52

Afkar Wa Rijal

أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

Genres

والتعميم في مثل هذه الأمور - كما ذكرنا من قبل - لا يحتمل الصياغة العلمية؛ فإن أولئك الذين يحاولون وصف الروح الروماني، والأسلوب الروماني، يختلفون كما يختلف أولئك الذين يحاولون أن يصفوا ما هو أمريكي، وما هو فرنسي، وما هو روسي، ومن اليسير أن نقول إن الثقافة الرومانية أكثر من الثقافة اليونانية واقعية، وتسبقها من الناحية العملية، ومن اليسير أن نقول إنها أقل شغفا بالسير نحو ما يمكن معرفته في النهاية - أو ما يمكن تصوره - في الكون، ومن اليسير أن نقول إن الثقافة الرومانية، هي الثقافة التي تلائم شعبا استطاع أن يرتفع من توفيق إلى توفيق حتى حكم العالم. لو قلنا ذلك لكنا في كل ما نقول صادقين. واللاتينية - برغم كل شيء - حتى باعتبارها لغة، أشد ألفة من اليونانية.

ولكن الكتاب اللاتين لا يصرون دائما بأية حال من الأحوال على مكانتهم. وهم إن لم يستطيعوا أن يتسنموا الذرى، يستطيعون أن يسبروا الأغوار. وكان كاتلس - وهو من أقدم الشعراء اللاتين - يكشف عن نفسه في صراحة كأي أديب رومانتيكي في القرن التاسع عشر. والسخرية - وهي تعبير عن نوع من أنواع الاشمئزاز الخلقي - في أيدي اللاتين أرقى منها في أيدي الإغريق. وكان الروماني يستطيع أحيانا أن يندفع نحو حياة الفحش والتطرف، والفجور - شأنه في ذلك شأن الكثيرين غيره من الرجال العمليين ذوي العقول القوية. وهذه البذاءة - بذاءة العيش في ثكنات عسكرية - تنعكس انعكاسا مباشرا في كثير من الكتابات اللاتينية، وتنعكس بطريق غير مباشر في صدود رجال الأخلاق عنها.

ولكن الروح الرومانية في أحسن حالاتها - كما يعبر عنها الأدب - تبلغ درجة عظيمة من الوقار، كما يتبين في فرجيل - وإن تكن هناك على الأقل أقلية تجد هذا الوقار الروماني ثقيلا، جافا، مملا، كما يحدث دائما في مثل هذه الأمور، وليس طلاب المدارس وحدهم هم الذين يجدون شيشرون ثقيلا متكلفا. وإنك لتستطيع - على أية حال - أن تجمع مما خلف الرومان من أدب جانبا كبيرا من الحكمة المتعلقة بالكائنات البشرية؛ وذلك لأن الرومان وجهوا اهتمامهم إلى السلوك البشري أكثر مما وجهوه إلى الميتافيزيقا، أو علوم الدين، أو العلوم الطبيعية. وبعض هذا الأدب حديث بدرجة مذهلة، مثل ذلك الذي قاله كاتلس عن لزبيا «إنني أحب وأكره»، وبهذه العبارة كان سباقا لجانب كبير من الأدب الحديث الذي يتصل بالثنائية السيكولوجية. ثم إن الروماني - كرجل من رجال الأخلاق يبدو لبعض النقاد عاديا وواعظا - كما كان سنكا على سبيل المثال - أو أرستقراطيا زائدا في نضجه - كما كان هوراس مثلا.

أما في الفنون التي تتعلق بالأشياء أكثر مما تتعلق بالألفاظ، فقد بلغ الرومان أعلى مستوى لهم في المنشآت العامة التي صممت لاستغلالها دنيويا. كانت معابدهم، مثل «ميزون كاري» في نيم جنوبي فرنسا، الذي حوفظ عليه محافظة شديدة، مصممة على الطراز الإغريقي إلى حد كبير، ولكن المهندسين الرومان طوروا القوس بصورة لم يعرفها الإغريق. واستطاعوا أن يقيموا القنوات فوق القناطر، وملاعب السرك، والملاعب الكبرى، والقاعات العامة الفسيحة، التي كانوا يسمونها «الكنائس المستطيلة». وربما كانت بقايا القناطر - وتوجد منها واحدة كذلك تدعو إلى الإعجاب قريبا من نيم، تعرف باسم قنطرة دي جار - هي اليوم أشد الآثار المرئية تأثيرا، التي تدل على عظمتهم، وهي أمثلة رائعة لفن العمارة الذي تقصد منه المنفعة. وقد أقام الرومان هذه القنوات المقوسة العظيمة عبر الأودية، لا لجهلهم بقواعد «السيفون» أو ضغط الماء، وإنما فعلوا ذلك لأنه لم يكن بوسعهم أن يصنعوا المواسير التي تحمل تحت الضغط كمية كبيرة من الماء بتكاليف زهيدة.

أما في فن النحت، وربما في فن التصوير أيضا، فقد كان الرومان مقلدين للإغريق مباشرة. ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا سلسلة التماثيل النصفية التي بقيت لدينا من العصر الروماني المتأخر - وإن كان الإغريق الهلينستيون قد أغرموا بالواقعية في النحت كذلك. وكانت هذه التماثيل - بطبيعة الحال - لرجال من ذوي المراتب العليا، كالأباطرة وأعضاء مجلس الشيوخ وكبار ملاك الأراضي. أما عامة الناس فلا يمثلون بالحجر. وكان حكام العالم الروماني هؤلاء رجالا جذابين، ضخام الجسوم غالبا، أكتافهم عريضة، صلع في كثير من الأحيان، لا يشبهون كثيرا الذكور الإغريق المنحوتين في الحجر في عصر بركليز، وإنما كانوا رجالا من الواضح أنهم يعرفون كيف يشقون طريقهم في هذه الحياة. وهم في الواقع كمجموعة يشبهون شبها عجيبا صور رجال الأعمال ورجال السياسة الأمريكيين الناجحين.

إن أية مجموعة أمريكية من هذه المجموعات لا بد أن تشمل بعض رجال القانون، وكذلك كانت أية مجموعة رومانية؛ فقد كان أكثر رجال الأعمال الرومان على شيء من المعرفة بالقانون. والواقع أن ما نربطه أولا بروما الوثنية ليس أدبها، أو حتى هندستها، وإنما هو صنعهم للقانون الروماني. والحق أن هذا القانون لم يمت قط، وإنما هو باق على صورة من الصور في النظم القضائية الحية في المجتمع الغربي خارج البلاد التي تتكلم الإنجليزية، وحتى في هذه البلاد التي تتكلم الإنجليزية كان للتشريع الروماني أثر كبير في صياغة النظام القضائي الحديث. وإن كنت إلى الناحية العملية أشد ميلا منك إلى الناحية الجمالية أو الفلسفية فإنك تحس أن روما بقانونها وهندستها خدمت حضارتنا أكثر مما فعل الإغريق اللامعون.

إن كلمة «القانون» - بخاصة في اللغة الإنجليزية - تؤدي عدة معان، وهي من نوع الألفاظ الذي يهم علماء المعاني؛ فهي لا تستخدم فقط في المتشابهات في ميادين العلوم - كقانون الجاذبية مثلا - ولكنها في اللغة العادية كذلك اللفظ الوحيد لما تدل عليه في أكثر اللغات الغربية الأخرى لفظتان: «القانون» و«الحقوق» بالفرنسية، وما يماثلهما في الألمانية واللاتينية. نعم إن بالإنجليزية اصطلاحا للقانوني المحترف يدل على «العدالة»، وهو اصطلاح نشأ في إنجلترا نتيجة لمحاولة مقصودة لعلاج المظالم التي قد تترتب على التطبيق الحرفي الصارم للقانون. واللفظة الأولى من اللفظتين الفرنسيتين، أو الألمانيتين، أو اللاتينيتين، تدل على القانون بمعنى القاعدة الحقيقية التي تطبقها السلطات القضائية، واللفظة الثانية تدل على القانون بمعنى القاعدة السليمة من الناحية الخلقية. واللفظة الإنجليزية ل «العدالة» هي محاولة تعديل اللفظة الأولى بالرجوع إلى الثانية. وهذان الضربان (أو هاتان الفكرتان) من القانون، يكادان يتطابقان - على وجه العموم - عند الأفراد الراضين في المجتمع. أما الأفراد الساخطون فيميلون إلى التفرقة بينهما. وأقول بهذه المناسبة إن أداء لفظة «قانون» في اللسان الإنجليزي والأمريكي للمعنيين معا ربما جاء عرضا، وقد يدل على «جمود عقلنا»، ولكنا من الناحية العملية ندرك تمام الإدراك الفرق الكائن في القانون «كما هو» وفي القانون كما ينبغي أن يكون.

وكذلك كانت بشكل واضح كل الشعوب القديمة التي تعرضنا لها في هذا الكتاب. والواقع أنه من الراجح أن أكثر الشعوب بدائية تفرق بين الظروف القائمة والظروف المستحبة، وهذا التمييز هو من الناحية السيكولوجية الفارق الأساسي البسيط الذي بحثناه، ولكنا - دون أن نتعمق مشكلات فلسفة القانون المعقدة - نجد فارقا آخر يتصل بما نحن بصدده، وهذا الفارق يبين بصورة أكمل صفة الابتكار في القانون الروماني بشكله الناضج، وأهمية هذا القانون. قد ينظر إلى «القانون» نظرة تقديس حتى تتعلق جميع تطبيقاته العملية بذلك النوع من القانون الذي يستهدف «ما ينبغي أن يكون». ومثل هذا القانون يمكن كسره في عالم «الكينونة»، ولكنه في مثل هذه الظروف في نظر الرجل البدائي ينكسر بالمعنى الذي نفهمه من كسر قانون الجاذبية - وهنا يجب على الأمريكي الحديث أن يستخدم خياله لكي يفهم الشعوب البدائية. ويستطيع المرء أن يقفز من فوق سطح في محاولة كسر قانون الجاذبية، غير أن المحاولة بطبيعة الحال لا يمكن أن تنجح. ويستطيع اليهودي البدائي أن يمس تابوت العهد بالرغم من أن قانون يهوه يحرم عليه ذلك، ولكنه يهلك بطبيعة الحال لتوه إن هو حاول ذلك. ف «القانون» إذن من هذه الناحية شيء يسمو على قدرة التفكير البشري، شيء أوحي به أو وجد، لم يصنعه البشر، ولكنه كامل، لا يتغير، وهو شيء مطلق.

هذه المشابهة التي ذكرناها آنفا بين القانون الموحى به، والشريعة الموسوية مثال معروف له، وقانون الجاذبية كما يفهمه أكثرنا هذه المشابهة - كأكثر المشابهات - لها نقائصها المنطقية، ولكنها نافعة من الناحية السيكولوجية، ويمكن أن نتابع السير فيها قليلا للانتفاع بها. قد يطرأ على ذهنك من يتحدى الجاذبية «وقد يكون مزودا بالباراشوت» (أو بالبالون أو الهليكوبتر). إنه في هذه الحالة «لا يكسر» أو يتحدى قانون الجاذبية، ولكنه على الأقل «يتحايل عليه» بطريقة ما، أو قل إنه يطبقه على أغراضه. وكذلك - من وجهة نظرنا الحديثة على الأقل - فإن الرجال الذين وكل إليهم حكم هذه المجتمعات القديمة تحت «القانون الموحى به» فعلوا شيئا من هذا القبيل بهذه المجموعة من الأحكام الجليلة المطلقة؛ فقد تحايلوا عليها واخترعوا ما نسميه (لا ما يسمونه هم) الشكل القانوني. لقد قاموا بالفعل بشيء جديد، شيء مختلف، شيء من المواءمة، ولكنهم استخدموا الأشكال القديمة، والألفاظ القديمة، والوسائل القديمة «الصحيحة»، يقول القانون لا يفعل كذا وكذا إلا الابن. ولم يكن لسمبرونيس ابن، ولكنه يستطيع أن يتخذ له بالتبني ولدا، ويزعم أن ابن غيره هو في الحقيقة ابنه. ثم يؤدي طقوسا معينة، فيكون له ولد يقوم بالأعمال التي ليس لغير الابن أن يقوم بها. إنه بذلك لا يتحدى القانون، ولكنه يتحايل عليه قطعا. وليس هذا الضرب من السلوك معدوما بأية حال من الأحوال حتى في المجتمعات الحديثة كما قد يظن بعض العقليين منا.

ومع ذلك فقد ألفنا نحن المحدثين أن نحسب أن القوانين إن هي إلا تنظيمات لتيسير المعاملة في العلاقات الإنسانية، فإن أردنا أن نقوم بعمل جديد، فمن عادتنا أن نفسح قانونا قديما ونضع قانونا جديدا. ولدينا في التعديل الثامن عشر والحادي والعشرين للدستور الأمريكي مثال طيب. ويبدو أن اليهود، والإغريق، والرومان، جميعا قد بدءوا بفكرة القانون الموحى به الذي لا يتغير، ولكنهم حوروا هذا القانون من الناحية العملية. أما إلى أي حد كان زعماؤهم - وبخاصة في الأزمنة القديمة - يدركون ما هم فاعلون، وإلى أي حد كانوا بالفعل يزعمون أنهم يتبعون القانون في حين أنهم في واقع الأمر لا يتبعونه - أما هذا فهو أمر شائق ولكنه شائك. ويجوز لنا أن نتغاضى عنه هنا.

Unknown page