والواقع أن كثيرا من الباحثين في تطور الحضارات قد اعترفوا بهذا المبدأ الذي تنادي به البنائية حتى قبل أن تعبر البنائية عن نفسها بوصفها مذهبا فكريا متميزا، فمنذ وقت بعيد لاحظ مؤرخو الحضارة أن كثيرا من ضروب التفكير العلمي والإبداع التكنولوجي التي عرفها العصر الحديث، ليست إضافة مطلقة لشيء لم يكن موجودا من قبل، بل هي تنمية لبذرة سبق ظهورها في عصور ماضية. وهكذا عرفنا - من تاريخ العلم والفلسفة - أن نظرية التطور كما ظهرت في القرن التاسع إنما هي صياغة جديدة لفكرة نستطيع أن نعدها من البذور الثابتة في العقل البشري، نبتت عند أناكسيمندر في القرن السادس ق.م وربما قبل ذلك أيضا، واتخذت أشكالا متعددة، إلى أن صيغت بالطريقة الحاسمة على يد دارون، ومثل هذا يقال عن فكرة الذرة التي بدأت من عهد ديمقريطس، واكتسبت أشكالا متباينة عند فلاسفة الإسلام وفلاسفة الغرب في العصور القديمة والوسطى والحديثة، إلى أن اتخذت شكلها العلمي في العهد القريب. وحين اخترعت أوروبا البارود كان الجميع يعلمون أن الصين قد استخدمته من قبل. وحين توصل «جيمس واط» إلى الطاقة البخارية، تنبه الكثيرون إلى أن المخترع الروماني «هيرو
Hero » قد عرف هذه الطاقة من قبل، وإلى أن ليوناردو دافنشي وضع تصميما لآلة تحركها طاقة البخار، وهكذا عرف الباحثون تاريخ الأفكار، وفي تاريخ الحضارات مئات الأمثلة التي تثبت أن مسار التقدم البشري يتخذ شكل تنمية وتطوير لمبدأ قديم يكاد يكون ثابتا، لا شكل إضافات خارجية جديدة كل الجدة، وأدركوا أن التصورات الأساسية التي نفهم بها عالمنا الحالي كانت موجودة من قبل، وإن كنا قد نميناها وعقدناها، وعرفوا أن طريق العقل البشري لا يمثل انتقالا من الظلام إلى النور. ومن الجهل إلى المعرفة، ولا يسير في خط مستقيم، كذلك الذي يقول به دعاة التقدم المستمر.
ومن السهل أن ندرك وجود فارق واضح بين هذا الموقف الذي اتخذته البنائية من فكرة التاريخ والتطور، وبين الموقف الذي ساد بوجه خاص في الأوساط الفلسفية الفرنسية في أوائل القرن العشرين، الذي يؤكد أن العصور اللاحقة تتجاوز تصورات العصور السابقة، بل تتخلى عنها نهائيا. وقد تمثل هذا الموقف الأخير في الفكرة التي اتخذ منها عالم الاجتماع الفرنسي «ليفي بريل
Lévi-Bruhl » محورا لأبحاثه؛ أعني فكرة وجود عقلية «قبل المنطقية
Mentalité pre-logique » لدى البدائيين، كما تمثلت في فكرة «مراحل العقل» عند ليون برنشفيج
Léon Brunschvicg ، التي ينتقل فيها العقل العلمي الإنساني من مرحلة «الطفولة» إلى مرحلة النضج، هذه الأفكار تفترض انتقالا من الجهل التام إلى المعرفة الكاملة، وتصور تاريخ العقل البشري بأنه صعود مستمر إلى أعلى دون وجود أي عنصر مشترك بين القديم والجديد. وهذا ما تفرضه البنائية؛ لأنها تؤكد مفهوم «التوازي»
6
بين التصورات القديمة والجديدة؛ فالعقل البشري ينمو في كل الأحوال عن طريق تعميق التفسيرات التي يقدمها للطبيعة، وتحويلها من مرحلة التقيد بالمظاهر الخارجية إلى مرحلة كشف القوانين الكامنة. ولكن أساس هذه التفسيرات يظل واحدا، والعناصر الأساسية باقية، والمقولة الأساسية في فهم التاريخ هي مقولة التوازي لا مقولة المسار الخطي الصاعد.
ولقد أورد «سيباج
Sebag »
Unknown page