ولكي يعمل ألتوسير حسابا لهذا البناء المعقد الذي هو محور التساؤل ومدار البحث عند ماركس، كان من الضروري أن يتجاوز المفهوم الساذج للحتمية الاقتصادية، الذي روجت له الماركسية العامية. فهذا التفسير الساذج يرد كل شيء إلى عامل واحد، هو العامل الاقتصادي، ويقول بوجود علاقة سببية مباشرة بين البناء الأدنى والبناء الأعلى، ويغفل التعقد الشديد للواقع، واستحالة تطبيق مثل هذه الحتمية المباشرة ذات الاتجاه الواحد في مجال معقد كذلك الذي تصدت له الماركسية. وفي مقابل ذلك يقول ألتوسير: إن نوع الحتمية الوحيد الذي يمكن تصوره في هذا المجال هو ما يسميه بالحتمية المتبادلة أو المعقدة
surdétermination ، فمن الخطأ في نظره تفسير ماركس على أساس القول بعنصر رئيسي ذي طبيعة اقتصادية تخضع له كل العناصر الأخرى التي تعد «ثانوية» بالقياس إليه. بل إن الحقيقة الأصلية معقدة بطبيعتها، والحتمية فيها متبادلة دون أفضلية لواحد من عناصرها على الآخرين. وهكذا يستخدم ألتوسير مقولة فكرية تلائم تعقد الموضوع الذي يبحثه، ويستعين بمعطيات ذهنية جديدة يراها أصلح للتعبير عن المعقولية الكامنة في الماركسية، وكما أن علماء الفيزياء أدركوا - في مطلع القرن العشرين - أن الحتمية المباشرة ذات الاتجاه الواحد لا تصلح للتعبير عن سلوك الجزئيات في المجال الذري، وأدخلوا مفاهيم جديدة تحفظ لهذا المجال طابعه الموضوعي، وتعمل في الوقت ذاته حسابا لتعقده وتشابكه، فكذلك يفسر ألتوسير الماركسية على أساس فكرة العلية المتعددة الجوانب، التي لا يكون فيها مركز مميز لأي عنصر بعينه من عناصرها؛ فالأسباب أو العلل في المجال الاجتماعي شديدة التعقيد، والحركة لا تتولد فيه عن طريق إضافة الأسباب بعضها إلى بعض خلال مسارها، وهي تمارس تأثيرها على المستويات المختلفة،
41
وبذلك يتسع نطاق المعقولية على نحو يتجاوز بكثير الفهم التقليدي للحتمية الاقتصادية.
وليس من المرء بحاجة إلى تفكير طويل لكي يدرك مدى تأثير فكرة «البناء» على مفهوم «العلية المتبادلة» عند ألتوسير، فهذه الفكرة هي التي تتيح فهم التفاعلات المتبادلة الكثيرة التي تحدث على مستويات مختلفة للواقع الاجتماعي. ولا شك أن ألتوسير قد أضاف إلى الماركسية بعدا عميقا حين استخدم، في تفسيره الفلسفي، مفاهيم جديدة توصلت إليها البحوث العلمية المعاصرة، فاستطاع بذلك أن يحقق ما عجزت عنه أدوات التفكير الكلاسيكية، وتمكن من الإحاطة على نحو أكمل بالعلاقة البالغة التعقيد بين البناء الأدنى والبناء الأعلى، متجنبا ذلك التبسيط المخل الذي كانت الماركسية العامية مهددة دائما بالوقوع فيه.
وعلى الرغم من أن كتابات ماركس لم تعبر عن هذا الاتجاه إلا بصورة ضمنية، فقد كانت فيها بذور مؤكدة أكن تنميتها فيما بعد، فعلى حين أن بعض الماركسيين يعتقدون أن كل مجتمع بشري ينبغي أن يمر بنفس المراحل المحددة: من البدائية إلى الرق ثم الإقطاع وبعده الرأسمالية؛ لينتهي إلى الاشتراكية، فإن كتابات ماركس ذاتها قد تضمنت ما يوحي لنا بتفسير مخالف، يساعد على كشف ما هو مميز لكل مجتمع، ولا ينظر إلى التاريخ بنظرة تراكمية تؤدي فيها كل حضارة إلى ظهور حضارة أخرى تمر بنفس المراحل، ويتمثل هذا التفسير المخالف في تنبيه ماركس إلى ما أطلق عليه اسم «أسلوب الإنتاج الآسيوي»، الذي يدل على رغبته في فهم واقع الشعوب الآسيوية، وكثير من المجتمعات التي نطلق عليها اليوم اسم «العالم الثالث» دون الحاجة إلى وضعها في قوالب أوروبية أو تأكيد انطباق مقولات التاريخ الأوروبي عليها بطريقة مبسطة موحدة الاتجاه، وما هذا إلا مثل واحد يدل على أن كتابات ماركس كانت تتضمن بالفعل بذورا لنظرة جديدة إلى الحتمية، مخالفة للحتمية المبسطة ذات الاتجاه الواحد، التي اعتاد الماركسيون اللاحقون أن ينسبوها إليه.
بقي أمامنا في هذا العرض الذي نقدمه لتفسير ألتوسير البنائي للماركسية سؤال أخير، هو: هل نجح هذا التفسير بالفعل في تجاوز كل العقبات التي تقف في وجه التفسير التقليدي للماركسية؟ وهل تمكن من أن يعبر - على نحو جامع - عن الماهية الأصلية لتفكير ماركس؟ من المؤكد أن ألتوسير مفكر قدير، متمكن من مادته ومن أسلوبه، وأن عمقه قد أفاد الماركسية كثيرا في إنقاذها من خطر «التسطيح» الذي تتعرض له على يد التفسيرات المفرطة في التبسيط. ولكن المشكلة في أمثال هذه التفسيرات المتعمقة هي أنها أحيانا تقوم بعملية «إسقاط» تطغى فيها أفكار المفسر ذاته على الفيلسوف الذي تفسره، كما أنها قد تضطر - من أجل الاحتفاظ بتماسكها الداخلي - إلى تجاهل بعض الحقائق الأساسية التي تقف عقبة في وجهها، ويبدو أن ألتوسير معرض للوقوع في أخطاء من هذين النوعين.
ولعل أول ما تجدر الإشارة إليه - في هذا الصدد - هو الاتجاه العام لتفسير ماركس عن ألتوسير، فهو يريد أن يثبت أن الإطار الذي وضعه ماركس لتفكيره كان جديدا كل الجدة، وربما كان من حقنا أن نتساءل عما إذا كانت مبادئ الماركسية ذاتها تسمح بوجود إطار جديد كل الجدة لدى أي مفكر؛ ذلك لأن هذا معناه أن يكون المفكر مختلفا عن كل السابقين غير متأثر بهم، فهل تعد هذه النظرة إلى تطور الفكر، التي تؤكد وجود حالات «انقطاع» حاسم فيه، وتنكر الاتصال التاريخي بالنسبة إلى هذه الحالات بعينها، وتقول بإمكان وجود بداية مطلقة في الفكر؛ هل تعد هذه النظرة متمشية مع وجهة النظر الماركسية ذاتها في تطور الفكر؟ أشك كثيرا في أن يكون الجواب عن هذا التساؤل بالإيجاب.
وفي سبيل تأكيد هذه البداية المطلقة، أنكر ألتوسير أن يكون ماركس قد تأثر - في مرحلة نضوجه - بالمقولات الفكرية الهيجلية، وتلك نقطة أخرى لا يمكن قبولها بسهولة. وكانت هي على وجه التحديد من أكثر النقاط التي اعترض عليها ماركسيون آخرون من نقاد ألتوسير؛ ذلك لأن ألتوسير تجاهل هنا أن ماركس نفسه قد شهد في كتاباته بتأثير المنهج الديكالتيكي الهيجلي عليه، وبأنه قد اقتبسه بعد أن أعاده من وضعه المقلوب إلى وضع الاعتدال، كما تجاهل لغة ماركس التي ظلت هيجلية حتى كتاب «الأيديولوجية الألمانية» على الأقل، وتجاهل تأكيد ماركس أن هيجل هو الذي قدم إليه الأداة المنطقية التي تمكن بواسطتها من الانتقال من أبسط العلاقات وأقربها إلى الطابع المباشر - أي العلاقة بين شخصين في التعامل بسلعة معينة - إلى النقد العام للنظام الرأسمالي بأسره، متبعا نفس المنهج الذي اتبعه هيجل في انتقاله من أبسط المفاهيم حتى أعقدها، في كتابي «المنطق» و«ظاهريات الروح»، وتجاهل أخيرا كل ما قاله لينين بعد ذلك عن أهمية هيجل واستحالة فهم ماركس دون دراسة منطق هيجل، والأمر الذي أتاح له هذا التجاهل هو تلك التفرقة التي وضعها بين ما عبر ماركس عنه صراحة وعن وعي، وما كان ماركس يعنيه بالفعل، فهو لا يكترث بالتصريحات الفعلية بقدر ما يهتم بالمعاني الضمنية التي لا تفهم إلا من خلال دراسة «النسق» الفكري لكتاباته وتحليل بنائها، بغية الوصول إلى دلالتها التي تظهر على السطح الخارجي. وهكذا كان ألتوسير يقلل من شأن تأكيد ماركس أنه قلب الجدل الهيجلي رأسا على عقب، ويصفه أنه مجرد مجاز لفظي، وهي طريقة في التفسير يمكن أن تؤدي إلى أية نتائج يريدها المرء، ما دام لا يقيم وزنا لما يقوله المفكر نفسه، وأما عن شهادة لينين، فمن الملاحظ أن ألتوسير قد قام بنفس هذا العمل عن لينين نفسه (في كتاب «لينين والفلسفة
Lenine et la philosophie »)؛ أي إنه فسره تفسيرا «علميا» مبالغا فيه، وتجاهل الارتباط الوثيق بين البناء الشكلي والمضمون الفلسفي في كتاباته، كما تجاهل المضمون الثوري الذي ينبغي للمرء أن يعمل حسابه في كل قراءة لتلك الكتابات، إلى جانب ما فيها من شكل علمي خارجي.
Unknown page