36
ولقد كانت نقطة البداية الطبيعية في هذا الخلق الجديد للماركسية، هي نقد الاتجاهات السائدة في تفسير الماركسية، لا في عصره فقط، بل منذ أن ظهر ذلك المذهب؛ ذلك لأن هناك تفسيرا شائعا، له سمات محددة لا يكاد يشك فيها أحد، وهو تفسير تفقد فيه الماركسية أصالتها وتتحول إلى مجرد امتداد للهيجلية. هذا التفسير هو الذي أخذ ألتوسير على عاتقه مهمة نقده، بعد أن أطلق عليه اسم «الماركسية السوقية أو العامية
marxisme vulgair »، فعلى أي نحو انتقد ألتوسير هذا التفسير الشائع؟
في التفسير الشائع للماركسية تأكيد مفرط لتأثير هيجل في ماركس؛ فالماركسية تصور على أنها فرع من شجرة متعددة الأغصان، هي الهيجلية التي سارت إمداداتها - من بعدها - في اتجاهات اليمين والوسط واليسار. وهذا الأصل الهيجلي هو مصدر الخطأ الأكبر في الفهم الشائع؛ إذ إنه يؤدي إلى إغفال جوانب أخرى لم تكن هي التي تميزت بها هذه الفلسفة، ولم تكن هي موضع الجدة والأصالة فيها.
والواقع أن نظرة ماركس إلى الفكر تؤدي - منذ البداية - إلى افترق طريقه عن هيجل على نحو حاسم، فماركس لم يعرف ذلك الفكر المكتفي بنفسه، الذي هو أبرز السمات عند هيجل، وإذا كان الفكر والواقع عند هيجل يمتزجان في بوتقة واحدة، فإن هذا الامتزاج يتم عن طريق إضفاء الصبغة الفكرية على الواقع. وحين يقول هيجل: إن «كل واقع معقول، وكل معقول واقع»، فإن أساس قوله هذا هو طريقته الخاصة في إضفاء الطابع الفكري على الواقع؛ بحيث يكون الفكر هو الطرف الثابت، والواقع هو الطرف الذي يتشكل وفقا للفكر، والذي لا نفهمه إلا من حيث هو تعبير عن مقولات فكرية. أما في حالة ماركس فإن نقطة البداية مختلفة اختلافا جذريا؛ إذ إن التفكير عنده نوع من الإنتاج أو الإحداث، والفكر «ممارسة نظرية
» لا تنتج عن جهد الذات الفردية بقدر ما تكون حصيلة تفاعلات بين الذات وبيئتها التي تدخل فيها عوامل اجتماعية وتاريخية،
37
بل إن كل معرفة إنما هي نوع من الإنتاج، يقوم به المجتمع مثلما يقوم بإنتاج الثروة، والنظام الذي يخضع له «الإنتاج» في الحالتين متشابه. ولا شك أن هذه النظرة إلى الفكر بوصفه ناتجا اجتماعيا خاضعا لشروط مشابهة لتلك التي تخضع لها النواتج الاجتماعية الأخرى تشكل فارقا أساسيا ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار قبل أية محاولة للمقارنة بين فكر هيجل وماركس.
فإذا انتقلنا إلى مضمون فلسفة هيجل؛ وجدنا أن الرأي الشائع في هذا الصدد هو أن ماركس قد اقتبس الجدل الهيجلي على ما هو عليه، وإن كان قد جعله يعتدل بعد أن كان مقلوبا، واستخدمه في فهم الواقع المادي بعد أن كان يستخدم في تحديد مسار حركة الفكر؛ على أن ماركس قد افترق عن هيجل افتراقا تاما في تصوره لفكرة التناقض التي هي الفكرة المركزية في الجدل الهيجلي؛ فالحركة الجدلية تتم في الإطار الهيجلي عن طريق السلب الذي يعرض علينا، كما لو كان يتضمن قوة خفية تؤدي إلى التحريك. ويبدو أن في قلب الجدل الهيجلي إيمانا بنوع من الغائية الغامضة تتمثل في تلك الدينامية المنبعثة عن التناقض، والتي تدفع بالفكر إلى الأمام نحو مزيد من التعقيد، وتصل بهذا الفكر في النهاية إلى غايته المرسومة مقدما. وحين يقتبس الماركسيون التقليديون هذا التصور الهيجلي للجدل، ويطبقونه على مسار التاريخ، يصورون هذا المسار كما لو كان صراعا مستمرا بين الأبيض والأسود، يقوم فيه ملاك طاهر (هو المركب) بالتوفيق بينهما، مع إلحاق الهزيمة - جزئيا على الأقل - بالأسود. وهذا التبسيط هو ما يعترض عليه ألتوسير، ويراه تزييفا مثاليا لفكر ماركس.
والواقع أن ماركس، كما يفهمه ألتوسير، لم يكن مجرد ناقد لهيجل أو مصحح له، اكتفى باقتباس الجدل منه مع إيقافه على قدميه بدلا من رأسه. بل إنه أزال الزيف الهيجلي المثالي وأعاد إلى الحقيقة طابعها المعقد المتشابك، ولم يكن استمرارا لهيجل، بل كانت مهمته الرئيسية هي تفنيده وتبديد أساطيره. وهكذا لم تكن نقطة بداية ماركس هي الرغبة في إكمال مسار هيجل بعد تصحيحه، وإنما كانت هي «العودة إلى الوراء»، إلى التاريخ الحقيقي الذي شوهته الأيديولوجية الألمانية وبخاصة عند هيجل، وإلى العناصر التي حرفت في مذهب هيجل؛ ومن هنا فإن من الخطأ النظر إلى العلاقة بين ماركس وهيجل في ضوء فكرة «التجاوز والرفع
Unknown page