ليس بين هؤلاء الأفراد اتفاق تام - على أي شكل - على أنه لا بد من البحث في السلوك البشري المحسوس عن مركبات مثل المعقول واللامعقول. غير أنه ليست هناك مجموعة من التعريفات العملية الفعالة لهذه المصطلحات مقبولة في جميع أنحاء العالم.
دور الأفكار
ومن ثم كانت هناك بعض المشكلات العويصة التي تتعلق بالطرق، وربما كانت تتعلق أيضا بالفلسفة، لا بد من مواجهتها قبل أن نستطيع البدء في دراسة تراثنا الفكري الغربي في مصادره الإغريقية والعبرية الكبرى. إن مؤرخ الفكر يحاول أن يرى كيف تعمل الأفكار في هذه الدنيا، وأن يدرس العلاقة بين ما يقول الناس وما يقومون بعمله فعلا: ماذا يعني بالأفكار، وماذا يعني بقوله إن للأفكار تأثيرها في هذه الدنيا؟ إن هذه هي في حد ذاتها مسائل فلسفية، يدور فيها الجدل بين الأفراد بغير اتفاق. وهذه الحقيقة وحدها توضح أن هذه المسائل ليست مما يمكن الإجابة عنها كما يفعل الصبي الأمريكي عندما يجيب عن مثل هذه الأسئلة: ماذا يعني مهندس السيارات بالكاربيوريتر؟ وماذا يعني عندما يقول إن الكاربيوريتر يؤدي وظيفته؟
إن الأفكار تختلف اختلافا بينا عن الكاربيوريتر. ولكن أرجو ألا يخطئ القارئ فيحسب أنها أقل واقعية من الكاربيوريتر، أو أنها أقل أهمية في حياتنا، أو أنها مجرد ألفاظ ليست لها البتة أية قيمة.
سنأخذ «الأفكار» هنا بمعنى واسع جدا حقا كأي مثل ملموس لعمل العقل البشري يمكن التعبير عنه بالألفاظ. ومن ثم فإن لفظة «آه» التي تصدر عن رجل يؤذي إصبعه بالمطرقة ليست على الأرجح فكرة من الأفكار. أما قوله: «لقد آذيت إصبعي بالمطرقة» فهو تعبير ساذج جدا، ومن ثم فهو فكرة من الأفكار. ثم إن قوله: «إن أصبعي تؤلمني لأني آذيتها بالمطرقة» يتضمن أفكارا أشد تعقيدا. أما أمثال هذه الأقوال: «إن إصبعي تؤلمني لأن ضربة المطرقة أثرت في أعصاب معينة نقلت إلى جهاز العصبي المركزي نوعا من الإثارة يرتبط بما نسميه الألم.» أو: «إن إصبعي تؤلمني لأن الله يعاقبني على ما اقترفت من آثام.» فهي فروض شديدة التعقيد، تنقلنا إلى مجالين هامين من مجالات الفكر: المجال العلمي، والمجال الديني.
وتصنيف جميع ضروب الأفكار التي تتضافر في تأليف ما نسميه عامة بالمعرفة هو في حد ذاته المهمة الكبرى التي تضطلع بها عدة نظم، منها المنطق، وعلم المعرفة، وعلم المعاني. وتأتي بعد ذلك مهمة البت في أي أنواع المعرفة صادق، أو إلى أي حد يصدق قدر معين من المعرفة، ومهمات أخرى كثيرة لا نستطيع هنا أن نحددها. وقد أثارت في أيامنا هذه دراسة علم المعاني، وتحليل الطرق المعقدة التي تدل بها الكلمات - عند استخدامها في تبادل الآراء بين الأفراد - على معانيها اهتماما بالغا. ويكفينا فيما نحن بصدده أن نميز تمييزا أساسيا بين لونين من المعرفة: المعرفة التي يمكن تراكمها، والمعرفة التي لا يمكن أن تتراكم.
وخير مثال للمعرفة التراكمية هو المعرفة التي نسميها عادة بالعلوم الطبيعية، أو مجرد العلوم؛ فقد أخذت أفكارنا في علوم الفلك والطبيعة «تتراكم» منذ بداية دراسة هذه العلوم منذ آلاف السنين في شرق البحر المتوسط، كما أخذت تتكون تدريجا في صورة علوم الفلك والطبيعة التي ندرسها في المعاهد والكليات. ولم تكن عملية التكوين منتظمة، ولكنها كانت ثابتة بوجه عام، ولا تزال بعض الأفكار أو النظريات التي ظهرت منذ البداية صادقة، كفكرة أرشميدس في عصر اليونان عن الكثافة النوعية. ولكن كثيرا جدا من النظريات والأفكار قد أضيف إلى الرصيد الأول من الأفكار، كما أن كثيرا أيضا قد نبذ لخطئه. وكانت النتيجة نظاما، أو علما، له أساس متين مقبول في كل مكان من المعرفة المتراكمة، وله حدود من المعرفة الجديدة آخذة في الاتساع. والجدل يتركز بين العلماء - والعلماء يتجادلون كما يتجادل الفلاسفة وعامة الناس - في هذه الحدود النامية دون الأساس. أما هذا الأساس فإن جميع العلماء يقبلون صدقه.
ويمكن للمعرفة الجديدة بطبيعة الحال أن تنعكس خلال الأساس كله، وتسبب ما يمكن أن نسميه حقا ب «الثورة» في العلم، ومن ثم فإن نظريات الميكانيكا الكمية والنسبية قد كان لها صداها في لب طبيعة نيوتن.
أما المعرفة اللاتراكمية فخير مثال نسوقه هنا لها يستمد من ميدان الأدب؛ فالأدباء يقدمون فروضا معينة، وأفكارا معينة عن الأفراد، وعن الحق والباطل، وعن الجميل والقبيح. وقد كتب الأدباء باليونانية في هذه الأمور منذ أكثر من ألفي عام. كما كان غيرهم في نفس الوقت ويكتبون باليونانية عن حركات النجوم أو عن نظريات الأجسام الصلبة في الماء. ولكن أدباءنا المعاصرين يكتبون اليوم في نفس الأشياء التي كتب عنها الأدباء اليونان بنفس الطريقة إلى حد كبير وبغير زيادة واضحة أو معينة في المعرفة. أما علماؤنا فإن لديهم عن علوم الفلك والطبيعة معارف وأفكارا وفروضا تربو كثيرا على ما كان عند اليونان.
وإذا أردنا أن نعرض الموضوع في أبسط صورة قلنا إن الأديب اليوناني كأريستوفان، أو الفيلسوف اليوناني كأفلاطون، إذا عاد إلى الأرض بمعجزة في منتصف القرن العشرين وتحدث إلينا (ولم يظفر بأية معرفة جديدة منذ وفاته) يستطيع لتوه أن يتكلم في الأدب وفي الفلسفة مع ج. ب. شو أو مع جون ديوي، دون أي إحساس بالغرابة. في حين أن عالما إغريقيا كأرشميدس في مثل هذا الوضع - مهما يكن عبقريا - يحتاج إلى أن يقضي أياما عدة يمحص فيها كتب الطبيعة الأولية والمتقدمة، ويكتسب فيها قدرا كافيا من الرياضيات قبل أن يستطيع الكلام في موضوعه مع عالم حديث في الطبيعة مثل بور أو أينشتين.
Unknown page