سبق أن أشرنا إلى أن لانجه كان من أنصار كانت المتحمسين، وقد يبدو غريبا أن يظهر مؤلف ضخم عن المذهب المادي على يد واحد من أقطاب النزعة الكانتية الجديدة في ألمانيا. ولكن الواقع أن لانجه قد وفق بين آراء كانت وبين المذهب المادي على طريقته الخاصة، فهو من ناحية ليس نصيرا متحمسا للمذهب المادي في كل الأحوال؛ ذلك لأن المادية في نظره لها قيمتها بوصفها طريقة في تفسير الظواهر تخلصنا من المبالغات والأوهام الميتافيزيقية، وتزيد الفلسفة اقترابا من روح العلم. ولكنها لا تعدو أن تكون «طريقة في تفسير الظواهر» فحسب؛ أعني أنها لا تقدم تفسيرا نهائيا للأشياء في ذاتها، وهي تقضي على ذاتها إذا حاولت أن تقيم بدورها نظرتها الميتافيزيقية الخاصة إلى الكون، وتدعي أنها التعبير الكامل عن الطبيعة النهائية للأشياء، وإذن فالمادية عنده مقبولة من حيث إنها منهج في النظر إلى الأمور، قريب من الروح العلمية الحقيقية. ولكنها مرفوضة من حيث إنها نظرية ميتافيزيقية في طبيعة الأشياء في ذاتها تظل مجهولة لدينا تماما.
ومن جهة أخرى فإن لانجه يذهب إلى أن كانت لم يكن معاديا للمادية إلى الحد الذي يتصوره معظم مؤرخي الفلسفة؛ ذلك لأن كانت قد تأثر أشد التأثير بفلسفة هيوم، وهيوم فيلسوف تجريبي لا يؤمن بوحدة الذات أو بوجود جوهر للنفس أو بأن النفس بسيطة متوحدة، ومثل هذه الآراء عند هيوم لا تتمشى مع الإيمان بخلود النفس؛ ومن هنا فإنها تضر بقضية اللاهوت على قدر إضرارها بقضية الميتافيزيقا، فإن كان صاحب هذه الآراء هو أقوى الناس تأثيرا في تفكير كانت، فمن الواجب أن ننظر إلى علاقة كانت بالمادية في ضوء مخالف لما هو مألوف ؛ إذ إن كانت - مع معارضته للمادية - لم يكن ممن يزدرونها أو يستبعدونها تلقائيا. وهكذا يعرض لانجه فلسفة كانت عرضا مفصلا، ويهتم بوجه خاص بفكرة مثالية المكان والزمان من حيث تأثيرها في موقفه من الفلسفة المادية، كما يهتم أيضا بمقولة العلية التي كانت آراء «كانت» فيها بمثابة رد فعل على نزعة الشك عند هيوم؛ بحيث انتهى إلى أن العصور الذهنية تنتسب بالضرورة إلى تركيبنا الخاص، لا إلى التجربة ذاتها، وعلى أية حال فإن لانجه يثبت أن كثيرا من عناصر الفلسفة الكانتية لا تتعارض مع المذهب المادي، ويكفي أن كانت يؤكد أن العالم الظاهري - وهو العالم الذي تبحث المادية في قوانينه - هو العالم الوحيد المعروف لنا، فلا تعارض على الإطلاق بين فلسفة كانت وبين أية نزعة مادية طالما أننا ننظر إلى هذا العالم على أنه عالم ظواهر فحسب، ومن المؤكد أن كانت لا يرفض على الإطلاق أي بحث علمي يهدف إلى استخلاص قوانين عالم الطبيعة، منظورا إليه على أنه عالم الظواهر. أما إذا ادعت المادية أن القوانين التي يصل إليها العلم متعلقة بالأشياء في ذاتها، فإنها في هذه الحالة تتعارض مع أصول الفلسفة الكانتية، وتتعرض في الوقت ذاته لنقد شديد من جانب المؤلف.
وسوف نرى في الجزء التالي من هذا البحث كيف أن لانجه يوجه انتقادات شديدة إلى المذاهب المادية التي تزعم أنها تتوصل إلى الطبيعة النهائية للأشياء، على الرغم من إيمانه بقيمة المادية من حيث هي منهج علمي في البحث. (4) المادية والعلم
أفادت المادية كثيرا من تقدم العلوم الطبيعية، حتى إن الماديين الذين عرفهم «لانجه» حاولوا أن يربطوا مذهبهم بالعلم ربطا نهائيا، مؤكدين أنه لا مجال في أي موضوع ما عدا العلم الطبيعي؛ إذ لا يوجد خارج الطبيعة شيء، ومعنى ذلك أن الفلسفة لم تعد لها مجال، بل لقد أصبحت - بعد تقدم العلوم الطبيعية - عائقا حقيقيا في وجه الفهم العلمي للعالم، وإذن فالماديون يقولون بهوية تفكيرهم مع العلم، على حين أن التفكير الفلسفي المضاد لمذهبهم لا يساعد في رأيهم على توسيع نطاق المعرفة.
ويتفق «لانجه» مع هذا الحكم بقدر ما ينطبق على الفلسفات المثالية الألمانية في تطوراتها بعد كانت، وهي الفلسفات التي يتخذ منها موقفا شديد العداء، فطريقة تفكير شلنج وهيجل وغيرهما من المثاليين تبرر بالفعل عدم ثقة العلماء بالفلسفة. غير أن الفلسفة في تطوراتها السابقة - أي منذ ديكارت حتى كانت - لم تكن تتخذ من العلم هذا الموقف، وإنما كانت تساير العلم وتسانده، بل كانت في أساسها طريقة علمية في النظر إلى الأمور، فضلا عن أنها كانت محاولة لكشف أوجه أخرى للعالم غير ذلك الوجه الذي تكشف لنا الحواس. وفي هذه الحالة يقف لانجه موقف المعارضة الشديدة من الادعاءات المادية، وينكر على هذا المذهب زعمه أنه هو الممثل الوحيد للعلم، وهو كفيل باستبعاد الفلسفة نهائيا من مجال المعرفة البشرية، فللفلسفة كل الحق في الوقوف إلى جانب العلم، وكل محاولة للاستغناء بالعلم عن الفلسفة مصيرها الإخفاق.
ويعتقد لانجه أن «كانت» يقدم إلينا مثلا رائعا لمفكر جمع بين الاهتمام بالعلم والإسهام فيه وبين القدرة على تشييد مذهب فلسفي وطيد الأركان، فقد كان «كانت» من أوائل من قالوا بالنظرية التي ترد أصل الأجرام السماوية إلى مجرد تماسك المادة المبعثرة في أرجاء الكون، وهو قد استبق المذهب التطوري في نواح غير قليلة؛ إذ تحدث في محاضراته العامة عن تطور الإنسان من حالة حيوانية سابقة. وفضلا عن ذلك فقد رفض كانت فكرة وجود «مقر» للنفس، وأكد أنها فكرة لا معقولة، وكثيرا ما كان ينادي بأن الجسم والنفس شيء واحد يدرك على نحوين مختلفين، وهذه كلها عناصر مادية غاية في الوضوح، تضمنها تفكير كانت واتسع لها. ومع ذلك فإن تفكيره الذي لم يكن يستطيع أن يتعلم المزيد من الماديين - لأن كل قضاياهم موجودة فيه ضمنا - قد ظل محتفظا بالطبع المثالي؛ أي إن كانت قد استطاع أن يعترف للعلم بمجاله الخاص ويسهم في تقدمه بجهود غير قليلة. ولكنه مع ذلك لم ينكر على الفلسفة حقها في استطلاع مجالات أخرى، فالعالم المعطى لنا عن طريق حواسنا، ولتنظيمه وجعله معقولا بالنسبة إلينا. ولكن نظرة العلم الآلية لا تسري إلا على عالم الظواهر هذا، ومن وراء هذا العالم يوجد عالم الأفكار الذي يتعين علينا ألا نتجاهله؛ فالعلم يقف عند حدود هذا العالم المثالي أو الفكري الذي لا تقدر على استطلاعه إلا الفلسفة.
أما الزعم بأن النظرة المادية هي وحدها الكفيلة بتحقيق تقدم المعرفة البشرية، فإن لانجه يرد عليه بقوله: إن هذه النظرة - على العكس من ذلك - محافظة بطبيعتها، فلا شيء يدفع المادي إلى تجاوز الظواهر الحسية المباشرة، إلى استخلاص أوجه جديدة غير مألوفة للأشياء، والقيام بتجارب ومحاولات جريئة تغير مجرى المعرفة السائد. بل إن هذه الجرأة وذلك التجديد يحتاجان إلى ذهن لا يتقيد بالمحسوسات المباشرة، ولا يحول شيء بينه وبين تجاوز ما هو معطى، والتحليق في آفاق أعلى من مستوى ما هو حاضر أمامه مباشرة؛ ومن هنا يؤكد لانجه أن الكشوف والانقلابات الكبرى في العلم قد تمت على أيدي علماء لم يكونوا من ذوي النزعة المادية.
7
فهل يعني ذلك أن لانجه يحارب المادية المعاصرة له ولا يقبل أية قضية من قضاياها؟ الواقع أن موقف لانجه من المادية - كما قلنا من قبل - موقف مزدوج، فهو يحفظ من المادية بفكرة انتظام الطبيعة وقانونيتها، ويرى في هذه النزعة وسيلة لمحاربة كل أنواع التفكير الخرافي أو الميتافيزيقا المغرقة في الغرور. ولكنه يعترض على المادية بشدة في فكرتها القائلة: إن المادة هي جوهر الأشياء والموجودات جميعا. ومع ذلك فمن الواجب أن ننبه إلى أن اعتقاده بانتظام الطبيعة لا يعني أن هذا الانتظام في رأيه «موضوعي»، ينتمي إلى طبيعة الأشياء ذاتها، بل إن تأثيره بتفكير كانت جعله يؤمن بأن هذا الانتظام يرتد آخر الأمر إلى الذات التي تضفي قوانينها ومبادئها - أو صورها ومقولاتها - على كل ما تدركه في عالم الظواهر.
فلنتأمل إذن كيف يطبق لانجه آراءه في مجالات علمية محددة: (4-1) علم الفيزياء
Unknown page