Scientiste » يقوم على الأخذ بنموذج علمي معين (قد يكون لغويا أو رياضيا ... إلخ) ثم تطبيقه على جميع الميادين، وفرضه فرضا حتى على التركيب الأساسي للذهن البشري، والفيلسوف أو العالم البنائي لا يرى أمامه - في كل شيء - سوى هذا النموذج الواحد المستمد من أصل علمي، والذي يبهره إلى حد أنه يتجاهل كل شيء ما عداه، ومن هنا كانت البنائية فلسفة تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية؛ لأن التكنوقراطي بدوره إنسان متخصص في ميدان فني أو علمي معين، يعجز عن إدراك أي شيء إلا من خلال ما تخصص فيه، بحيث تكون نظرته إلى الأمور دائما جزئية محدودة، بالرغم مما تدعيه من دقة وانضباط. هذا التكنوقراطي هو النموذج المطلوب للإنسان في المجتمع البورجوازي لأنه عظيم الكفاءة والإنتاجية في ميدانه . ولكنه عاجز عن رؤية الصور الكلية والأهداف العامة، ولا يخطر بباله أصلا أن يسعى إلى تغيير المجتمع ما دام هذا التغيير يفترض الرؤية الشاملة؛ ولذلك فإن البنائية - التي هي فلسفة مجتمع تكنوقراطي - تخضع دون أن تشعر للأيديولوجية البورجوازية السائدة في مجتمع لا يطلب فيه من الإنسان إلا الدقة والانضباط، مع ترك التركيب الأساسي للمجتمع على ما هو عليه دون أدنى محاولة للتغيير.
على أن ستروس لم يحاول التبرؤ من صفة «التعالمية»، ولم يجد فيها ما يدعو إلى الخجل، فهو يعترف بأنه يريد أن يبحث الإنسان بطريقة موضوعية؛ ومن ثم فلا بد أن يخضعه لنموذج علمي صارم، ومثل هذا البحث لا ينبغي أن يعد داخلا في إطار أيديولوجية معينة؛ لأنه في حقيقته خارج عن الأيديولوجية، ولا يمكن بالمثل أن يتهم بأنه تفكير مجتمع تكنوقراطي؛ إذ إنه لا يضع نفسه داخل هذا المجتمع ولا يتحدث من وجهة نظر مندمجة فيه، فمن طبيعة البنائية أنها ترفض الطابع الظاهري للعالم والإنسان؛ لكي تكتشف بناءاتهما الخفية، مثل هذا الرفض يجعلها بمنأى عن كل التسميات أو الاتهامات المستمدة من وجهة نظر مندمجة في العالم ومعترفة بمظهره.
ولكن هل هذا رد مقنع؟ قد يكون مقنعا للبنائي ذاته. ولكن ناقده يستطيع أن يرد بأن الخروج عن الأيديولوجية هو ذاته نوع من الأيديولوجية، وأن رفض الطابع الظاهري للعالم والوقوف بمعزل عن محاولات تغييره هو بالضبط ما تريده البورجوازية من الإنسان التكنوقراطي؛ لكي يخلو لها الجو ويزداد تسلطها إحكاما، وإن نزعة ستروس اللاسياسية (
a politisme )
23
التي حرص فيها على أن يظل بعيدا عن الميدان العملي، تسدي إلى الأيديولوجية المحافظة خدمة جليلة، وعلى أية حال فالمسألة ستظل دائما موضوعا للخلاف بين وجهتي نظر أساسيتين: إحداهما تبحث عن الدلالة الأيديولوجية، لكل سلوك نظري أو علمي، حتى ولو كان يعلن ابتعاده عن الأيديولوجية، والأخرى تؤكد أن الأيديولوجية معناها فرض تفسير على الحوادث من خارجها وإخضاعها لغايات ليست كامنة فيها، بينما المطلوب من العلم أن يقدم تفسيرا داخليا للحوادث وفقا لما يكمن في باطنها من عناصر فحسب.
وهكذا يبرر ستروس منهجه في التفكير على أساس أنه هو الذي يتيح كشف الطبيعة الباطنة للظواهر، دون إقحام لعناصر خارجية. ولكن الأمر الملفت للنظر حقا هو أن كلا من الجانبين البنائي والوجودي، يؤكد أن طريقته الخاصة في التفكير هي التي تتيح بحث الظواهر من الباطن والتغلغل في أعماقها، ويتهم الجانب الآخر بأنه يتبع منهجا خارجيا أو سطحيا في التفكير، لا يسمح بالاندماج في اللب العميق للظواهر، فكما رأينا سارتر يتهم ستروس بالنزعة التعالمية التي تفرض على الظواهر نموذجا علميا خارجا عنها، وتعجز بذلك عن فهم حقيقتها الباطنة أو العمل على تغييرها، فإن ستروس يوجه اتهاما مماثلا - ولكن من زاوية أخرى - إلى سارتر وإلى الوجودية بوجه عام، وقد خصص ستروس فصلا كاملا من كتاب «التفكير غير المتحضر
La pensée sauvage » لنقد وجهة نظر سارتر في كتاب «نقد العقل الجدلي
Critique de la raison dialectique »، وهو نقد لم ينصب في واقع الأمر على سارتر وحده، بل على وجهة نظر كاملة تمثل وجودية سارتر جانبا واحدا من جوانبها المتعددة، فهناك مجموعة كاملة من المذاهب الفلسفية تتصور أنها تصل إلى العمق الباطن للإنسان من خلال «التجربة المعاشة»، وتشمل هذه المجموعة - إلى جانب الوجوديين - مفكرين وفلاسفة مثل برجسون ودلتاي وريما هوسرل أيضا. ولكن الواقع أن هذه التجربة المعاشة ليست - كما تبدو للوهلة الأولى - الطريق الموصل إلى ما هو كامن وأصيل في الإنسان. بل إنها - في نظر ستروس - لا تعدو أن تكون سطحا خارجيا تكمن من ورائه قواعد بنائية أساسية هي تلك القواعد التي تتحكم في العلاقة بين الأنا والآخر.
فالتجربة المعاشة - مهما بدت عميقة - ليست إلا النتاج الظاهري لأساس أعمق، هو البناء الذي يشكل معناها الباطن.
Unknown page