لقد أصبح الطريق إلى أخلاق الكالفنية الآن واضحا، وهي الأخلاق التي أطلقت عليها الأجيال القليلة الأخيرة من المثقفين في أمريكا البيوريتانية متوهمين أنهم منها براء. إنني لا أستطيع - طبقا لما يقول به البيوريتان - أن أعرف إرادة الله، ولكنه قدم إلي بعض الإشارات التي تدل على الطريق الذي يسلكه الفرد من صفوة الناس. وهذه الإشارات هي في كلماته أساسا كما جاءت في الإنجيل. ومهما يكن من أمر فإن الكالفني - وقد نبذ الكنيسة الكاثوليكية التاريخية - لم ينبذ كلية تقليدا مسيحيا أعم من ذلك، وهو الإيمان بالسلطان، وذلك بالإضافة إلى أن الشيوخ، وهم أصحاب السلطان في المجتمعات الكالفنية كانوا طبقا للعقيدة الكالفنية على درجة من الإلهام المؤكد بإرادة الله لم تكن لعامة الناس.
وقد أوضح الكتاب المقدس والتقاليد المسيحية - بتعزيز من رجال الدين وشيوخ الكنيسة - للبيوريتان إيضاحا لا يترك مجالا للشك أن البيوريتاني لو أراد فعلا أن يرتكب الفاحشة فإن الله هو الذي يثير فيه الشهوة، ولكن عن طريق الشيطان، لا عن الله مباشرة بغير وسيط (وهذه اللغة ليست كالفنية، ولكنها واضحة). وهذه الشهوة هي من النوع الذي ينتاب أحد أولئك الذين لحقتهم لعنة الله. وهي من النوع الذي يسبب للبيوريتاني اهتماما بالغا بمستقبل حياته - إذ ربما لا يظفر بالخلاص. وهي من النوع الذي يجدر به كبته كلية إن أراد الخلاص فعلا. وإن قدر له الخلاص فعلا ملك القدرة على كبت شهوته. إن الله الذي يستجيب للدعاء أو على الأقل لدعاء الكالفني - برغم قضائه الذي لا يرد - يعين من يستعين به في درء الخطيئة.
إننا نعود إلى التقوى المسيحية، وإلى الأخلاق المسيحية، بأقوى تياراتها؛ فالكالفنية كأسلوب من أساليب العيش شكل من أشكال المسيحية المثالية، أو المسيحية التي تنتمي إلى العالم الآخر، وكثيرا ما عاب عليها ناقدوها استبعادها بعض الناس، وهو ليس من المسيحية في شيء ، كما عابوا عليها أن الصفوة لا تتجاوز أقلية صغرى. ومع ذلك فالكالفنية في الواقع تمثل محاولة لأن تمد إلى الحياة في هذه الدنيا شيئا من المثل التي يئست الكنيسة الكاثوليكية التاريخية من زمان بعيد من مده إلى ما يجاوز رجال الدين في الأديرة وفي الحياة العامة. وكم من كالفني كان يتصف بالتأكيد بالكبرياء الروحاني، ولكنهم لم يكونوا بذلك كالفنيين أفضل من غيرهم. إن الكالفني لا يقبل أن يرتكب الآثم إثمه طواعية إذا استطاع ذلك. وذلك بالرغم من أن المنطق الصارم يقول بأن الله قد أراد قطعا للآثم أن يأثم. وحيثما كان الكالفنيون في الحكم كانوا يراقبون السلوك الذي يعدونه آثما، ويحرمونه، ويمنعونه، ويوقعون عليه العقوبات.
ومن الواضح في أذهانهم أنهم كانوا في هذا وكلاء الله، يقومون بما يفرضه الله عليهم، ومن الناحية العملية كان هؤلاء القوم - الذين يعتقدون اعتقادا جازما في عجز الجهد البشري عن إحداث «أي تغيير» - من بين أولئك العاملين بحماسة شديدة في سبيل حث الناس على تغيير سلوكهم. وقد نجحوا في ذلك إلى درجة مذهلة. وعاونوا على قيام الثورة الصناعية وعلى خلق العالم الحديث.
إن الاتجاه المسيحي الذي أكده الكالفنيون في جلاء ووضوح هو الزهد، ومن اليسير أن يخطئ المرء فهم الزهد الكالفني أو أن يستخف به. إن الكالفني ليس بالمتصوف الذي يسعى إلى سحق الإدراك الحسي وإلى اعتزال هذه الدنيا، وإنما هو يسعى إلى أن يختار من بين شهواته الدنيوية تلك التي تقربه من الخلاص، وإلى أن يكبت أو يحد من تلك التي لا تقربه. كان الكالفني يعد الدنيا مكانا جديا جدا في الواقع، الضحك فيه خروج على النظام، ويعتقد الكالفني أن هذه الدنيا بالنسبة لأكثرنا ليست إلا مدخلا للجحيم والعذاب الأبدي. فإن أنت أحسست ذلك فعلا فمن المحتمل ألا تبتهج كثيرا. ويرى الكالفني أن أكثر المسرات التي يألفها الجنس البشري - الموسيقى الخفيفة، والرقص، والميسر، وفاخر الثياب، والشراب، وارتياد الملاعب وغيرها - هي ذلك النشاط الذي يحبه الشيطان، ولا أقول لا يحبه الله؛ لأن الله لا يقوم بأداء الأفعال البشرية فيحب أو لا يحب، ولكنه نشاط يحط من قدر تلك الجلالة الرهيبة على صورة من الصور.
ولم ير الكالفني - كما يرى بعض المسيحيين - أن الاتصال الجنسي إثم. وإنما كان شديد الإيمان بأنه إثم إذا انهمك المرء فيه خارج نطاق الزواج بزوجة واحدة، ذلك الزواج الذي يرتبط به شرعا وتباركه الكنيسة. وإنك لتجد فيما كتب الكالفنيون الرأي الذي يقول بأن الهدف الذي يرمي إليه الإله من الاتصال الجنسي هو الاحتفاظ بالجنس البشري، وليس المتعة الحسية التي يشعر بها الطرفان. وإنما يشتد خطر هذه المتعة لأنها قد تؤدي إلى التمادي فيها خارج نطاق الزواج، وهو إثم من الآثام الكبرى. وإنما ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن البيوريتان، الذين كونوا أسرا ضخمة، وبخاصة في إنجلترا الجديدة، قد فعلوا ذلك بدافع من إحساس بالواجب أليم. إن البيوريتاني لم يكن في الأغلب يتمسك بقتل شهوات الجسد بشكل قوي من أشكال تقاليد التزهد القديمة؛ فقد كان يحب أن يأكل طعاما جيدا، وأن ينام نوما عميقا، وأن يعيش في بيت مريح. والواقع أن من بين المآخذ التي أخذها بعض المثقفين الأحرار المحدثين على البيوريتان من آبائنا أنهم أهملوا الفنون الجميلة، والمتعة البدنية النبيلة، في سبيل النجاح التجاري المادي، وأسباب الراحة الدنيوية المبتذلة - أي إنهم كانوا بإيجاز أسلاف جورج بابت.
والكالفنية كذلك تضرب بشدة على نعمة مسيحية أخرى، وهي الفضيلة الخلقية؛ فقد كان الكالفني يتمسك بقانون أخلاقي سام، يتغالى إلى حد التطرف في بعض اتجاهاته بدافع جديته في التفكير، ولكنه قانون لا يزال في أساسه يسير وفقا لتقاليد جميع الديانات الكبرى. وبالرغم من - أو بسبب - إيمانه بالقدرية، كان يحاول دائما أن يعيش طبقا لقانونه، كما يهمه أن يفعل كذلك غيره من الناس، وللاتجاهات الباطنية والظاهرية لهذا الجهد أهمية قصوى.
ومن المؤكد أن الكالفني كان يحس «الحرب الأهلية في صدره»، يحس النضال بين ما عرف فيما بعد بالضمير البيوريتاني وأسباب الإغراء في هذه الدنيا. وهذه الفكرة التي ترى وجود جانب أسمى من الوعي البشري يمكنه - بل يجب عليه - أن يراقب وأن يكبح جماح دوافع الجانب الأسفل، قد تركت أثرا قويا في الغرب، وهو أثر كانت تشتد قوته خاصة حيثما كانت الكالفنية هي النغمة السائدة. والظاهر أن روسو وفرويد لما يستطيعا أن يهزا بجد هذه الفكرة عن الدور الذي يلعبه الضمير - حتى في نفسيهما.
وهذه الفضيلة الخلقية - في اتجاهاتها الظاهرية - قد اتخذت أشكالا عدة غير الحرمان الصريح المفروض بالقوة، وهو الحرمان الذي يبرزه نقاد البيوريتانية للحكم عليها. إن طريقة التحريم الصريح للرقص والتمثيل وما إلى ذلك موجودة قطعا، وقد لجأ إليها الكالفنيون الأوائل بصورة طبيعية لأنهم - كما ذكرنا من قبل - لم يشغلوا أنفسهم، كما يشغل الديمقراطيون أنفسهم، بحرية الفرد. غير أن الكالفني كان يعتقد كذلك بالإغراء. فجعل الموعظة جانبا أساسيا من عباداته. إنه لم يؤكد الهجوم على المذهب العقلي كما فعلت المسيحية من قبل، بل إن تأثير الكالفنية في نهاية الأمر كان دفع ما نسميه المذهب العقلي إلى الأمام، ولكن الكالفني في هذه السنوات الأولى لم يكن بكل تأكيد من العقليين؛ فهو يؤمن بنار الجحيم، وبالفوائد الخلقية للخوف من نار الجحيم، وهو يؤمن بالتحول العاطفي، وهو مبشر طيب، وإن لم يكن في أسمى قدراته بين الشعوب البدائية.
إن البيوريتانية - وهي لفظة ألفنا نحن الأمريكيين أن نستخدمها استخداما مائعا لا يرضى عنه علماء اللغة لتدل في إيجاز على أسلوب الحياة الكالفنية - مجموعة من مجموعات الآراء التي لا يمكن في الواقع أن تحلل بالدقة الكيموية. إننا لا نستطيع أن نعرف البيوريتانية بالمعنى العلمي ل «التعريف»، وقد حاولنا في شغف شديد أن نشير إلى بعض عناصر أسلوب الحياة البيوريتاني في القرنين الأولين من تاريخ البيوريتانية ولكنا لا نعدو مس الموضوع سطحيا، وحتى في هذه الحالة نجد مشكلة شاقة كبرى لا نستطيع إهمالها، وهي مشكلة الأوجه السياسية في الكالفنية ونتائجها.
Unknown page