نبذة عن المؤلف
تمهيد
شكر وتقدير
نبذة
مقدمة
1 - أهمية آدم سميث
2 - حياة سميث الشخصية والمهنية
3 - كتاب «ثروة الأمم»
4 - كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية»
5 - محاضرات سميث وكتاباته الأخرى
Unknown page
6 - استطراد حول اليد الخفية
7 - من أقوال آدم سميث الشهيرة
8 - مراجع مختارة
تعقيب: آدم سميث اليوم
نبذة عن المؤلف
تمهيد
شكر وتقدير
نبذة
مقدمة
1 - أهمية آدم سميث
Unknown page
2 - حياة سميث الشخصية والمهنية
3 - كتاب «ثروة الأمم»
4 - كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية»
5 - محاضرات سميث وكتاباته الأخرى
6 - استطراد حول اليد الخفية
7 - من أقوال آدم سميث الشهيرة
8 - مراجع مختارة
تعقيب: آدم سميث اليوم
آدم سميث
آدم سميث
Unknown page
مقدمة موجزة
تأليف
إيمون باتلر
ترجمة
علي الحارس
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
نبذة عن المؤلف
يتولى دكتور إيمون باتلر حاليا منصب مدير معهد آدم سميث، وهو بيت خبرة ذو تأثير يضع سياسات تشجع على الاختيار والتنافس في مجال توفير الخدمات الأساسية. ويحمل دكتور باتلر شهادات جامعية في الاقتصاد والفلسفة وعلم النفس، وقد حاز شهادة الدكتوراه من جامعة سانت أندروز في عام 1978، كما عمل في العاصمة الأمريكية واشنطن خلال السبعينيات على قضايا رواتب التقاعد والرعاية الاجتماعية لصالح مجلس النواب الأمريكي، وعندما عاد إلى المملكة المتحدة، تولى منصب رئيس تحرير مجلة «بريتيش إنشورانس بروكر»، ثم كرس جهوده بالكامل للعمل في معهد آدم سميث، الذي ساهم في تأسيسه. وألف دكتور باتلر الكثير من الكتب والمقالات حول الاقتصاد على الصعيدين النظري والتطبيقي، وشارك أيضا في تأليف عدد من الكتب عن الذكاء واختباراته.
تمهيد
Unknown page
لم يمر وقت طويل على تسلمي منصب أستاذ الاقتصاد التجاري والقانون التجاري - الذي اختصر لاحقا إلى أستاذ علم الاقتصاد - في جامعة إدنبرة، حتى تلقيت دعوة لعقد ندوة في جامعة هارفارد عام 1958، وكان ذلك بعد فترة وجيزة من صدور كتاب «مجتمع الوفرة» لكينيث جالبريث، وكان هذا الكتاب يحتوي على بعض كلمات الثناء بحق آدم سميث. كان جالبريث من الشخصيات التي كثر عليها الطلب لإلقاء الأحاديث وعقد المقابلات في تلك الأيام؛ ولذلك اعتقد أحد أصدقائي في هارفارد بأنه حقق «إنجازا» نوعا ما حين رتب أمر لقائي به على مأدبة غداء. ولتلطيف الأجواء، سألني صديقي: «آلان، ماذا يبدو عليه الحال عندما تكون متربعا على أهم كرسي للاقتصاد في العالم؟» أصبت بالحيرة، ثم ذكرت له أن شركة ميرشانت كومباني أوف إدنبرة قد أسست هذا الكرسي في الأصل، وقدمت التمويل له عام 1870 بسبب الاعتقاد السائد بأن الاقتصادي قادر على التنبؤ بمسار الدورات الاقتصادية. وهنا أدلى جالبريث بدلوه فقال: «لكنك تجلس على كرسي آدم سميث.» فأجبته: «آسف، لكنك أخطأت في الجامعة، والمادة، والقرن.» (فكلنا نعلم أن آدم سميث كان أستاذا للمنطق، ثم أستاذا لفلسفة الأخلاق في جامعة جلاسكو.) وهكذا لم تثمر المأدبة عن نتائج مرضية ...
أشعر بشيء من الندم على كشفي لجهل جالبريث؛ لأن آدم سميث كان على أي حال وثيق الصلة بجامعة إدنبرة، حتى وإن لم يتسلم أي منصب أكاديمي فيها. لقد دفن آدم سميث في إدنبرة، ويوجد بالجوار تمثاله الأول منتصبا في اسكتلندا تكريما لذكراه، وذلك بفضل الجهود الهائلة التي بذلها معهد آدم سميث، وخصوصا جهود إيمون باتلر الذي كتب هذا المدخل الرائع إلى فكر آدم سميث. يضاف إلى ذلك أنني، كالعديد ممن عبروا عن معرفتهم وإعجابهم واهتمامهم الخاص بما جاء به سميث - باعتباري اسكتلنديا - كنت أميل إلى تركيز انتباهي على ما ورد في كتابه «ثروة الأمم»؛ ولذلك فشلت فشلا ذريعا في إدراك أن كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» يشكل حجر الأساس، لا لمفهومه عن الأخلاق فحسب، وإنما لتحليله للآراء حول إدراك الأفراد لما يفترض وما يجب فعله في معاملاتهم اليومية بعضهم مع بعض.
يتناول هذا الكتاب التمهيدي العديد من القضايا، وكم أضافت إليه تلك المقدمة البارعة التي وفق في تأليفها البروفيسور كينيدي. وتكفي الإشارة إلى أن الكتاب يشير بوضوح إلى أنه لم يكن هناك في الحقيقة أي «مشكلة تخص آدم سميث» في التوفيق بين فلسفته الأخلاقية وتحليله الاقتصادي، وهذا يكذب الخرافة السائدة بأنه كان برجوازيا يختلق الأعذار ل «الرأسمالية» والتربح الاستغلالي (بيد أن كلمة الرأسمالية لم تذكر قط في أعمال سميث). وهذا يشرح جزئيا أحد المميزات غير الاعتيادية لهذا الكتاب، وهو التركيز المكثف على تفسير آراء سميث حول الأساس الأخلاقي للفعل البشري الوارد في كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية»؛ مما يقدم تبريرا لادعاء دكتور باتلر بأن سميث يجب أن ينظر إليه باعتباره مختصا في علم النفس الاجتماعي في المقام الأول.
إن ما ورد يكفي للدلالة على أن هذه الدراسة التي أتاحها دكتور باتلر بين يديك ليست مجرد عرض ماهر لما عرف عن حياة سميث وعصره، وإنما تحتوي أيضا على التفاتات مهمة يقدر قيمتها المختصون. وإلى هنا تكتمل مهمتي الممتعة، فأنا لا أرغب في أن أؤخر استمتاع القارئ بهذا الكتاب مثلما استمتعت به شخصيا.
آلان بيكوك
أستاذ التمويل العام المتقاعد
كلية إدنبرة لإدارة الأعمال
جامعة هيريوت-وات
شكر وتقدير
أتوجه بالشكر والتقدير للدكتور مادسن بييري، والأستاذ الجامعي جافن كينيدي لما أبدياه من ملاحظات، وإلى ليز ديفيز لما قدمته من عون في مجال الاقتباسات النصية.
Unknown page
نبذة
إن ثروة الأمة ليست - كما يعتقد أتباع المركنتيلية - ما تحتويه خزائنها من ذهب وفضة، وإنما هي محصلة هذه الأمة من الإنتاج والتجارة، أو ما ندعوه اليوم إجمالي الناتج المحلي.
في ظل التبادل الحر يكون الطرفان أفضل حالا وأكثر ثراء؛ إذ لن ينخرط أحد في التبادل إذا كان يتوقع الخسارة، وهكذا تكون الواردات مهمة لنا بقدر أهمية الصادرات لغيرنا. ولا حاجة إلى إفقار الآخرين لإثراء أنفسنا، بل إننا سنكسب أكثر إذا كان زبائننا أغنياء.
ضوابط التجارة غير جيدة الصياغة من الأساس وتأتي بنتائج عكسية؛ فالازدهار يهدد من قبل الضرائب، وتعريفات الاستيراد، وإعانات التصدير، وتفضيل الصناعات المحلية.
القدرة الإنتاجية للأمة تستند إلى تقسيم العمل، وإلى تراكم رأس المال الذي يتاح بفضل هذا التقسيم؛ حيث يمكن الحصول على زيادات ضخمة من المخرجات عبر تفتيت الإنتاج إلى الكثير من المهام الصغيرة التي تسند إلى الأيدي المختصة، وهذا يتيح للمنتجين فائضا يستفيدون منه في الاستثمار.
الدخل المستقبلي للبلاد يعتمد على معدل تراكم رأس المال. وكلما زاد استثمارنا في العمليات الإنتاجية الأفضل، اتسع نطاق الثروة التي يمكن إنتاجها في المستقبل.
عندما يكون هناك تجارة حرة وتنافس حر، فإن منظومة السوق تستمر تلقائيا في التركيز على الحاجات الأكثر إلحاحا؛ فعندما تكون الأشياء نادرة، يكون لدى الناس الاستعداد لدفع المزيد من أجلها، أي يكون هناك المزيد من الربح في تقديمها؛ ومن ثم يستثمر المنتج رأس ماله في المزيد من الإنتاج.
ينمو الازدهار بأسرع خطى له في ظل سوق تنافسي منفتح يسوده التبادل الحر ويغيب عنه الإجبار، وهنا تبرز الحاجة إلى الدفاع والعدل وحكم القانون للمحافظة على هذا الانفتاح. إن الحرية والمصلحة الشخصية لا تقودان إلى الفوضى بالضرورة، وإنما تؤديان إلى النظام والانسجام، وكأن «يدا خفية» ترشد خطاهما.
يستخدم أصحاب المصالح الشخصية السلطة الحكومية لتشويش منظومة السوق في سبيل تحقيق منافعهم الخاصة. وقد يدعو أرباب العمل وأصحاب المهن إلى ضوابط تعرقل التنافس، كموانع دخول السلع التي تحول دون ممارسة الناس تبادلات تجارية بعينها.
يجب أن تكون الضرائب متناسبة مع الدخل، وأن يكون دفعها أكيدا وبطريقة ملائمة. ويجب أن يكون تحصيلها منخفض التكلفة، وألا تعيق التجارة، وألا تكون مرهقة إلى الحد الذي يشجع على التهرب منها، وألا تتطلب زيارات متكررة من جباة الضرائب.
Unknown page
يشعر الإنسان ب «تعاطف» طبيعي (أو مشاركة وجدانية) تجاه الآخرين، وهذا يتيح له تهدئة سلوكياته والمحافظة على التناغم بينها وبين سلوكيات الآخرين. كما أن ذلك يمثل أساس التقييمات الأخلاقية للسلوك، ويعد منبع الفضيلة البشرية. فالطبيعة البشرية دليل يرشدنا إلى خلق مجتمع متناغم على نحو أفضل من المنطق المتعجرف الذي يتبعه أصحاب الرؤى الحماسية والخيالية.
مقدمة
جافن كينيدي1
أتاح لنا إيمون باتلر في هذا الكتاب مقدمة بارعة جديرة بالإعجاب إلى آدم سميث، فصوره لنا كإنسان وكفكر، وهي على حد علمي أفضل ما كتب من مقدمات موجزة تعرف بهذا الرجل، ومن شأنها أن تتيح للجميع التعرف على الوجه الحقيقي لآدم سميث.
ولقد كان باتلر موفقا في تحاشيه الجدل المثار حول الاقتصاد السياسي لدى سميث، والذي كتب عنه الكثيرون على مر السنين. ويعد الوصف المقدم لسميث، شخصا وأعمالا، تقييما دقيقا لمزيجه الفكري الفريد عن تطور المجتمع البريطاني حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
نشر آدم سميث كتابه الأقل شهرة «نظرية المشاعر الأخلاقية» قبل سبعة عشر عاما من إصدار كتابه «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم»، وهناك ما يؤكد على أن الفجوة الزمنية التي تفصل بين الكتابين تدل على أن سميث استعاض عن القيمة الأخلاقية لعمل الخير وأحل محلها المصلحة الشخصية اللاأخلاقية كمحفز للفعل البشري. ومن الملاحظات التي خطها طلاب لم تعرف أسماؤهم في العامين (1762-1763)، يمكننا أن نستدل على أن أجزاء كبيرة من محاضرات سميث قد عاودت الظهور، على نحو يكاد يكون حرفيا، في كتابه «ثروة الأمم» في 1776. كما نشر محاضراته التي ألقاها حول الأخلاق خلال الفترة الزمنية (1751-1764) بين دفتي كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» (1759)، وهذا يعني أن آدم سميث لم يحمل آراء متناقضة حول الدوافع البشرية.
كان سميث فيلسوفا في الأخلاق، ولم يكن الاقتصاد قد حظي في القرن الثامن عشر بمكانته كعلم منفصل كما أصبح عليه الحال في نهاية القرن التاسع عشر. ولا شك في أنه كان هناك الكثير من الكتاب السابقين لسميث والمعاصرين له ممن ألفوا كتيبات حول موضوعات اقتصادية (وتحتفظ جامعة ييل بعدة آلاف منها تعود إلى ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر)، وبعض هؤلاء المؤلفين قدموا إسهامات في علم الاقتصاد، لكن لا يوجد فيهم من قدم بحثا جامعا شاملا يصل إلى درجة ونوع البحث الذي جاء به آدم سميث.
كان علم الاقتصاد السياسي يركز قبل سميث على إثراء الملك والدولة بسبائك الذهب والفضة من أجل تمويل الحروب الخارجية. وعندما نشر كتاب «ثروة الأمم»، أعاد توجيه أنظار الاقتصاد السياسي إلى إثراء المستهلك من «الناتج السنوي للأرض والعمل». إن هذا الكتاب لم يكن كتابا دراسيا، بل يناقش موضوعا محددا، وهو طبيعة الثروة وما يدفعها إلى النمو.
إن المجلدين الأول والثاني من الكتاب يعرضان السمات المميزة للمجتمع البشري، كالميل إلى التبادل، وتقسيم العمل، وعوامل الإنتاج، وآليات الأسواق، وتوزيع العائد على المشاركين. أما المجلد الثالث، فيضع بريطانيا القرن الثامن عشر في سياق التطور الاجتماعي للمجتمع : من مرحلة «الصيد» البدائية، مرورا ب «الرعي» و«الزراعة»، وانتهاء بعصر التجارة، ويبين كيف أن سقوط روما في القرن الخامس أدى إلى عرقلة هذا التقدم «الطبيعي» في أوروبا الغربية.
وعندما بدأت أوروبا تتعافى بعد القرن الخامس عشر، عانت من عوائق السياسات التي كانت تعضد ما يدعوه سميث «التجارة المركنتيلية»، والتي ينتقدها المجلد الرابع من الكتاب نقدا لاذعا بسبب خطئها الرئيسي المتمثل في القول بأن ثروة البلاد تنبني من تراكم سبائك الذهب والفضة، وأن الميزان التجاري كان ضروريا لأن الدولة كان يتوجب عليها أن تصدر أكثر مما تستورد. والأسوأ من ذلك أن هذا المبدأ كان يعتقد بأن الاقتصاد المحلي يصير أقوى بفضل ممارسة الاحتكار الحمائية، والقيود المفروضة على مجال التوظيف وحركة القوة العاملة، والتدخلات في حريات الأسواق الطبيعية.
Unknown page
كانت معالجة سميث لهذه الأخطاء تتمحور حول تحرير الأسواق من التدخلات التي غيرت آلية عملها الطبيعية. كان سميث يؤيد توسيع نطاق التبادل الحر للمخرجات المنتجة تنافسيا من أجل السماح بتحقيق المعدل الطبيعي للنمو الاقتصادي، وذلك مبدئيا عبر السماح للناس بضم ما لديهم من «أرض أو عمل أو رأس مال» إلى ما بحوزة غيرهم، من أجل إنتاج السلع التي تباع في الأسواق. وبعد دفع الإيجار إلى أصحاب الأراضي، والأجور للعمال، والأرباح للتجار والمصنعين، يقوم صاحب رأس المال بإعادة استثمار أرباحه الصافية في أنشطة إنتاجية إضافية، ويخلق - عبر جولات متعاقبة من الإنتاج والتبادل - ثروة حقيقية من الناتج السنوي للأرض والعمل في المجتمع، والذي سيستمر في النمو على نحو بطيء وتدريجي عبر الدوران المتعاقب ل «عجلة التداول العظيمة».
يتناول سميث في المجلد الخامس الأدوار المناسبة للحكومات، ويحدد وظائفها الأساسية: الدفاع، والعدل، والأشغال والمؤسسات العامة التي تسهل الأداء التجاري، وتعليم «الناس من كافة الأعمار»، وإجراءات مكافحة «الأمراض الكريهة والمثيرة للاشمئزاز»، والحفاظ على «الكرامة والسيادة»، وتمويل نفقات هذه المجالات عبر الضرائب والرسوم لصالح المستفيدين (وليس بما يصب في الدين العمومي).
لقد تعامل كتاب «ثروة الأمم» مع «مبادئ الاقتصاد السياسي» المركنتيلية الهدامة على نحو غير مسبوق في عصره، وذلك على مدار تطورها في سياق تعافي أوروبا من سقوط روما وظهور الدول القومية - خلال ألف عام - بفضل القادة العسكريين والإقطاعية. ولنا في القرنين السابقين أمثلة كثيرة عن مؤلفين قيموا كتابات سميث وبحوزتهم ثمار قرنين من العمل والبحث الإضافي، لكن كتابات سميث صمدت أمامها على نحو يثير الإعجاب.
كانت أغلبية الشعوب في أوروبا الغربية تعاني من فقر مدقع، وكان ما تتعرض له من فقر واضطهاد مطلقين دافعا رئيسيا للهجرة إلى أمريكا الشمالية، وجنوب أفريقيا، وأسترالاسيا، واستمر ذلك حتى العقود الأولى من القرن العشرين. أما سميث، فقد كانت نظرته تتعدى الفقر لتخترق أسبابه، وبالتحديد غياب خلق الثروة. فالعون لا يأتي إلا من داخل المجتمع، عبر قيامه بخلق الظروف التي تؤدي إلى تكوين الثروة. فوجه سميث مقاربته التاريخية لهذه المشكلة من أجل دراسة البشرية، وتكثر في كتابات سميث الأمثلة والاقتباسات من النصوص الكلاسيكية الإغريقية واللاتينية التي كان ملما بها إلماما كاملا. وكما هو حال جميع الأسماء اللامعة في حركة التنوير في القرن الثامن عشر، رجع سميث ببصره إلى الوراء ليبحث عن أصول المجتمع، بدلا من أن يمد بصره إلى الأمام متطلعا نحو نسخ من اليوتوبيا، فمثل هذا التفكير الرومانسي ازدهر في القرن التاسع عشر، وليس الثامن عشر.
لقد تدهورت الحضارة الأوروبية وانحطت إلى بربرية القادة العسكريين والإقطاعيين، لكنها شهدت أيضا، وعلى نحو بطيء وتدريجي (وهي عبارة تتكرر كثيرا في كتاب «ثروة الأمم»)، تعافي الناتج الزراعي، وزيادة أعداد السكان، وانتعاش التجارة مجددا في معارض وأسواق متناثرة. وفي الأعوام المائة التي سبقت عام 1760، كان نطاق المقتنيات المنزلية، حتى في أفقر بيت لعامل متواضع، يدلل على وجود «ثراء» نسبي (يعود معظمه إلى امتلاك مقتنيات مستعملة) يفوق ثراء قبائل الصيد في أمريكا الشمالية وأقوى «أمرائها». وباطلاعه على مدونات الرحالة، ومشاهداته الشخصية للمصانع والمصاهر الصغيرة القريبة المحيطة بكيركالدي، والتي كانت تنتج المسامير والدبابيس، رأى سميث كيف أن خلق الثروة الحقيقية لا يكون على هيئة سبائك من الذهب والفضة، وإنما يحدث عندما يتحول إنتاج وتوزيع الناتج الخام للأرض وجهود المجتمع إلى مقتنيات ملموسة في منازل الطبقة العاملة، وهو ما كان يعد مؤشرا حقيقيا لقياس الثراء النسبي في البلاد.
لم تبدأ أفكار سميث اللامعة باكتشاف تقسيم العمل، فهذا «الشرف» يعود إلى أفلاطون قديما، وإلى السير ويليام بيتي في العصر «الحديث» (1690)، لكن البداية كانت بملاحظة أهمية تقسيم العمل كوسيلة يمكن نشر الثراء الحقيقي بها فيما بين أغلبية السكان دون الاقتصار على أغنى أغنيائهم، وجعلهم جميعا أكثر ثراء على نحو متنام خلال بضعة أجيال.
قاده هذا إلى التساؤل: إذا كان تقسيم العمل هو المفتاح، فما الظروف التي من شأنها أن تزيد الناتج؟ كيف يمكن تحديد حصة كل شخص؟ والسؤال المصيري: ما العوائق التي تقف في وجه تحقيق ذلك؟ إن القفزة التي أنجزها سميث من الوصف إلى التحليل كانت خطوته الأولى تجاه وضع أسس علم الاقتصاد الجديد.
وفيما يلي أقدم للقارئ نبذة مختصرة عن نموذج سميث للاقتصاد التجاري الذي يعمل بحرية كاملة، وذلك كتكملة لما سيقرؤه فيما بعد من عرض رائع قدمه لنا إيمون باتلر؛ مؤلف هذا الكتاب.
إن المجتمع التجاري يطور تبادل السلع القابلة للتسويق والناتجة عن تقسيم العمل، وكانت المقايضة - وهي التبادل المباشر غير الفعال لسلعة مقابل سلعة أخرى - قد ظهرت قبل وقت طويل من ظهور التبادل غير المباشر الأكثر فاعلية باستخدام المال. ويشير سك النقود في الحضارات القديمة قبل عدة آلاف من السنين إلى الوجود المبكر للتجارة كنتيجة لتقسيم العمل (وإلا فلم الحاجة إلى سك النقود أصلا؟)
كانت التبادلات الأولى تتم بين منتجات الريف (كالغذاء والمواد الخام)، ومنتجات البلدات (كالأدوات والمقتنيات البدائية المصنعة)، وكانت أسعار السوق للسلع المتبادلة تتحدد وفقا للعرض والطلب الفعلي، وقد تختلف عما يدعوه سميث «الأسعار الطبيعية»، وفيها تكون العائدات التي يحصل عليها مالكو عناصر الإنتاج (الأرض والعمل ورأس المال)، المتعاونون في الإنتاج، متوافقة مع تكاليفهم بالضبط، بما في ذلك المعدل الطبيعي المحلي للربح. وأسعار السوق، التي لا تكف عن التأرجح حول نقطة التوازن الكامل دون أن تستقر عندها، ربما لا تغطي التكاليف، لكن تغير أسعار السوق يومئ للمشاركين بأن يدفعوا أكثر أو أقل مقابل السلع المتاحة، أو أن يزودوا السوق بالمزيد أو القليل منها، وهكذا لا بد للعرض الفعلي أن يعدل وفقا لهذه الإيماءات مع مرور الوقت، وهذا يشكل آليات الاقتصاد التنافسي.
Unknown page
إن العمل إما أن يكون إنتاجيا أو غير إنتاجي، والتمييز بينهما يعتمد على ما إذا كان العمل، إضافة إلى رأس المال الثابت، يؤدي إلى إنتاج سلع تباع في الأسواق وتعوض تكلفتها، إلى جانب جلب أرباح المشروع. وتعد منتجات العمل غير الإنتاجي (مثل الخدم البسطاء الذين يقدمون الطعام لعائلة ثرية) - التي لا تباع في الأسواق لتعويض تكلفتها - استهلاكا من العائد، أما منتجات العمل الإنتاجي، فهي تعوض تكلفتها وتعيد إنتاج العائد الصافي (الربح)، والذي قد يستخدم للاستهلاك (الإسراف) أو الاستثمار الصافي (الاقتصاد في الإنفاق). وتصبح الأمم أكثر ثراء عندما تكون فيها نسبة أعلى من المنتجين المقتصدين، بالمقارنة مع نسبة المستهلكين المسرفين خلال مدة من الزمن. وبالاعتماد على المعدل السنوي للاستثمار الصافي، يزيد الاقتصاد من نطاق التوظيف (عن طريق زيادة أجور العمل، ونشر الثراء بين الأغلبية الأكثر فقرا)؛ مما يؤدي إلى زيادة الناتج السنوي من «ضروريات الحياة ووسائل الراحة والتسلية».
مما يؤسف له أن سقوط روما أدى إلى عرقلة هذه العملية الطبيعية، لكن ما إن تعافى الاقتصاد في الألفية اللاحقة واستفاد من التحسينات في تكنولوجيا الزراعة، ومن الإمكانيات التقنية الجديدة التي نتجت عن النهضة العلمية؛ حتى أنشأت المجتمعات مؤسسات سياسية، بما فيها الدوجمائية الدينية، والتي اشترعت أفكارا مركنتيلية زائفة عملت على تثبيط التطور الطبيعي للاقتصاد.
انتقصت الحرية الكاملة بسبب القوانين التي فرضت التعريفات والرسوم والمحظورات على التجارة الحرة، وكبلت أيضا من جانب رابطات عمالية بلدية وهيئات احتكارية حرفية أدت إلى تقليل المنافع الناتجة عن الجو التنافسي لدخول الأسواق والخروج منها بحرية. كما قامت تلك الهيئات أيضا بحظر الحق الطبيعي للعمل في مجالات لم تستغرق فيها مدة طويلة من التدريب، ومنعت الأفراد من بيع أو شراء السلع التي لم تنتج في مواقع محلية محددة، وفي سبيل السعي خلف السراب المركنتيلي للتوازن التجاري فرضت الرسوم، واستردت رسوم الاستيراد بعد تصدير السلع، ومنحت مكافآت على الصادرات والواردات على نحو يلحق الأذى بالمستهلك.
إن الحقيقة التي تبعث على الشعور بالقلق هي أن الكثير من العوائق التي تحول دون الحفاظ على معدل إيجابي للاستثمار الصافي - وهو ما كان سميث يهتم به - لا تزال قائمة حتى القرن الحادي والعشرين، ولا يزال يدعو إليها، على نحو مشابه، مجموعة من المشرعين ذوي العقول المركنتيلية، وتدعمها أكاذيب شائعة. أما اليوم، في ظل الاقتصاد العالمي الذي لم يعد فيه الفقر المطلق يمثل مشكلة في الدول المتقدمة كما كان عليه الحال في أيام سميث، فإن مشكلة الفقر المطلق والنسبي في الدول النامية وغير النامية يجب أن تحرك قلوب جميع الاقتصاديين، كما فعلت بقلب سميث وعقله من قبل، وهو الذي يعتبر أول خبير اقتصادي عرفه التاريخ.
إن جميع الالتفاتات المزعومة وكذلك الاستعراضات المفصلة الواردة في كتاب «ثروة الأمم»، والتي تجعله على الأرجح كتابا «صعبا» و«غير وثيق الصلة» بالقارئ الحديث؛ تنشأ من إساءة فهم ما كان يرمي إليه المؤلف؛ فهو لم يكن مؤلفا من الطراز الحديث يكتب كتابا عن «مبادئ الاقتصاد»؛ إذ لم يكن هذا الموضوع موجودا في أيامه، وإنما كتب تقريرا حول بحثه في المعنى الحقيقي للثروة الوطنية، وما الذي دفع الثروة إلى النمو، والمجتمع إلى التقدم تجاه الثراء. لقد كان هذا البحث يمثل ذكاءه وتراثه، وما كتبه إيمون باتلر في هذا العرض التقديمي يوفر لك أفضل فرصة لمعرفة السبب الذي يدعونا إلى قول ذلك.
هوامش
الفصل الأول
أهمية آدم سميث
آدم سميث (1723-1790) فيلسوف واقتصادي اسكتلندي مشهور بكتابه «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم» (1776)، وهو من أكثر الكتب تأثيرا في تاريخ الكتابة؛ حيث حول سميث به اتجاه تفكيرنا في مبادئ الحياة الاقتصادية من الشكل القديم إلى شكل حديث ومميز، وذلك استنادا إلى فهم جديد تماما للكيفية التي يعمل بها المجتمع البشري. (1) النظرة القديمة للاقتصاد
غير سميث أفكارنا أيما تغيير، حتى أصبح من الصعب وصف المنظومة الاقتصادية التي كانت سائدة في أيامه؛ وهذه المنظومة هي المركنتيلية التي كانت تقيس الثروة الوطنية بحسب ما تحتويه خزائن الدولة من ذهب وفضة. كان ينظر في تلك الأيام إلى استيراد السلع من الخارج باعتباره أمرا هداما؛ لأنه كان يعني ضرورة التخلي عن هذه الثروة المزعومة حتى ندفع مقابل الحصول على هذه السلع. على النقيض، كان ينظر إلى التصدير باعتباره أمرا طيبا؛ لأنه كان يعني استرداد هذين المعدنين الثمينين؛ فالتجارة آنذاك كانت تصب في مصلحة البائع فقط دون المشتري، ولم يكن بإمكان الأمة أن تصبح أكثر ثراء إلا إذا ازداد غيرها من الأمم فقرا.
Unknown page
على أساس هذه النظرة، شيد صرح ضخم من الضوابط للحيلولة دون جفاف منابع ثروة الأمة، منها: الضرائب على الواردات، ودعم المصدرين، وحماية الصناعات المحلية. ووصل هذا الأمر إلى حد تعرض المستعمرات الأمريكية التي تملكها بريطانيا للعقوبات في ظل هذه المنظومة؛ مما أدى إلى نتائج كارثية. وفي الواقع، كان ينظر إلى التجارة ككل بعين الريبة، وسادت ثقافة الحمائية الاقتصاد المحلي أيضا؛ فمنعت المدن حرفيي المدن الأخرى من الانتقال والعمل في اختصاصاتهم، وتقدم الصناعيون والتجار إلى الملك بالتماسات يطلبون فيها حماية ممارساتهم الاحتكارية، وتعرضت الآلات التي تختصر العمل - كآلة صناعة الجوارب الحديثة آنذاك - إلى الحظر باعتبار أنها تمثل تهديدا للمصنعين الراهنين. (2) إنتاجية التبادل الحر
أوضح سميث أن هذا الصرح المركنتيلي الهائل بني على خطأ؛ ولذا أتى بنتائج عكسية، ورأى أنه في ظل التبادل الحر يصبح كلا الطرفين أكثر ثراء. وببساطة، ما من أحد يمكنه اللحاق بركاب التبادل إذا كان يتوقع تحقيق الخسارة؛ فالمشتري يحقق الأرباح كما يحقق البائع الأرباح، وتعد قيمة الواردات في نظرنا مماثلة لقيمة الصادرات في نظر الآخرين، وليس هناك من حاجة لإفقار الآخرين في سبيل إثراء أنفسنا؛ ففي الواقع، يتسع الطريق للمزيد من الأرباح إذا كان المستهلك ثريا.
1
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحقيقة الراسخة بأن التبادل الحر ينفع كلا الطرفين، فلقد أكد سميث على أن التجارة والتبادل يؤديان إلى زيادة الازدهار على نحو مشابه بكل تأكيد لما ينتج عن الزراعة أو الصناعة. إن ثروة الأمة ليست مقدار ما تحتويه خزائنها من ذهب وفضة، وإنما هي إجمالي الإنتاج والتجارة، أي ما ندعوه في أيامنا هذه إجمالي الناتج المحلي.
كانت هذه الفكرة جديدة على الأذهان، لكنها كانت قوية وأدت إلى إحداث اختراق فكري كبير في الجدران التجارية التي أقيمت حول المدن الأوروبية منذ القرن السادس عشر، كما كان لهذه الفكرة نتائج عملية أيضا؛ إذ كان كتاب «ثروة الأمم» - بما فيه من نمط مباشر ومؤثر يتصف بالتحدي والحذاقة التهكمية ووفرة الأمثلة - في متناول الأشخاص العمليين القادرين على ترجمة أفكاره إلى فعل.
لم يأت هذا الكتاب في الوقت المناسب لإيقاف الحرب مع المستعمرات الأمريكية، غير أنه مهد الطريق أمام تأييد رئيس الوزراء ويليام بيت للتجارة الحرة وتبسيط الضرائب، ثم إجراءات رئيس الوزراء سير روبرت بيل التي هدفت إلى تحرير أسواق الزراعة؛ ولذلك يمكن القول بأن هذا الكتاب كان أساس العصر العظيم للتجارة الحرة والتوسع الاقتصادي في القرن التاسع عشر. واليوم، نجد أن المنطق وراء التجارة الحرة يلقى قبولا في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن المصاعب العملية التي تواجه تحقيقها. (3) النظام الاجتماعي القائم على الحرية
لم يكن سميث يتوقع أن يكون لكتابه كل هذا التأثير، لكن الثقة المتنامية في الحرية الشخصية والتجارية إنما نشأت بشكل مباشر من فهمه الجديد الجذري لكيفية عمل المجتمعات البشرية واقعيا. لقد لاحظ سميث أن التناغم الاجتماعي من شأنه أن ينشأ بشكل طبيعي من كفاح البشر لإيجاد طرق للعيش والعمل بعضهم مع بعض. إن الحرية والمصلحة الشخصية لا تقودان إلى الفوضى بالضرورة، وإنما تؤديان إلى النظام والانسجام، وكأن «يدا خفية» ترشد خطاهما.
كما أن من شأن الحرية والمصلحة الشخصية أن تؤديا إلى استخدام الموارد بأكثر السبل الممكنة كفاءة. وعندما يقوم الأشخاص الأحرار بالمساومة مع الآخرين، بهدف تحسين ظروفهم الخاصة فحسب، فإن ما لدى الأمة من أرض ورأس مال ومهارات ومعرفة ووقت ومشروعات وحس ابتكاري؛ سيتوجه بشكل آلي وحتمي نحو تحقيق الغايات والأهداف التي يمنحها الناس القيمة الأسمى.
وهكذا ، فإن الحفاظ على نظام اجتماعي مزدهر لم يكن يتطلب الإشراف المستمر من جانب الملوك والوزراء، وإنما ينمو جوهريا كنتيجة للطبيعة البشرية، لكن إذا أردنا له أن ينمو على النحو الأفضل وأن يعمل على النحو الأكفأ، فسيتطلب ذلك توفير سوق منفتح وتنافسي يسوده التبادل الحر ويغيب عنه الإجبار، كما يحتاج ذلك إلى قواعد للحفاظ على هذا الانفتاح، كالحاجة إلى الموقد لإيقاد النار. إلا أن هذه القواعد - أي قواعد العدل والأخلاق - تتصف بأنها عامة وغير شخصية، وهي بذلك تختلف تماما عن التدخلات المحددة والشخصية التي تصدر عن السلطات المركنتيلية.
ولهذا، فإن كتاب «ثروة الأمم» لم يكن مجرد دراسة لعلم الاقتصاد بحسب مفهومه المعاصر الذي نفهمه، وإنما كان بحثا ابتكاريا في علم النفس الاجتماعي الإنساني، يتطرق إلى الحياة ورفاهيتها، والمؤسسات السياسية، والقانون، والأخلاق. (4) علم نفس الأخلاق
Unknown page
جاء سميث في عصر كان من الممكن فيه على المفكر المتعلم أن يحيط بكل شيء علما: بالعلوم، والفنون، والأدب، والفلسفة، والأخلاق، والنصوص الكلاسيكية؛ فكان منه أن أحاط بكل ذلك، وجمع مكتبة ضخمة، وخطط لكتابة تاريخ الفنون العقلية، وألف كتابا حول القانون والحكومة. لم يكن «ثروة الأمم» أول كتاب يصنع سمعة لسميث في عالم الكتابة، وإنما صنعها أولا كتابه في الأخلاق «نظرية المشاعر الأخلاقية»، وهو كتاب لا يحظى بالشهرة ذاتها، لكنه حظي في أيامه بمثل ما ل «ثروة الأمم» من تأثير على القارئ وأهمية لدى مؤلفه.
لقد حاول كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» أن يحدد الأساس الذي تقوم عليه عملية صياغة تقييماتنا الأخلاقية. وفي هذه المرة أيضا، كان سميث ينظر إلى الموضوع باعتباره قضية نفسية عميقة؛ فالإنسان يشعر ب «تعاطف» طبيعي (ندعوه اليوم ب «المشاركة الوجدانية») مع الآخرين، على نحو يتيح له فهم كيفية تهدئة سلوكه والمحافظة على التناغم، وهذا الأمر يشكل أساس التقييمات الأخلاقية حول السلوك، ويمثل منبع الفضيلة البشرية. (5) المصلحة الشخصية والفضيلة
يتساءل البعض في أيامنا هذه عن كيفية التوفيق بين المصلحة الشخصية التي توجه منظومة سميث الاقتصادية وبين «التعاطف» الذي يوجه أخلاقياته. وجواب ذلك يتمثل في أنه «مهما بلغت الأنانية بالإنسان، فلا شك أن هناك بعض المبادئ في طبيعته تجعله يهتم بثراء الآخرين، وتجعل سعادتهم ضرورية له، دون أن يكون هناك ما يستمده منها سوى متعة مشاهدتها».
2
بعبارة أخرى، إن طبيعة الإنسان معقدة؛ فالخباز لا يزودنا بالخبز بسبب حبه لعمل الخير، والمصلحة الشخصية ليست هي ما يدفع شخصا ما إلى إلقاء نفسه في النهر لإنقاذ شخص غريب من الغرق. إن كتب سميث هي محاولات متكاملة لتحديد كيف أن أصحاب المصلحة الشخصية يمكنهم - وهذا ما يفعلونه - العيش معا بسلام (في النطاق الأخلاقي)، وعلى نحو مثمر (في النطاق الاقتصادي).
لكن دون شك، لا يعني ذلك أبدا أن «ثروة الأمم» يدافع عن رأسمالية البقاء للأقوى، كما يصفه البعض بسخرية. فالمصلحة الشخصية ربما توجه الاقتصاد، لكن إذا كان هناك تنافس منفتح أصيل، إضافة إلى غياب الإجبار، فتلك قوة تعمل لصالح الخير. ومهما يكن من أمر، فإنسانية سميث وحبه للخير واضحان في كل صفحة من صفحات الكتاب؛ فهو يعلي من شأن رفاهية الأمة، ولا سيما الفقراء، فوق المصالح الخاصة للتجار والفئات القوية، غير أنه ينتقد المصنعين الذين يحاولون عرقلة التنافس الحر، ويدين الحكومات التي تساعدهم. (6) الطبيعة البشرية والمجتمع البشري
كان مفكرو القرن الثامن عشر يؤمنون بأنه يجب أن يكون هناك أساس أكثر صلابة للمجتمع من العقيدة التي يمررها رجال الدين أو الأوامر التي تصدر عن السلطات السياسية، وقد عمل بعضهم جاهدا لإيجاد منظومات «عقلانية» للقانون والأخلاق، أما سميث فقد رأى أن المجتمع الإنساني، بما فيه من علم ولغة وفنون وتجارة، متأصل في الطبيعة الإنسانية، وبين كيف أن غرائزنا الطبيعية تقدم دليلا أفضل من أي منطق متعجرف؛ فإذا أقدمنا على مجرد إزالة «كافة منظومات التفضيل أو التقييد»
3
والاستناد إلى «الحرية الطبيعية»، فعندها سنجد أنفسنا مستقرين، عن غير عمد لكن بكل ثقة، في ظل نظام اجتماعي متناغم وسلمي وفعال.
إن هذا النظام الاجتماعي الليبرالي لا يتطلب الانتباه المستمر من جانب الملوك والوزراء للحفاظ عليه، غير أنه يستند إلى احترام الأفراد لقواعد معينة متعلقة بالسلوكيات المتبادلة فيما بينهم، كالعدل واحترام حياة الآخرين وملكياتهم؛ وعندها ينبثق النظام الاجتماعي النافع الشامل بشكل طبيعي تماما. وقد كان سعي سميث منصبا على تحديد المبادئ الطبيعية للسلوك الإنساني، والتي تؤدي فعلا إلى هذه النتيجة الطيبة.
Unknown page
هوامش
الفصل الثاني
حياة سميث الشخصية والمهنية
كانت مارجريت دوجلاس حاملا بالفعل عندما مات عنها زوجها المحامي ذو العلاقات الواسعة وضابط الجمارك السابق في يناير 1723. وفي الخامس من يونيو، أضافت مارجريت في سجلات المواليد اسم طفلها الذي حمل اسم والده المتوفى: آدم سميث. مرت الأعوام ليصبح هذا الطفل فيما بعد واحدا من أهم مفكري عصره، ومؤلفا لأحد أكثر الكتب تأثيرا في التاريخ. (1) كيركالدي وجلاسكو
لا نعلم إلا القليل عن طفولة آدم سميث، ومن ذلك أنه في سن الثالثة تعرض للخطف لمدة قصيرة على أيدي الغجر، حتى استطاع خاله أن يعيده سالما. لكن كل يوم مر عليه في مسقط رأسه لا بد أنه قد زوده بالكثير من المعلومات التي استفاد منها في حياته العلمية فيما بعد. كانت كيركالدي ميناء اسكتلنديا على لسان فورث البحري في إدنبرة، وكانت مركزا تجاريا تفد إليه السفن المحملة بالأسماك، وتخرج منه لتصدير الفحم المستخرج من المناجم المحلية، وتعود بالحديد الخردة لصناعة الحديد.
1
وهكذا ترعرع سميث إلى جانب البحارة وتجار السمك ومصنعي المسامير وضباط الجمارك والمهربين، ووصف أنشطة هؤلاء جميعهم في كتابه «ثروة الأمم».
لكن الأحوال كانت تتغير؛ فالتجارة المتنامية مع الأمريكتين بسلع كالتبغ والقطن كانت تفضل موانئ غربية منشأة حديثا آنذاك - من أمثال جلاسكو - على الموانئ الشرقية القديمة مثل كيركالدي.
2
وفي كتاب سميث العظيم تجد ذكرا لأنماط الانتقال هذه التي شهدتها التجارة وحياة المجتمعات التي كانت تعتمد عليها.
Unknown page
أما في المدرسة، فقد لاحظ الجميع شغفه بالكتب وذاكرته الاستثنائية، كما أنه انخرط في الدراسة الجامعية في جامعة جلاسكو في سن الرابعة عشرة (وهو العمر الطبيعي لارتياد الجامعة في تلك الأيام)، وهناك درس على يد فيلسوف الأخلاق العظيم فرانسيس هاتشيسون، وهو مفكر عقلاني نفعي صريح يؤمن بحرية الإرادة، وكان مصدر إزعاج للسلطات ، ويبدو أن سميث قد تأثر ببعض خصاله. (2) أوكسفورد والحوافز
كان سميث متفوقا في دراسته الجامعية، ففاز بمنحة دراسية للدراسة في كلية باليول في جامعة أوكسفورد، وعندما بلغ السابعة عشرة في عام 1740، امتطى فرسه وبدأ رحلته التي امتدت لشهر كامل. وبعد أن انفتحت عيناه على الازدهار التجاري لجلاسكو بالمقارنة مع تخلف كيركالدي، رأى حينها في إنجلترا عالما مختلفا، فكتب عن عظمة بنائها وبدانة مواشيها التي لم تكن تشبه أبدا تلك الأنواع الهزيلة التي اعتاد رؤيتها في موطنه الاسكتلندي.
لكن منظومة التعليم في إنجلترا لم تنل إعجابه، بل إنها علمته درسا مهما في قوة الحوافز الضارة التي استعرضها باستهزاء في كتابه «ثروة الأمم». فقد كان أساتذة جامعة أوكسفورد يحصلون على أجورهم من عوائد الأوقاف الواسعة التابعة للجامعة، وليس من الرسوم التي يدفعها الطلبة؛ ولهذا كان «معظم الأساتذة العموميين قد تخلوا خلال هذه المدة الطويلة حتى عن التظاهر بالتعليم»،
3
وكان الهدف من الحياة الجامعية «المصلحة، أو بعبارة أنسب: راحة الأساتذة».
4
وفي خضم ذلك كان سميث يواصل دراسته للاقتصاد بوتيرة سريعة.
على الرغم من تلك الأجواء، فقد تمكن سميث - بفضل المكتبة الهائلة التي احتوتها كلية باليول - من دراسة النصوص الكلاسيكية والأدب ومواد أخرى. وفي عام 1746، ترك سميث أوكسفورد قبل نهاية المنحة الدراسية، وعاد إلى كيركالدي، حيث أمضى هناك عامين من الكتابة في الأدب والفيزياء والمنطق والأسلوب العلمي. (3) سنواته الأولى كمحاضر
بفضل الصلات العائلية، قام اللورد كامس - وهو محام ومفكر بارز - بدعوة سميث لإلقاء سلسلة من المحاضرات العامة في إدنبرة حول الأدب الإنجليزي وفلسفة القانون. ومن هذه المحاضرات، يمكننا أن نستنتج أن سميث حتى في عشرينياته كان يستنبط العديد من الأفكار الرئيسية (كتقسيم العمل)؛ مما سيؤدي لاحقا إلى تشكيل الأسس الجوهرية التي قام عليها كتابه «ثروة الأمم».
أحرزت المحاضرات نجاحا عظيما، ومهدت الطريق للنقلة اللاحقة في حياته المهنية. وعندما بلغ السابعة والعشرين في عام 1751، عاد سميث إلى جامعة جلاسكو لتدريس المنطق وفلسفة الأخلاق والأدب والبلاغة. (وفي ذلك الوقت، لم تكن البلاغة تعني شيئا مما تجسده الآن ، ولم يقصد بها حينها سوى دراسة أسلوب الحديث والتواصل.)
Unknown page
كان منهجه التدريسي في الفلسفة يغطي موضوعات اللاهوت والأخلاق وفقه القانون والسياسة العامة، وكانت محاضراته في فقه القانون والسياسة (والتي لم تصلنا إلا عبر ما دونه الطلبة من ملاحظات) تحتوي على العديد من أفكاره (كآلية عمل منظومة السعر، وعيوب الحمائية، وتطور المؤسسات الحكومية والاقتصادية)، وقد ظهرت هذه الأفكار بعد أعوام بين دفتي كتابه «ثروة الأمم» على نحو مطابق تقريبا.
لكن أفكار سميث التأملية حول الأخلاق كانت هي السبب في ذيوع صيته؛ ففي عام 1759 نشر سميث هذه الأفكار في كتاب تحت عنوان «نظرية المشاعر الأخلاقية»، وهو كتاب يتمتع ببراعة الأسلوب وأصالة المحتوى، وقدم فيه سميث شرحا لتقييماتنا الأخلاقية من منظور علم النفس الاجتماعي. ويذكر هنا أن صديق سميث، الفيلسوف والمؤرخ ديفيد هيوم، أرسل نسخا من هذا الكتاب إلى عدد من أصدقائه، ومن هؤلاء كان السياسي تشارلز تاونسند، وأعجب تاونسند بالكتاب أيما إعجاب، إلى الحد الذي دفعه إلى توظيف سميث فورا بمرتب سخي قدره 300 جنيه استرليني طيلة الحياة، وذلك كمعلم خصوصي لابن زوجته، الدوق الشاب لمدينة باكلو. (4) رحلاته
على الرغم من ذكائه اللامع، لم يكن سميث خيارا متوقعا عندما يتعلق الأمر بوظيفة المعلم الخصوصي، حيث يصفه الكاتب جيمس بوزويل بأنه كان يملك «ذهنا تزدحم فيه كافة أنواع الموضوعات»؛ مما جعله شارد الذهن، حتى إنه أقدم ذات مرة - في غير وعي - على وضع الخبز والزبد في إبريق الماء الساخن بدلا من الشاي، وسار في حين آخر ثمانية أميال متفكرا في إحدى المشكلات قبل أن يلاحظ أنه أصبح في مدينة دانفيرملين، وفي إحدى المرات سقط في مصرف مياه لعدم تركيزه في الطريق.
لم يمض وقت طويل حتى انطلق سميث مع تلميذه في رحلة إلى فرنسا، حيث كان السفر جزءا من العملية التعليمية لكل شاب أرستقراطي في ذلك الوقت، واستمتع كلاهما في باريس بالصحبة الرائعة لديفيد هيوم الذي كان السكرتير الخاص للسفير هناك. لكن سميث لم يكن يتكلم الفرنسية بطلاقة، ووجد صعوبة في التواصل مع الآخرين ؛ فبدأ الضجر يتملكه وأخبر هيوم: «لقد بدأت بتأليف كتاب من أجل تمضية الوقت.»
5
ولم يكن هذا الكتاب إلا «ثروة الأمم».
وفي رحلاته التالية، عبر الجنوب الفرنسي، وإلى جنيف، والعودة إلى باريس، التقط سميث معلومة تلو الأخرى حول أوجه الحياة الأوروبية: ثقافيا وحكوميا وتجاريا واقتصاديا وفيما يتعلق بالقانون، وأعمل فكره في الفوارق بينها وبين الأوجه السائدة في أرض الوطن. وكان للمناقشات التي خاضها مع عدد من الأسماء البارزة في أوروبا القارية فضل في تشذيب الأفكار التي وردت في كتابه العظيم. (5) «ثروة الأمم»
رجع سميث مع تلميذه إلى لندن في عام 1766، وعاد سميث إلى كيركالدي ليقيم فيها، حيث استطاع توفير ما يكفي لشراء منزل فخم في شارع هاي ستريت، وعاش فيه مع والدته وابنة خاله جانيت. (ومن الجدير بالذكر أن سميث ظل يخصص جهوده لخدمة والدته حتى وفاتها في عام 1784، فلم يتزوج قط، لكن يبدو مما كتبه أنه كان على علاقة في وقت مبكر «بشابة على قدر كبير من الجمال واللباقة».)
6
أمضى سميث أعواما كثيرة في كيركالدي وهو يكتب وينقح ويصقل مخطوطته على حساب صحته، لكنه تحسن بعد مدة طويلة أمضاها في لندن من 1773 إلى 1776، مستمتعا بصحبة مفكرين عظماء آخرين، من أمثال الرسام السير جوشوا رينولدز، والمؤرخ الجليل إدوارد جيبون، والسياسي الراديكالي إدموند بيرك، وبوزويل، وحتى المعجمي الدكتور صامويل جونسون، رغم تعارض آراء سميث مع آراء الأخير.
Unknown page
نشر «ثروة الأمم» أخيرا في مارس 1776، وحقق نجاحا تجاريا هائلا، وطبع عدة مرات وبلغات متنوعة خلال بضعة أعوام فقط، كما أنه حقق نجاحا تطبيقيا أيضا؛ فالوصفات التي قدمها، كتحرير التجارة، أخذت تشق طريقها في السياسة العامة. (6) مفوض الجمارك
كوفئ سميث بحصوله على منصب مفوض الجمارك في إدنبرة، براتب سخي قدره 600 جنيه استرليني. وهكذا، أصبح حينها أكبر المنتقدين لمنظومة الجمارك الاعتباطية الفاشلة في بريطانيا، متبوئا لمنصب يمكنه من فعل شيء ما إزاء هذا الواقع، وقد أبدى سميث قدرا كبيرا من الجد في القيام بمهام منصبه.
7
وكان يدلي بنصائحه في موضوعات أخرى أيضا، محاربا القيود المفروضة على التجارة في أيرلندا على سبيل المثال، كما تدخل بشأن «الاضطرابات» الاستعمارية الأمريكية. وفي وقت لاحق، استعان رئيس الوزراء ويليام بيت بمبادئ سميث في صياغة معاهدة تجارية مع فرنسا، وفي تطبيق إصلاح واسع النطاق لمنظومة الضرائب في البلاد.
كان سميث يحب النقاش والجدل مع الأصدقاء، وفي يوليو 1790، وبينما كان يقضي أحد أمسيات الجدل الكثيرة في إدنبرة، أحس سميث بالتعب وذهب ليرتاح في فراشه قائلا بأن للنقاش بقية في مكان آخر. ولم يلبث بعدها إلا بضعة أيام حتى توفي، ليدفن تحت نصب تذكاري فخم، وإن كان غير متكلف، في ساحة كنيسة بالقرب من منزله في كانونجيت.
هوامش
الفصل الثالث
كتاب «ثروة الأمم»
(1) الخطوط العريضة للكتاب
كتب آدم سميث «ثروة الأمم» مدفوعا بعدة أسباب، منها أنه كان يرغب في تشجيع السياسيين على التخلي عن سياسة تقييد التجارة وإبعادها عن المسار الصحيح عوضا عن السماح لها بالازدهار؛ لذلك استخدم لغة صريحة لا تزال سهلة الفهم حتى يومنا هذا.
Unknown page
لكن سميث كان يحاول أيضا ابتكار علم اقتصاد جديد؛ فجاء عمله رياديا، وحفل بمصطلحات ومفاهيم قد يصعب التوفيق بينها وبين مصطلحات ومفاهيم أيامنا هذه. فنص كتاب «ثروة الأمم» يتصف بالانتقال من موضوع لآخر، فيعج بالاستطرادات الطويلة وتزدحم فيه الحقائق - من سعر الفضة في الصين، إلى غذاء المومسات الأيرلنديات في لندن - مما يجعل سبر أغوار الكتاب أمرا صعبا؛ لذلك علينا أولا أن نسلط الضوء على بعض موضوعاته الرئيسية.
ليس هناك في الكتاب أوضح من الموضوع الذي جاء بصدده أن «ضوابط التجارة غير قائمة على أساس سليم وتأتي بنتائج عكسية». كانت النظرة السائدة في أيامه هي الفكرة «المركنتيلية» التي ترى أن ثروة الأمة هي مقدار ما تمتلكه من مال، وهذا يعني ضمنا أن الأمة إذا أرادت أن تكون أكثر ثراء، فهي تحتاج إلى بيع أكبر قدر ممكن مما تملكه للآخرين، حتى تحصل على أكبر قدر ممكن من المال في المقابل، وأن تشتري أقل قدر ممكن من الآخرين، وذلك كي تحول دون تسرب احتياطها النقدي إلى الخارج. وقد أدت هذه النظرة التجارية إلى تأسيس شبكة هائلة من تعريفات الاستيراد وإعانات التصدير والضرائب وتفضيلات الصناعات المحلية؛ حيث كانت جميعها مصممة بهدف الحد من الواردات وتعزيز الصادرات.
أما نظرة سميث الثورية، فكانت تتمثل في أن الثروة لا تتعلق بكمية الذهب والفضة في خزائن الأمة، «فالمقياس الحقيقي لثروة الأمة هو ما تخلقه من تيار السلع والخدمات». وهكذا ابتكر سميث الفكرة الأساسية الشائعة في علم الاقتصاد حاليا، وهي إجمالي الناتج المحلي.
1
وكان يرى بأن السبيل لزيادة هذا الناتج إلى حده الأقصى لا يتمثل في تقييد القدرة الإنتاجية للأمة، وإنما في تحريرها.
ومن الموضوعات المحورية في الكتاب أن هذه «القدرة الإنتاجية تستند إلى تقسيم العمل»، وإلى ما يتيحه من «تراكم رأس المال». ويمكن تحقيق مردود هائل عبر تقسيم الإنتاج إلى العديد من المهام الصغيرة، حيث تتولى كلا منها أيد متخصصة، وهذا يتيح للمنتج فائضا يمكن تبادله مع الآخرين، أو استخدامه للاستثمار في آلات موفرة للعمل، أحدث وأكثر كفاءة.
أما الموضوع الثالث، فيتمثل في أن ما للبلاد من «دخل مستقبلي يعتمد على تراكم رأس المال»؛ فكلما استثمرت في عمليات إنتاجية أفضل، كبر حجم الثروة التي ستتكون في المستقبل. لكن إذا كان الناس سيزيدون رأسمالهم، فلا بد أن يضمنوا حمايته من السرقة؛ فالدول التي تحقق الازدهار هي تلك الدول التي تنمي رأسمالها، وتديره إدارة فعالة، وتوفر له الحماية.
والموضوع الرابع مفاده أن «المنظومة تعمل آليا»؛ فعندما تندر سلعة ما، يبدي الناس استعدادهم لدفع المزيد في سبيل الحصول عليها، ويكون هناك المزيد من الربح في تزويدها؛ ولهذا يستثمر المنتج المزيد من رأسماله في سبيل إنتاج المزيد. أما إذا أغرق السوق بهذه السلعة، فستنخفض الأسعار والأرباح، وينتقل المنتج برأسماله ومشاريعه إلى مجال آخر. وهكذا تبقى الصناعة في حالة من التركيز على الاحتياجات الأكثر أهمية للأمة دون الحاجة إلى توجيه مركزي.
لكن «المنظومة لا تعمل آليا إلا في جو من التجارة الحرة والتنافس»؛ فعندما تمنح الحكومة إعانات أو حقوق احتكار لمنتجين مفضلين على غيرهم، أو تحميهم خلف جدران التعريفات ، يمكنهم أن يفرضوا أسعارا أعلى، والنتيجة أن يكون الفقراء هم أكثر من يعاني من ذلك؛ لأنهم يواجهون تكاليف أعلى مقابل الضروريات التي يعتمدون عليها.
يضاف إلى تلك الموضوعات أن «ثروة الأمم» تكمن في كيفية «تمخض المراحل المختلفة للتقدم الاقتصادي عن مؤسسات حكومية مختلفة». فمجتمعات الصيد والجمع البدائية لم يكن لديها إلا القليل مما تشعر بقيمته، لكن عندما أصبح البشر مزارعين، أضحت أراضيهم ومحاصيلهم ومواشيهم ملكيات مهمة، فأسسوا الحكومات ومنظومات العدل من أجل حمايتها.
Unknown page
وفي عصر التجارة، ومع مراكمة الناس لرأس المال، أصبحت الملكية ذات أهمية أكبر، لكن هذا العصر عاش فيه تجار أتيح لهم تحقيق مكاسب أكثر عبر تشويه الأسواق لمصلحتهم، وكان لديهم من المكر ما يكفي لاستخدام العملية السياسية لخدمة هذه الغاية. «إن التنافس والتبادل الحر يتعرضان إلى الخطر من جانب الاحتكارات والتفضيلات الضريبية والضوابط، وغيرها من الامتيازات التي يمكن للمنتجين أن يحصلوا عليها من السلطات الحكومية.»
ولهذه الأسباب جميعها، آمن سميث بأن «الحكومة يجب أن تكون محدودة»؛ فمهمتها الأساسية تتمثل في القيام بشئون الدفاع، والحفاظ على النظام، وإنشاء البنى التحتية، وتعزيز التعليم. ويجب عليها أن تحافظ على انفتاح السوق وحريته، لا أن تعمل على تشويهه بأي شكل من الأشكال. (2) الإنتاج والتبادل
في المجلد الأول من مجلدات الكتاب الخمسة، نجد شرحا لآليات الإنتاج والتبادل، وما تساهم به في الدخل الوطني. (2-1) منافع التخصص
استخدم سميث مثال مصنع الدبابيس ليبين أن «تقسيم العمل» - أي التخصص في العمل - يؤدي إلى زيادات هائلة في المخرجات. وتبدو صناعة الدبابيس «صناعة تافهة»، لكنها في الحقيقة صناعة شديدة التعقيد؛ إذ يجب سحب السلك، وجعله مستقيما، وقطعه، وتدبيبه، ويجب أن تكون قمة الدبوس مسطحة؛ ولذا تصنع بشكل مستقل ثم تثبت به لاحقا، ويلي ذلك تبييض الدبابيس ولفها في أوراق. ففي الحقيقة، هناك قرابة 18 عملية مختلفة تدخل في صناعة الدبابيس.
ويرى سميث أن العامل الواحد إذا أنجز كل هذه العمليات بمفرده، فربما لن يتمكن من صناعة أكثر من عشرين دبوسا في اليوم (وإذا كان عمله يتضمن أيضا التنقيب عن الحديد وصهره، فربما لن يتمكن من إنتاج حتى دبوس واحد كل عام). أما في المصنع، فيقسم العمل بين أشخاص مختلفين، يقتصر عمل كل منهم على واحدة أو اثنتين من العمليات المنفصلة، وهكذا فإن فريقا من عشرة أشخاص أقوياء يمكنه صناعة 48000 دبوس في اليوم، أي ما يعادل 4800 دبوس لكل عامل، وهذا يساوي 240 ضعف ما ينجزه العامل الذي يصنع الدبابيس بمفرده يوميا.
التخصص أمر شديد الفعالية، حتى إنه لا يقتصر فقط على الشركات، وإنما تجده بين الصناعات أيضا، بل حتى بين الدول. إن المزارع الذي يتخصص في زراعة محصول أو في تربية المواشي، ستحظى أرضه برعاية أفضل وستكون أكثر إنتاجا مما لو كان يتوجب عليه قضاء وقته في صناعة احتياجات المنزل أيضا. كما أن المصنعين يسعدهم جدا توفير السلع المنزلية وترك مسئولية إنتاج غذائهم على عاتق هذا المزارع، وعلى النحو نفسه، يأتي تخصص الدول في صورة تصدير السلع التي تنتجها على أفضل نحو ممكن، واستيراد السلع التي ينتجها الآخرون على نحو أفضل.
يرى سميث أن ازدياد الكفاءة لا ينتج عن مجرد المهارة المكتسبة من أداء المهمة نفسها لمرات كثيرة؛ فالتخصص ومقدار الوقت الأقل المستغرق في الانتقال من عملية إلى أخرى يتيحان للناس استخدام آلات متخصصة موفرة في العمل من أجل زيادة مخرجات العمل؛ ومن ثم «تتمثل تأثيرات تقسيم العمل فيما يبدو في تحسن القوى الإنتاجية للعمل على نحو أفضل، واتساع نطاق المهارة والبراعة والتقييم الذي يوجه به هذا التحسن أو ينفذ على أساسه».
2
يسخر تقسيم العمل تعاون الآلاف المؤلفة من البشر حتى في إنتاج أساسيات الحياة اليومية. يقول سميث:
لنأخذ المعطف الصوفي الذي يرتديه العامل العادي كمثال، فمهما كان هذا المعطف يبدو خشنا ورديئا، فإنه يمثل حصيلة العمل المشترك لعدد هائل من العمال: الراعي، وفارز الصوف، وممشطه ومنظفه، والصباغ، والغزال، والنساج، والقصار، والخياط، وغيرهم الكثيرين ممن تتضافر اختصاصاتهم بهدف اكتمال إنتاج حتى هذه السلعة المتواضعة.
Unknown page
3
إضافة إلى ذلك، فإن نقل الصوف من شأنه أن يتطلب أيضا عمل البحارة وصانعي السفن وصانعي الأشرعة، حتى إن المقصات التي يقص بها الصوف تحتاج صناعتها إلى عمال مناجم ومصاهر. إن القائمة تبدو لا نهائية، لكن هذا التعاون بين آلاف العمال المتخصصين الأكفاء هو مصدر الثروة العظيمة التي تتمتع بها الدول المتقدمة، وهو الذي يجعل بعض السلع كالمعاطف الصوفية متاحة حتى لأفقر الناس، وهو ما يعبر عنه سميث بأنه: «ثروة شاملة في متناول أدنى طبقات المجتمع».
4 (2-2) المكاسب المشتركة جراء التبادل
في الفصل الثاني - ذي الأهمية الجوهرية - من الكتاب، يشرح سميث كيف أن «التبادل المادي» ينشر منافع هذه الكفاءة الإنتاجية في أرجاء المجتمع. وهو يخمن بأن بعض المهارات الذهنية أو الجسدية المحددة في «بلد بدائي» قد تجعل أحد الأشخاص أفضل في صناعة السهام، وغيره أفضل في الصناعات المعدنية. ومن خلال التخصص في العمل، يمكن لصانع السهام أن ينتج عددا أكبر من السهام، وللحداد أن يصنع عددا أكبر من النصال، مقارنة بما يمكن أن يستخدمه كلاهما؛ ولهذا فإنهما يتبادلان السهام مقابل النصال، وهكذا يمتلك كل منهما مجموعة من الأدوات النافعة، ويكون كل منهما قد استفاد من كفاءة الآخر وإنتاجه التخصصي.
ويزعم سميث أن الميل إلى «التعاوض والمقايضة والتبادل» هو من الخصائص الطبيعية العامة في السلوك البشري، وخصوصا بسبب انتفاع كلا الطرفين منه. وفي الواقع، إن التبادل لن يحدث إذا كان أي من الطرفين يعتقد أنه سيخسر بسببه، وهذه ملاحظة حكيمة حاسمة؛ ففي عالم سميث، كما هو عالمنا، كان تبادل معظم السلع يتم مقابل المال، وليس مقابل سلع أخرى. وبما أن المال من الثروات، فيبدو أن البائع وحده كان هو من ينتفع من هذه العملية. لكن سميث يرينا أن المنفعة مشتركة؛ فعبر التبادل، يحصل كلا الطرفين على السلع التي يريدانها مقابل جهد أقل، بالمقارنة مع الجهد الذي قد يبذلانه في صنع هذه السلع لنفسيهما، فكلا الطرفين يصبح أكثر ثراء بفضل التبادل، أي إن الثروة، بعبارة أخرى، ليست ثابتة، وإنما هي «تتكون» عبر اتجار البشر، وهذه الفكرة كانت فكرة رائدة ومبتكرة في أيام سميث.
وهناك ملاحظة حكيمة أخرى مفادها أن التبادل يستمر في إفادة الطرفين، حتى وإن كان كل منهما يقترح المساومة ويقبلها كلية بما يصب في مصلحته الشخصية، دون الاعتناء بمصلحة الطرف الآخر. وإن ذلك لمن حسن الحظ؛ لأنه يتيح لنا الطريقة التي نستخدمها لتحفيز الآخرين على التخلي عن الأشياء التي نحتاجها، وهو ما يعبر عنه سميث بقوله الشهير:
إننا لا نتوقع من الجزار أو صانع الخمر أو الخباز أن يوفر لنا طعامنا على أساس رغبته في عمل الخير، وإنما على أساس اعتباراته المتعلقة بمصلحته الشخصية؛ وبذلك فإننا لا نتعامل مع إنسانيتهم، وإنما مع حب كل منهم لذاته، ولا نتحدث معهم أبدا عن احتياجاتنا الضرورية، وإنما عن المنافع التي تعود عليهم.
5
وعندما يتكلم سميث عن «حب الذات» أو «المصلحة الشخصية»، فإنه لا يعني «الطمع» أو «الأنانية»، وإنما يقصد المعنى الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر، أي ليس الاستعداد الكريه لتحقيق المكاسب عبر جعل الآخرين أسوأ حالا، وإنما الاعتناء بالحالة المعيشية للمرء على نحو مناسب ومقبول، وهو أمر طبيعي جدا وذو أهمية كبيرة للبشر، إلى درجة جعلت سميث يطلق عليه في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» مصطلح «الاهتمام بالنفس».
6
Unknown page
وفي هذا الكتاب نفسه، تجده يشدد على أن «التعاطف» (أو ما ندعوه بالمشاركة الوجدانية) مع الآخرين هو من الخصائص الملحوظة للبشرية، وأن العدل (وهو عدم الإضرار بالآخرين) يعتبر من قواعدها الأساسية. (2-3) الأسواق الأكثر اتساعا والمكاسب الأكبر
إن المنافع التي نحصل عليها من التبادل هي التي تدفعنا إلى التخصص؛ مما يؤدي إلى زيادة الفائض الذي يمكننا تبادله مع الآخرين. ويرى سميث أن المدى الذي يبلغه التخصص يتحدد بحسب حجم إمكانية حدوث التبادل، أي حجم «السوق»،
7
ف «البلدة الكبيرة» فحسب هي التي يمكن أن تزود العتالين بعدد كاف من الزبائن على سبيل المثال، وربما لا تتمكن المجتمعات المتناثرة من دعم حتى النجار أو البناء المتخصص، وحينها تجبر الناس على أداء المزيد من هذه المهام لأنفسهم.
هناك أمر واحد يعمل بصورة مؤكدة على توسيع السوق، وهو «المال»؛
8
فالحياة تصبح روتينية ومملة إذا تعين على صانع الخمر الجائع أن يبحث دائما عن خباز يشعر بالعطش، وهذا هو السبب في أننا نستخدم الوسيط المالي بشكل عام، لتبادل فائض الإنتاج مقابل المال، ثم تبادل المال مقابل ما نريده من المنتجات. (2-4) مؤشر القيمة
لكن سواء أدخل المال كوسيط أم لا، ما العامل الذي يحدد السعر الذي يتبادل مختلف السلع بموجبه؟ إن من الأمور التي حيرت سميث أن شيئا عديم النفع تماما (كالماس) يمتلك «قيمة تبادلية» عالية، بينما لا يمتلك شيء حيوي (كالماء) أي قيمة تقريبا. واليوم يمكننا حل هذا اللغز باستخدام نظرية المنفعة الحدية: فبما أن الماس نادر جدا، يمكن اعتبار أي ماسة إضافية نحصل عليها بمنزلة مكافأة عظيمة، وبما أن الماء متوفر على نحو غزير، فإن أي كوب إضافي من الماء لا يعد ذا منفعة كبيرة لنا. كما يمكننا حل اللغز أيضا عبر الاستعانة بتحليل العرض والطلب.
مما يؤسف له أن الأداة الأولى (نظرية المنفعة الحدية) لم تكن قد وجدت في أيام تأليف كتاب «ثروة الأمم»، كما لم يكن سميث قد أتقن فهم الأداة الثانية (تحليل العرض والطلب) في ذلك الحين؛ لذلك نجده يجهد نفسه في تحديد ما الذي يمنح منتجا ما قيمة معينة.
لقد بدا من الطبيعي في نظر سميث أنه في المجتمعات البدائية لا بد أن تعكس القيمة في الأصل مقدار «العمل» المبذول في إنتاج السلعة.
Unknown page
9
فنحن، في نهاية المطاف، نبذل «الكد والعناء» في صناعة المنتجات التي نبيعها، لا لشيء سوى أن نوفر على أنفسنا عناء صناعة المنتجات التي نشتريها، فليس هناك من معنى عند البائع والمشتري في شراء شيء يمكن صناعته بالقليل من الجهد الشخصي؛ ولهذا فإن السعر المثالي للتبادل يجب أن يعكس جهدا مساويا له.
ولهذا، إذا كان من السائد في مجتمع الصيد أن «يكلف قتل القندس من العمل عموما ضعفي العمل المبذول لقتل الغزال، فمن الطبيعي أن يحدث تبادل القندس مقابل غزالين، أو تساوي قيمة القندس قيمة غزالين».
10
ولا شك في أن سميث لاحظ أن أوجه العمل غير متساوية؛ فإحدى العمليات الإنتاجية قد تتطلب عملا أكثر جدا، أو قدرا أكبر من المهارة، أو مدة أطول من التدريب والخبرة، لكن هذه العوامل تؤخذ في الاعتبار «عبر الاتفاقات والمساومات في السوق».
11
ولقد تعرض هذا القسم من كتاب «ثروة الأمم» إلى الكثير من النقد بوصفه يؤصل ل «نظرية قيمة العمل»؛ مما أتاح لكارل ماركس الادعاء بأن عمل العامل يتعرض إلى سرقة دائمة من جانب أرباب العمل الرأسماليين. وإذا صح ذلك، فهذا يعني دون شك أن الجهد الذي بذله سميث في هذا القسم لم يسد للعالم أي صنيع.
إن ما أوردناه لا يعني أن سميث يذهب بنا حقا إلى نظرية قيمة العمل؛ فما يفعله في الواقع هو محاولة فهم ما نعتبره اليوم معيارا اقتصاديا أساسيا، وهو «التكاليف الإجمالية للإنتاج». ففي مجتمع الصيد، تكون هذه التكاليف في صورة عمل على نحو كامل تقريبا، لكننا تطورنا واجتزنا هذه المرحلة، حيث يمضي سميث إلى تحديد غيرها من «عوامل الإنتاج»، مثل الأرض ورأس المال، التي توظف في المنظومات الاقتصادية الأحدث، وهذه الفكرة أصبحت أيضا من المفاهيم الاقتصادية الأساسية في يومنا هذا. بعد ذلك، جاء سميث بمفهومي العرض والطلب، ولم يقتصر تحليله على تأثيراتهما على السعر، وإنما امتد أيضا إلى كيفية توجيههما لمنظومة الإنتاج والتوزيع بأكملها. إن هذا الطرح ريادي، وتطلب شرحه عدة فصول، ينبغي أن ينظر إليها باعتبارها كتلة واحدة؛ إذ تتتبع كيفية تطور المجتمع بعيدا عن اعتبار العمل المصدر الأساسي للقيمة.
12 (2-5) الأرض والعمل ورأس المال
إن الإنتاج الحديث بمختلف أنواعه يتطلب أشخاصا يؤدون العمل، وتجهيزات كالأدوات والآلات التي يحتاجها هؤلاء الأشخاص في عملهم، ومكانا يعملون فيه؛ ولهذا يمكن تقسيم تكاليف العمل الإجمالية بين «العوامل الأساسية الثلاثة للإنتاج»، كما يؤكد سميث.
Unknown page