team-work ، وحدد موضوعات تكتمل بها الموسوعة الطبيعية التجريبية التي تقوم على أساسها نهضة العلم، وتكتمل بها سيطرة الإنسان على العالم، ويبلغ عدد هذه الموضوعات التي حددها بيكن للبحث حوالي 130 موضوعا، تتميز كلها بالاهتمام المفرط برفاهية الإنسان وخيره، وتخلو تماما من المجردات التي لا تنفع ولا تجدي، وعلى العلماء أن يقسموا العمل بينهم، وأن يتداولوا نتائج أبحاثهم فيما بينهم ويتدارسوها، ويتولى فريق منهم الجمع بين هذه النتائج ... إلخ.
وقد تضمنت خطة بيكن تفصيلات متعددة تدعو إلى الدهشة، وكلها تتعلق بإجراء التجارب الفنية والقيام بملاحظات دقيقة لفصائل النبات والحيوان، وملاحظة الطبيعة في شتى مظاهرها، وبعضها يتعلق بأمور حققها التطور العلمي التالي بالفعل كالتبريد الصناعي والمطر الصناعي، تلقيح الفصائل الحيوانية والنباتية المختلفة لإنتاج أنواع جديدة، واختراع سفن تسير تحت الماء، وأخرى تحلق كالطير في الهواء ... إلخ.
ويدرك بيكن أن أنصار النظرة القديمة إلى العلم قد يرون في البحث في هذه الموضوعات الجزئية التفصيلية أمرا غير لائق بكرامتهم، ويستنكفون من إجراء التجارب والأبحاث في أبسط الموضوعات وأكثرها التصاقا بحياة الإنسان اليومية، هكذا يرد على خصومه قائلا: «سيوجه إلينا دون شك اعتراض يقول: إننا لم نستهدف من العلم غايته الصحيحة، أو أفضل غاية ممكنة له (وهو نفس الأمر الذي نعيبه على الآخرين)، فيقولون: إن تأمل الحقيقة أكرم وأرفع من أية منفعة تعود بها النتائج العلمية، أو أي توسيع لنطاق هذه النتائج، على حين أن تشبثنا طوال هذا الوقت بالتجربة والمادة، وبالأحوال المتغيرة للأمور الجزئية، يقيد الذهن بالأرض، أو على الأصح يلقي به في هوة من الفوضى والاضطراب، وينأى به عن حالة أكثر قداسة، هي حالة الحكمة المجردة، بما فيها من هدوء وسكينة، ونحن نقبل هذه الطريقة في التفكير عن طيب خاطر، ونحرص أشد الحرص على تحقيق الغاية التي يدعون إليها؛ ذلك لأننا نضع الأسس لأنموذج حقيقي للعالم في الذهن، وهو أنموذج يمثل العالم كما نجده بالفعل، لا كما شوهه عقل الإنسان. وهذا أمر لا يتحقق إلا بتشريح العالم بكل دقة. غير أننا نعلن أن من الضروري القضاء تماما على تلك المحاولات العقيمة الهزيلة، التي هي أشبه بمحاولات القرود، لمحاكاة العالم بمخيلة الناس الواهمة، على النحو الوارد في مختلف مذاهب الفلسفة، فيعلم الناس إذن الفرق الموجود بين أوهام الذهن البشري (
idols ) وبين أفكار الذهن الإلهي (
ideas )، فما الأولى إلا تجريدات اعتباطية، أما الأخرى فهي العلامات الحقة للخالق في مخلوقاته، كما انطبعت على المادة وتحددت معالمها فيها بخطوط حقيقية رائعة، هكذا فإن الحقيقة هنا والمنفعة شيء واحد، حيث تكون قيمة النتائج بوصفها ضمانات للحقيقة أعظم من قيمة ما تضفيه على الإنسان من نفع.»
10
في هذا النص يرد بيكن على خصومه بوضع تقابل بين الأوهام البشرية والأفكار الإلهية، مؤكدا أن البحث الطبيعي للأشياء المادية أكثر ألوهية من البحث في المجردات الفلسفية؛ لأن موضوعات العالم الطبيعي هي علامات الأفكار الإلهية، على حين أن المجردات من خلق البشر، وما هي إلا تصوير للعالم من خلال أوهام الإنسان. وبعبارة أخرى: فإن التغلغل في جزئيات العالم وتفاصيله إنما هو حل لرموز التفكير الإلهي، واستخلاص لمعاني الأفكار الإلهية عن طريق مواجهة موضوعاتها مباشرة، لا من خلال الصورة الخيالية التي أضفاها عليها عقل الإنسان المجرد؛ وبذلك يثبت بيكن أن بحث العالم الطبيعي أجدر بالإنسان من بحث المجردات الواهمة. (4) تحليل كتاب «الأورجانون الجديد»
قلنا، عند الكلام عن مؤلفات بيكن: إن «الأورجانون الجديد» ليس كتابا مستقلا بالمعنى الصحيح، وإنما هو جزء واحد من ستة أجزاء كان بيكن يعتزم تأليفها تحت عنوان واحد شامل هو «الإحياء العظيم»، وتأكيد هذه الحقيقة أمر على جانب كبير من الأهمية؛ إذ إن فهم المرء لبيكن يتغير كثيرا في الحالتين؛ فالتركيز على كتاب «الأورجانون الجديد» بوصفه كتابا منفصلا، بل بوصفه المؤلف الأكبر لبيكن، يؤدي إلى فهم بيكن على أنه مفكر منطقي في المحل الأول، على حين أن وضع هذا الكتاب في سياق الخطة الكاملة «للإحياء العظيم» يلقي ضوءا صحيحا على مجهودات بيكن في مجال المنطق، بوصفها جزءا من مجهودات أشمل تتعلق بعلاقة الإنسان بالطبيعة، وتهدف إلى تحقيق سيطرة الإنسان على عالمه عن طريق العلم. ومن المؤكد أن هذه النظرة الأخيرة تنطوي على المزيد من الإنصاف لبيكن؛ ذلك لأن جهوده في ميدان المنطق - وهي ليست بالقليلة - لا تؤلف كلا مكتملا؛ لأن «الأورجانون الجديد» قد ظل كتابا مبتورا لم يحقق إلا جزءا ضئيلا من برنامجه، مثلما أن هذا البرنامج بدوره جزء من كل أكبر لم يكتمل، والإضافات الجديدة التي أسهم بها بيكن في نظرية الاستقراء لا تكفي، على أهميتها، لكي تجعل منه فيلسوفا من فلاسفة الصف الأول؛ وذلك لأن موضوع الاستقراء بأسره غامض، يصعب تحديد قيمته هو ذاته بالنسبة إلى تقدم العلم، كما يصعب إدراجه ضمن النظريات الفلسفية المعروفة.
أما إدراك قيمة بيكن من حيث هو مفكر إنساني يدعو إلى تطبيق العلم من أجل زيادة مقدرة الإنسان المعنوية والمادية، فهو وحده الكفيل بضمان مكانة رفيعة له بين الفلاسفة؛ إذ يغدو عندئذ رائدا من رواد النهضة الفكرية الحديثة، بما لها من مميزات تختلف بها عن العصر القديم والعصر الوسيط اختلافا أساسيا. (4-1) خطة الكتاب
ينقسم الكتاب إلى فقرات موزعة على بابين، وبيانها كما يلي:
Unknown page