هذه المعاني المستمدة من بناء تشبيه الشجرة ذاته، يمكن أن تترجم فلسفيا إلى ثلاثة تفسيرات مختلفة للعلاقة بين الميتافيزيقا (بوصفها جذر الشجرة) وبين الفيزياء والعلوم التطبيقية (أي الجذع والثمار): (1)
التفسير الأول يرى أن الميتافيزيقا هي العنصر الأهم في فلسفة ديكارت، وكل ما عداها ثانوي الأهمية بالقياس إليها. وهكذا رأى كثير من شراح ديكارت أن فلسفته هي في أساسها «ميتافيزيقا»، وعلى الرغم من أن البحث في الميتافيزيقا لم يكن سوى موضوع واحد من بين موضوعات متعددة أبدى بها ديكارت اهتماما كبيرا، فإن هؤلاء الباحثين يخصصون أكبر حيز من مؤلفاتهم عن ديكارت لآرائه الميتافيزيقية، على حين أن آراءه العلمية ولا يشار إليها في هذه الحالات إلا إشارة عابرة.
ولا شك أن المرء قد يلتمس عذرا لمن يعالجون فلسفة ديكارت بهذه الطريقة، على أساس أن البحث الميتافيزيقي يحتفظ بقيمته على مر العصور، على حين أن الآراء العلمية تفقد قيمتها بسرعة ولا يعود لها مكان إلا في متحف التاريخ العلمي فحسب. وهذا تبرير معقول ومفهوم. ولكن كان ينبغي أن يصحبه إدراك للأهمية النسبية لكل من المبحثين عند ديكارت نفسه، فلا بأس من أن يخصص الشارح المعاصر معظم كتابه للمسائل الميتافيزيقية ويتجاهل المسائل العلمية، بشرط أن ينبهنا إلى أن ديكارت ذاته جعل لهذه المسائل العلمية موقعا رئيسيا في فلسفته. ولكن ما يحدث في أغلب الأحيان هو أن طغيان البحث الميتافيزيقي يصحبه عادة اعتقاد ضمني بأن الوضع كان على هذا النحو حتى بالنسبة إلى ديكارت ذاته، ألم يقل ديكارت: إن الميتافيزيقا هي الجذور؟ وأليست جذور الشجرة هي الأصيلة والعميقة والراسخة؟ (2)
أما التفسير الثاني فيذهب - على العكس من ذلك - إلى أن دور الميتافيزيقا عند ديكارت كان «تمهيديا» فحسب؛ فهي التي تهيئ الطريق للبحث في العلوم النظرية والتطبيقية، وذلك بأن تزيل عقبات معينة كان من الممكن أن تحول دون قيام هذه العلوم، كعقبة الشك في قدرة الإنسان على المعرفة، أو في وجود العالم، وبعد أن تؤدي الميتافيزيقا هذه المهمة، التي هي سلبية بطبيعتها (أعني إزالة العقبات)، وبعد أن تضيء النور الأخضر للعلم، ينطلق العلم في مساره مستقلا عن الميتافيزيقا، ووفقا لهذا التفسير لا تحتل الميتافيزيقا في فلسفة ديكارت إلا مكانة ثانوية، ويكون اهتمام ديكارت الحقيقي منصبا على المسائل العلمية. (3)
وأخيرا، فإن التفسير الثالث يمكن أن يعد مركبا من التفسيرين الأخيرين، فهو يعترف بالأهمية القصوى للميتافيزيقا، ويعترف في الوقت ذاته بأن البحث في العلوم كان هو الغاية النهائية لفلسفة ديكارت، وذلك عن طريق تأكيد الروابط المستمرة بين الجانبين؛ فالعلوم تظل معتمدة على المبادئ الأساسية التي تزودها بها الميتافيزيقا، ومهمة الميتافيزيقا في إعلاء صرح المعرفة العلمية مستمرة؛ لأن تصور ديكارت للعلم لا يستقيم بدون وجود مبادئ ميتافيزيقية أساسية تضفي اليقين على كل ما يتوصل إليه العلم النظري والتطبيقي من نتائج، وعملية المعرفة - في نهاية الأمر - تسير في خط واحد لا انقطاع فيه؛ بحيث يستحيل وضع حد فاصل نهائي بين ما يقوم به الباحث الميتافيزيقي وما يقوم به العالم النظري والتطبيقي. بل إن ديكارت نفسه تصور أنه هو القادر على السير في طريق المعرفة هذا من بدايته إلى نهايته.
وهكذا تتحدد طبيعة فلسفة ديكارت، في علاقتها بالجوانب العلمية من نشاطه، في إطار هذه التفسيرات المرتكزة على ثلاثة طرق ممكنة في فهم تشبيه الشجرة، وسوف تكون مهمتنا - في الأجزاء التالية من هذا البحث - هي تقديم عرض مفصل لهذه التفسيرات، من أجل بيان مدى قدرتها على التعبير عن موقف ديكارت الحقيقي في مشكلة العلاقة بين الجوانب الفلسفية والجوانب العلمية في تفكيره.
على أن من الواجب أن ننبه إلى أن التفسير الأول، وهو القائل إن الميتافيزيقا هي العنصر الهام الذي يطغى على ما عداه، والذي يجعل من ديكارت فيلسوفا ميتافيزيقا في الأساس، ولا يتحدث عن مواقفه من العلم إلا حديثا ثانويا. هذا التفسير كما قلنا في بداية هذا البحث هو الشائع والمألوف، ولما كانت نسبة كبيرة من الكتابات والأبحاث التي ألفت عن ديكارت قد دافعت عن هذا الموقف، فإنا لا نجد أنفسنا بحاجة إلى عرض مفصل لهذا التفسير؛ ولذلك سنركز اهتمامنا على التفسيرين الأخيرين؛ لأنهما أقل شيوعا، ولأن كلا منهما يلقي ضوءا من زاوية جديدة على فلسفة ديكارت، ويبرز جانبا لا تشيع الكتابة عنه، وبطبيعة الحال ففي ثنايا العرض الذي سنقدمه لهذين التفسيرين، ستكون هناك إشارات دائمة إلى التفسير الأول، وحوار مستمر مع القائلين به. (4) الدور السلبي للميتافيزيقا إزاء العلم
حينما تصف جور الميتافيزيقا إزاء العلم - وفقا لوجهة النظر التي سنعرضها الآن - بأنه سلبي، نعني بذلك أن الميتافيزيقا عند ديكارت هي التمهيد المنطقي للعلم، وأن العلم يبدأ من حيث تنتهي الميتافيزيقا.
ذلك لأن من المستحيل أن يبدأ العالم في ممارسة عمله العلمي لو كان هناك شك في أدوات المعرفة التي يستخدمها، وهي الحواس والعقل، أو في الموضوعات التي يبحثها، وهي الداخلي (الإنساني) والخارجي (الطبيعي).
لذلك أخذ ديكارت على عاتقه في بحوثه الميتافيزيقية أن يبدد هذا الشك، وبالفعل قام برحلته الميتافيزيقية الطويلة التي لا نرى هنا ما يدعونا إلى عرض تفاصيلها، لكي يصل في النهاية إلى إثبات وجود الذات الإنسانية، إلى إثبات وجود العالم الخارجي، وإمكان الثقة في حواس الإنسان وعقله، ما دام الله موجودا وكاملا، وبالتالي يستحيل أن يقدم إلينا عالما وهميا، أو يعطينا أدوات زائفة للمعرفة.
Unknown page