوطنية على إطلاقها وإقامة هذه العلاقة الإنسانية، وكل علاقة غيرها على أساس واحد هو أساس الفلوس، وتوزيع الفلوس.
إن في نفوس الناس شيئا، بل أشياء جمة لا تحكمها هذه الفلوس، ومنها الغيرة الوطنية الصادقة التي تعلموا منها دروس التضحية والنخوة، وهانت عليهم أرواحهم وأرواح أبنائهم في سبيلها، وليس تاريخ الإنسانية تاريخ بنك أو شركة تجارية حتى نرجع بأطوار الإنسانية جميعا إلى توزيع الأسهم والأرباح وتدبير الحصص وأساليب الاستغلال، ولو كان المال وحده كافيا لخلق الأوطان وإقناع الناس بالتضحية لما كانت هناك حاجة - مع وجود المال - إلى الإيمان بشيء من الأشياء، ولا احتاج الشيوعيون أنفسهم إلى تسمية الحرب العالمية بالحرب الوطنية، بعد أن جربوا حفز الهمم بمذهبهم المميت فتخاذلت في ساعة الشدة والفداء.
كلا. ليس تاريخ الأوطان تاريخ بنك ولا شركة، وإنما نرجع إلى تاريخ الأوطان فنعلم يقينا أنها تقوى وتزدهر بمقدار ما في النفوس من الشجاعة والإقدام والتضحية والصبر على الشدائد والشغف بالمعرفة والجمال، وإنما تزول الأوطان أو تقترب من الزوال كلما استسلمت للغنى والثروة وغلب فيها النزف والمتاع على الفضيلة والثبات؛ تزول أو تقترب من الزوال كلما طغى فيها طمع المال على الشجاعة وقوة الأخلاق.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الوطنية تقترن بكثير من الشرور والأخطاء، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الحياة نفسها ما خلت قط، ولن تخلو أبدا من شرورها وأخطائها، ولكن من السخف واللغو أن نحكم من أجل هذا بإلغاء الحياة أو إلغاء الوطنية، وأن نعتقد لحظة واحدة أن النظام الذي نستبدله بالوطنية سيأتي إلينا معصوما من كل نقص مبرأ من كل عيب.
يخطر لي أحيانا أن أسأل نفسي: ترى لو هبط على الكرة الأرضية نوع من الأحياء عدو للنوع الإنساني منطو على حب النكاية به وتحقير أعماله وآثاره - ماذا يقول عن تاريخ البشر فيما مضى غير ما يقوله الشيوعيون ودعاة الهدم والفوضى على العموم؟ وبأي أسلوب يعبر عن حقده وضغينته على الأجيال الماضية غير الأسلوب الذي يعبر به الشيوعيون عما يسمونه تارة بالفروسية وتارة بالبرجوازية، وتارة برأس المال، وينسون أنهم يطلقون هذه الأسماء على نوع الإنسان الذي ينتسبون إليه؟
يكفي هذا السؤال ليعلم السائل والمجيب أنه يواجه أعداء الإنسانية حقا حين يواجه دعاة الهدم والفوضى، وأنهم لو كانوا نوعا غريبا طارئا على الكرة الأرضية، لما كان تصويرهم للإنسانية أقبح من هذا التصوير. فهم يحكمون على الإنسانية حكم الأعداء على الأعداء ويعاملونها معاملة الخصوم البغضاء في ميادين القتال، ويتعقبون كل أثر من آثارها كأنهم يكرهون أن يبقى لها أثر أو يتخلف منها تراث مذكور، فلا جرم يستديرون إلى العقائد والأديان ليبطلوها أصلا وفصلا، كما استداروا على العائلة لتمزيقها وعلى الوطن لازدرائه وتدنيسه، وحسبهم من العقائد والأديان أنها تراث إنساني ماض لتستحق منهم أن ينقلبوا عليها بالمقت والتفنيد والإلغاء.
ونعود فنقول: إن اشتمال العقائد الإنسانية في العصور الماضية على الخرافات والأباطيل أمر مفروغ منه بين المتدينين أنفسهم فضلا عن غير المتدينين، ولكننا نسأل عن ألزم اللوازم الجسدية للأحياء وهو الطعام: هل خلا طعام الناس قط في الزمن الحاضر أو الغابر من الفاسد والضار، ومن الغث والتافه الذي لا يفيد؟ هل عرف الناس حتى اليوم حقائق الهضم وأصول التغذية؟ هل ينسون شهوات الذوق والطعم التي تعود عليهم بالوبال؟
إن سوء التغذية مشكلة الساعة في جميع الأيام وبين جميع الطبقات، ولم يقل أحد من أجل هذا إن الطعام باطل أصلا وفصلا، وإن الإنسانية ينبغي في المستقبل أن تكف عن طلب الغذاء. فمن السخف واللغو أن يقال: إن الضمير الإنساني يكف عن الاعتقاد لأن بعض العقائد ممتزج بالخرافات والأباطيل، وليست المسألة في طعام الجسد ولا في طعام الروح أن هناك أطعمة فاسدة وشهوات جامحة، وإنما المسألة أن هناك معدة تطلب غذاء الجسد، وأن هناك ضميرا يطلب غذاء الروح.
وإذا جازت المقارنة بين خرافة وخرافة فدعاة الهدم والفوضى هم الخاسرون في هذه المقارنة. لأن المتدينين الذين يؤمنون برب أعظم من الإنسان معذورون إذا نسبوا إليه الخوارق والمعجزات. أما غير المعذورين وغير المعقولين فهم الذين يؤمنون بمذهب إنسان من بني آدم وحواء ويصدقون أنه قد نقض تاريخ العالم فيما مضى وقرر للعالم تاريخا لما يأتي من الزمن، وكذلك يؤمنون بكارل ماركس ومن نحا منحاه. •••
إن تاريخ الإنسانية هو تاريخنا، وليس تاريخا لنوع آخر نعاديه ويعادينا، ومن الحق له علينا أن نتردد طويلا قبل هدمه وتقويضه، ولو قامت الحجة القوية عليه وتواترت الأدلة على نقضه. فربما كان الخطأ في الحجة، أو كان التأني خيرا من العجلة، ولكن الهدامين المخربين ينظرون إلى تاريخ الإنسانية كأنه تاريخ أعداء ألداء يتعقبونهم في ميادين القتال. فالهدم عندهم هو الأصل، والعفو أو الإعفاء هو الاستثناء، ولم يكن تعجلهم إلى هدم نظام العائلة ودك قواعد الوطن وتدنيس حرمات الدين منبعثا من قوة الحجة، بل من سهولة الهدم والتخريب على بعض الطبائع المبتلاة بالمسخ والتشويه، وستزول هذه الغاشية، وتتحطم معاول الهدم في أيدي ذويها، فليس للهدامين حظ من النجاح الدائم ما دام للإنسانية بناء قائم وأجل ممدود.
العامل والماركسية
من الأوهام الشائعة أن الحكومة الماركسية هي حكومة العمال والصناع، وأن العمال والصناع في البلاد الماركسية هم أصحاب السلطة في الحكومة، وأصحاب الحق في إدارة المصانع وتوجيه النظم الصناعية، وأن نقابات العمال هي اللجان التي توكل إليها مهام النظر في مصالح الطبقات العاملة على اختلافها، وأن العامل بعبارة وجيزة هو الحاكم المتصرف في الدولة الشيوعية، سواء من طريق السلطة الفعلية أو من طريق السلطة بالتوكيل والانتخاب.
هكذا يتوهم الجاهلون بحقائق الأحوال، وهكذا يتخيلون النظام المزعوم على صورة هي أبعد ما تكون عن الواقع الماثل للعيان، وأشد ما تكون عن المبادئ المقررة في أقوال الزعماء الشيوعيين.
فالواقع المقرر في المذهب الشيوعي أن التعويل على النقابات مذهب مكروه عند أتباع كارل ماركس، وأنه معطل للحركة الشيوعية التي يبشر بها هو وتلاميذه ومريدوه، لأن التعويل على النقابية هو مذهب النقابيين والسندكاليين الذين يخالفون الشيوعية في الوسائل والغايات، وينكرون الاعتماد على الحكومات جميعا بغير تفرقة بين الحكومة الموقوتة والحكومة الدائمة، ومن الواجب في مذهب الماركسيين أن ينظروا إلى نقابات العمال بعين الشك والحذر، وأن يحولوا بينها وبين السلطة الفعالة في إدارة الدواوين الحكومية، خوفا من أن تتغلب سلطة النقابة على سلطة الحزب، وأن يجري العمل على مذهب النقابيين السندكاليين، لا على مذهب الشيوعيين الماركسيين.
ومن كلام «لينين» قبل الثورة الروسية: إن جماعات العمال، أو نقاباتهم، قد ينافس بعضها بعضا، وقد يعمل فريق منها على محاربة فريق آخر بالمناقصة في الأجور والمزايدة في ساعات العمل، ولهذا يجب عنده أن تكون سلطة الحزب غالبة على النقابات جميعا، وأن يكون الرأي الأعلى للسلطة السياسية التي تتولى شئون الدولة، ولا يكون رأي النقابات إلا تابعا خاضعا لتلك السلطة السياسية.
أما الجماعات أو اللجان التي يسمونها بالسوفييت فليست هي جماعات مؤلفة من العمال والصناع، كما يخطر على البال، ولكنها جماعات مختلطة من المديرين والمشرفين على المصانع والقائمين بتنفيذ المشروعات الاقتصادية، ومعهم بعض الصناع والعمال اليدويين ممن لا صوت لهم في أمثال هذه الاجتماعات، ويمكن أن يقال بعبارة أخرى: إن جماعات «السوفييت» هي نسخة أخرى من اللجنة التي يسمونها لجنة الفابريقة، أو لجنة إدارة المصنع، وهي أشبه ما تكون بمجلس الإدارة في المصانع الأوروبية التي تخضع لنظام رأس المال، وغاية الفرق بين لجنة الفابريقة وبين مجلس الإدارة في المصانع والشركات أن الأعضاء أصحاب الأسهم يحلون في مجلس الإدارة محل المديرين والمهندسين في لجان السوفييت أو لجان الفابريقات، وربما تشابهت مجالس الإدارة ولجان الفابريقات تمام المشابهة؛ لأن أصحاب رءوس الأموال في البلاد الأوروبية والأمريكية يتركون العمل أحيانا للمهندسين والمديرين.
خلاصة هذا كله أن السلطة السياسية غير السلطة النقابية في البلاد الشيوعية، وأن العمال والصناع لم يزالوا تابعين للساسة وكبار الموظفين في الدولة، وأنهم مسخرون لنظام الإنتاج الذي يفرضه عليهم السياسيون وأصحاب الشأن في الحكومات.
ومنذ قامت الثورة الشيوعية تجتمع النقابات في ناحية، وتجتمع لجان الحزب المسيطرة على الحكومة في ناحية أخرى، وقاعدة النظام في النقابات أنه إذا اجتمع في النقابة ثلاثة من أعضاء الحزب السياسي وجب أن يرجعوا إلى رئاسة الحزب في جميع الأوامر والتعليمات، ووجب على النقابة أن تخضع لما يمليه عليها الأعضاء الحزبيون.
لهذا يقال من حين إلى حين إن المؤتمر العاشر للنقابات قد اجتمع في هذه المدينة أو تلك، ويقال في الوقت نفسه إن المؤتمر الخامس عشر أو السادس عشر للحزب الشيوعي قد اجتمع قبل ذلك أو بعد ذلك، ويتفق كثيرا أن تكون القرارات هنا مناقضة للقرارات هناك، ولكن الرأي الأخير على كل حال لإدارة الحزب في جميع الأمور، أما الرأي الأخير في قرارات الحزب نفسه فهو رأي البوليس السياسي من داخل الحزب، بغير تعقيب ولا استئناف.
ويمكن أن تعرض على مؤتمرات النقابات طلبات الزيادة في الأجور، ولكن السلطة السياسية هي التي تقدر الأجور المختلفة، وتلاحظ في ذلك أن تختلف الأجور «أولا» باختلاف نوع الصناعة، و«ثانيا» باختلاف القدرة على العمل، و«ثالثا» باختلاف عدد القطع التي ينتجها العامل، و«رابعا» باختلاف الأقاليم والمدن واختلاف المحصولات التي تلزم للتموين في كل إقليم. وحجة السياسيين في ذلك أن النقابات لا تستطيع الإشراف على هذه المسائل المتعددة، وأن إشرافها مقصور على صناعتها في مدينتها أو إقليمها، فلا مناص إذن من ترك الأمر للسلطة السياسية في تقدير الأجور.
وإلى زمن قريب لا يتجاوز بضع سنوات كانت النقابات مقسمة على حسب الصناعات، فصناع الفحم في البلاد كلها ينتمون إلى نقابة واحدة، وصناع الحديد ينتمون إلى نقابة أخرى، وصناع المنسوجات ينتمون إلى نقابة غير هاتين النقابتين، وكانت لهذه الطريقة في تأليف النقابات عيوبها ومزاياها، فمن عيوبها أنها لا تتفق على خطة واحدة ولا تجتمع على كلمة واحدة، ومن مزاياها أنها تحصر الجهود في الصناعة التي يحسنها أربابها، فتعطيهم سلطانا متحدا في تدبيرها والإشراف عليها.
أما الطريقة الجديدة التي اختارها السياسيون منذ ثلاث سنوات فهي تسمح للنقابات المتفرقة في كل مدينة أو كل إقليم بالاتحاد في الإدارة والتدبير، فعمال الفحم وعمال الحديد وعمال النسيج في المدينة الواحدة يتشاورون ويتداولون في شئون هذه الصناعات جميعا، وقد يصدر من عمال الفحم في هذا البلد قرار يخالف القرار الذي يتخذه زملاؤهم في بلد آخر. وظاهر من هذا النظام أنه توحيد لصفوف العمال في كل إقليم، ولكنه في الباطن يخالف هذا الظاهر الخداع، لأنه يفرق كلمة العمال في الصناعة الواحدة فلا تجتمع على رأي متفق في الإدارة والإنتاج، ويترتب على ذلك أن السلطة السياسية تشرف على جميع المسائل الفنية، وأن سيطرة الحزب السياسي تتغلب على سيطرة النقابات في كل صناعة متفرقة، كما تتغلب على نقابات جميع الأقاليم.
هذه الحيلة النظامية تركت لسلطان السياسيين أن يسيطروا على شئون العمال والصناعات كما يشاءون، فإذا اتفقت مطالب عمال الحديد مثلا في جميع البلاد، احتالوا على تفريقها بقرارات العمال الآخرين كعمال الفحم وعمال النسيج. أما إذا اتفقت مطالب الفحامين والنساجين من الإقليم الواحد، فهنالك فرصة للخروج على هذه القرارات من طريق النقابة العامة لعمال الحديد في جميع الأقاليم.
وعلى هذا بقي سلطان الساسة كما كان أمام مصلحة العمل ومصلحة العامل، وبقيت القضية القديمة بين الحاكمين أو المحكومين على صورة أخرى، وبقيت هناك طبقة حاكمة لها خطة تحمي بها وجودها وتحفظ بها نفوذها، ولو لم تكن في ذلك منفعة للعمال والصناع أو منفعة للمحكومين على العموم.
والواقع الذي لا شك فيه أن العمال والصناع في البلاد الشيوعية مسخرون لمصلحة الساسة أو لمصلحة الطبقة الحاكمة، وأن الأيدي العاملة لا تشتغل لكي تنتج طعامها وكساءها ولوازم معيشتها، وإنما تشتغل قبل كل شيء لأنها مسخرة في سبيل السلطة الحاكمة أو في سبيل الحماية اللازمة لطبقة الحاكمين.
هذه الطبقة - طبقة الحاكمين في البلاد الشيوعية - تأخذ الأقوات من أفواه العاملين لتنفقها على جيوش من الجواسيس والأرصاد، وعلى جيوش من العساكر والضباط، وعلى جيوش من الدعاة والمداحين.
هذه الطبقة - طبقة الحاكمين في البلاد الشيوعية - تنفرد بعيشة الرخاء وتختار لنفسها ما تشاء من المساكن والأطعمة، وتأمر وتنهي، وتعز وتذل، وتغدق الخير على أناس وتصب الشر على أناس آخرين، وغايتها من كل ذلك أن تحمي وجودها وتحفظ نفوذها وتقطع الطريق على كل منافسة تخشاها، ولو هلكت الأيدي العاملة وطال عليها عهد التسخير والتضليل.
ولم يحدث قط في التاريخ أن سلطانا غاشما مستبدا أنفق من الأموال على السلاح والجاسوسية ما ينفقه هؤلاء الطغاة المستبدون في بلاد الشيوعيين.
ألوف الألوف من الضباط والجنود. ألوف الألوف من الدعاة والجواسيس. ألوف الألوف من المدافع والدبابات والسفن والطيارات، وكل ذلك لتسخير العمال والصناع في سبيل طائفة من الحكام وأصحاب السلطان، ويعرف هؤلاء الحكام أن هذه الأموال الضائعة ثقيلة الوطأة على أعناق العمال المكدودين والصناع المجهودين، فيشغلونهم بالمنازعات الدولية، ويخدعونهم بالفتن العالمية، وينشرون الفوضى هنا، ويلهبون نيران العداوة هناك. ولا يتركون الأمم لحظة واحدة في سلام، ليخيفوا رعاياهم من خطر الحرب، ويدخلوا في روعهم أنهم مهددون بالهجوم عليهم من كل جانب، وأن تبذير الأموال على التسليح والتجنيد ونشر الدعوة وبث الجواسيس - كل أولئك ضرورة لازمة لاتقاء تلك الأخطار واتخاذ الحيطة لأولئك الأعداء.
تلك هي حقيقة الأحوال في بلاد الشيوعيين: سلطة سياسية تستعبد الأيدي العاملة وتسخر الصناعة كلها لحماية وجودها وتمكين سلطانها. وأين العمال ونقابات العمال؟ لا صوت ولا حركة. لأن صوتها ضائع بين مجالس الحزب ولجان السوفييت ومكاتب الفابريقات. ومما لا ريب فيه أن العمال في بلاد العالم قاطبة أرفع صوتا وأوفر حرية من زملائهم في بلاد الشيوعيين. وهي هي البلاد التي يصول فيها الحاكمون باسم العمال المظلومين. وصدق أبو العلاء، حين قال قبل ألف سنة:
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وهكذا يرجعون إلى الوراء، باسم التقدم والارتقاء، ولا تقدم هناك.
الحرية والإذاعة
نعني بالإذاعة كل وسيلة من وسائل النشر على اختلافها، ومنها - بل أهمها بالبداهة - وسيلة الإذاعة اللاسلكية أو الأثيرية التي تسمعونها الآن.
فهل هناك علاقة وثيقة بين الحرية والإذاعة على اختلافها؟
الجواب السريع نعم، والجواب بعد طول الروية والأناة نعم أيضا. لأن العلاقة وثيقة بين الاستبداد والحجر على الأقوال والأفكار والحرص على التستر والكتمان، وبقدر الصلة بين الاستبداد والكتمان تكون الصلة بين الحرية وإذاعة الأخبار والأفكار.
وفي وسعنا أن نراجع تاريخ الإنسانية منذ القدم، فنرى أن كل خطوة في طريق الإذاعة كانت كذلك خطوة في طريق الحرية، كأن الحرية والإذاعة مظهران متلازمان لحركة واحدة من حركات التطور والارتقاء.
كان الكتمان شديدا يوم كان الاستبداد شديدا في العصور الأولى، فكانت الكهانة السرية تتسلط على ضمائر الناس من طريق العقيدة الدينية، وكانت السياسة في جملتها سرا من أسرار الملوك والحكام، وقد يتفق أحيانا أن يجتمع سر الكهانة وسر الدولة عند شخص واحد، بل يتفق أحيانا أن يكون السيد الحاكم إلها يعبده المحكومون، ولا يسألونه عن صنيعه بهم وبالدولة، لأنه سر يعنيه وحده ولا يجوز لهم أن يعرفوه.
ولم يزل هذا شأن الناس في حريتهم الدينية وحريتهم السياسية حتى ظهرت أول وسيلة من وسائل التسجيل والإذاعة، وهي الكتابة على الورق. فازداد نصيبهم من الحرية بمقدار نصيبهم من الكتابة، واطردت هذه الزيادة جيلا بعد جيل.
إلا أن هذه الوسيلة - وسيلة الكتابة - كانت محدودة الأثر عند نشأتها الأولى - وظلت محدودة الأثر زمنا طويلا من فجر التاريخ إلى العصور التاريخية المعروفة. لأن الكتابة كانت محصورة بين عدد قليل من المحكومين بالنسبة إلى الأميين، ولأن الكتابة كانت في تلك الأزمنة تنقسم إلى طريقتين: طريقة الكتابة المقدسة، أو الكتابة الرسمية، وأكثرها ألغاز ورموز لا يفقهها غير النخبة المعدودة من الكهان والحكام، وطريقة الكتابة العامة، وهي الطريقة المباحة لسائر الطبقات والأفراد، فلم تكن معرفة الكتابة العامة من وسائل الاطلاع على الأسرار والخفايا، وظلت هذه الأسرار والخفايا محجوبة عن الأمم حتى شاع فيها الإيمان بالأديان الكتابية، فارتفع الحجاب عن كثير من المؤمنين بهذه الأديان.
على أن الشعوب التي عرفت طريقة للنشر والإذاعة غير الكتابة كانت تنعم بنصيب من الحرية أكبر وأوسع من نصيب الأمم التي عولت على الكتابة وحدها، فكانت قبائل العرب تحفظ القصائد الشعرية المنظومة في المسائل العامة، وكانت - مع انتشار الأمية بينها - تملك حريتها ولا تخضع لسلطان غير سلطان العرف والعادة الذي يخضع له كبارها وصغارها، وكذلك كانت قبائل أخرى كقبائل اليونان في أوروبة، فأخذت من الحرية بمقدار ما أخذت من الإذاعة، وقل فيها الاستبداد بمقدار ما قل فيها الحجر على الأخبار والأقوال.
وتمضي الشعوب الإنسانية على هذا النهج عدة قرون: خطوة في طريق الإذاعة تقترن بها خطوة في سبيل الحرية، حتى ظهرت المطبعة في القرن الخامس عشر، وهي أقوى وسيلة من وسائل النشر بعد اختراع الكتابة على الورق. فإذا بالخطوات في سبيل الإذاعة والحرية تتلاحق سراعا تباعا، وتتحطم أمامها حواجز الاستبداد حاجزا بعد حاجز، فلم ينقض قرن واحد حتى عمت الدعوة إلى إصلاح الحكومة تارة مع الثورة الإنجليزية وتارة مع الثورة الفرنسية. وعجل ابتداع الصحافة بحركة الإصلاح فأصبح انتشارها بين الشعوب مقياسا لانتشار الحرية فيها، وشوهدت هذه الظاهرة الشاملة - ظاهرة اقتران الإذاعة بالحرية - على نحو لم يسبق له مثال في الأزمنة الماضية. فبلغ الناس من حرية القول والفكر في مائة سنة ما لم يبلغوه من قبل في عدة مئات.
كانت «السرية» أو الكتمان الشديد مبدأ متفقا عليه معترفا به في السياسة الدولية، وكانت الشعوب من جانبها تسلم هذا المبدأ ولا تطالب الساسة بشيء من الإعلان والصراحة فيما يجري بينهم من المخاطبات أو الاتفاقات، ودامت الحال على ذلك خلال القرن التاسع عشر إلى مقربة من منتهاه، ولكن هذا المبدأ المتفق عليه لم يلبث أن تزعزع من شتى الجوانب بعد انتشار الصحف وإقبال الجماهير على مطالعتها، تزعزع هذا المبدأ من جهة لأن الصحف كانت تتسابق إلى التقاط الأخبار الخفية واستنباط الحقائق المكتومة، فأصبح من المتعذر على الساسة أن يكتموا خبرا من الأخبار ويحافظوا على كتمانه إلى زمن طويل، ثم تزعزع مبدأ السرية لسبب آخر أهم من هذا وأعمق في آثاره ونتائجه، وهو اشتراك الجماهير في معالجة الشئون الدولية والوقوف على خباياها، فانتهى العهد الذي كانت فيه سياسة الدول حكرا في أيدي الساسة يصرفونه كما يصرفون مصالحهم الشخصية وأعمالهم الخاصة، وأحس هؤلاء الساسة بالحاجة إلى إفهام الجماهير وإقناعها بصواب الخطط السياسية التي يفرضونها عليهم، وقد ينتهي بعضها إلى إقحام الأمم في الحروب وتحميلها نفقات القتال، فلا أقل من إقناعها بضرورة هذه المخاطر ولزوم تلك النفقات.
لقد كانت الصحافة خطوة واسعة إلى قبلة الحرية؛ لأنها هي خطوة واسعة من خطى النشر والإذاعة.
لكن الإذاعة الصحفية من الوسائل التي تخضع لسيطرة الحكومات المستبدة. ففي وسع الحاكم المستبد أن يفرض الرقابة عليها داخل بلاده، وأن يمنع الصحف الخارجية أن تصل إلى رعاياه، فيبطل حقوق الحرية التي تقترن بالإذاعة الصحفية، وقد حدث ذلك غير مرة في العصر الأخير.
ويبدو من تطور الأحداث التاريخية أنها تتجه إلى وجهة الحرية والنشر، وتستعصي على الحجر والتقييد. فلم يبدأ القرن العشرون حتى أقبل على العالم بوسيلة جديدة من وسائل الإذاعة، وهي هذه الإذاعة الأثيرية. والنسبة بينها وبين الصحافة في النشر، كالنسبة بين المطبعة ونقل الكتابة بالنسخ والرواية. فهي أقوى من الإذاعة الصحفية وأعسر منها على من يحاول تقييدها، ولا سيما التقييد الذي يحتاج إلى الاتفاق بين عدة حكومات أو عدة بلاد.
إن الإذاعة الأثيرية أقوى من الإذاعة الصحفية، لأسباب متعددة.
من هذه الأسباب أنها أسرع انتقالا بين جوانب الكرة الأرضية، فهي لا تنتظر البريد ولا تتوقف على السفر بالسفن أو الطيارات.
ومن هذه الأسباب أنها تصل إلى من يعرف الكتابة ومن لا يعرفها، فلا حاجة بالسامع إلى أكثر من إدارة المفتاح إلى الصوت في اللغة التي يفهمها، وقد تصل إليه الأخبار والأحاديث بعدة لغات.
ومن هذه الأسباب أن جهاز الإذاعة يوضع في البيوت والحجرات حيث تعجز الرقابة الحكومية عن الوصول إلى مستمعيه، فلا يتأتى منع الأخبار التي تتسرب من خارج البلاد، ولو كانت الحكومة القائمة تقاومها وتحجر على جمهرة المستمعين أن تصغي إليها.
ومن المفهوم أن الحجر على الإذاعة الأثيرية ليس بالأمر المستحيل، ولكنه - إذا أمكن - فهو ممكن بصعوبة شديدة بالغة في الشدة، ممكن حين تلجأ الحكومات المستبدة إلى إطلاق الجواسيس والعيون في كل بيت وفي كل مسكن. وممكن حين تعمد الحكومات المستبدة إلى تسخير الابن في التجسس على أبيه وأمه، وتسخير الزميل في التجسس على زميله. ومتى اضطرت الحكومة المستبدة إلى ذلك فهي في مأزق وعر لا تقوى حكومة من حكومات هذا الزمن على الثبات فيه، مأزق يكلفها الكثير من المال، ويكلفها الكثير من الأعوان والأتباع، ويكلفها الكثير من أساليب الخداع والإقناع، ويرهقها كما يرهق رعاياها بالجهد المضني والنفقة الثقيلة، والحجر على الحركات الاجتماعية والفردية، وليس الحكم على هذه الأوضاع الشاذة مما يطيقه الحاكم أو المحكوم فترة طويلة من الزمن، فلا مناص له من التعثر والإعياء ثم الزوال القريب.
ومن أساليب الحجر على الإذاعة التي تتبع في البلاد الشيوعية أن تفرض على الشعب أجهزة مقصورة على نقل الإذاعات المحلية دون غيرها، وهنا يسوء الظن بجميع الأخبار المذاعة حتى يتساوى الصدق والكذب عند سامعيها، وهي حالة مريبة لا تحمد مغبتها طويلا إذا أمكن أن يحمدها الشعب بعض حين.
من هذا العرض التاريخي السريع يبدو لنا أن كل خطوة في سبيل النشر والإذاعة تقترن بخطوة مثلها في سبيل الحرية، ومعرفة الحقوق الإنسانية، وأن الخطوة هنا على قدر الخطوة هناك، وأننا قد خطونا في عصر الإذاعة الأثيرية أوسع هذه الخطى وأصعبها على المراقبة والتقييد، فإن لم يكن الحجر عليها مستحيلا فهو من أشق الممكنات وأعسرها على المستبدين، ولن يصبر الحاكم المستبد طويلا على هذه المشقة حتى تسومه ما لا طاقة به من ضروب الحيرة وعوامل العجز والإخفاق.
ولو كان عمل النشر والإذاعة مقصورا على هذا لكان عملا قوي الأثر في تعميم الحرية ومقاومة السلطة المستبدة، ولكنه في الواقع يخدم الحرية في نطاق أوسع من هذا النطاق: يخدمها لأنه يعود الناس أن يسمعوا الرأي ونقيضه ويقابلوا بين الخبر وما يخالفه أو يدحضه وينفيه، وإنما تضيق صدور الناس إذا تعودت أن تسمع من جانب واحد وتتجه إلى وجهة واحدة. فإذا تعودت السماع من جوانب شتى فقد تعودت السماحة في الرأي والصبر على المخالفة وراضت النفس على حرية الموافقة والمعارضة، فعاشت في جو من الطلاقة يتسع لمختلف الآراء.
إن في عصرنا هذا كثيرا من نذر الشر والبلاء، فإذا أردنا أن نقابلها ببشائر الخير ففي طليعتها أننا نعيش في عصر النشر والإذاعة، وهو مقدمة لا غنى عنها لعصر الحرية والسماحة. فقلما يدوم الاستبداد حيث تتفتح الأسماع، وتتفتح معها الأبصار والأفكار.
الشيوعية والإسلام
كلمة الشيوعية ترجمة عربية لمذهب «كارل ماركس» في حالة التطبيق؛ لأنه يزعم أن مذهبه ينتهي إلى إباحة كل شيء على الشيوع أو المشاع، ولكن أصحاب المذهب جميعا يسمونه بالمادية التاريخية أو المادية الثنائية الحوارية تمييزا له عن جميع مذاهب الاجتماع والفلسفة، وعنوانه هذا هو خلاصة كافية لقواعده التي يقوم عليها، وهي الإيمان بالمادة دون غيرها وإنكار كل ما عداها من عالم الغيب أو عالم الروح.
ومن البديهي إذن أن المذهب ينكر الأديان ويكفر بجميع الأنبياء والرسل، ولا يدع أصحابه هذه الحقيقة للفرض والاستنتاج بل يصرحون بعقيدتهم ويقولون عن الدين إنه «أفيون الشعوب» لأنه يخدر أتباعه بالأمل في الآخرة فلا يطلبون الإنصاف ولا النعم في هذه الدنيا.
وهم يسوون بين الأديان جميعا في هذه الصفة، وقد حاربوا المسيحية والإسلام والصهيونية حربا عنيفة، في مبدأ قيام الثورة الروسية، ودأبوا على معاداتها وتعطيلها إلى أيام الحرب العالمية الثانية التي اضطرتهم إلى الاعتراف بقوة الدين في تثبيت العزائم والاستخفاف بالخطر، فصالحوا رجال الدين وعاهدوهم على تبادل المعونة، وكفوا عن حملتهم على العقائد الدينية إلى السنة الماضية، ثم بدا لهم أن الشعب الروسي يثوب إلى التدين ويندفع إلى معاهد العبادة فجددوا تلك الحملة وعادوا إلى إدارة المتحف الذي أنشئوه من قبل باسم «متحف الدين والإلحاد» وخصصوه لنشر المساوئ التي تنفر الناس من الإيمان بالله.
إلا أن الشيوعية قد تصبر على المسيحية ولا تطيق الصبر على الإسلام إلا ريثما تتحفز له وتغل أيدي أتباعه عن المقاومة؛ لأن المسيحية دين العديد الأكبر من الروسيين والشعوب التي تدخل في حوزة الدولة الروسية، ولأن المسيحية من الجهة الأخرى تدع شئون الدولة للدولة ولا تتعرض للنظم الاجتماعية أو لإقامة المجتمع على أساس جديد. وقد نشأت المسيحية كما هو معلوم في بلاد تخضع للسلطة الرومانية في الشئون الدنيوية ولسلطة الهيكل الإسرائيلي في الشئون الدينية فاجتنبت نقض «الناموس» وأوصت بإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
أما الإسلام فهو نظام اجتماعي له منهجه في علاج المسائل التي تتصدى لها الشيوعية، وهو يواجه مشكلة الفقر بحلوله المتعددة ولا يقصر مواجهتها على فرض الزكاة لمستحقيها كما يسبق إلى الظن لأول وهلة. إذ هو ينكر الإسراف والترف والاحتكار ويأبى أن تكون الأموال «دولة بين الأغنياء» ولا يصدق عليه قولهم إنه أفيون الشعوب لأنه يأمر المسلم ألا ينسى نصيبه من الدنيا ويحثه على دفع المظالم ومنع الشرور، ويعلم المسلم أن يقدس الحرية ويثور على المذلة والاستعباد فلا يتسنى للحاكم الأجنبي أن يخضعه لغير معتقده أو يسومه الهوان في أمور الدنيا والدين.
لهذا وصفوه في دائرة المعارف الشيوعية بالرجعية وتأييد الاستغلال وحاربوه بكل وسيلة من وسائلهم الظاهرة والخفية لإضعاف سلطانه الروحي، وتشتيت المسلمين وتمزيق كل وحدة تجمعهم في البلاد التي يحكمونها، وهدم المعالم الدينية في جميع تلك البلاد.
والمسلمون التابعون للحكومات الشيوعية يعلمون حق العلم عداوة الشيوعية لدينهم وسعيها الحثيث في طمس معالمه وأركانه، ويعرفون حقيقة ما يذاع عن حرية المعتقدات بين الشعوب التي يسيطر عليها الروسيون، ولكن المسلمين في كل أرض يستطيعون أن يعرفوا هذه الحقيقة من عدد الحجاج الذين تسمح لهم الحكومة بأداء الفريضة كلما سمحت لهم بذلك من حين إلى حين. فإنهم على قلتهم يحاطون بالرقابة الشديدة بينهم ومن حولهم، ولا يؤذن لهم بالتحدث إلى غيرهم في أمر من أمورهم الدينية أو الوطنية.
والكلام المكتوب يكشف من أسرار الدعوة الشيوعية كل ما تحاول ستره والمغالطة فيه. فإن المسلمين في حوزة الشيوعية قد حرمت عليهم كل رابطة يرتبطون بها غير قيود الحكم الروسي وثقافة اللغة الروسية، فلا جامعة إسلامية ولا جامعة طورانية ولا قراءة للغة العربية، ومن يشتغل بشيء من ذلك يتهم في إخلاصه للدولة ويعامل معاملة الجواسيس المسخرين للائتمار بها والثورة عليها.
فصحيفة الدولة «برافدا» تعلن في عددها الصادر بتاريخ 7 أكتوبر سنة 1952 من مقال رسمي نشرته على الصفحة الرابعة أن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي منعت «سموم الجامعة الإسلامية» التي يروجها كتاب من قبيل الكتاب المسمى «ديد كركوت» عن أذربيجان.
وقد شنت صحيفة الدولة هذه حملتها الشعواء على المؤرخ القاجاتي «سليمانوف» في مقال نشرته في الثالث عشر من شهر يناير سنة 1953 لأن هذا المؤرخ تكلم عن الثقافة التركية المشتركة بين الشعوب الطورانية، وأوعزت الحكومة إلى ذنب من أذنابها المسمى يوسبوف لينفي وجود وحدة ما بين الترك في آسيا، وينادي بانفصال كل شعب منها عن سائرها في شئون الثقافة ولا سيما الأزبكيين. وقد أعلنت صحيفة «أزفستيا» قبل ذلك (في الثاني من شهر سبتمبر سنة 1951) حملة كهذه على مجمع العلوم بأزبكستان لأنه يجنح إلى إحياء تراث الإسلام، وحملت هذه الصحيفة نفسها (في السادس من شهر يونيو سنة 1949) على أمم آسيا الوسطى لولعها بالمخطوطات العربية الرثة وغلبة النفوذ الثقافي العربي على أدبائها وعلمائها، ولا يمكن أن تكتب صحيفة من الصحف الروسية حرفا واحدا عن الثقافة العامة بغير علم الحزب وإيعازه وتكليف الحكومة وإشرافها، وبخاصة حين يمس الرأي أمما ترسم لها سياسة مقررة في جميع هذه الشئون.
وهؤلاء الذين ينادون بهدم العصبيات الوطنية ينعون عليها في حالة واحدة، وهي حالة الأمم التي تنهض للاستقلال عن الدولة المسيطرة عليها. أما عصبية القومية الروسية، واللغة الروسية والثقافة الروسية فهي مفروضة على أبنائها، وغير أبنائها من عبيد الكرملين «المتحررين» من ربقة الأسلاف الرجعيين، وقد وقف باجيروف عضو لجنة الحزب خطيبا من الخطباء المقررين في مؤتمره التاسع عشر ليحمد الفرصة السعيدة التي أنقذت المسلمين على أيدي القياصرة بضمهم إلى الحظيرة الروسية الواسعة، ولم ينس أن يقول إنه لا يحمد القياصرة، ولا ينكر مساوئهم، ولكنهم ولا ريب قد يسروا لشعوب المسلمين فرصتها الوحيدة بالدخول في زمرة الروس والاستعداد للتقدم بفضل اللغة الروسية.
إن عداوة الشيوعية للإسلام عداوات متكررة وليست بعداوة واحدة. فإنها تعاديه معاداة الخوف من منافسته في تنظيم المجتمع على قواعده وأحكامه، وتعاديه معاداة الحاكم الروسي للمحكوم المطموع في ماله واستقلاله، وتعاديه أخيرا معاداة الشعور بالخطر والإفلاس على أثر إخفاق التجارب الماركسية واحدة بعد الأخرى خلال السنوات الأخيرة. فقد اعترفت الدولة على كره بحق الملك والتوريث، واعترفت بالفوارق بين الأجور وأحوال المعيشة، واعترفت بفصل الجنسين في معاهد التعليم، واعترفت بالأسرة ومواثيقها، وبالوطنية وقوتها الفعالة في الدفاع عن الأمة والارتفاع بها إلى مطامحها العليا.
في مثل هذه الحالة يشعر الأقطاب الشيوعيون بتقدم الإسلام وتقهقر المادية الماركسية، ويعلمون أن النزاع المقبل إنما هو نزاع بين ما يسمونه «الأيديولوجي» الماركسي والأيديولوجي الإسلامي. إذ ليست الديمقراطية دينا ينازع الشيوعية في ميدانه، وغاية ما يرجى منها أنها دعوة مانعة لسوء الحكم، ومانعة للحجر ومانعة للقيود الجائرة في تقسيم الأعمال والأرزاق، وأما التطبيق «الإيجابي» فليس من رسالة الديمقراطية في عصر من العصور، ولكنه من رسالة الإسلام بغير جدال في هذا الزمن على الخصوص؛ لأنه زمن يتقدم فيه المسلمون، ويتعلمون فيه كيف يطبقون الإصلاح الاجتماعي موفقا بين مطالب المادة ومطالب الروح ومقتضيات العلم الحديث.
ولا هوادة في هذا النزاع. ولا يبغض الشيوعيون بين أمم الشرق الأسيوي نفوذا روحيا أو فكريا أخطر عليهم من نفوذ الإسلام، وعدة أبنائه تناهز في القارة الأسيوية ثلاثمائة مليون.
هذه حرب حياة أو موت، وقد عاش الإسلام وماتت عداوات كثيرة ناصبته الحرب منذ مئات السنين، وسيعيش مئات السنين والشيوعية وأمثالها في خبر كان.
القرم الإسلامية والمذاهب الهدامة
نشأ كارل ماركس إمام الشيوعية من سلالة إسرائيلية، وكان أجداده لأبيه وأمه كهانا متعصبين لعقيدتهم، غالين في رعاية شعائرهم، ولكن أباه ارتد عن دينه إلى المسيحية على غير اعتقاد أو رغبة صادقة في الإيمان بدينه الجديد؛ بل كان ارتداده احتيالا للكسب، وتطلعا إلى الوظائف العامة، ولا شيء غير «الانتهاز» والاتجار بالضمير.
ويتبين من تاريخ المذاهب الهدامة كلها أنها تعتبر هذا الاتجار بالضمائر وسيلة من وسائلها المشروعة لخدمة المطامع الشخصية أو لخدمة السياسة العامة في الدولة، فهي تنادي «بالمادية» وتنكر كل شيء في الوجود غير المادة وتسمي الأديان «أفيون الشعوب» لأنها تبشر بعالم الروح وتخدر شعور الفقراء كما يزعم الشيوعيون، فيتعللون بالنعيم الأبدي ولا يثورون طلبا للنعيم في حياتهم الأرضية!
ولا يهمنا هنا أن نعرض لسخافة الدعوى التي تفسر كل شيء بالمادة وهي - أي المادة - سر غير معروف ولم يره أحد بعينيه كما تقرر في العلم الحديث.
ولا يهمنا كذلك أن نعرض لسخافة القول باختراع الأديان لتخدير الفقراء مع أن الإيمان بالدين بين الأغنياء وأصحاب السلطان لا يقل عن الإيمان به بين الفقراء والمسخرين.
ولكن الذي يهمنا هو اتجار القوم بالضمير في مسألة الدين واتخاذه ذريعة مكشوفة للاحتيال على المصالح السياسية. فإن الزعماء الماركسيين الذين هدموا البيع والمساجد واعتقلوا القساوسة والرهبان بجزيرة «سلفيتسكي» الجهنمية وجعلوا الصلاة شبهة تثبت على صاحبها الخيانة والتآمر على الدولة - عادوا في إبان الحرب العالمية فاحتاجوا إلى إثارة النخوة في جنودهم ووجدوا أن المبادئ الشيوعية هي التي خدرتهم وأماتت فيهم الهمة والشجاعة، وأن «أفيون الشعوب» هو الذي يثير النخوة ويبتعث الهمة، فتملقوا رجال الدين وأذاع ستالين في الرابع من شهر سبتمبر سنة 1943 بلاغا يقول فيه: «إن الحزب الشيوعي لا يسعه بعدما بدا من وطنية رجال الدين في صفوف القتال أن يحرم الروسيين بعد الآن من حرية الضمير أو حرية الاعتقاد.»
هذه اللعبة السياسية المكشوفة لم ينخدع بها أحد من الروسيين ولا غير الروسيين، ولا سيما الشعوب الإسلامية التي انصب عليها القسط الأوفر من الاضطهاد بجميع أنواعه وألوانه، لأنه الاضطهاد الذي يصبه عليهم من يتعصب للمادية الشيوعية، ومن يتعصب للعقيدة الدينية، ومن يتعصب للقومية الروسية ويعتبر التكلم بلغة غير اللغة الروسية ثورة على الاستعمار وثورة على نظام الحكم القائم في أيدي الشيوعيين.
وسيطلع القارئ العربي في كتاب «كارثة القرم» على طرف موجز من تلك الفظائع الوحشية التي حلت بأولئك المساكين لغير ذنب إلا أنهم يدينون بشريعتهم، ولا يدينون بالشريعة الماركسية، ويتكلمون بلغتهم ، ولا يتكلمون باللغة الروسية، ويعرفون لهم حقوقا من حرية الضمير يعترف بها حكامهم قولا ويعاقبونهم عليها فعلا أشد العقاب.
وإذا كانت الحرب قد ألجأت أولئك الحكام إلى مجاملة الرعايا المسيحيين فهي على عكس ذلك قد وضعت المسلمين الخاضعين للكرملين موضع التهمة والاشتباه، خوفا من ثورتهم وانتقاضهم لما أصابهم من ضروب المظالم التي تقشعر لهولها الأبدان.
لقد استباحوا المساجد واتخذوا منها مسارح للهو أو اصطبلات للخيل أو حظائر للأغنام، وجمعوا نسخ القرآن والأحاديث النبوية وأحرقوها في الميادين العامة، وبطشوا بكل من يتوقعون منه المقاومة ونكلوا بالشبان الأقوياء ونشروا الخوف والفزع بين العاملين والفلاحين، فأقفرت الديار وأجدبت المزارع وعمت المجاعة واشتدت قسوة الجوع على الناس حتى أكلت الأم ولدها وهي تبكي عليه، ثم نظروا شزرا إلى المحسنين الذين خفوا لإنقاذ المنكوبين فاتهموهم بالادخار والوقوف من السلطة موقف «المتحدي» الذي يأخذ بأيدي ضحاياها، فقتلوهم لأنهم يطعمون الجياع ويعطفون على الآدمية أن يمسخها الجوع مسخ الضواري والسباع!
ولو كانت المادية الماركسية تبقى في الآدمي مسحة من الإنسانية لرثى المسيطرون لأولئك المنكوبين رثاء الإنسان للإنسان. ولكن الإنسانية كلمة لا معنى لها في شريعة الماركسية، لأن الشريعة عندهم هي شريعة «الطبقة» المزعومة فكل من عارضها فهو خارج من زمرة البشر مستباح الدم والذمار كما يستباح الوحش أو يستباح البهيم.
وليس قداسة «البابا» حبر الكنيسة الكاثوليكية مسلما تجمعه بالقرميين جامعة الدين، ولكنه إنسان يحفظ للإنسانية حقها من الرحمة كائنا ما كان الدين الذي تنتمي إليه، ولهذا عطف قداسته على ضحايا القرم المسلمين فأرسل إليهم المعونة من الطعام والدواء، وإن لم تمكنه أحوال الدول من بذل المعونة السياسية لتلك الشعوب المظلومة، فاستحق الشكر الجزيل من أبناء القرم جميعا وسجلوا له شكرهم في هذه الصفحات.
وماذا يردع الطغاة المسلطين على ضحاياهم تلك أن ينكلوا بها غاية ما في وسعهم من نكال القوي بالضعيف؟ هل تردعهم عن ذلك عقيدتهم الشيوعية؟ هل تردعهم عنه أواصر القومية والوطنية؟ هل تردعهم عنه طبائع الهمجية التي ركبت فيهم من قديم الزمن؟ هل تردعهم عنه شناعة السمعة في بلاد العالم وقد عزلوا ضحاياهم عن العالم كله من جميع منافذه ونواحيه؟ لا شيء من هذا يردعهم عن الفرائس العزلاء الملقاة بين أيديهم والموكولة إلى رحمتهم، ولا رحمة عندهم في طباع الهمجية ولا في تعاليم الماركسية، فما أشقى المساكين الذين حاق بهم ذلك العذاب ولا منفذ ولا حامي ولا معين!
إنه عذاب لا حد له ولا غاية، فإن كانت مصيبتهم العظمى مصيبة الفداء الذي يفتح أعين الغافلين إلى مصير البشر على أيدي هؤلاء الزعانف الذين حسبوا أن كلمة «الشيوعية» تشفع للآدمي في نكسته إلى الوحشية، فقد حملوا وحدهم ضريبة الفداء لإنقاذ البشرية من ذلك البلاء، ولعله إنقاذ قبل فوات الأوان.
الأدب والمذاهب الهدامة
من العناء الضائع تعريف الأدب على صورة من الصور للاعتراف بنوع من الأدب وإنكار نوع آخر. فما من تعريف سمعناه إلا وهو يسمح لكل أدب أن ينطوي فيه.
يقال مثلا إن الأدب ظاهرة اجتماعية، أو يقال إنه ظاهرة اقصادية أو ظاهرة بيولوجية، أو غير ذلك من الظواهر المختلفة، ولك أن تقول عن ظاهرة من هذه الظواهر، أو عنها جميعا: حسن، ثم ماذا؟ فلا يسع صاحب التعريف أن ينتهي بك إلى باب مغلق على نوع من أنواع الآداب.
ذلك أن الأدب كالحياة لأنه تعبير عنها، فلا يستوعبه مذهب ولا يستغرقه أسلوب.
قل مثلا إن الأدب ظاهرة اجتماعية، فماذا في هذا؟
إن المجتمع لا يستنفد أغراضه ومقاصده في أربع وعشرين ساعة، ولا في سبعة أيام، ولا في عام أو بضعة أعوام.
ومن الجائز أن ظاهرة اجتماعية تتحقق خلال خمسين سنة، وتبدأ في هذه السنة، وكأنها معزولة عن المجتمع أو مناقضة لمصالحه الظاهرة، ولكنها بعد خمسين سنة تؤتي ثمراتها التي لا نعرفها اليوم ولا نعرف سلفا كيف تكون.
وليس أضر بالمجتمع مثلا من قطع النسل، ولكن الكاتب قد يشجع العزوبة في قصة يكتبها، وقد يكون تشجيعه لها احتجاجا على نظام الزواج في المجتمع، وقد يؤتى هذا الاحتجاج ثمرته بعد سنوات، فيصح على هذا الاعتبار أن يكون تشجيع العزوبة ظاهرة اجتماعية ودليلا على مرض اجتماعي يحتاج إلى العلاج.
فإذا قلنا إن الأدب مسألة اجتماعية فما الذي أبحناه بهذا التعريف؟ وما الذي حرمناه؟
بل أنت مستطيع أن تشيد بالأدب الذي يسمونه أدب البرج العاجي، ولا تخرج به عن الأدب الذي هو مسألة اجتماعية.
فإذا جاز في المجتمع أن تغرس حديقة للنزهة لا تزرع فيها القمح والشعير ولا تغرس فيها التفاح والكمثرى فقد جاز في هذا المجتمع نفسه أن تنظم الشعر وصفا للأزهار والبساتين.
وإذا جاز في المجتمع أن تنشأ مصلحة للآثار لا تبيع تحفها ولا تساوم عليها فقد جاز في هذا المجتمع نفسه أن تصف أبا الهول بمقال أو عدة مقالات، وجاز فيه أيضا أن تحكي تلك الآثار بصناعة الصور والتماثيل.
ومن السخف أن يقال إن الطبقة الحاكمة هي التي تنجرف بالأدب عن خدمة المجتمع لخدمة مصالحها ومآربها. وأن الأمر لو وكل إلى الشعب لما نظم أحد شعرا ولا كتب حرفا في غير القوت والكساء والدواء وما يلحق بهذه الأشياء.
فقد عرفنا الأدب الشعبي بمصر سبعة قرون متوالية، فلم نعرف فيه هذه الشروط ولا تلك الموانع، ولم نعرف له صبغة عامة غير الصبغة الإنسانية التي تعم جميع الطبقات في جميع الأوقات.
على أي موضوع كان الأدب الشعبي يدور بمصر منذ القرن السادس للهجرة؟
إنه كان يدور على ملاحم أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة والزير سالم وسيف بن ذي يزن وغيرهم من أبطال هذا الطراز.
وقد اختلفت الهيئة الحاكمة خلال هذه القرون من الدولة الفاطمية إلى الأيوبية إلى دول المماليك إلى الدولة العلوية.
واختلفت الأحوال الاقتصادية من رواج النقل في تجارة المشرق والمغرب، إلى انقطاع الصلة بينهما، إلى نشأة الزراعة القطنية، إلى تجدد المعاملات التجارية بين القارات الشرقية والغربية.
وفي جميع هذه القرون كانت قصة أبي زيد هي هي، وقصة الزير سالم على نسختها الأولى، وقصة الذوين والتبابعة مسموعة في القرن الثالث عشر كما كانت تسمع قبل ذلك بثلاثة أو أربعة قرون.
وهذا هو رأي الشعب في الأدب الشعبي، لا سلطان عليه للطبقة الحاكمة لأن هذه الطبقة الحاكمة كانت تجهل اللغة التي نظمت بها قصائد السيرة الهلالية وما شابهها، ولأن قبائل بني هلال وبني تغلب وبني من شئت من الآباء لم يكن لها سلطان على الدولة الحاكمة، ولا كانت الدولة الحاكمة معتزة بهم أو جارية في نظام المجتمع على مثالهم.
فلماذا أقبل الشعب على تلك الملاحم يسمعها ولا يمل سماعها سبعة قرون أو تزيد؟
وإذا كانت الأفلام والروايات المسرحية في قبضة المخرجين، وكان المخرجون في قبضة رأس المال، فشاعر الربابة الذي تسخره عشرة دراهم من العشاء إلى مطلع الفجر تراه في أي قبضة كان؟ وما هي المناورات المصرفية أو البرجوازية أو الحركية أو الاسترخائية التي كانت تدبر من وراء الستار لصرف الشاعر عن الكلام في الرغيف والفول المدمس إلى الكلام في البطولة والغزل وغرام مرعي وسعدى وآخرين وأخريات؟
إن هذه الملاحم حقيقة واقعة، وإن غرام الشعب بها حقيقة واقعة، وإن ثباته على الافتتان بها مع اختلاف الدول والأحوال الاقتصادية والطبقات الحاكمة حقيقة واقعة.
فأين يذهب تعريفنا الأدب بأنه مسألة اجتماعية بين هذه الحقائق الواقعة؟ وأي فرق بين الأخذ بذلك التعريف وإهماله غاية الإهمال؟
أليس المقصود بالأدب الشعبي أن يكتب بلغة الشعب؟
أليس المقصود به أن يلقى القبول والإقبال عند طبقة الشعب؟
أليس المقصود به أن يصدر من صميم الشعب ولا يصدر من الحكام أو المستغلين؟
أليس المقصود به أن يأتي طواعية من الناظم إلى المستمعين بغير تسليط ولا إكراه؟
بلى، وكل أولئك كان موفورا للملاحم الهلالية وما جرى مجراها. فلماذا كانت هذه الملاحم دائرة على البطولة والغزل، ولم تكن دائرة على الرغيف والفول المدمس؟ ومن الذي أكره الشعب على طلب هذه المعاني والإعراض عما عداها؟
جواب واحد لا سبيل إلى الحيد عنه بكلمة من كلمات الرطانة التي يلفظ بها أصحاب الأمر والنهي في تعريفات الآداب.
وذلك الجواب هو شعور الإنسان.
فالشعب «إنسان» قبل كل شيء، ونفس الإنسان تهتز في كل زمان لأريحية البطولة والغزل، وتجري في ذلك على سنة الحياة التي لا سنة غيرها للأدب والفن، كيفما اختلفت الطبقة الحاكمة، واختلفت أحوال المعيشة، واختلف الناظمون والمستمعون.
لقد كان الشعب يستمع إلى ملاحم أبي زيد وهو موفور الطعام ناعم بالرخاء والسلام، وكان يستمع إليها وهو مهدد بالمجاعة والوباء، ولم يكن من هم الحاكمين أن يعلموا المحكومين البطولة ويعرضوا أمامهم قدوة المجازفة والهجوم على الموت والخطر، ولعلهم قد مضى عليهم زمن وهم لا يعلمون من هو أبو زيد ولا يسمعون باسمه، بل لعلهم منعوا الجلوس على القهوات التي تنشد فيها تلك الملاحم مرات بعد مرات منعا للضوضاء والشجار، وهم لا يدرون من أسبابه الكثير أو القليل.
ثم بطلت ملاحم أبي زيد وخلفتها بطولة رعاة البقر في البراري الأمريكية، أو خلفتها بطولة العصابات في المدن الكبرى، ولم تكن لرعاة البقر ولا للعصابات دولة تروج لها الدعوة في وادي النيل، ولم يكن إقبال الشعب على هذه الملاحم بعد تلك الملاحم لأنه (تأمرك) بعد أن تعرب، وإنما حلت دار الصور المتحركة محل القهوة البلدية وبقي حب البطولة والغزل كما كان، لأنه حياة يفهمها الحي كائنا ما كان القائلون والممثلون.
وإذا انحدرنا من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان والنبات فما هو العنوان الاجتماعي الذي يندرج تحته زهر الفول وتغريد العصفور؟
إننا نتخيل في هذه اللحظة رطانا من أصحاب البرجوازيات والاسترخائيات والانتهازيات قد شال بأنفه وصعر خده وامتلأ عجبا من هؤلاء الناس الذين يسألون أمثال هذه الأسئلة الفضولية، ويخفى عليهم أن الأمر متعلق باللقاح والتناسل ووفرة الغذاء في الربيع!
وأفادهم الله وإن لم يفيدونا شيئا.
ولكنهم مسئولون بعد ذلك: لماذا يغني العصفور يا ترى إذا شبع؟ أليس الشبع هو المقصود وفيه الكفاية؟ ولماذا يغني إذا تغزل؟ أليست الغريزة الجنسية هناك؟ ولماذا تضيع الطبيعة وقتها في تزويق أوراق الفول؟ أليس هذا ترفا برجوازيا استرخائيا مظهريا إلى آخر هذه المنسوبات؟
ما عهدنا في تاريخ الإنسان حطة دون هذه الحطة التي يهبط إليها - منتفخين بكبرياء الجهل - من يسمون أنفسهم بالتقدميين.
وما عهدنا أحدا أشد على الشعب قسوة من هؤلاء الذين يزعمون الغيرة على الشعب ويجمعون عليه بين الحرمان من المال والحرمان من الشعور. فإذا كان المجتمع «الرأسمالي» يقسو على الفقير فيحرمه ضرورات العيش فأفظع من ذلك قسوة من يجرده من الشعور الإنساني ويفرض عليه أن يجهل معاني البطولة والعاطفة لأنه فقير. وإذا كان المجتمع «الرأسمالي» يفرض على الفقير أن يعمل لقوته فأفظع منه قسوة من يفرض عليه أن يقرأ لقوته ويتريض لقوته وينام ويصحو ويحلم ويعلم لقوته، ولا شيء غير قوته في الصناعة ولا في العلم ولا في الفن ولا في الأدب ولا في الواقع ولا في الخيال.
لقد كان أجهل جاهل من المستمعين إلى ملاحم الهلالي والزير سالم إنسانا أكرم من هؤلاء التقدميين الذين يرسمون للأدب طريقه وللحياة طريقها، وهم عالة على الأدب وعلى الحياة.
وسيعاد تعريف الأدب على ألف صورة: مسألة اجتماعية تارة ومسألة اقتصادية تارة ومسألة حركية أو سكونية تارة أو تارات. ولكنه لن يمتنع بذلك عن موضوع ولن ينقطع لموضوع، ولن يكون أدبا ما لم يكن له نصيب من شعور الإنسان، وبهذه المثابة يحدثنا عن القطب الشمالي فيحدثنا عن قريب، ويروي لنا خبر البطولة فيروي لنا خبرا يهز نفس الفقير والغني، والصغير والكبير، ويذكر لنا الزهرية فلا يقول له قائل حي: دعها واذكر قدرة الفول المدمس، ما دام إنسانا يرجع إلى الطبيعة إن لم يرجع إلى نفسه، فيلمس منبت الفول وزهرته من تربة الحياة.
الوجودية
إن الوجودية في أساسها مذهب محترم مقبول أو مذاهب محترمة مقبولة لا يستدعيها قيام المذاهب الهدامة التي تلغي وجود الفرد واستقلاله في غمار الجماعات التي ينتمي إليها. وإنما قامت الوجودية كأنها رد فعل لتلك المذاهب يحفظ للفرد كيانه واستقلاله ويعرفه بحقوقه وواجباته بين قومه وبين إخوته من بني الإنسان في جميع الأمم وجميع الحقب، ولكن هذه الوجودية قد تنحدر مع المنحدرين بطبائعهم حتى تصبح ضربا من العدمية أو ضربا من الإباحية التي لا تعترف بشيء غير شهوات الفرد ودوافع الأثرة والأنانية.
ومن الوجودية التي تستحق اسم العدمية تلك العقائد التي تنكر معنى الوجود وتقطع الوشائج العميقة بين وجود الإنسان ووجود هذه الأكوان في آزالها وآبادها التي لا حقيقة وراءها ولا معنى لكلمة العبث إن نسبت إليها.
وهذه العدمية هي التي يسخر منها فيلسوف العصر برتراند رسل في كتابه عن الكوابيس فيضع على لسانها هذا النشيد باللغة الفرنسية:
في صحراء شاسعة الأطراف
فراغ واسع من الرمال
ذهبت فيه أبحث وأنقب
ذهبت أبحث عن الطريق المفقود
الطريق الذي أبحث عنه ولا أصل إليه
تتيه روحي هنا وتتيه هناك
في كل جهة من الجهات الأربع
وكلما بحثت لم أجد شيئا
في ذلك الفراغ الذي ليس له آخر
ذلك الفراغ الذي لا ينقطع
رمال ... رمال ... رمال
تلك الرمال الخادعة الخانقة
تلك الرمال الرتيبة المحزنة
تمتد إلى نهاية الأفق
وأسمع صوتا في النهاية
صوتا صاعقا يحلو أو حلوا يصعق
ثم يقول لي ذلك الصوت
أتحسب أنك روح ضائع؟
أتحسب أنك روح؟
أنت غلطان!
أنت لست بروح
أنت لست بضائع
أنت عدم
أنت غير موجود ...
والكابوس في هذا النشيد راكب على أنفاس «وجودي» يريد أن يثبت مذهبه.
ومذهبه أن الألم والخجل يخلقان الشعور في الضمير. فالضمير موجود وصاحبه غير معدوم، ومن تجارب الكابوس أن يبتلى هذا «الوجودي» بالتعذيب في معسكرات النازية، وأن يجيعه في روسيا، وأن يدخله في الشيوعية الصينية ليتهم فتاة بريئة مخلصة بتهمة الخيانة والجاسوسية لعله يشعر بالخجل وتبكيت الضمير فينسب نفسه إلى الوجود.
ثم يعود إلى باريس فتنعقد المجامع ترحيبا بالمجاهد العائد من ميادينه، ويدعى إلى مجمع من هذه المجامع فيقبل وهو ينظر إلى مكان ضيف الشرف فإذا فيه غراب وإذا الغراب ينعب له بصوت يسمعه المجتمع كله:
فلسفتك يا هذا ليس لها وجود
فلسفتك يا هذا عدم
إنها ليست بشيء
وينهض أخيرا على صدى هذا النعيب فيسمع نفسه يصيح:
ها أنت أخيرا تتعذب. ها أنت أخيرا موجود
هذه صورة من الوجودية الممسوخة ترادفها صورة أخرى على شاكلتها في المسخ والضلالة، وقوامها أن الفرد موجود والنوع الإنساني وهم ليس له وجود، أو كما يقولون باصطلاحهم أن الوجود سابق للماهية، وأن الإنسانية التي هي «ماهية» الإنسان كلمة على اللسان، وليس لها حق عليه لأنه هو مصدر الحق كله ومرجع الواجب كله فيما يختلج فيه من شعور الأنانية والانفراد بالذات. •••
وعلى هذا الاعتبار أوجزنا القول في الفصلين اللاحقين عن الوجودية بمذاهبها المتعددة، ليتبين منها موضع المذهب الصالح وموضع المذهب الذي انحدر بانحدار القائلين به أو الداعين إليه.
الوجودية أو الوجدانية
ما هي الوجودية؟ هي كلمة منسوبة إلى الوجود.
ولكن لا يفهم منها بالبداهة أن المراد بها هو مطلق الوجود، لأن الحجر موجود والشجرة موجودة والحيوان موجود، وقد تكون كلها موجودة بالنسبة إلى غيرها؛ لأن غيرها هو الذي يحس وجودها ويعرف لها صفة الموجودات.
والإنسان على كونه مخلوقا حيا عاقلا قد يكون موجودا أيضا بالنسبة إلى غيره لا بالنسبة إلى نفسه، ويكون حكمه في وجوده كحكم الحجر والشجرة والحيوان أو قريبا منها في مجمل التقدير.
فهل نفهم من الوجودية إذن أنها منسوبة إلى الحياة؟ كلا، ولا هذا هو المقصود بالمعنى الفلسفي لهذه الكلمة، لأن الإنسان يكون في الحياة من مولده إلى مماته، ولا يخرج منها في خلال ذلك ولو ذهب في النوم أو غاب عن وعيه.
فالوجودية لا تعني مطلق الوجود ولا مطلق الحياة، ولكنها تعني أن يهتدي الإنسان إلى وجوده بنفسه، وأن يكون موجودا بالنسبة إلى نفسه، وأن يسبر غور وجدانه ويستجمع نقائضه في وحدة شاملة تمضي إلى اتجاه متناسق لا تنازع فيه، وأن يكون بهذه المثابة شيئا لا يتكرر ولا يتعدد، لأن الناس - من حيث هم موجودات - خلائق متشابهة، يجوز فيها التعدد والتكرار. ولكن الإنسان الذي اجتمع بنفسه وسبر غورها وعمل في الحياة بكل قوة من قواها شيء واحد لا تعدد له ولا تكرار لكيانه، وهو في امتناع تكراره أحرى من الكف التي يمتنع تكرارها بين إنسانين اثنين بالغا ما بلغ التقارب بينهما في النسب، أو في الملامح والقسمات. وإذا امتنع أن تتشابه كفان فتشابه الوجودين النفسانيين أحرى وأقمن بالامتناع.
وتسأل: كيف نهتدي إلى هذا الوجود فنعرف به أنفسنا كما نعرف به مدى العلاقة بين وجودنا وهذا الوجود العظيم المحيط بكل كائن من هذه الكائنات؟
أترانا من هذه الكائنات؟
أترانا نهتدي إليه بالتحليل النفساني والمراقبة الباطنية؟
كلا، لأن التحليل النفساني يفترض انقساما في النفس بين القوة التي تحلل والقوة التي تخضع للتحليل، أو يفترض نوعا من القرابة بين المستطلع وما يراد استطلاعه، وإنما يتحقق الوجود بكل جوانب الوجود، ويتحقق بأن يعمل الإنسان «موجودا متناسقا» ولا يتحقق بأن يعرف ويقنع بمجرد العرفان.
كذلك لا نهتدي إلى الوجودية أو الوجدانية بهدي الأخلاق المقررة وأصول الآداب المتواضع عليها، لأن الأخلاق والآداب تسيطر على الجماعات، وتنشأ قبل نشوء الأفراد، ولا تنبعث من أعماق الفرد في دخيلة وجوده التي ينطوي عليها دون غيره.
وإنما نهتدي إلى وجودنا بثورة في أعماق هذا الوجود: نهتدي إليه بصدمة في عاطفة قوية، أو بيقظة من يقظات الضمير، أو بضربة من ضربات التجارب تفصلنا من المجتمع الذي نعيش فيه أو تتناول مكاننا منه بالتحويل والتبديل.
نهتدي إليه بمحنة تردنا إلى أغوار حياتنا وتطيل بحثنا في سراديبها وزواياها، وتضع أيدينا على ميزان شعورنا وتفكيرنا وخيالنا، فنعرف كم «نزن» في كل هذا وماذا نستطيع وماذا لا نستطيع، وماذا نقف عنده فلا نحاول الاستطاعة فيه.
ومتى أدركنا هذه الآونة وجب علينا أن «نعقد اختيارنا» ولا نتردد في مفترق الطريق بين نهجين حائرين إلى غير التقاء.
مؤسس هذا المذهب الدنمركي سورين كركجرد
Soren Kierkegard
ولد في سنة 1813 وتوفي في الثالثة والأربعين.
وحياته تفسر مذهبه أتم تفسير.
لأنه صدم الصدمة التي تضطر الإنسان إلى «الاختيار» وهو في مقتبل الشباب، أحب الفتاة ريجينا ألسن، وبادلته الحب في بادئ الأمر، ولكنها تركته واقترنت بغيره، وتبين له وهو في الثامنة عشرة أنه لم يخلق للصلة الجنسية المثمرة، فقرر المتجه الذي يتجه إليه عند مفترق الطريق.
وهذا الاختيار هو ما عناه في كتابه الباكر المسمى «إما. أو».
وفحواه: إما أن تجد نفسك أو تفقدها كل الفقدان.
وقد أدار الكتاب على الحوار بين إنسان فنان وإنسان يدين بالأخلاق، وكان كركجرد نفسه مزيجا من الإنسانين؛ لأنه كان مطبوعا على التدين، مطبوعا على تذوق الفن والجمال، وقد جعل الفنان في كتابه مثلا للحيرة المضللة، وجعل المتدين مثلا للطمأنينة الوادعة وهي - من العجب - طمأنينة الأسرة والزواج!
واختار كركجرد وجوده، فاختار أن يعيش على سنة السيد المسيح في هذه الدنيا التي لا تجتمع فيها القداسة والوجاهة، واتخذ شعاره أن لا يخدم سيدين، فإن السيد المسيح قد خلص من تبعات الأسرة والوطن والعرف الشائع، وكان قدوة لمن يخدم سيدا واحدا لا يدين بسواه.
وكانت أطوار الفيلسوف غريبة وأسلوبه في الكتابة أغرب، فقد يصدر له كتابان في وقت واحد أحدهما بتوقيع صريح والآخر بتوقيع مستعار، وقد يؤلف كتابا كله مقدمات وليس فيه غير المقدمات موضوع، وقد يستخدم عبارة الوعاظ تارة ويستخدم عبارة الملغزين المتصوفين تارة أخرى، ويبدو في جميع ذلك صادقا لطبيعة واحدة: وهي طبيعة الإيمان.
وكان مذهب «هيجل» الفيلسوف الألماني الكبير هو البدعة الفلسفية الشائعة في شباب كركجرد، وخلاصة هذا المذهب أن الكون كله هو مرآة «الكائن الأبدي المطلق». وأن هذا الكائن الأبدي المطلق تجلى في الموجودات جميعا وبلغ أقصى مراتب التجلي وعرفان الذات في الإنسان، فالإنسان إذن هو صورة العقل الإلهي في أرفع مظاهر الوجود.
ولم يتعرض مذهب هيجل هذا لحملة قط أعنف من حملات كركجرد عليه؛ لأنه يرتفع بالصورة الإلهية عن هذه الصورة الإنسانية، ويؤمن بأن الوجود الإنساني على عكس ذلك هو الذي يتسامى إلى عرش الله، فلا يسمو إلى مرتبة أعلى وأشرف من أن يحب الله ويشعر بحب الله إياه، وكل إنسان محبوب من الله في اعتقاد كركجرد، ولكن الفرق بين إنسان وإنسان هو الفرق بين من يشعر بهذا الحب الإلهي ومن لا يشعر به، لأنه مستغرق في ألوان أخرى من الحب أو من العلاقة: كعلاقة الطمع أو كعلاقة الهوى أو علاقات الأزواج والأبناء.
وغني عن القول أن كركجرد يتدين على سنة في الدين غير سنة العرف المتفق عليه بين سواد الناس، لأنه يؤمن بأن حق الفرد في اختيار عقيدته أعظم من حق الكنيسة وحق الجماعة، ويؤمن كما قدمنا بأن وجود الفرد وحدة غير قابلة للتكرار، وكل ما يستطيعه المؤمن للمؤمن أن يريه بالمثل المحسوس أن باب الاختيار مفتوح، وأنه إما أن يختار وجوده بإلهام ضميره أو يضيع.
والذي نراه أن مكان كركجرد بين كبار المتعبدين وذوي الشاعرية أصح وأوفق من مكانه بين كبار الفلاسفة، لأنه كان حساسا ثاقب الذكاء عميق الوجدان، ولم يكن من أصحاب العارضة القوية والفكر الواسع المحيط بآفاق القضايا العظمى.
فلا جرم كان يفصل بين العقيدة والمعرفة، ويباعد بين عالم الفكر وعالم الحقيقة، ويعتبر التعمق في الوجود ممكنا بغير التعمق في الوعي المفكر والمنطق السديد. •••
على أن الوجودية قد بدأت بكركجرد ولكنها لم تنته بالخاتمة التي وقف عندها واستقر عليها في حياته القصيرة.
فإن هذا المذهب قد سرى إلى البلاد الألمانية وتجدد نشاطه في أعقاب الحرب الأولى على أثر الهزيمة التي مني بها الألمان، وجنحت ببعضهم إلى العقائد المادية، وببعضهم إلى التنفيس عن ضمائرهم بنزعة من النزعات الروحية أو الوجدانية. واشتهر من فلاسفة المذهب أعلام نابهون مثل كرل جسبرز
Karl Jaspers
وادمند هسيرل
Hasserel
ومارتن هيدجار
Heidegger
ودلثي
Dilthey
وزيمل
Zimmel
وقد مات منذ سنوات.
واتسعت أطراف المذهب حتى وجد فيه من يؤمن إيمان كركجرد ومن ينكر وجود الله ولا يرى في الكون ظاهرة إلهية على الإطلاق، ولكنهم كانوا على التقاء في بعض المسائل المتشابهة لا تخفي الصلة بينها وبين الوجودية في جوهرها الصميم.
فجميع الفلاسفة الوجوديين قليلو التعويل على «معنى عقلي» يفسرون به الحياة، متبرمون بالمقررات المنطقية والعلمية وسائر المقررات التي ترجع بالأمر إلى سلطان أو نظام.
وجميعهم معتصمون بتجارب النفس ودوافع السريرة التي تستقل بها الشخصية الإنسانية في جهادها الباطني ونزوعها الدائم نحو التوفيق بينها وبين مشكلات الوجود الكبرى.
ومعظمهم يوصي بتماسك الأخلاق ومقابلة الحيرة النظرية بالعمل الخلقي وتجريد النفس في جملتها لكفاح الحياة.
ولم تنقض على الحرب العالمية الأولى أربع سنوات حتى ظهر المذهب في فرنسا واشتغلت به الطبقة التي بلغت من الثقافة ومن الذوق الفني أن تبحث لها عن فلسفة للوجود تملأ بها فراغ الضمائر من العقائد الروحانية في عصرنا الحديث.
لكن الوجودية لم تزل في فرنسا بدعة مقصورة على فئة عليلة من طلاب الغرائب، إلى أن كانت الحرب العالمية الثانية ومنيت فيها فرنسا بتلك الهزيمة النكراء. فثارت على المادية الشيوعية وعلى الروحانية التقليدية في وقت واحد واندفعت فيها بين الطبقة الوسطى دفعة جامحة إلى الإيمان بالحرية الديمقراطية، ولكنه الإيمان الذي لا يدين بالسلطان لرياسة مقررة أو هيئة من الهيئات.
وأعلام هذه المدرسة في فرنسا هم: جان بول سرتر
Sartre
وألبرت كاموس
Albert Camus
ومدام سيمون دي بوفوار
Simone de Beuavoire
ويتبعهم طائفة غير قليلة من الكتاب الصحفيين!
فالوجودية التي تتمثل في كتابة سرتر هي وجودية الفخر بالألم والشدة، واعتماد النفس على النفس في اختيار الطريق المرتسم لها في أعماق سريرتها، على وفاق كيانها الشخصي، ولو كان اختيارها مناقضا لاختيار المقادير.
والوجودية التي تتمثل في كتابة كاموس هي وجودية الاطمئنان إلى عبث الحياة. وعنده أن الإنسان في هذه الدنيا شبيه ببطل الأسطورة الإغريقية سيسفوس. وهو رجل عصى مشيئة الأرباب والتمس منهم بعد الموت أن يعود إلى الدنيا ليؤدب زوجته على خيانتها، فسمحوا له بالعودة إلى أجل محدود، وجاوز هو الأجل المحدود غير مكترث بنذير القضاء، فحكموا عليه بأن يتردى إلى الجحيم مسخرا في عمل لا طائل تحته وليس له انتهاء، وذاك أن يستجمع جهده ليرفع صخرة عظيمة من أسفل الجبل إلى قمته، ثم تنحدر الصخرة فيعود إلى رفعها مرة بعد مرة إلى غير نهاية معلومة ولغير قصد معروف.
وكل إنسان في رأي كاموس هو سيسفوس مسخر في مثل هذا الجهد الضائع والعبث العقيم، ولكنه يبحث عن معنى هذا الكفاح فيشقى، ويطمئن إلى خلوه من كل معنى فيخرج منه ببطولة الجلد والثبات ويستريح من قلق الانتظار، ومتى قدر على الإنسان أن يحرم الجهاد في قضية رابحة معلومة الأسباب فأشرف الجهاد بعد ذلك جهاده في قضية خاسرة مجهولة الأسباب.
ومدام بوفوار تضرب على نغمة كهذه النغمة، وتزيد عليها بشيء من الغلواء والتكلف واتخاذ الأوضاع أو «البوزات» كما يسمونها في لغة التمثيل. •••
هذه الوجودية في فرنسا - بعد الحرب العالمية - ظاهرة تقبل التعليل القريب.
ففيها النزعة الوجدانية، وفيها الإيمان بالحرية الفردية، أو باختيار الإنسان لنفسه في عالم الضمير، وفيها التمرد على سلطان الكهانة وسلطان الرياسة المقررة على الإجمال، وليس بعجيب أن تروج بين الفرنسيين - بعد الحرب العالمية - عقيدة تجمع هذه النزعات في نسق واحد، لأنها النتيجة الطبيعية لطغيان الحركات الجماعية أو الزحامية، ويقظة الإيمان الفردي مع ثورة الفرد والأمة على رجال الدين.
ويمكن أن يقال إن فلسفة «هيجل» قد تمخضت عن أخوين شقيقين يجمعان نقائض الأسرة كلها في طرفين متقابلين، كما يشاهد في كثير من الأشقاء بين أسر الآباء والأبناء.
فأحد الشقيقين هو المادية الجماعية، أو هو المادية الثنائية
Dialectical Materialism
كما شرحتها الشيوعية المركسية.
والشقيق الآخر هو الوجودية أو الوجدانية، كما تسلسلت من مذهب كركجرد، وهذه الوجودية هي معسكر الوجدان والحرية الفردية يتأهب لاتخاذ مكانه في الميدان أمام معسكر المادة والجماعة العمياء.
ولا بد للمعركة من قرار.
الوجودية بين أنصارها وخصومها
ونحن نكتب هذا العنوان لنسرع إلى نقضه، أو تعديله، في السطر الأول من المقال!
إذ كانت الوجودية أقل المذاهب قبولا للتنازع الشديد بين الأنصار والخصوم؛ لأنها تتسع للنقائض من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، وتضم تحت عنوانها الشامل أناسا يؤمنون إيمان العجائز، وأناسا يكفرون بكل معتقد ويتحللون من كل دين.
وحسبنا من عنوان الوجودية أنه يضم تحته فلاسفة من أمثال كيركجرد، وبرداييف، وجابرييل مارسل، وهيدجر، وسارتر، وكرشنامورتي ... وآخرين!
فكيركجرد
Kierkegaard
دانمركي يميل إلى الكنيسة البروتستانتية.
وبرداييف
Berdayaef
روسي يميل إلى الكنيسة الأرثوذكسية.
ومارسل
Marcel
فرنسي يميل إلى الكنيسة الكاثوليكية.
وهيدجر
Heidegger
ألماني يهودي يميل إلى الإلحاد ويكاد أن ينكر كل موجود وراء الطبيعة.
وسارتر
Sartere
فرنسي «نصف يهودي» يفرط في الإلحاد والإنكار غاية الإفراط.
وكرشنا مورتي
Krishna Murti
هندي يتصوف تصوف النساك ويجعل لكل روح بشرية محرابا مستقلا تتعبد فيه بمعزل عن جميع الديانات.
مذاهب الوجوديين
ويوجد بين «الوجوديين» مثل هذا الاختلاف في مسائل الأخلاق والواجبات الاجتماعية. فمنهم من يدين بالإباحة المطلقة، ومنهم من يروض نفسه على التقوى كأنه راهب في صومعة.
فهم متفرقون بين العقائد والمذاهب والآراء، وليس بينهم من جامعة تسوغ وضعهم تحت عنوان واحد إلا أنهم يؤمنون جميعا بأن الوجود مقدم على الماهية.
وهذا اصطلاح فلسفي يمكن تبسيطه وتقريبه بلغة الكلام الشائع في كل يوم.
فهم يؤمنون بأن الوجود الحقيقي إنما هو وجود الأفراد، وإنما النوع كله اسم من الأسماء لا وجود له في الخارج.
زيد وعمرو وإبراهيم ويوسف وفلان وعلان - هؤلاء موجودون حقيقيون لا شك في وجودهم، ولكن «الإنسان» أو النوع الإنساني كلمة لا حقيقة لها في الخارج، ولا يراد بها إلا تقريب التصور والإدراك.
وما دام الأمر كذلك ...
وما دام الفرد هو الحقيقة الموجودة فمن الظلم أن نضحي به في سبيل الكلمة الوهمية أو الصورة الخيالية التي تجري على اللسان ولا تظهر للعيان.
كيف يتقرر وجود الفرد؟
إن الفرد هو الموجود فمن حقه أن يقرر وجوده أو أن يثبت وجوده قبل كل شيء، وليدع كلمة «الإنسان» موزعة بين الجميع تصدق على هذا كما تصدق على ذاك، ولا أثر لها في تحقيق الوجود أو إبطال الوجود.
ومن هنا يبدأ الخلاف بين الوجوديين أنفسهم، وكلهم مع ذلك وجوديون.
فما هي الطريقة التي يقرر بها الفرد وجوده ويتحرر بها من الوهم والخيال؟
عند فريق من الوجوديين أن وجود الفرد يتقرر ويتحقق بإطلاق العنان لرغباته وشهواته يفعل ما يشاء ولا يبالي العرف أو الدين.
وعند فريق آخر من الوجوديين أن الفرد يتحقق وجوده إذا اتصل بالوجود الأعظم، وجود الإله أو وجود الكون، أو وجود «الكارما» في عرف البرهميين.
وعند فريق غير هؤلاء وهؤلاء أن وجود الفرد يتحقق بمواجهة المخاوف والأخطار والتعرض للقلق والمحنة واستخراج كل قوة في أعماق النفس بتجربة الخوف والتغلب عليه وقبول الأقدار قبول الاختيار.
وعند غيرهم جميعا أن الاشتراك في العقيدة تكرار وتقليد، وأن التقليد تزييف وتلفيق، وأن الوجود الصحيح إنما يكون بالعقيدة التي لا تقبل التكرار.
مذهب قديم!
هل هذا المذهب حديث في مذاهب القرن التاسع عشر أو القرن العشرين؟
كلا، إن الخلاف بين القائلين بالوجود والقائلين بالماهية أقدم من أرسطو وأفلاطون.
والقول بالمثل، جمع مثال، في مذهب أفلاطون أو القول بالصور، جمع صورة، في مذهب أرسطو، إنما هما نسخة قديمة من الخلاف على وجود الفرد ووجود النوع، أو على الجنس والفصل كما يقولون في لغة المناطقة الأقدمين.
وقد تجدد هذا الخلاف على أشده وأعنفه في القرون الوسطى بين الواقعيين
Realists
والاسميين
Nominalists .
فالواقعيون يقولون إن الوجود الحق للأفراد، والاسميون - في رأي خصومهم - يتعلقون باسم على اللسان لا وجود له في الحس والعيان، وكل ما فيه أنه عنوان.
فهذا خلاف قديم لم يخلقه الوجوديون المتأخرون، ولكن الوجودية الحديثة تعد مع ذلك - ظاهرة من ظواهر القرن العشرين لم يعرفها الأقدمون كما عرفها اليوم الفلاسفة المعاصرون.
الوجودية الحديثة
هذه الوجودية الحديثة في الواقع هي ظاهرة اجتماعية نشأت بعد نشوء الديمقراطية وتجسمت وتضخمت بعد نشوء الشيوعية.
ضاع الفرد في غمار المجموع.
أصبح الشأن كل الشأن للعدد لا للمزية والخصائص الفردية.
فالوجودية الحديثة هي ثورة احتجاج من الفرد على طغيان الجماعات، وهي إثبات لحق الفرد أمام الدعاوي الكثيرة التي تكاد أن تلغيه وتفنيه في غمار السواد.
ومما لا جدال فيه أن الوجودية بهذا المعنى ظاهرة طبيعية معقولة، وأن الحاجة ماسة في العصر الحاضر إلى إقامة الحد الفاصل بين طغيان الكثرة العددية وحقوق المزايا الفردية، وأن كل وجودي متدين أو غير متدين في زماننا هذا يريد أن يثبت حقه أمام السلطة الدينية أو السلطة العرفية أو السلطة السياسية.
شرط الاعتدال
إلا أن المغالاة محذورة من الطرفين، لأن المغالاة من هنا أو هناك تضر بالفرد كما تضر بالمجموع.
فمن المغالاة أن يمحي الفرد محوا في سبيل الجماعة، لأن في هذا المحو تضييعا للمزايا والكفايات.
ومن المغالاة إنكار النوع وإثبات الفرد وحده، لأن النوع موجود في جسم الفرد متمثل في غرائزه النوعية التي هي أقوى دوافعه النفسية، سواء تمثلت في الحب بين الرجل والمرأة، أو في الحنان الأبوي على الأبناء أو في غريزة الاجتماع.
وقوام الأمرين أن الفرد موجود وأن النوع موجود، وأن صلاح النوع في الانتفاع بمزايا الأفراد، وأن صلاح الفرد في الاعتراف بغرائزه النوعية وعلاقاته الإنسانية التي لا فكاك منها.
هذا هو الجانب الاجتماعي النفساني من المذاهب الوجودية على تعددها وافتراقها.
وأما الجانب الفلسفي فمداره على البحث القديم في مبلغ إدراكنا للحقيقة بحواسنا وعقولنا.
هل نحن نعرف الوجود بالحواس والعقول، أو وراء ذلك حقائق الأشياء في ذواتها لا تدركها الحواس ولا تنفذ إليها العقول؟
وسيظل الخلاف على ذلك قائما ما دام في الدنيا موجودون يبحثون عن الوجود.
الفوضوية والوجودية
قامت في فرنسا في القرن الماضي حركة سياسية سميت في تاريخ الفلسفة باسم
L’anarchisme
بزعامة
وتلخص سياسته هذه بالحرية المطلقة فلا جبر ولا إلزام على الأشخاص ولا دين ولا دولة؛ بل تهدف الفوضوية إلى القضاء على الخضوع للسلطة سوى سلطان العلم والعقل. ولكن لم يقدر لهذا المذهب السياسي أي نجاح فضلا عن إهمال علماء السياسة لدراسته.
وفي فرنسا الآن حركة أدبية وأخلاقية واسعة هي المذهب الوجودي. ومن المعروف عن هذا المذهب أن كل إنسان يعمل ما يريد، وفي عمله يجب أن يكون بعيدا عن الخيال، وقد قال سارتر: «إننا نعيش في المادة فيجب أن نخضع للطبيعة ونتركها تفعل ما تريد.»
ولشدة الشبه بين المذهب السياسي السابق والمذهب الأدبي الموجود الآن نسأل: هل هناك علاقة بين المذهبين؟ وهل يمكن اعتبار الوجودية امتدادا للفوضوية ولكن في ثياب الأدب ...
إدوارد فؤاد
طالب بآداب القاهرة
قسم التاريخ
أحسن الطالب الأديب أولا في تسمية الفوضوية والوجودية بالحركة. لأن الحركة أليق بهما من اسم المذهب الذي ذكره بعد ذلك، وقد تكون الوجودية مناقضة للتمذهب بحكم قواعدها الأولى، وهي تجتمع كلها في التعويل على استقلال الفرد بآرائه وميوله، وينتمي إليها - أي إلى الوجودية - أكثر من عشرين مفكرا لا يلتقي واحد منهم بالآخر إلا في عرض الطريق. فهي مذاهب كثيرة وليست بمذهب واحد.
وكذلك الفوضوية في تشعبها وكثرة مدارسها وأقاويلها، فإن برودون وباكونين وكروبتكين وأتباعهم من روسيا وإسبانيا يختلفون بالرأي كما يختلفون بالعمل، ولا بد من هذا الاختلاف بين القائمين بالحركة التي تهدم كثيرا ولا تتفق على خطط البناء.
وأحسن الطالب أيضا في التفرقة بين الحركتين، لأن إحداهما سياسية وهي الفوضوية، والأخرى أخلاقية أدبية وهي الوجودية، وما بينهما من التوافق العرضي فإنما هو من طريق المصادفة السلبية، حيث يتفق المنكرون للأسس القائمة في بعض الأمور وإن تفرقوا في الأسباب والأغراض.
بل تكاد الحركتان تتناقضان في مبدأ أصيل يميز كلا منهما ويرجع إليه الفارق الأكبر بينهما.
فالوجودية تعول على استقلال الفرد كل التعويل، ولا وجودية في رأي من الآراء بغير هذا الاستقلال.
والحركة الكبرى من حركات الفوضوية - وهي المعروفة بالفوضوية الشيوعية - تخرج الفرد من حسابها وتكاد تمحوه في سبيل الجماعة، ولم تنشأ الوجودية إلا بمثابة احتجاج الفرد على طغيان الجماعة وتهوينها من شأن الاستقلال الفردي في الحركات الاجتماعية، ولا استثناء في ذلك للديمقراطية ولا للاشتراكية المعتدلة ولا لدعوات التأميم والخطط المرسومة لتنظيم العمل والثروة.
فالوجودية في ناحية من نواحيها الهامة احتجاج على الفوضوية كلها واحتجاج على الفوضوية الشيوعية قبل غيرها، وما يتلاقيان فيه من إنكار التسلط فإنما هو مصادفة عرضية لا تلبث أن تبتدئ على اتفاق حتى تتشعب على شقاق ونضال. لأن إنكار التسلط في الحركة الفوضوية يحمل بين طواياه إنكار المزايا الفردية ورد الأمر كله إلى الجمهرة الغالبة بالعدد والكثرة دون القيمة والكفاية.
إلا أن الحركتين تتشابهان في خصلة واحدة وهي أنهما معا غير مفهومتين على اتضاح وجلاء، لكثرة الشعب التي تتفرع عليهما وكثرة الأدعياء الذين يلصقون بهما وكثرة الآخذين منهما بالقشور دون اللباب.
الفوضوية لا تنكر النظام
فالذي يسبق إلى الذهن من اسم الفوضوية - ولا سيما اسمها باللغة العربية - أنها تبطل النظام وتلغيه وتدعو إلى مجتمع مطلق من الآداب لا نظام فيه.
وهذا غير صحيح.
لأن الفوضوية إنما تنكر «التسلط» كما قال الطالب النجيب في خطابه، ولكنها لا تنكر الهيئات التي تتولى الأعمال العامة بالمشاركة والمشاورة، ولا تلغي هيئة واحدة لازمة للتعليم أو لصيانة الصحة أو لإدارة المصانع أو لتوزيع المطالب والحاجات.
ودعوة برودون على الخصوص قائمة على لزوم هذه المصالح العامة واستغنائها عن «المتسلطين» الذين يعتمدون على القوة دون غيرها في تغليب مصلحتهم على سائر المصالح الاجتماعية.
وقد ألف كتابه: «ما هي الملكية؟» ليقول إنها هي السرقة، ويقول من ثم إن اغتصاب السارقين للثروة المشتركة يضطرهم إلى اغتصاب آخر لحفظ ما سرقوه في أيديهم وهو اغتصاب «السلطة» واحتكار الشريعة والقانون.
وعند برودون أن اغتصاب الملكية واغتصاب السلطة هما الباعث الأكبر على الجريمة والفساد، فحيث لا اغتصاب لا إجرام ولا فساد ولا حاجة إلى التسلط والمتسلطين.
وهذا الرأي قد بطل عند علماء السياسة وعلماء الاجتماع كما قال الطالب النجيب، لأن الدراسات النفسية والمقارنات الاجتماعية بين المجتمعات الأولى والمجتمعات الحديثة قد عرفت الناس ببواعث الجريمة ولم تحصرها في البواعث الاقتصادية.
ولا تدعو إلى القتل
ومن الشائع على الفوضوية أنها تدعو إلى القتل أو إلى الاغتيال السياسي لتحقيق برنامجها.
وهذا أيضا من الإشاعات التي تصدق على نفر قليل من الفوضويين ولا تصدق على الحركة كلها، وقد بدأ الاغتيال السياسي قبل عصر برودون وعاش بعده ولم يكن موقف الدعاة الكبار منه موقف التأييد والتقرير إلا على سبيل الإغضاء والاضطرار.
والنفر القليل الذي يدين بالاغتيال السياسي بين الفوضويين يطلق على الاغتيال اسم «الدعاية بالفعل» أو الدعاية المثيرة، ويعتقد أن حوادث الاغتيال تنبه الأذهان إلى مقاصد الفوضوية فيتساءل عنها من يجهلها ولا يباليها ويفهمها الناس من طريق هذا التساؤل فيقبلون عليها.
وقد أنكر كروبتكين مبدأ الاغتيال السياسي في مقاله الذي استكتبته إياه دائرة المعارف البريطانية بطبعتها الحادية عشرة. وحاول أن يفسره بقوله إنه من قبيل القصاص ورد الفعل للتنكيل بأصحاب هذه الحركة. وإن المغتالين لا يعتدون على الناس جزافا بغير تفرقة بينهم لمجرد التنبيه ولفت الأنظار. ولكنهم يعتدون على المعتدين ويجزونهم بما فعلوه في حماية السلطة والقانون.
ثم نشأت في روسيا طائفة فوضوية اشتراكية تنادي بمقت الاغتيال وترى أنه من معوقات الدعوة والمنفرات منها. ولكنها لم تكن تشتد في إدانة المغتالين ولم يكن بينها وبين الشيوعيين فارق كبير في الوجهة الأخيرة. فإنما كان الفارق الجوهري بين الفوضوية والشيوعية أن الشيوعية ترضى عن قيام السلطة أثناء فترة الانتقال لقمع العناصر الرجعية، وتمهل هذه السلطة الموقوتة أن تذبل على شجرتها فتسقط بغير جهد من المجتمع لانتهاء الحاجة إليها.
ولا تنكر الاعتقاد
وليس من الصحيح أن الفوضويين جميعا ينكرون الاعتقاد، أو ينكرون الديانة في صورة من صورها التقليدية أو المبتدعة.
فإن الشعبة التي يقودها سوريل ويقترح فيها إقامة النقابات مقام الحكومات تبني دعوتها كلها على العقيدة التي تسميها ال
myth
وتؤمن بضرورتها لكل حركة إنسانية.
وإنما ينكر الفوضويون الديانات التي يتخذها المتسلطون ذريعة للسيطرة على الضعفاء، وهي من قبيل المذاهب التي قال عنها أبو العلاء:
إنما هذه المذاهب أسباب
لجلب الدنيا إلى الرؤساء
وليس برودون مؤسسها
كذلك يقال دائما إن برودون هو أبو الفوضوية وصاحب الدعوة الأولى إليها.
وهو قول صحيح إذا أريد به تنسيق الفلسفة وتطبيقها على النظم العصرية. ولكنه مع ذلك غير صحيح على إطلاقه في الزمن القديم أو في الزمن الحديث.
فالفيلسوف الرواقي زينون الذي نشأ في القرن الرابع قبل الميلاد كان يؤمن بالمجتمع المتحرر من السلطة ويفخر بأن تلاميذه يتعلمون منه أن يصنعوا طوعا ما يصنعه سائر الرعايا مكرهين أو مهددين.
والمفكر الإنجليزي وليام جدوين
Godwin
الذي ظهر في القرن الثامن عشر شرح في كتابه عن «العدل السياسي» وسائل الحكم الذي يتوزع بين الهيئات ولا ينحصر في سلطة مركزية تملك وسائل الإرهاب والإكراه.
ويمكن أن يقال إن فلسفة الحكم منذ وجدت كانت تشتمل في كل عصر على مدرستين متقابلتين: مدرسة التوسع في سلطان الحكومة لتنظيم المجتمع، ومدرسة التضييق من هذا السلطان والاكتفاء منه بأقل ما يستطاع لحماية الأبرياء، وليست الفوضوية إلا تطرفا في هذه المدرسة إلى أقصى اليسار، يدعو إليه تطرف الاستبداد على النحو الذي كان عليه قبل الثورة الفرنسية.
الوجوديات
أما الوجودية فالاضطراب في قواعدها أشد من الاضطراب في قواعد الفوضوية؛ لأنها وجوديات كثيرة لا وجودية واحدة، وربما تناقض الفيلسوفان الوجوديان في العصر الواحد والبلد الواحد كما يتناقض الإيمان العميق والإلحاد السافر، أو كما يتناقض الزهد والإباحية، ولعل الكثيرين لا يفهمون منها إلا اللغط عن الإباحية الأخلاقية المنطلقة من جميع القيود، فيقبلون عليها لأنها سند فلسفي يسوغون به ضعفهم وانحلالهم، وهم يخجلون - أو ينبغي أن يخجلوا - من الضعف والانحلال بغير سند منسوب إلى الفكر والفلسفة.
والأساس الصحيح الذي تقوم عليه الوجوديات السليمة هو إنصاف ضمير الفرد من طغيان الجماعة على استقلاله، ولكن الاستقلال كالمال يلزم الإنسان لأغراض كثيرة، فمنه ما يلزمه للعصمة من الزلل، ومنه ما يلزمه للتورط في الزلل وتيسير الذرائع إليه.
وأسوأ الوجوديات الإباحية لا يسوغ الانطلاق من قيود الآداب بغير نظر إلى العواقب والضحايا، فإذا اختار الوجودي أن يستوفي كيانه الفردي بإشباع شهواته فهو حر في اختياره واحتمال جرائر هواه، وهو حقيق أن يوازن بين الخطر والإحجام على علم بما يصيبه من المتعة وما يصاب به من الأذى، وتلك هي قيمة «الاختيار» الملائم في عرف هؤلاء الوجوديين.
أما المسوغ الفلسفي الذي يستند إليه الوجوديون الإباحيون فهو أسخف الإسناد الفلسفية التي ظهرت في عالم الفكر والعقيدة.
إنهم يقولون إن الوجود الحقيقي هو وجود الفرد المعروف بشخصه وكيانه، وإنما النوع كلمة أو لفظة أو خيال لا جود له في غير التصور، وليست «الإنسانية» إلا كلمة خاوية لا توجد بمعزل عن هذا الفرد وذاك الفرد أو هذا الإنسان وذلك الإنسان.
ومن هنا اسم الوجودية الذي ينتسبون إليه ويحسبونه تصويرا للواقع لا مراء فيه.
إلا أن الواقع الذي لا مراء فيه أن النوع موجود في تركيب كل إنسان وإنسانة، وأنه ما من خلية في بنية الفرد لم يتمثل فيها النوع تمثيلا أوفى وأعمق من تمثيل الفرد ذاته بجميع خصائصه ومقوماته.
ولقد ثبت ثبوت اليقين أن قوام البنية مرتبط بالغدد الصماء وغير الصماء، وأن علاقة هذه الغدد بالخصائص النوعية وثيقة جدا في عملها المنفصل وأعمالها التي تتعاون عليها.
وإذا كان تمثيل النوع حيويا أو «بيولوجيا» حقيقة لا ريب فيها فالتمثيل النفساني أو السيكولوجي تضارعها ثبوتا ويقينا إن لم تكن أبرز منها للوعي والشعور.
وعلى هذا لا يمكن أن يقال إن الفرد موجود حقيقي وإن النوع وهم ليس له وجود؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل فردا مجردا من الخصائص النوعية في كل خصلة من خصاله وكل خلجة من خلجات وعيه وشعوره، ومن قال إنه ينطلق على هواه ويمضي على رأسه غير مبال بمصير النوع إلى الفناء فعليه قبل كل شيء أن يخرج من دعوى «الوجودية» إلى دعوى «العدمية»، لأن فلسفته تقوده إلى فناء الفرد وفناء الإنسانية، حين يزعم أنه يبالي بحاضره ولا يبالي بمصيره ولا بمصير الإنسانية جمعاء.
وبعد فهذه الوجودية كلها شيء والمدارس الفوضوية كلها شيء آخر.
إن الوجودية لا تسري على الجماعة ولا تتجه إليها إلا من طريق الاتجاه إلى استقلال الفرد على حدة.
أما الفوضوية فهي جماعية قبل كل شيء، وهي حركة سياسية لا تنظر إلى الأفراد متفرقين ولا تبالي بهم مستقلين، وكلهم سواء عندها في ظل النظام الذي لا سلطة للطغاة عليه، وإذا اتفق الوجوديون والفوضويون في كراهة التسلط فقد يتضارب الفريقان إذا كانت المسألة مسألة طغيان الجماعة لا مسألة الطغيان من أصحاب السلطان.
أنا وجودي
وكاتب هذه السطور «وجودي» إذا كان معنى الوجودية إنصاف الضمير الفردي وتقديس الإنسان المستقل بفكره وخلقه. وعندنا أن الجماعة المثلى هي الجماعة التي تهيئ للفرد غاية ما يستطاع من الكرامة والاستقلال، وأنها إذا توقف وجودها على فناء الفرد ومحو استقلاله جماعة جديرة بالفناء.
إلا أن الوجودية التي تؤمن بوجود الفرد لينسى واجبه، ولا يذكر غير هواه ليست في الحق إلا عدمية باسمها وفعلها، وهي من المفارقات والأغاليط بالنسبة إلى الآحاد وإلى الأنواع والجماعات.
المدرسة الرمزية
والمدرسة الرمزية - كالوجودية - إحدى المذاهب الصالحة التي قد يفسدها من يقولون بها أو يدعون إليها.
فهي صالحة إذا اعتبرنا أن الكلام كله رمز إلى المعنى، وأنه يتفاوت في الوضوح على حسب تفاوته في الألفة والجريان على الألسنة والتفاهم عليه بين المتخاطبين، وقد يكون المعنى من نوادر الذهن فلا يكون له رمز شائع بين جميع المتخاطبين، ويستلزم التعبير عنه أن يبتدع له صاحبه رمزا من عنده، قد يكون من قبيل المجاز والكناية كما يكون من قبيل الخطاب الصريح. •••
والكلام عن المدرسة الرمزية في المقال التالي يرمي إلى الفصل بين هذه الحدود، ليلحق بمذاهب البناء أو مذاهب الهدم ما هو أدنى إليها من أساليب هذه الرموز. (1) حب الأزياء
كانت باريس فيما بعد القرون الوسطى عاصمة الحضارة الأوروبية، وكان بلاطها الفخم مصدر المراسم والتقاليد في أرجاء الغرب كله، تصدر عنه الأزياء والآداب والعرف المتبع في مجالس الطبقات العليا، وكان لها الشأن - كل الشأن - يومئذ في جميع البلدان. فلا تنقضي فترة يسيرة من الزمن دون أن يسفر التنافس بين فرسان البلاط وحسانه عن شارة جديدة وزي جديد، ولم يكن لهم بد من طرافة يتحدثون بها في عالم الأدب والفن كما يتنافسون بالطرائف في عالم الشارات والأزياء. فلما بدأت نهضة الأحياء الحديثة باستيحاء الأساليب اللاتينية واليونانية رحب بها طلاب الجديد ريثما طال العهد فبرموا بها وتطلعوا إلى نمط جديد. فتوالت الأنماط بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين من المدرسة المجازية إلى المدرسة الواقعية إلى المدرسة البرناسية إلى المدرسة الرمزية، إلى هذه المدارس التي تسمى بالمستقبلية تارة وبما وراء الواقعية تارة أخرى، ولا تستقر طويلا على حال.
ولم يكن التفات الناس إلى عاصمة الأزياء وانتظارهم منها الجديد بعد الجديد هو الباعث الوحيد إلى تعاقب هذه المدارس بمختلف الأسماء والآراء، وإنما صادفت هذه الحالة معينا لها من حب الاندفاع في السليقة الفرنسية، فأصبح حب التغيير نتيجة لازمة لكل اندفاع بلغ مداه واستنفد قواه.
فلا تجد في غير فرنسا ولعا كهذا الولع بالمدارس الأدبية المتلاحقة، ولا سأما كهذا السأم من أسلوب بعد أسلوب، وصبغة بعد صبغة.
المدرسة الرمزية
وفي فرنسا نفسها لا تجد هذه المدارس في القمم العالية أو الأعلام البارزة من أفذاذ الأدب المعدودين، وإنما تجدها في بيئات الأوساط وأشباه الأوساط الذين يخضعون لموجات التقلب وحركات التكلف والاصطناع.
أما أعلام الأدب الفرنسي من أمثال موليير وراسين وفولتير وشاتوبريان ولامرتين وهوجو وموسيه وأناتول فرانس وبروست فأنت لا تجدهم تحت راية من هذه الرايات، ولا على شارة من هذه الشارات، وإذا بدت على أحدهم مسحة من هذه الصبغة أو تلك فهي مسحة لا تنحرف به قط عن اللونين الخالدين اللذين يرجع الانقسام بينهما إلى طبيعة الإنسان لا إلى تقلب الأزياء بين جيل وجيل، وهما لون الواقعية ولون المجازية أو لون البساطة ولون التنسيق، وسمهما بعد ذلك بما تشاء من الأسماء. (2) ظهور الرمزية
وكان الصف الأول من صفوف الطليعة في هذه المدارس هو صف الأحياء، أو صف الأساليب اللاتينية واليونانية القديمة، ولا يخلو من دعوة إلى بساطة «الطبيعة» على ألسنة الفلاسفة والشعراء.
ثم تفنن الأدباء في المجاز على أنماط شتى من الأساليب المزوقة التي يوشك أن تتعدد بتعدد الآحاد. فأسلوب هوجو مجازي، ولكنه مجاز يريك الدنيا كأنها في موكب دائم من الطبول والأبواق ومن الغنائم والأسلاب؛ وأسلوب لامرتين مجازي ولكنه مجاز يريك الدنيا كأنك تعيش منها أبدا في عالم مسحور تتهامس فيه الأرواح وتتخافت فيه الأصداء.
واتفق في الأيام الأخيرة من هذه المدرسة المجازية أن شاعت مباحث العلم ومقررات العلماء المحدثين، فظهرت المدرسة الواقعية والمدرسة البرناسية ونزعت كلتاهما إلى الأسلوب المدرسي البسيط - أسلوب اللاتين واليونان - ممزوجا بلون الدراسات العلمية التي اشتغل بها كل عقل مثقف في عهد المدرسة البرناسية على التخصيص.
ويدل اسم المدرسة البرناسية على مذهبها بعض الدلالة، لأن أصحابها يسمون أنفسهم بالبرناسيين المعاصرين منتسبين إلى البرناس وهو جبل أبولون وعرائس الفن في اليونان القديمة، فالبرناسيون المعاصرون مدرسيون من ناحية الاقتداء بأعلام الأدب اليوناني القديم، ومحدثون علميون من ناحية التجديد العصري على نمط لم يعرفه قدماء اليونان.
وكان شعارهم «الكلمة المحكمة» أي الكلمة في موضعها الذي لا تتجاوزه للتنميق أو للتهويل، وعقيدتهم «أن الفن للفن» بغير قصد آخر غير إحكام التعبير وحسن الأداء.
وأفرط البرناسيون كما يفرط الدعاة إلى المدارس الخاصة فيندفعون فيها إلى الطرف الآخر، أو إلى حيث يحسن الارتداد والرجوع، وكان إفراطهم هذا مسوغا بعض التسويغ لظهور الرمزيين. (3) مسوغات الرمزية
والتعبير بالرموز عادة قديمة في تعبير الإنسان؛ بل عادة قديمة في بديهة الإنسان.
فالحالم مثلا يعبر في منامه عن شعور الضيق أو الخوف بقصة رمزية يتمثل فيها شيئا مخيفا في صورة وحش أو مارد مرهوب.
والكاتب الذي لم يعرف الحروف الأبجدية يرمز إلى المعاني بالشخوص والرسوم، ويعبر لك عن الكتابة بصورة الكاتب أو صورة القلم أو صورة المكتوب، وقد يلجأ إلى الاستعارة بعد عرفان الحروف لأنها نوع من التصوير الذي يساعد على اختصار التعبير.
وكهان الديانات يرمزون ويعمدون كثيرا إلى الكنايات والألغاز؛ لأنهم يجعلون لغة الدين لغة سرية ينفردون بها ولا يطلعون سواد الناس على دخائلها، فيختارون الرمز في التعبير وإن قدروا على الإفصاح والتصريح.
والنساك المتصوفون يرمزون لأنهم لا يستوضحون المعاني الغامضة التي تجيش بها نفوسهم في حالة كحالة الغيبوبة أو نشوة من نشوات الذهول، فيؤثرون التشبيه لأنهم عاجزون عن التوضيح، ويخاطبون من يعرف حالهم برمز من هنا وتورية من هناك؛ فلا يحتاج منهم إلى زيادة إيضاح.
وكان بعض الدول يقهر الرعية على عقيدة لا يدينون بها وقد يدينون بغيرها، فيشيرون إلى عقائدهم برموز يفهمونها ويجعلون للألفاظ الشائعة معاني غير معانيها المتفق عليها في اللغة المتداولة ثم ينبذون تلك الرموز إذا ارتفع عنهم الضغط والإكراه.
وقد يكون الرمز اختصارا لعبارة مفهومة أو صورة ظاهرة كرمز الرياضيين والكيميين بالخطوط والنقط إلى الأفلاك أو العناصر أو المقادير.
فالرمز شيء مألوف في تعبير الإنسان وفي طبيعة الإنسان، ولكنه مألوف على حالة واحدة لا يخلو منها معرض الرمز والكناية، وهي حالة الاضطرار والعجز عن الإفصاح، فلم يرمز الإنسان قط وهو قادر على التصريح والتوضيح، ولم يجد كلمة واضحة لمعنى واضح ثم آثر عليها الالتواء شغفا بالالتواء.
فإذا لوحظت هذه الحالة فالرمز أسلوب متفق عليه لا يحتاج إلى مدرسة تنبه الأذهان إليه. فالخيال لا يستشير مدرسة من المدارس لتشير عليه أن يحلم بالصور والتشبيهات أو يحلم بقواعد التحليل والتركيب في معامل الكيمياء، والشاعر لا يعاب إذا مثل لنا الكواكب والأزهار فألبسها ثياب الأحياء، ومن ضاق به اللفظ فعمد إلى التخييل والتشبيه فالناس لا يحسبونه من هذه المدرسة أو تلك؛ لأن المدرسة التي يصدر عنها في هذه الحالة هي مدرسة البديهة الإنسانية حيث كان الإنسان وبأي لغة من اللغات ألغز أو أبان.
وفحوى ذلك أنه لا حاجة إلى مدرسة لتعليم الناس كيف يرمزون ويكنون حين ينبغي الرمز وتنبغي الكناية، ولكنهم قد يحتاجون إلى مدرسة لتذكيرهم بحقيقة واحدة قد ينسونها في دفعة الإفراط والمغالاة، وهي أن الحياة تنطوي على كثير من الأسرار، وأن العالم نور وظلام وجهر وخفاء، وأنه يفاجئنا أحيانا بمعاني لا تترجم عنها الألفاظ ولا غنى فيها عن الإشارة والاستعارة، أو عن تمثيل الظل بالظل، والحجاب بالحجاب.
وقد كانت الآداب الفرنسية بحاجة إلى هذا التذكير في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ولم تكن هذه الحاجة مقصورة على الآداب الفرنسية في الواقع؛ لأنها كانت حاجة من حاجات التطور العقلي في العالم بأسره، ولكنها أظهر ما تكون حين يكون الاندفاع من الأطراف إلى الأطراف.
فالعالم الأوروبي قد تنقل في ثلاثة أطوار عقلية منذ عصر الإصلاح: طور لم يكن فيه سلطان للعقل في تفسير الوجود، وطور ثار فيه العقل لحقوقه المشروعة ثم بالغ في الثورة حتى أوشك أن يستبد بكل سلطان، وطور ثارت فيه البديهة الإنسانية لتذكر العقل بالحقيقة التي نسيها في شططه وغلوائه، وهي أن البديهة الإنسانية تشاطر العقل حقوقه في تفسير العالم والاتصال بخفايا الوجود.
ففي الطور الأول كان السلطان للكهنة ورجال الدين، وكانت النصوص التي يساء فهمها، ويساء العمل بها هي مرجع المراجع كلها في العلم والحكمة والفنون والآداب.
وفي الطور الثاني تفرد العقل بتفسير كل شيء وزعم أن العلوم التجريبية وحدها كفيلة بالكشف عن جميع الحقوق وجميع الأسرار.
وفي الطور الثالث صنع «رد الفعل» صنيعه المعهود في أمثال هذه الأطوار، فثار المفكرون أنفسهم على العقلية
Rationalism
كما ثار الفنانون على الواقعية
Realism ، وسمعنا بضروب شتى من دعوات المثاليين والنفسانيين والروحانيين وفلاسفة المنطق الحديث الذي يدين بالبصيرة كما يدين بالقياس والتحليل.
في هذه الفترة ظهر الرمزيون في الآداب الفرنسية وكان لهم حق في الظهور.
بل ظهروا «متأخرين» عن رواد هذا المذهب في الآداب الأوروبية الأخرى، وفي عالم الفنون التي لها تأثير بين على الآداب.
فكانت موسيقى «فاجنر» تدوي بين أرجاء القارة الأوروبية قبل أن تتحول الموسيقى الفرنسية من لغة الطرب والمشاهد الواقعية إلى لغة الأغوار والكنايات، وكان كولردج وبروننج وسوينبرن وتنيسون من أعلام الشعر الإنجليزي يتناولون المعاني الغامضة تارة بالرمز والكناية وتارة بالكلمات التي تماثلها في الغموض. ويكفي أن يذكر القراء تأثير دافيدهيوم في روسو وفولتير، وتأثير بيرون في لامرتين، ليذكر أن المدرسة الرمزية في الآداب الفرنسية لم تكن فريدة بين الآداب الأوروبية حين ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وراجت إلى أوائل القرن العشرين.
لكنها ظهرت سائغة مدعوة إلى الظهور بدعوة التطور في التفكير والشعور، ثم استحقت الاحتجاب قبل أن تتمكن من الثبات على الأساس الصحيح. وصدقت عليها الفكاهة التي تحدث بها ظرفاء بغداد عن بهلول المجنون، حين قالوا إنه كان يغني بدرهم ويسكت بدرهمين.
فإن المدرسة الرمزية التي وجب ظهورها مرة وجب سكوتها بعد ذلك مرتين، ولم يلبث الفرنسيون أن أطلقوا عليها اسم مدرسة الهبوط والانحدار
Decadents
ولم يظلموها بهذه التسمية الصادقة، لأن شعراءها وكتابها قد جعلوا ديدنهم من الرمز أن يرمزوا إلى كل وضيع خليع، وأن يعتبروا التعمية مطلوبة لذاتها لا لمزية من مزايا التعبير والتقرير. فلو تهيأت لهم للمعنى الواحد عبارتان تؤديانه على السواء لفضلوا الأغمض منهما على الأوضح في غير سبب معقول لهذا التفضيل، بل يفضلون الغموض على الوضوح ولو كان الوضوح أجمل في اللفظ وأقرب إلى البديهة وأثبت في الأفهام.
وما هو إلا أن تلقفوا من الأفواه كلمة عن مذهب فرويد وأقوال العلماء النفسانيين عن «الوعي الباطن» و«اللاوعي» المكنون في أطواء النفس حتى اندفعوا من الرمزية المتطرفة الجامحة إلى رمزية أبعد منها في التطرف والجموح. فنشأت بينهم مدرسة يسمونها بمدرسة ما وراء الواقع، تترجم الرموز بالرموز والألغاز بالألغاز وراجت هذه البدعة الجديدة في عالم التصوير، لأن رواجها في عالم الكتابة والشعر يستلزم جمهورا كاملا من المخبولين والأدعياء، وقلما يجتمع جمهور كامل من هؤلاء، كما يتفق اجتماع الآحاد من طلاب الصور الملفقة بين الأغنياء.
وخلاصة ما وعاه هؤلاء الرمزيون الغلاة من الوعي الباطن أنهم لا يفقهون ما هو الوعي الباطن وما هو الوعي الظاهر على السواء. فإن الوعي الباطن قديم لم تخلقه التسمية الحديثة في كتب العلماء النفسانيين، وقد كان الناس بوعيهم الباطن حين وصفوا ما وصفوه وصوروا ما صوروه من المناظر والضمائر والوجوه، ومن شأن العقل الباطن أن يظل عقلا باطنا حيث خلقه الله، فإن برزت لنا بعض خباياه فليس معنى بروزها أنها تلغي العقل الظاهر وتبطل عمل الحواس وتقلب معالم الأجسام والأشياء، ولا موجب لتمييز المصورين - حاملي القلم أو حاملي الريشة - بالتخمين والتنجيم عن الوعي الباطن أو العقل الباطن لأنهم يستعدون لصناعتهم بمزج الألوان ونقل الأشباه بالتدرب على الكهانة ونقش الطلاسم ووضع الألغاز.
فالرمزية في حدودها المعقولة - ما لم تجعل الدنيا كلها رموزا وكنايات وأطيافا - تعيش في الظلام ولا تعيش في الضياء، وهي ضرورية ما شعر الإنسان بضرورتها في تمثيل الدقائق والأسرار ولكنها تخرج من الضرورة إلى الضرر إذا أصبحت مطلوبة لغير سبب وأصبح شعارها «الرمز للرمز» والغموض للغموض والتلفيق للتلفيق.
وهي على الجملة «خطر» حين تصبح مدرسة قائمة بذاتها لأن الإنسان لا يحتاج إلى مدرسة ليكون إنسانا يعبر باللفظ الصريح حين يتأتى له التعبير باللفظ الصريح، ويعبر بالكناية حين لا تسعفه وسيلة غير وسيلة الكناية. وقد عرف الناس «الاستعارة» في جميع اللغات فلم تكن استعارتهم إلا ضربا من الرموز والتصوير بالكلام، ولم تفسد هذه الاستعارات إلا حين أصبحت فنا مصطنعا وانقطع ما بينها وبين البداهة الصادقة والتخيل السليم.
وكذلك أفاد الرمزيون الفرنسيون حين التزموا هذه الحدود المعقولة ومثلوا ثورة البديهة على غرور العلميين والعقليين، وأطلقوا الشعر الفرنسي والشعر الأوروبي عامة من أوزانه المتحجرة وقيوده العتيقة، ولكنهم لم يقفوا عند ذلك فاستحقوا أن يقال فيهم: إنهم غنوا بدرهم وسكتوا بدرهمين.
المصير
تظهر هذه المجموعة من الأحاديث والفصول في وقت من الأوقات الحاسمة في تطور المذاهب الهدامة؛ لأنها تنتهي الآن إلى مصيرها الأخير من ناحيته الأدبية، ويبدو من بوادر كثيرة أنها منتهية لا محالة إلى مصير كهذا المصير الأخير من ناحيتها الاجتماعية.
وكل ما ثبت من حق المذاهب الهدامة في الظهور من الناحية الاجتماعية أنها ظهرت في بلاد تقوضت نظمها العتيقة وتعذر بقاؤها لعجزها عن مواجهة الزمن ومطالبه، فظهرت المذاهب الهدامة لأن النظم التي سبقتها لم يكن لها حق البقاء، ولم تظهر لأنها هي ذات حق في البقاء، ولم تبق بعد ذلك عاما واحدا إلا بجهد جهيد في الترقيع والتعديل، حتى أصبحت اليوم وليس فيها من قواعدها التي تدعي أنها قامت عليها غير العناوين.
فهم يعترفون اليوم في بلاد تلك المذاهب بالملكية الفردية ويفتحون الباب واسعا للتفاوت بين الأجور وأنماط المعيشة، ويسمحون بتثمين الحاجيات على حسب العرض والطلب، ويعرضون الكماليات التي تباع بالألوف ولا يطمع في اقتنائها أجير من عامة الصناع، ومن رأى رؤساءهم في المحافل الدولية رآهم أفخر وأعظم ترفا من أقرانهم الوزراء والرؤساء في بلاد رأس المال.
وقد اعترفوا بالوطنية التي كانوا يحسبونها خدعة من خدع الطبقات المستغلة وتغاضوا أخيرا جدا عن المعابد والشعائر الدينية وبالغوا في تحيتها حيث نزلوا من بلاد الشعوب المتدينة، ولا يستطيع من يرقب أحوالهم في بلادهم أن يزعم أنهم يتقدمون في تطبيق الماركسية سنة بعد سنة، بل يعتقد أنهم يرجعون بعد أربعين سنة عن مبدأ أو عن دعوى بعد دعوى. فلا تنقضي أربعون سنة أخرى إلا وقد أصبحوا مع سائر الأمم على شقة متساوية بينهم وبين تلك الماركسية.
أما مذاهب الهدم التي شاعت في عالم الأدب والثقافة فلا حياة لها في مواطنها.
ماتت الرمزية في الأدب الفرنسي، وماتت قبل ذلك في الأدب الأمريكي الذي تظهر فيه أحيانا طائفة من الآراء على سبيل المحاكاة للمذاهب الأوروبية، ولكنها محدودة قليلة الأتباع.
ونحن لا نحسب جورج أورويل
Orwell
زعيم الرمزيين الأمريكيين واحدا من أدباء هذه المدرسة. لأن الأسلوب الرمزي أسلوب تعبير وليس بأسلوب تشخيص أو خلق للشخوص والأبطال. وقد اختار أورويل في بعض قصصه أن يجعل شخوصها من الحيوانات العجماء، ولكنه ألقى الكلام على ألسنتها صريحا مستقيما كما يتكلم به الحيوان الناطق، وليس هذا من الرمزية «التعبيرية» في شيء.
ولحقت الوجودية المريضة بالرمزية المتداعية إلى هذا المصير، فهي اليوم «إباحية» سافرة لا فرق بين من يتعاطونها وبين سائر الإباحيين في كل زمن، وسقط عنها ذلك البرقع الذي كانت تتراءى من خلفه بوجه جديد.
ومنذ سنتين نسمع من جانب الأدباء الروسيين ثورة على أدب «الصناعة» المصطنع الذي درجوا عليه كرها بتوجيه الرقابة وتحت الحظر من العقاب والمصادرة كلما بدرت من الأدباء المنكودين بادرة استقلال أو مخالفة في التطبيق والتنفيذ. وكتبت الشاعرة أولجا برجولتز تقول إنها كانت تنشد بعض القصائد في جمع من «الصعاليك» فصاح بها صائح منهم: أسمعينا شيئا من الغزل الإنساني لا من الغزل في المكنات والجرارات.
وقالت في حملتها التي شنتها على الأدب المصطنع على صفحات الجازيته الأدبية: «إن أهم شيء في جوهر الأدب ناقص في أدبنا وهو عنصر الإنسانية أو عنصر الكائن الآدمي. ولست أعني أن الكائنات الآدمية مهملة في أدبنا كل الإهمال، فالواقع أننا نرى هناك نماذج شتى من السواقين والوقادين والبستانيين يوصفون أحيانا وصفا بارعا ولكنهم موصوفون أبدا من الخارج ولا يزال أهم الأشياء ناقصا في أشعارنا؛ وذلك هو البطل الغنائي العاطفي ذو العلاقة الفردية بالدنيا وبالطبيعة.»
وقد استجاب لها في حملتها شاعران نابهان وهما فردوسكي وقسطنطين بستوفسكي ومعهما اتحاد النقاد، فأطبقوا جميعا على التذمر في المسرحيات «الملقنة والآداب الموحاة».
واجترأت الشاعرة فيرا أنبار على التهكم من وصايا المربين الفنيين الذين يدعون لأنفسهم الخبرة بتدريب الناشئة من الطفولة على «الاندماج» في الحضارة العصرية، فقالت: «إنهم يزعمون أن أغاني الأطفال توضع في الأمم البرجوازية لينام عليها الطفل ولكنها في روسيا توضع لتوقظه وتقلق منامه.»
وكتب كبيرهم أهر نبورج يقول: «إن الكاتب المؤلف ليس بالآلة الميكانيكية، وأنه لا يؤلف كتابه لأنه يعرف صناعة الكتابة ولا لأنه عضو في مجمع كتاب السوفيت - يجوز أن يسألوه ما باله لم يؤلف كتابا منذ زمن بعيد، ولكن الكاتب يؤلف لأنه يشعر بضرورة إبلاغ الناس شيئا من ذات نفسه ويلعجه هذا الشعور حتى يتخلص منه ...»
هذه شرارة من النار الكامنة في الصدور، تتطاير اليوم كلاما ولم تكن قبل ذلك خامدة أو منطفئة في قلوب المكتوين بها، ولكنهم كانوا يعبرون عنها بما كان في وسعهم من ضروب التعبير الفاجع الأليم.
كانوا يعبرون عنها بالانتحار.
ولهذا مات ثلاثة من أكبر أدبائهم منتحرين قبل سن الخامسة والثلاثين، وهم مايكوفسكي وايسنين وباجريتسكي، ومات غيرهم ميتة غامضة تحيط بها الشكوك، ولم يعرف عن أحد من أدبائهم الموهوبين أنه جاوز الشباب في سلام.
وليس في الشرق العربي من يعرف هذه المذاهب على بصيرة بها أو عن استقلال بالرأي والشعور، ولكنهم يلقنونها تلقينا «ببغاويا» أو يتهافتون عليها ولعا بكل غريب مجهول؛ وقد تموت المذاهب في الغرب ولها في الشرق دعاة يهتفون لها ويترنمون بها ويشبهون في صيحات الإعجاب بها زميلهم الأصم الذي قيل في نوادر الأضاحيك إنهم أيقظوه بعد انقضاض السامر؛ فهب من نومته مصفقا للمطرب المبدع، بعد سكوته بساعات.
ولعل أناسا من الداعين إلى أدب الحياة كما بشر به مايكوفسكي لم يقرءوه ولم يعلموا أنه انتحر هو وزميلاه من أدباء الحياة على هذا الطراز، ولو أنهم علموا بذلك لما أقحموه في المقال ليتخذوه قدوة لطلاب الحياة وأدب الحياة!
بل اليقين الذي لا شك فيه أنهم لا يقرءون ما ينتقدونه إذا جاز الشك في إلمامهم بنماذج الأدب «المقتدى به» على سنة الحياة والأحياء.
فقد ثاروا، أو أثيروا، على دعوتنا الأدبية لأنها جمود على القديم واستبقاء لميزان النقد كما غبر عليه المقلدون في عصور الضعف والانحلال، وقالوا إننا ندين بوحدة البيت ونتغنى ببيت القصيد ونجهل وحدة القصيدة كلها كأنها «بنية حية» تحل فيها الأبيات محل الجوارح والأعضاء، وأجمل ما يقال في الاعتذار لهم أنهم مساكين لم يتعلموا القراءة قبل خروجهم من بطون أمهاتهم منذ نيف وأربعين سنة. وإلا لقرءوا يومئذ في عالم الغيب ما كتبناه نقدا لوحدة البيت أو نقدا لبيت القصيد!
وفيما يلي تسجيل لهذه الأعجوبة التي لا نظير لها في آداب الأمم ولا في أدب الأمة العربية من قديم إلى حديث، لأن هذه الأعجوبة ظاهرة منقطعة عن الأدب كل الانقطاع، معزولة عما يقال إنه جيد معبر عن الحياة وما يقال إنه رديء جامد على القديم، ولولا أن هذه الأعجوبة ظاهرة فريدة في بابها لما استحقت أن تذكر ولا أن يكون لها موضع في تاريخ النقد والأدب، وإنما تسجل لأنها أول تزييف من نوعه للدعوات الأدبية في لغة من اللغات، وقديما كان تزييف من نوعه للدعوات الأدبية في لغة من اللغات، وقديما كان تزييف الذهب بالنحاس وتزييف الذهب بخليط من المعدن كيف كان. فأما تزييف الذهب بالحصى أو بالتراب فمن أعاجيب الزمن التي لا تقع في حساب. وهل قامت قط دعوة أدبية تنكر ما لم تقرأه وتنتقد ما لم تقرأه وتبلغ من الغفلة أن تداري ما وراءها بمثل هذا الغشاء، ولا غشاء! •••
وهذه القصة بالتمام والكمال كما سجلناها منذ عام في هذا المقال.
شيء من هذا، بل أغرب من هذا قيل عن كاتب هذه السطور وهو إنني جامد على مذهب الأقدمين في نقد الشعر والأدب، وإنني لا أفهم وحدة القصيدة ولا أصول البنية الحية في الكتابة، وخير من الاستطراد في الحكاية عن هؤلاء القائلين أن ننقل هنا كلامهم كما قالوه. قالوا أفادهم الله:
نجد هذا في الحكم النقدي وفي التعبير الأدبي نثره وشعره على السواء، وكما كان نقاد العرب القدامى يعدون بيتا من الشعر أبلغ ما قالته العرب وبيتا آخر أهجى ما قالته العرب، وإلى غير ذلك من أفعال التفضيل، لا يزال نقادنا وأدباؤنا من المدرسة القديمة يحتفلون كذلك بهذا المعنى الواحد أو البيت المنفرد لما فيه من أسلوب رائق ومعنى شائق ... فالعقاد مثلا يترنم بهذا البيت:
وتلفتت عيني فمذ خفيت
عني الطلول تلفت القلب
فلا يلبث أن يقرر أنه يساوي عنده ألف قصيدة. لماذا؟ لأن العقاد مثله في ذلك مثل بقية أدبائنا القدامى، لا يبصر بالظاهرة الأدبية في الوحدة العضوية المتكاملة للعمل الأدبي وإنما في البيت، في المعنى، في النادرة اللطيفة، في العبارة المفردة.
أعلمت أيها القارئ إذن ما هو مذهب العقاد؟ مذهبه في الأدب أنه هو ذلك الخلط الذي قضى حياته ينحي عليه وينكره ويشرح عيوبه وسخافاته.
من سنة 1909
إن قراءنا كادوا يتهموننا باللت والعجن بل بالإفراط في اللت والعجن، لكثرة ما كتبناه في هذا المعنى منذ نيف وأربعين سنة.
منذ حملنا القلم في الصحافة ونحن نكتب ونعيد أن القصيدة بنية كاملة، وأن الإعجاب ببيت القصيد جهل بالشعر والأدب وميزان في النقد يجب أن نحطمه ونعفي عليه.
وفي سنة 1909 نشر حافظ إبراهيم قصيدته التي يقول في مطلعها:
لقد نصل الدجى فمتى تنام
أهم ذاد نومك أم هيام
فكتبنا في صحيفة الدستور ما خلاصته أنه أخذ قطعة من الحرير وقطعة من المخمل وقطعة من الكتان، وكل منها صالح لصنع كساء فاخر من نسجه ولونه، ولكنها إذا أجمعت على كساء واحد فتلك هي «مرقعية الدراويش».
وفي سنة 1921 أصدرنا كتابا مستقلا لنقد الشعر الذي لا تلاحظ فيه بنية القصيدة، وقلنا في الصفحة السابعة والأربعين من ذلك الكتاب، كتاب الديوان: ... ورأيتهم يحسبون البيت من القصيدة جزءا قائما بنفسه لا عضوا متصلا بسائر أعضائها، فيقولون أفخر بيت وأغزل بيت وأشجع بيت، وهذا بيت القصيد وواسطة العقد كأنما الأبيات في القصيدة حبات عقد تشترى كل منها بقيمتها فلا يفقدها انفصالها عن سائر الحبات شيئا من جوهرها.
وقلنا قبل ذلك: «إن القصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز أجهزته ولا يغني عنه غيره في موضعه إلا كما تغني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة، أو هي كالبيت المقسم لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها.»
وختمنا هذا البحث قائلين: «إننا لا نريد تعقيبا كتعقيب الأقيسة المنطقية ولا تقسيما كتقسيم المسائل الرياضية، وإنما نريد أن يشيع الخاطر في القصيدة ولا ينفرد كل بيت بخاطر، فتكون كما أسلفنا بالأشلاء المعلقة أشبه منها بالأعضاء المنسقة ...»
إلى سنة 1928
وكتبنا في البلاغ سنة 1928 جوابا عن سؤال من الأستاذ عبده حسن الزيات عن الفرق بين الشعر العربي القديم والشعر الإنجليزي على عمومه فقلنا بعد شرح طويل: «... ومن هنا كانت وحدة الشعر عندنا البيت وكانت وحدته عندهم القصيدة. فالأبيات العربية طفرة بعد طفرة، والأبيات الإنجليزية موجة تدخل في موجة لا تنفصل من التيار المتسلسل الفياض.»
وقد طبعت هذه المقالة مع ثماني مقالات من قبيلها حتى الآن ثلاث طبعات.
إلى سنة 1930
وفي سنة 1930 ألفنا كتابا عن ابن الرومي خصيصا لشرح الأسباب التي تدعونا إلى الإعجاب به، وأولها أنه أقرب الشعراء الأقدمين إلى المذهب الذي نختاره، وأن عصره أول العصور التي فطنت لتجديد الشعر على هذا الأسلوب.
واستشهدنا في الصفحة السادسة والأربعين بكلام الحاتمي حيث يقول:
مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه وتعفي معالمه ...
ثم استقصينا الشواهد من قصائد ابن الرومي وعقبنا عليها في الصفحة ال (316) فقلنا: «إن العلامات البارزة في قصائد ابن الرومي هي طول نفسه، وشدة استقصائه المعنى واسترساله فيه، وبهذا الاسترسال خرج عن سنة النظامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم، وجعلوا القصيدة أبياتا متفرقة يضمها سمط واحد قل أن يتوالى فيه النسق تواليا يستعصي على التقديم والتأخير والتبديل والتحوير، فخالف ابن الرومي هذه السنة وجعل القصيدة كلا واحدا لا يتم إلا بتمام المعنى الذي أراده على النحو الذي نحاه. فقصائده موضوعات كاملة تقبل العناوين، وتنحصر فيها الأغراض، ولا تنتهي حتى ينتهي مؤداها، وتفرغ جميع جوانبها وأطرافها، ولو خسر في سبيل ذلك اللفظ والفصاحة.»
إلى سنة 1947
وفي سنة 1947 كتبنا في مجلة الكتاب خلاصة شروط الشعر الحسن فعددنا في أولها أن الشعر قيمة إنسانية وليس بقيمة لسانية، ثم قلنا: «إن القصيدة بنية حية وليست قطعا متناثرة يجمعها إطار واحد. فليس من الشعر الرفيع شعر تغير أوضاع الأبيات فيه ولا تحس منه تغييرا في قصد الشاعر ومعناه.»
وهذه المزية خاصة هي المزية التي شرحناها وكررناها وعدنا إليها خلال هذه السنوات في مقالات متفرقة، وتداولها القراء في كتب متوالية أعيد طبعها ثلاث مرات وأربع مرات. ومنها كتاب أعيد طبعه بعد أسبوع واحد وهو كتاب الديوان، ولم يسبق لكتاب عربي حديث مثل هذا الذيوع والانتشار.
الأدب للمجتمع قبل ربع قرن
وقبل ربع قرن - أي قبل أن يعرف الأدعياء كيف يتهجون كلمة المجتمع - كنا نكتب فنقول إن آفة الأدب المصري أنه يعيش بمعزل عن الأمة، ومن ذلك ما كتبناه بالبلاغ في سنة 1927 فقلنا: «إن العزلة بين الشعب والحكومة، والفوارق الدائمة بين الحياة القومية والحياة الرسمية هي علة الجدب الغريب الذي يلاحظ على آداب مصر الرسمية، أي الآداب التي تجري على تقاليد الحاكمين والرواة في العصرين القديم والحديث.»
كتبنا هذا ورددناه ولا نزال نردده ونعني به حين نذكر الشعب أنه مجموعة من النفوس والضمائر والأذواق والأخلاق وليس كما يريده الماديون الحيوانيون مجموعة من البطون والجلود وكفى.
وبعد تسجيل هذه الأعجوبة نستطيع أن نسجل معها بحمد الله أن أدب مصر برئ من لوثة المذاهب الدخيلة، لأن النقد الذي يستوحي تلك المذاهب لم يصدر قط من وحي بديهتها، ولم يعتمد قط على سند صحيح في موازين التقدير على نوعيه، من تقدير استحسان واقتداء أو تقدير استهجان وتفنيد.
ولن يضير الأدب المصري في لبابه أن يلصق به أناس يستوحون المذاهب الدخيلة ولعا بالغريب أو مجاراة للإغراء والترغيب، ونرجو ألا يضيره الأدب المصطنع عند أصحاب جرثومته الكبرى أو أصحاب مذاهبه الهدامة؛ لأنها تنهدم على قواعدها في صميم بلادها، وما تهدم منها ركن قائم إلا كان في انهدامه بشير بالعمار والسلام.
Unknown page