وقال الدكتور صديق هيزلي: أقسم بالله إنه ليس لقلمك قطرة في هذه المقالة. - إن الذي كتبها إنسان مثلي أيضا. - من هو هذا الكاتب الفيلسوف الذي تلد قريحته هذه الحقائق الشعرية؟
فضحكت ليلى، وقالت: الحقيقة والشعر لا يجتمعان.
فقال الدكتور صديق هيزلي: في هذه المقالة اجتمعا وهنا العجب، فبالله من كتب هذه النبذة يا نجيب؟ - كتبها كاتب لا يعرفه أحد كاتبا وهو يوسف براق.
فقال سليم هيزلي: لا أستغرب أن تكون هذه النبذة من قلم يوسف؛ لأني توسمت من أحاديثه سعة العلم وحدة الذكاء، فلماذا لا ينشرها في إحدى المجلات؟ - يلوح لي أنه لا يهتم بنشرها، ولو لم أجدها بالصدفة عنده حين زرته أمس ما اطلعت عليها، ولما قرأتها أعجبت بها جدا، ورغبت إليه أن يأذن لي بنسخها فنسختها.
عند ذلك استأذنت ليلى من أخيها أن يريها الورقة، فتناولتها منه وجعلت تتلوها وحدها.
واسترسل القوم بالأحاديث المختلفة، وليلى لاهية بمطالعة المقالة، فقرأتها أولا وثانيا وثالثا، وهي تنعم النظر في كل جملة، ولم تكف عن القراءة، حتى جاء عمها بولس المراني وجلس إلى جانبها قائلا: هل تأذنين لي ببعض أسئلة يا عزيزتي ليلى؟
فاختلجت ليلى قليلا ظانة أنه سيباحثها بأمر لا تريده، فقالت له: بأي موضوع؟ - أود أن أسألك عن حقيقة الفتاة هيفاء التي كانت خادمة عندك، فقد سمعتك مرة تقولين: إنها فارة من منزل أمها؛ لأنها تريد أن تزوجها من رجل غني لا تريده، ثم إن الفتاة خرجت ذات صباح ولم تعد، فهل عرفت أين ذهبت؟ - كلا، وإنما رجحت أنها عادت إلى أمها، أو أن أمها عثرت عليها فأخذتها قسرا. - هل تعرفين أين تسكن أمها؟ - نعم كانت تسكن في منزل قريب منا في الشارع العباسي، وقد أرسلت من يسأل عن الفتاة هناك فوجد المنزل فارغا، لماذا تسأل عن هذه الفتاة؟ - لأمر يهم بعض الناس، هل أنت واثقة أن المرأة التي تصطحبها أمها؟ - لم تقل الفتاة: إنها ليست أمها، ولكن معاملتها لها تريب. - بماذا تريب؟ - فهمت من الفتاة أنها كانت ترغمها على معاشرة الرجل، وكان الرجل يتطاول على الفتاة؛ ولهذا نفرت منه، واضطرت أن تهرب من عند أمها. - هل تعرفين من هو هذا الرجل؟ - أتذكر أن الفتاة ذكرت اسمه فهيم بك رامح، ولكنها لا تعرف عنه شيئا سوى أنه غني جدا، وإنما نفرت منه لأنها أساءت الظن بمقصده.
شيء من التاريخ أيضا
بعد ارفضاض الساهرين من السهرة ذهب الدكتور صديق هيزلي وابن عمه سليم معا.
فقال صديق: هل لاحظت الليلة أمرا يا سليم؟ - ماذا؟ - في ليلى. - كانت صامتة مفكرة خلافا لعادتها، هل أعدت عليها الكرة؟ - في هذا الأسبوع خاطبها عمها بشأني كثيرا، فأصرت على الرفض مع أنها كانت فيما مضى لينة بعض اللين، فلا أدري ما الذي غير فكرها. - هل أنت واثق أن أباها وأخاها راضيان تمام الرضا؟ - لا ريب عندي بذلك، وقد صرح لي أبوها أنه يتمنى أن لا تعرف ليلى أحدا غيري ولا تحب سواي، وأكد لي أنه كل حين بعد آخر ينصح لها بالزواج مني، وكذلك أخوها نجيب لا يكل عن نصحها وهي لا تزال مكابرة؛ ولهذا كلفت عمها بولس أن يبحث معها ليكشف سر ما بها. - فماذا فهم بولس منها؟ - لم يستطع أن يفهم شيئا سوى أنها ترفض، ولما ألح عليها بتبيان السبب قالت: إنها لا تريد أن تتزوج، ولما جعل يعظها بأن الزواج لازم للفتاة نفرت منه، وقالت: إنها لا تقبل نصح أحد في أمر يهمها وحدها. - هل تظن يا صديق أن الفتاة تحب شخصا آخر؟ - لم يبق إلا هذا الظن؛ ولهذا سألتك إن كنت قد لاحظت أمرا الليلة. - لم ألاحظ إلا انقباضها خلافا لعادتها. - ومقالة يوسف براق؟ - نعم لاحظت أنها قرأتها طويلا، وهل هي تعرفه؟ - زار المنزل مرة واحدة فقط لأوائل قدومه على ما فهمت، وبعد ذلك كنت قد سمعت من نجيب أنه لم يزره بعدها قط مع أن نجيب كان يلح عليه بالزيارة فيعتذر. - وهل تظن أن هذه الزيارة كافية لإنشاء حب يشغل ليلى عن خاطب مثلك؟ - لا أدري إن كانت قد رأته بعد ذلك، والآن صرت أظن أن الذي وقاها من حادثة المركبة هو يوسف؛ لأنها لما سئلت عن الذي أنقذها كنت حاضرا فأنكرت معرفته، ولكني شعرت بلعثمة في كلامها واكفهرار في وجهها، وتلاوتها للنبذة الليلة شغلت بالي، ورجحت لي أنها تحب يوسف هذا، أفلا تقدر أن تستخرج شيئا من صدر يوسف أثناء حديثك معه؟ - سأفعل، ولكني لا أدري إن كنت أستطيع علم شيء منه؛ لأنه متحفظ جدا في كلامه، وليس عندي إلا طريقة واحدة للبحث معه. - ما هي؟ - هي أن أسأله صريحا في الأمر، وأرجح أنه يضطر أن يجيب ولو تلميحا؛ لأني أعرفه لا يكذب فأنا أستعين بصدقه على كشف سره. - حسن، أود منك يا سليم أن تبذل جهدك في كشف سره، ولا أظنك تبخل على ابن عمك بخدمة. - ما نحن أبناء عم يا صديق بل أخوان متعاونان، فثق أني لا أدخر جهدا، ولكن هب أن الظن صحيح وأن ليلى مولعة بيوسف وهو مولع بها، فماذا تفعل؟ - آه يا سليم لا أدري ماذا أفعل، ولكني أبذل جهدي في التفريق بينهما بأي وسيلة، وستكون بيني وبين يوسف براق حرب. - لا بأس من الحرب يا صديق وأنا عونك فيها، ولكن الحب ظافر. - ولكن الخصم الذي يحتفظ بمصلحته لا يسلم لخصمه إلا بحرب، وإلا فهو جبان وضعيف. - ولكن المصلحة شيء والحق شيء آخر، فإذا كانت ليلى تحب يوسف براق كان صاحب الحق، وكنت أنت مغتصبا. - صدقت ولكن الحق للقوة، فإذا استقويت عليه صرت صاحب الحق. - لا تقدر أن تستقوي عليه إلا بالحب، أفما تعلمت درسا من مقالته الليلة أن القلب الأقوى حبا أكثر جذبا؟ فإذا كان أقدر منك على استمالتها كان فائزا عليك، فبماذا تحاربه بغير الحب؟ - أنا لا أكترث بالنظريات بل بالعمل. - ليس الأمر نظريا، بل هو عملي محض، فإذا كانت ليلى مولعة بيوسف براق ولا تحب سواه، فماذا تفعل أنت؟ - أبذل جهدي في إسقاطه إلى الحضيض بل إلى العدم؛ حتى لا يبقى في الوجود لا يوسف ولا براق، فتضطر ليلى أن تقبل بي زوجا إذ لا يبقى لها حبيب. - وهل تتزوجها على غير حب؟ - أفعل. - أستغرب ذلك منك يا صديق وأنت رجل عصري متعلم، وتعلم أن الزواج بلا حب كالبيت بلا أساس، فلماذا تقدم على زواج كهذا لا تأمن مغبته؟ - لي فيه مصلحة كبيرة. - أهم من مصلحة الحب الزوجي؟ - قد تكون عندي أهم، على أني أؤمل أن تعود ليلى تحبني كما كانت تحبني قبلا، ولا سيما إذا خلا ذهنها ممن تحبه الآن.
Unknown page