الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
آدم الجديد
آدم الجديد
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
كان «حيدر أبو عبيد» تواقا أن يهب له الله غلاما من زوجته زنوبة الملواني التي تزوج بها منذ ثلاث سنوات.
وما كان زواجه عن حب وإنما بعد تفكير وتدبر وبإلحاح على أبيه؛ فقد كان يرجو أباه أن يخطب له، ولم يكن حيدر رهيف الفؤاد ولا كان تعلق بفتاة بعينها، ولا كان يعنيه أن تكون زوجه ذات جمال أو شيء من مال ولا أن تكون ذات رشاقة أو تكون هيفاء القوام.
كل ما كان يريده أن يتزوج. وحين فاتح أباه «عبيد الكيالي» في هذا الأمر فوجئ بأبيه يقول له بعد صمت قصير: انتظر حتى يختار ربنا إلى جواره أحد فتيان القرية.
وتولى الذهول حيدر: ما صلة زواجي يابا بموت واحد من فتيان القرية. - يكون مهرها نصف الفتاة البكر. - وإذا لم يمت أحد من فتيان القرية؟ - لا بد أن يموت. - متى؟ - حين يريد الرحمن الرحيم. - قد تمر سنوات. - ونحن ماذا وراءنا؟!
وأطرق حيدر لحظات ثم قال: وماذا نفعل إذا كانت زوجة الذي يموت عندها عيال وتضطر أو أضطر أنا أن أنفق عليهم من دم قلبي. - قد تكون بلا عيال. - إذن فقد تكون عقيما. - أو يكون الزوج هو العقيم. - إذن يابا أنت تريد أن تنتظر حتى يموت فتى من فتيان شقلبان، وأن يكون هذا الفتى عقيما. - لا يكثر على الله يا بني. - كثر خيرك يابا.
وانصرف حيدر عن أبيه، وراح يفكر وحده في هذا البخل الشديد الذي خلقه الله مع هذا الأب.
فهو شحيح بالسليقة حتى ليفكر إذا شرب كم يكلفه كوب الماء وهل يحتاج إليه كاملا أم يكتفي بنصفه.
ولم يستطع رغم هذا التقتير والشح على نفسه وعلى بنيه أن يجمع شيئا من المال يساوي العيشة الضنك التي يعيشها هو وابنه وابنتاه.
ذهب حيدر في ذلك اليوم إلى صديقه بيومي رمضان، وروى له الحوار الذي دار بينه وبين أبيه، وعجب أن بيومي لم يدهش، بل قال: إن فعل أبوك غير هذا فلا يكون عم عبيد الذي نعرفه. - لك حق، ولكن كيف استطاع أن يصل إلى هذا التفكير؟ المهم ما الحل؟ - لا حل إلا أن تعتمد على نفسك. - كيف؟ - اسرح معي. - ماذا أفعل؟ - ما أفعله. - يا أخي أنت تشتري إردبين ذرة أو قمحا أو شعيرا قبل موعد الحصاد بثمن بخس ممن ضاقت بهم الحياة واضطروا إلى مال قبل الحصاد، وتبيع ما تشتري بعد الحصاد وتكسب شيئا هائفا، ولا يكاد ما تكسبه يكفيك؛ ومع ذلك تريدني أن أسرح معك! - جرب حظك. - ومن أين لي برأس المال؟ - أي مبلغ. - أنت تعرف البير وغطاه. - أسلفك في العملية الأولى. - على بركة الله.
وحدث فعلا ما توقعه بيومي، وبدأ حيدر يكسب صبابات من المال استطاع في نهاية العام أن يكتنز منها عشرين جنيها. وخيل إليه أنه أصبح من الأثرياء؛ فعشرون جنيها كانت تعني شيئا ذا شأن؛ وخاصة لابن عبيد الكيالي.
قال: بيومي، ما رأيك؟ - الحمد لله. - ليس هذا ما أسألك فيه. - إذن ماذا تريد؟ - ألا تكفي هذه الجنيهات لتجعلني أتزوج؟ - ولم لا؟! على أن تختار فتاة فقيرة يريد أهلها أن يزوجوها لأي أحد مهما يكن فقيرا وأبوه عم عبيد الكيالي. - وأنا لا يهمني من تكون. وهل تتصور أن أكون ابن عمك عبيد الذي لا يجهل أحد بخله وأضع شروطا للزوجة التي تقبلني؟! - توكل على الله. - أتعرف واحدة؟ - أعرف. - انطق. - زنوبة. - بنت حميدة بائعة الفجل. - ما عيبها؟ - والله نعم الاختيار. ثم إن البنت أيضا ليست قبيحة قبحا يدعو إلى النفور. - على العكس، بيضاء وقوامها حلو. - على بركة الله. - هيا نذهب إلى أبيك ليخطبها لك. - وأبي ما شأنه بهذا. - إنه أبوك مهما كان شحيحا جلدة. - لو طلبت منه ذلك سيرفض طبعا. - قل له إنك ستدفع المهر من جيبك. - ولو. أليست ستعيش معنا في البيت وستكلفه المأكل والمشرب. لقد زوج خيرية وروحية قبل أن يبلغا السادسة عشرة ليتخلص من طعامهما وشربهما. - اسمع. - ماذا؟ - هيا بنا إلى خالتك حميدة مباشرة، وما فيه الخير يقدمه ربنا.
وفعلا قدم الله سبحانه الخير لحيدر، وقبلت حميدة زواجه من زنوبة، ولكنها توسلت إليه: اسمع يا حيدر، أنا وزنوبة ليس لنا رجل، وأنا والحمد لله أكسب طعامي ولا أطمع فيك، ولكني أرجوك أن تعيش معنا في البيت حتى لا أصبح وحدي إذا أخذت أنت بنتي الوحيدة.
وفكر حيدر قليلا. ولم لا؟! إنني بهذا سأكون قد أرضيت أبي كل الإرضاء. وأنا الآن عرفت طريقي بتسويق بضعة الأجولة من الحبوب، وأستطيع أن أنفق على نفسي وعلى زوجتي، وأمها أيضا إذا اقتضى الأمر. وحينئذ لن يجد أبي سببا في منعي من الزواج. - والله القول قولك يامه حميدة.
وذهب إلى أبيه، وقبل أن يكمل حديثه قال أبوه: ألم تجد إلا بنت حميدة.
وأكمل حيدر متغاضيا عن اعتراض أبيه: ومعي مهرها، وسنعيش في بيت أمها.
ولم يمهله أبوه بل سارع: والله ونعم الاختيار؛ خذوهم فقراء يغنكم الله. - أطال الله عمرك. - والفرح من سيدفع تكاليفه؟ - ولا فرح ولا يحزنون. ثلاث زجاجات شربات وكم نفر من الأعيان ودمتم. وأنا الذي سأشتري الشربات. وتم الزواج. •••
ومرت عليه ثلاث سنوات دون أن تنجب زنوبة له طفلا، وكان هو قد مرن على العمل في سوق الغلال، ولكن في كميات غاية في الهوان والضآلة؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يعيش حياة فيها كثير من الاقتصاد إذا أشفقنا أن نقول فيها كثير من الضيق.
ومع ذلك كان يتوق إلى طفل.
وشاء الخلاق العظيم أن يحقق له أمنيته، وحملت زنوبة. وربما كان مما يستحق الذكر أنها ولدت ولدها يوم مات جده عبيد وربما في نفس اللحظة. وصدق بيت شوقي العظيم الذي استوحاه من القرآن الكريم:
فقلت أحكامك حرنا لها
يا مخرج الحي من الميت
وفرح حيدر كل الفرح بالولد الذي رزق به، ولعله في خبيئة نفسه فرح أيضا بموت أبيه، ولكنه اضطر تحسبا للناس ونقدهم أن يلجم الفرحتين. وأقام لأبيه شبه مأتم، ولم تجرؤ واحدة من النسوان اللواتي حضرن ولادة ابنه أن تزغرد أو أن تبدي أي فرح بمجيء الغلام.
وهكذا قدم ابن حيدر البكر في مأتم جده قدوما صامتا لا يجاوب فيه بكاء المولود زغاريد ذويه وصديقات أمه. •••
لم يجد حيدر اسما خيرا من عبد الشكور ليسمي به ابنه؛ وكيف لا يشكر الله وقد ورث خمسمائة جنيه عن أبيه ورزق بابنه البكر في يوم واحد.
الفصل الثاني
أوشك الجيش الألماني أن يدخل مصر حين وصل العلمين. وراحت الجيوش الإنجليزية تجمع أوراقها.
وفجأة انقلبت المعارك انقلابا تاما لصالح الجيش البريطاني، وتشتت الجيش الألماني بددا في الصحراء، وأصبح هم الجنود الألمان الباقين على وجه الحياة من الجيش الألماني أن يهربوا من الأسر الإنجليزي.
وانتشر من الجنود الألمان في قرى الدلتا، وكان من نصيب شقلبان جنديان من الألمان؛ هما مارك وهوفمان، وكان مارك يجيد الإنجليزية، ولم يكن في شقلبان أحد يستطيع أن يكمل جملة إنجليزية إلا عبد الشكور، الذي كان قد وصل إلى السنة الثانية من التجارة المتوسطة، التي دخلها بعد جهد جهيد مع والده حيدر، الذي كان يصر أن يخرجه من المدارس بعد الابتدائية ورفض كل الرفض أن ينتسب إلى الدراسة الثانوية. - والله لا يمكن. - يابا أنا لا أمل لي في الحياة إلا أن أحصل على شهادة جامعية. - كنت ابن من أنت حتى تنال شهادة جامعية؟! - أقل مني حصلوا عليها. - آباؤهم كانوا يطيقون. - ادفع لي المصاريف وأنا سأعمل وأعيش. - هذا كلام؛ حتى إذا دخلت الفاس في الراس أصبحت مضطرا أن أتكفل أنا بكل شيء. وكان بيومي رمضان حاضرا فإذا هو يصيح فجأة: تاهت ووجدناها.
ونظر حيدر إليه في لهفة، وأكمل بيومي: تدخل التجارة المتوسطة.
قال حيدر: ولو أنها ستكلفني إنما لا بأس، وأمري إلى الله.
وقال عبد الشكور: أمري أنا إلى الله.
وهكذا لم تجد القرية إلا عبد الشكور ليرطن مع الأجنبيين اللذين قدما إليها وهما في ملابس رثة وذقنين متطاولين، واستطاع عبد الشكور أن يفهم عن مارك الذي يتقن الإنجليزية كل الاتقان إنهما هاربان من موقعة العلمين، وأنهما سارا على ساحل البحر مستعينين بالزاد الذي صحباه من جيشهما، وحين بلغا الإسكندرية حرصا أن يختبئا في النهار ويسيرا في الليل، حتى وصلا إلى الطريق المؤدي إلى مديرية البحيرة، فراحا يتنقلان بين القرى موغلين في الدلتا، واتفقا على أن يبتعدا عن الإسكندرية ما أطاقا البعد؛ حتى لا تعثر عليهما القوات الإنجليزية. وفهم عبد الشكور عنهما أن القرى جميعها كانت ترحب بهما حين يعلم أهلوها أنهما من جيش هتلر، الذي كان يمثل عند الغالبية العظمى من المصريين الخلاص من الاحتلال البريطاني البغيض.
وطلب أعيان شقلبان إلى عبد الشكور أن يلح عليهما أن يقيما عندهم عندما علموا أن مارك نجار وأن هوفمان ميكانيكي كهربائي. وقد تداول الأعيان فيما بينهم وانتهى رأيهم إلى هذا الطلب، الذين أرادوا من عبد الشكور أن يبلغه للهاربين. وقد ارتأى هؤلاء الأعيان أنهم أولا سيكرمون جنديين من جنود هتلر، وثانيا سينتفعون بخبيرين في النجارة وإصلاح ماكينات الري والدراس. ورحب الجنديان بهذا العرض.
ولم يتصور أحد من القرية المدى البعيد الذي سيؤثر به بقاء هذين اللاجئين في حياة عبد الشكور جميعها. •••
كان عبد الشكور رغم تلقيه الدراسة بمدرسة التجارة المتوسطة يقيم في البلدة؛ فقد رأى أبوه أن هذا وإن يكن مجهدا لولده إلا أنه أكثر وفرا من أن يستأجر له حجرة في المدينة. وهكذا كان عبد الشكور يصحو قبل الفجر ليكون بالمدرسة في موعده.
وهكذا أيضا كان فقر أبيه المدقع سببا فيما صار إليه أمره بعد ذلك.
وفي لحظة من اللحظات التي تصيب الإنسان من أحلام اليقظة حلم عبد الشكور أن يعقد صداقة بينه وبين مارك ويتعلم منه الإنجليزية والألمانية. ولماذا لا؟ إنه يعلم أنه حتى بعد انتهائه من دراسته لن يجد الوظيفة في انتظاره، وقد كان يرى حملة الشهادات حيارى ضائعين بشهاداتهم لا يجدون وظيفة؛ فقد كانت أزمة الوظائف في تلك السنين طاحنة (شأنها دائما) فكيف به وهو لا يحمل إلا مؤهلا متوسطا.
أصبح عبد الشكور موقنا كل اليقين ألا أمل له في الحياة إلا أن يتقن لغة، ويزداد الأمل إن أصبحت اللغة لغتين.
أنا لا أملك مالا، ولا بد أن مارك سيحتاج إلى مال. أبي بالكاد وبتجارته المتهافتة يقيم أود بيتنا؛ على الرغم من أنه لا ولد له غيري. وأنا لا أحصل على حلة إلا بطلوع الروح. ولكن انتظر يا ولد يا عبد الشكور؛ مارك لن يحتاج إلى مال فقط، وأغلب الأمر أن القرية بما تحتاجه من الأعمال فيها ستمكن الهاربين من الحياة؛ إنما مارك يحتاج إلى من يكلمه؛ فلا شك أنه وصديقه قد استنفدا بينهما كل حديث.
لأعقد بيني وبينه صداقة وطيدة، وأتفق معه أن أعلمه اللغة العربية ويعلمني هو الإنجليزية التي يتقنها ولا أدري لماذا؛ مع أن الألمانية هي لغته الأصلية. •••
في خبث لا نظير له أراده له الخلاق الفعال بدأ عبد الشكور يرمي شباكه على مارك ولا يحرم منها هوفمان. وما لبث أن عرف أن مارك من أم إنجليزية؛ وفهم سر اتقانه الإنجليزية.
وبدأت خطة عبد الشكور تأخذ طريقها إلى الوجود.
وليس أثمن من سمير أو أنيس، مجرد أنيس في وحشة الغربة بين قوم لا يفهمون عنك ولا تفهم عنهم. وقد رحب الغريبان كل الترحيب بإقبال عبد الشكور عليهما.
وبدأ يعلمهما العربية، وراح مارك يعلمه الإنجليزية، وراح هوفمان يعلمه الألمانية؛ وهكذا لم يضطر أن ينتظر حتى يتقن الإنجليزية ليبدأ بعدها في الألمانية، بل درسهما في وقت معا.
وقد وجد فيما يدرس جميعه أمله الأكبر في الحياة، وبجهد المستميت راح يذاكر.
ولكن لا بد له من كتب في اللغتين، ولم يجرؤ أن يفكر في أن يطلب إلى أبيه ثمنها وهو اليوم قد أتم دراسته ومكث بالقرية ينتظر فرج الله.
وراح أبوه يتوسل إلى كل ذي أكرومة أن يجد لابنه وظيفة، ولكن هيهات. وعبد الشكور يريد ثمن الكتب. - آبا. - مالك؟ - ماذا عليك إذا جعلتني أساعدك في البيع والشراء؟ - وهل ترى العمل متسعا حتى أحتاج إلى من يساعدني؟! - إذا عملت معك اتسع العمل. - وماذا تريد مني؟ - ثمن الصفقة الأولى. - أأدفع لك لتزاحمني في رزقي. - وأين سأذهب بالمال؟ إني سأدفع لك نصف ما أكسب. - وتنافسني في السوق. - ما رأيك أن تستمر أنت في تجارة الحبوب وأتخصص أنا في تجارة القطن. - ومن أين لك بثمنه؟ - أنا لا أريد منك إلا عربون العملية الأولى، وفي السمسرة متسع للجميع. - لا بأس. على أن أشاركك في المكسب. - طبعا.
وكان عبد الشكور أذكى من أبيه؛ فكان يشتري القطن من الموزعين بثمن، بخس ولا ينتظر حتى موعد المحصول، وإنما يبيع ما اشترى بأسرع ما يمكن إلى أثرياء القرية الذين كان يطمعهم في رخص الثمن بزيادة الكمية التي سيبيعونها في الموسم، مدركين أنه كلما كبرت الكمية ارتفع السعر الذي سيعرض عليهم.
ولم يكن عبد الشكور أمينا في محاسبة أبيه؛ فاستطاع أن يشتري الكتب التي يحتاجها بجهد جهيد. ولكن الخطة نجحت على كل حال، على الأقل بالنسبة لعبد الشكور؛ فهو لم يكن يطمح إلى الغنى - لا قدر الله - في هذه المرحلة من حياته؛ وإنما كان أمله كله أن يتقن اللغتين حديثا وكتابة.
وتم له ما أراد في سنوات لم يكن فيها يضيع لحظة متاحة أو غير متاحة لدراسة اللغتين، وأتقن أيضا معهما تجارة القطن والسمسرة فيه.
بل تعلم شيئا لم يخطر له ببال؛ فقد علمه الألمانيان المتحضران آداب المائدة وكيف يستعمل أدواتها بمهارة لا تتأتى إلا لمن كان في بيتهم مائدة وخدم أيضا.
وحين أحس أنه قادر أن يواجه الحياة وفي لسانه ويده هاتان اللغتان مع خبرة التجارة قال لأبيه: أنا يابا سأسافر إلى مصر. - ماذا تعمل بها؟ - أبحث عن وظيفة. - ومن أين لك وأنا لم أترك ثقب إبرة إلا حاولت فيه أن أجد لك عملا، ولكن الطرق جميعها سدت أمامي وأمامك. - أنا أعرف طريقي. - وطبعا تريد مني مالا. - معي. - من أين؟ - مما كسبته في هذه السنوات. - إذن لن تكلفني شيئا. - على الإطلاق. - مع السلامة. - سلمك الله. - ولكن اسمع! - أمرك. - حين تستقر أرسل إلي بعنوانك حتى أعرف طريقك؛ فأنا ليس لي غيرك، ويعلم الله يا بني أني ما بخلت عليك، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة. - أعلم يا أبي. ولولا أنك ساعدتني ما استطعت أن أجمع القرشين اللذين سأذهب بهما إلى مصر. - كان أبي بخيلا، ولكني لم أكن معك بخيلا، وإنما كنت عاجزا. - يابا أنا أعرف ذلك. - أنا لا أريد منك شيئا حتى يفتحها الله عليك. كل ما أريد منك ألا تحمل معك في سفرك وغربتك غضبا علي؛ فالله وحده يعلم كم أحبك؛ فأنت كل أملي في الحياة، ولا أعيش إلا لك. - يابا أنت لا تحتاج إلى هذا الحديث. وسترى حين يكرمني الله كيف سأرد لك المعروف. - أنا لم أمنعك من الدراسة الجامعية بخلا وإنما عجزا. - أعلم يا أبي. وأنت لا تحتاج إلى هذا الكلام. •••
وحين أخبر عبد الشكور مارك وهوفمان بانتوائه السفر قال مارك: متى؟ - في أقرب وقت.
والتفت مارك إلى هوفمان وقال له: هوفمان، إننا الآن معنا ثمن تذاكر الطائرة. - نعم. - فما بقاؤنا؟ - وماذا تريد أن تفعل؟ - نسافر مع عبد الشكور. - وماذا نفعل؟ - نذهب إلى السفارة الألمانية وهي كفيلة بأن تعيدنا إلى ألمانيا. - أي ألمانيا، الشرقية أم الغربية؟ - الغربية. - ألا تخشى أن يقبض علينا الإنجليز؟ - وماذا يصنعون بنا؟! الحرب انتهت، وتم تقسيم ألمانيا، واستقرت الأمور. - فإن جرت الأمور بما لا نريد؟ - إذا كنا وجدنا رزقنا في شقلبان فمن المؤكد إننا لن يصعب علينا أن نجد رزقنا في محلات النجارة والميكانيكا والكهرباء في القاهرة.
وقال هوفمان لعبد الشكور: ما رأيك؟ - الفكرة جيدة. - أترى ذلك؟
وقال عبد الشكور: نستأجر ثلاثتنا حجرة في القاهرة، ونعيش معا حتى تجدا وسيلة للسفر أو تجدا عملا. - وأنت ماذا ستفعل؟ - لا تخافا علي أنا أعرف طريقي كل المعرفة. - متى نسافر؟ - أليست النقود جاهزة. - طبعا. - نسافر غدا في الفجر. - وهو كذلك. - وهو كذلك.
الفصل الثالث
كان وجود أماكن للسكنى في القاهرة أيسر شيء جهدا.
فما أسرع ما استأجروا شقة ذات غرفتين وحمام ومطبخ بجنيهين في الشهر. وفي اليوم التالي نزل ثلاثتهم؛ الأجنبيان إلى السفارة، أما عبد الشكور فقد كان يعرف وجهته كل المعرفة. •••
ذهب إلى بنك الاقتصاد والتوفير وسأل أول ساع واجهه: أريد أن ألقى المدير.
نظر الساعي بازدراء إلى ملابسه وهيئته ولم يملك إلا أن يقول له: المدير مرة واحدة! - إن كان على مرتين لا مانع.
وضحك الساعي معجبا بسرعة بديهته: فيم تريده؟ - لو كنت طلبت مقابلتك لكان من الطبيعي أن تسألني. - واضح أنك فصيح. - وهل يمنع هذا من مقابلة المدير؟
وأشار الساعي: آخر باب على اليمين تجد السكرتير، وأنت وحظك.
قال له السكرتير: وفيم تريده؟ - إنه مدير بنك، ومفروض أنه يقابل أي طالب للمقابلة. - واضح من مظهرك أنك لست صاحب حساب أو صلة بالبنوك. - وهل يمنع هذا أن تعود مقابلتي للمدير بنفع على البنك؟ - لا فائدة من مناظرتك. ما اسمك؟ - عبد الشكور حيدر. - وعبد الشكور أيضا! - اسم فيه الشكر مقدما قبل أن يقدم سامعه ما يحتاج الشكر. - حسنا، حسنا، انتظر.
ودخل السكرتير إلى المدير: شخص غريب يريد مقابلتك. - وما الغرابة فيه؟ - ملبس متهالك وذكاء واضح. - ما اسمه؟ - عبد الشكور. - فقط؟ - حيدر. - لحسن حظي أنني ليس عندي ما يشغلني الآن، هاته نتسلى عليه.
ودخل عبد الشكور ليلقى صبحي حسان بك مدير البنك. - أهلا يا بني. - أهلا بسعادتك. - اقعد. - شكرا، أطال الله عمرك. - ماذا أستطيع أن أقدم لك؟
وفي سرعة حاسمة أجاب عبد الشكور: وظيفة. - بحالها! - بأي حال لها؟ - ولماذا أوظفك؟ - أؤكد لسعادتك أنك ستوظفني. - واضح أنك تعرف ما تريده تماما. - وأعرف أيضا أنني جدير بأن أحققه. - عجيبة! - وأين العجب؟ - أنا لا أعرفك، وهيئتك لا تشجع على التفاؤل، وأنا لا أعرف مؤهلاتك التي يبدو عليك أنك مطمئن إليها كل الاطمئنان؛ ومع كل هذا الغرور منك أشعر بميل نحوك. - هذا أول الطريق إلى آمالي. - بعض الناس ينعم الله عليهم بملكة الحضور. - قرأت يا سعادة البك إنهم أجروا إحصاء واسعا في أمريكا ثبت منه أن الناس جميعا متساوون في السعادة والشقاء، وأن كل إنسان ينال قسطا من السعادة قدر ما ينال الآخر، ومن الشقاء مثل ما يصاب به الآخر. وأسباب الشقاء عندي واضحة؛ فليس غريبا أن أملك قدرها من وسائل النعمة. - اشرح أكثر. - إذا نال إنسان السعادة الوافرة في جانب واجهه القدر نفسه من الشقاء في جانب آخر من حياته؛ بحيث تكون النتيجة النهائية أن يصبح الجميع متساوين فيما يحصلون عليه من الهناء والشقاء. - فهمت ما تعني. هل تؤمن بالله؟ - الموقف الذي أنا فيه الآن يحتم على أن أقول: كل الإيمان. - لماذا؟ - لأنني أسعى جاهدا أن أبلغ رضاءك علي. - وكيف عرفت أنني أرضى بإيمانك؟ - منصبك وما أنت فيه من أبهة. - وإذا كان يرضيني أن أعرف حقيقة إيمانك. - لا أملك أمامك إلا أن أقول: نعم، إني مؤمن. - أتقول الحق؟ - أقول ما يرضيك. - لا فائدة أن أصل معك إلى حقيقة إيمانك. - ولماذا لا تكتفي سعادتك مؤقتا بظاهر الأمر مني؟ - ماذا رماك علي؟ - ما يذكره الناس والصحف عنك. - مثل ماذا؟ - مثل أنك تسلمت هذا البنك وهو في طريقه إلى الانهيار الكامل فجعلت منه مؤسسة من أكبر المؤسسات الاقتصادية في الشرق أجمع. - أهذا المديح من باب المحاولة المستميتة التي تبذلها لإرضائي. - ربما كان هذا، ولكنني في الوقت نفسه أردد ما سمعت. - أتتصور أنني بهذا الحوار سأعينك؟ - لا بأس أن أحاول. - أنت تعرف لا شك أن باب التوظيف مقفل تماما. - ومع هذا قصدت إليك. - هل كل ما في جعبتك هذا الحديث الواضح الإصرار. - لو كان هذا كل ما أملك ما تركت قريتي وقصدت إليك دون كل الأشخاص الآخرين ذوي النفوذ. - هل تملك شيئا في قريتك هذه؟ - كنت فيها أحصل على لقمتي دون ملبس. - فأنت إذن ... - أفقر من الفقر. - واضح. - إن ما أقوله لسعادتك غير خاف عليك بحكم مظهري، حتى إذا استطعت أن أتغلب على هذا المظهر فلن أذكر هذا الإنسان حتى آخر يوم في حياتي. - ماذا كنت تعمل في القرية؟ - سمسار قطن. - وأبوك هل هو على قيد الحياة؟ - سمسار حبوب يحصل لي ولأمي ولنفسه على ما يسد الرمق بجهد جهيد. - أهذه مؤهلاتك؟ - سعادتك حتى الآن لم تسألني عن مؤهلاتي. - وها أنا ذا أسأل. - تجارة متوسطة. - التجارة العليا لا يحصل صاحبها على وظيفة عندنا أو عند غيرنا إلا بواسطة لا تقاوم، فما بالك بالمتوسطة! - لو كانت هذه الشهادة هي كل مؤهلاتي ما تجرأت أن أخطو عتبة هذا البنك. - ماذا عندك. - إجادة تامة للغة الإنجليزية لا يصل إليها خريج جامعة في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب. - فقط؟ - ونفس الإجادة للغة الألمانية مع خبرة ستلمسها إذا عينتني بشئون القطن وبالسوق عامة. - خبرة السوق وفهمناها، ولكن من أين لك باللغتين؟ - هذه من بين المقومات التي تكون حظي من السعادة. - ألغزت فأفصح. - مصادر تعلمي لا أظنها تهم سعادتك، وإنما الذي أعتقد أنه يعنيك هو النتيجة. - والمصدر أيضا. - مصيري أن أرويه لسعادتك في يوم من الأيام. - ومن أين علمت أنني سأراك بعد اليوم؟ - طول حوارك معي على هوان مظهري، إلى جانب شيء آخر أخاف أن أذكره. - بل اذكره. - ثقتي بنفسي. - أهو نوع من الغرور مرة ثانية؟ - بل هو اطمئنان أن بنكا كالذي تديره يحتاج إلى مؤهلاتي؛ وخاصة إذا أضفنا إلى ذلك ما عرف عنك من حرص على نجاح المؤسسة التي تعمل بها.
وفجأة قلب صبحي بك حسان النقاش من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية التي يتقنها، وأجرى لعبد الشكور امتحانا عسيرا في إجادة اللغة الإنجليزية انتهى منه بأن قال له بالعربية: إن كنت تجيد الألمانية إجادتك للإنجليزية فإنك عملة نادرة. - أستطيع مؤقتا أن أقول لسيادتك إنني تعلمتها عن ألمان، أما كيف كان ذلك فأرجو أن تتركه سعادتك للأيام. - أظن أن من حقك الآن أن تتكلم عن الأيام الآتية. - إذن ... - لقد عينتك، وسأعرف خبرتك في القطن من الممارسة. - أتسمح لي بشيء، على شرط ألا تتمنع. - ماذا تريد أن تقول؟ - إنه ليس قولا، بل إنه عمل.
وقفز عبد الشكور فجأة من كرسيه واختطف يد صبحي وقبلها؛ الأمر الذي تم في لحظات وامضة لم تعط أي فرصة لصبحي أن يتأبى أو يمنع موظفه الجديد عما صنعه.
الفصل الرابع
تمكن الهاربان الألمانيان من الحصول على أوراق تسمح لهما بالعودة إلى ألمانيا، وطلب إليهما عبد الشكور أن يكتبا له عن عنوانيهما بمجرد وصولهما إليها.
ولم يكن أحد منهما يعرف أين سيستقر به المقام، كما كانا يجهلان ما بقي من أسرتيهما على قيد الحياة، فقال مارك لعبد الشكور: سأكتب إليك بمجرد وصولي إلى الأرض الألمانية.
ثم التفت إلى هوفمان قائلا: وأنت يا هوفمان ألا تنوي أن تفعل ذلك. - بالطبع، ولكن هل تنوي يا عبد الشكور البقاء في هذا البيت بعد أن أصبحت صاحب وظيفة. - المؤكد أنني سأنتظر أخباركما هنا حتى أعرف العناوين التي أراسلكما عليها.
وقال هوفمان: إننا سنطلعك الآن على سرنا الذي أخفيناه عليك طوال هذه السنوات. - ألكما سر؟ - كلانا مهندس متخرج في أعظم كلية في ألمانيا كلها، فلا تعجب إذا جاءك منا أخبار تفيد أننا نعمل في وظائف غاية في الأهمية.
وأكمل مارك: بالطبع ألمانيا اليوم تحتاج أكثر ما تحتاج إلى المهندسين بعد أن سحقت الحرب مدنها. - هل تعلمان إن كانت أسرتيكما في ألمانيا الشرقية أم الغربية؟
وقال مارك: الأمر الذي لا شك فيه أن أسرتينا في ألمانيا الغربية، وسنزداد وثوقا من هذا حين نصل إلى هناك. - هل أنتما متزوجان؟ - كان لكل منا فتاة لا شك أنها تزوجت الآن.
وأكمل مارك: أنت تعلم طبعا أن أخبار أهلنا في ألمانيا الآن خافية عنا تماما، وسنكتب لك بالتفصيل عند عودتنا. - لم يخبرني أحدكما عمن ترك من أقارب هناك.
قال هوفمان: أنا ومارك كلانا تركنا أبوينا وأمينا على قيد الحياة، وأنا تركت مع أبوي أختين تصغراني، ومارك ترك أختا تصغره وأخا طفلا.
وقال مارك: انتظر أخبارنا كلها في أول خطاب نكتبه إليك. - إني منتظر.
وما هي إلا أيام قلائل حتى تمكن مارك وهوفمان من مغادرة مصر. •••
كان عبد الشكور يعرف تماما ما هو صانعه بالبنك.
لقد حرص أول ما حرص على أن يوثق صلته بصبحي حتى يجعله يحس أنه لا يستطيع أن يستغني عنه.
وكانت أولى خطواته في هذا السبيل أن يجعل من نفسه شبه خادم لسكرتيره نبيل معوض.
وقد كان شابا في ربق العمر حاصلا على ليسانس الحقوق، وكان من قرية صبحي بك نفسها، بل إن أباه كان يعمل ناظر زراعة لمائة الفدان التي يملكها صبحي عن أبيه، وقد امتنعت مساحة الأرض على قانون الإصلاح الزراعي فلم تنتزع الحكومة شيئا من أرضه؛ مما جعل الثورة لا تعتبره من أعدائها. وقد أتاح له ذلك أن يرقى في البنك إلى منصبه هذا الذي يشغله؛ وخاصة أنه لم يكن من عائلة ذات مكانة ولا خطر؛ مما يسر له أن ينضم إلى منظمات الثورة، ويظهر غلواء في تأييدها والهتاف لقائدها الأول ثم لقائدها الثاني؛ مما جعله من أهل الولاء والكفاءة في وقت معا؛ الأمر الذي لم يتيسر إلا لقلة نادرة في هذه الأيام. أما نبيل فلم يكن أبوه يملك إلا خمسة أفدنة، استطاع بها وبعون من صبحي وأبيه أن يكمل تعليم نبيل في كلية الحقوق، عاجزا بضآلتها في الوقت نفسه أن يعلم ابنيه الآخرين مرسي وعيسى، اللذين لم يكن أمامهما إلا أن يعملا فلاحين في أرض صبحي بك، وقد تمكن كلاهما من أن يحصل على خمسة الأفدنة مما وزعتها الثورة من الأرض التي استولت عليها. وقد نالا ما نالا من أرض الغني الكبير في قريتهم متولي باشا خطاب، الذي نال الباشاوية حين تبرع للمشاريع الخيرية بخمسة آلاف جنيه في عهد الباشاوات.
عرف عبد الشكور كل شيء عن نبيل معوض من ساعي مكتب المدير حسنين عبد المولى.
وقد عرف منه أيضا في دعوة الغداء التي دعاه إليها من أول مرتب يحصل عليه من البنك أن صبحي بك متزوج من ابنة عمه صافيناز هانم عبد الموجود، ذات الأم التركية التي لا يعرف حسنين اسمها الذي لم يسع إلى معرفته؛ فالأم قد تركت الحياة قبل أن يتزوج صبحي ابن الفلاحين من ابنتها.
وانتظر عبد الشكور أن يصل إلى الخوافي من أخبار صبحي حين يوثق صلته بنبيل؛ الأمر الذي أعد له كل الإعداد؛ وخاصة حين أبلغه حسنين أن نبيل يحب الفتيات الجميلات، أو غير الجميلات إن لم يتيسر له غيرهن.
وقد وجد عبد الشكور منفذه إلى نبيل، وترك للأيام أن تلج به إلى هذا المنفذ. •••
كانت وظيفة عبد الشكور في قسم الأقطان، وقد أراد صبحي أن يرى مقدار كفاءته.
وانقضت بضعة أسابيع، وبدأ موسم شراء الأقطان، وتحرى عبد الشكور أن يبتعد في مشتريات البنك عن شقلبان؛ حتى لا يرى سبيلا إلى أبيه، بل تحرى أن يبتعد عن المركز جميعا الذي يعرف أغلب أهله ويعرفونه؛ فقد كان حريصا أن يقطع ما بينه وبين هذه الأيام بكل ما وسعه من جهد.
بدأ عبد الشكور جهاده الوظيفي في الصعيد، وكان هذا أمرا طبيعيا؛ فقد كان موسم القطن يبدأ في الصعيد قبل الوجه البحري بفترة طويلة. وقد استطاع بسابق خبرته في الصفقات ضئيلة الشأن أن يكون ماهرا غاية المهارة في عقد الصفقات الكبيرة، واضعا في الحسبان أن أكبر مالك لا تزيد أرضه عن مائتي فدان بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.
وقد استطاع عبد الشكور أن يثبت لصبحي نجاحه الفائق في عقد الصفقات، فكان أكثر زملائه نشاطا.
وكان يراعي في أول الأمر أن يكون صادقا مع البنك، متلمسا سرقة المشترى في السمسرة التي حرص ألا يعلم عنها البنك شيئا؛ حتى إذا انتهى من الصعيد انتقل إلى الدلتا في نشاط منقطع النظير؛ مما عاد على البنك بمكاسب لم يحققها البنك في هذا المضمار من قبل؛ الأمر الذي وفر لعبد الشكور قدرا من المال اعتبره هو في البداية جديرا بكل احترام وإجلال؛ فإن كمية النقود التي أتيحت له لم يسبق له أن رآها بله أن يملكها.
كانت أنباء صديقيه قد وصلت إليه، وأصبح قادرا أن يستأجر شقة صغيرة كل الصغر في حي الزمالك، بإيجار لو سمع به أبوه لأصابته سكتة قلبية؛ فقد كان يدفع عشرة جنيهات إيجارا للشقة التي كانت تتكون من غرفة نوم واحدة وغرفة للطعام وصالة صغيرة، وحمام لولا صاحب البيت ما عرف عبد الشكور كيف يتعامل معه.
وكانت الشقة خالية فنقل إليها سريره المتهالك وكرسيين أثارا مع السرير سخرية البواب في العمارة الجديدة.
كان لا بد أن يؤثث الشقة الجديدة بما يليق بأناقتها وفخامة العمارة التي تحتويها. وفي هذا التأثيث عرف طريقه إلى نبيل. - أجرت شقة بالزمالك. - الزمالك مرة واحدة. - إن لم يكن السكن جميلا فما قيمة حياة الإنسان. - كم إيجارها؟ - ولا يهمك. المهم أريد أن أؤثثها، وليس لي إلا أنت لتشتري لها أثاثا يبدو لائقا بالحي ويكون في الوقت نفسه ملائما لعبد الشكور. - أي عبد الشكور تقصد؛ الذي رأيته قبل أن يعين أم الذي أجر شقة في الزمالك؟ - كل ما أرجوه منك أن تنسى عبد الشكور الذي كنت من القلة النادرة الذين رأوه بمصر قبل التعيين. - طبعا أنت تقصد بمصر القاهرة. - الذين عرفوني من بلدتنا وما حول بلدتنا لن يروني أبدا على كل حال. - وأبوك وأمك. - يكفيهما أنني وفرت عليهما اللقمة التي كنت أقتطعها من قوتهما. - كنت أظن نفسي عاقا لأنني لا أزور أهلي وأكتفي برؤية أبي حين يأتي لمحاسبة صبحي بك! - كن وفيا لنفسك أولا، أما الآخرون فعليهم أن يدبروا أمر أنفسهم. - ألم يعرف أبوك أنك عينت وأنك استأجرت شقة في الزمالك؟ - ولماذا يعرف؟ - ألم يعرف على الأقل إن كنت على قيد الحياة أم لحقت بالرفيق الأعلى؟ - المؤكد أنه يعلم أنني لم أمت وإلا حملت إليه ليتولى دفني. - واضح أنك أرحت نفسك تماما. - لا. اطمئن. المهم قل لي ماذا ستفعل معي في مسألة الأثاث؟ - الأثاث أمره هين. - كيف؟ - عندنا في البنك قسم خاص بشراء احتياجات البنك في هذا المضمار، ورئيس هذا القسم حمدي خميس، وهو الذي يشتري ما يحتاجه صبحي من أثاث. - يا نهار أسود! وما لي أنا لصبحي بك وما يشتريه من أثاث. لو اشترى حمدي مثلما يشتري لصبحي بك لما أكمل ما معي ثمن كرسي واحد للشقة. - على مهلك، على مهلك، إن كل العاملين في البنك يلجئون إليه، وخبرته بالأثاث الرخيص أعظم من خبرته في الأثاث الغالي. - وصبحي بك. - إنه يشتري له ما يحتاجه المطبخ والخدم، أما أثاث صبحي بك فتشتريه صافيناز هانم التي تختار دائما أغلى الأثاث مما لا نعرفه ولا نعرف أسماء الماركات التي ينتسب إليها. - هل صافيناز هانم مسرفة؟ - مصيرك ترى حساب صبحي بك بالبنك لتعلم أن دخله لا يكفي طلبات زوجته وحدها. - والأولاد؟ - المهم عند صافيناز هانم نفسها أولا ولبسها وأثاث بينها والولائم التي تقيمها. - والأولاد؟ - كلاهما أيضا مسرف وإنما في حدود مطاقة بالنسبة لأبيهما. - عرفت أن عنده ولدا وبنتا. - الولد في السادسة عشرة، والبنت في الرابعة عشرة. - اسم الولد رأفت، أظن. - على اسم خال صافيناز هانم التركي. - الاسم مشترك، لا تعرف إن كان اسم أنثى أو اسم رجل. - لا يهم، المهم أنه اسم تركي. - اسم البنت سمعته ولكني لم أستطع أن أحفظه. - هان زاده، على اسم ستها من أمها طبعا.
سرح عبد الشكور لحظات. واضح أن صافيناز هانم هي العنصر الأساسي في بيت صبحي بك، وواضح أيضا أنها خاربة بيت زوجها. وهذه ماذا أصنع لها؟ لا بد أنني واجد لها سكة، وحين أجدها تكون أهم طريق لصبحي. ولو أنني من الآن أكاد أكون قد عرفت أحسن وسيلة لصبحي وصافيناز معا. لأطويه وأطويها تحت جناحي ما علي إلا أن ... وارتاع من صمته وسرحته المليئين بالضجيج على صوت نبيل يصيح به: هيه، أين ذهبت؟ - معك. - بجسمك. - وبعقلي. هل سترسلني إلى حمدي خميس؟ - بل يأتي هو إليك. إنك في مكتب المدير، وأنا أريد أن تكون شقتك عظيمة؛ فأنا أعتبرها كشقتي تماما.
وفهم عبد الشكور الإشارة، وفرح بها كل الفرح، وأكمل نبيل: فرق بين أن تذهب إلى حمدي كأي موظف في البنك وبين أن يأتي هو إليك ويتسلمك من مكتب المدير العام.
ورفع نبيل سماعة التليفون وأدار رقمين وقال: حمدي، تعال.
ولما أقفل التليفون، قال عبد الشكور: ألا تقول صباح الخير. - مكتب المدير لا يقول صباح الخير. - ألم يقل هو لك صباح الخير. - طبعا قالها بكل حماس. - لم تردها عليه. - مكتب المدير لا يرد التحية. - لا تؤاخذني على جهلي. - ما زال أمامك الطريق طويلا. - واضح. •••
اشتر الأثاث بمعونة حمدي الذي وفر علينا مبلغا ضخما من المال. استطاع عبد الشكور أن يكسب احترام البواب الذي كان قبل مجيء الأثاث الجديد يحتقره احتقارا لا خفاء فيه.
الفصل الخامس
قال عبد الشكور لصبحي بك: أرجو أن تكون راضيا عني. - واضح أنك خبير بسوق القطن خبرة عظيمة. - ولكن الموسم انتهى، هل سأظل بلا عمل حتى الموسم القادم. - وماذا تريد أن تعمل؟ - هناك قسم في البنك درسته في المدرسة ولا أعلم عنه أي خبرة عملية. - أي قسم؟ - الأسهم والسندات. - والله فكرة لا بأس بها، ولغاتك تؤهلك للعمل في هذا القسم؛ على أن تعود إلى القطن في موسمه. - طبعا.
وأعطى صبحي بك أوامره أن يلتحق عبد الشكور بقسم الأسهم والسندات في البنك.
وفي اليوم التالي تسلم عمله. •••
استقبله فتحي السبكي رئيس القسم بترحاب حذر؛ أما الترحاب فبناء على أوامر صبحي بك، وأما الحذر فلن يلبث عبد الشكور أن يتبين ما يتخفى وراءه.
عرف عبد الشكور أول ما عرف عن فتحي السبكي أنه متصل بدهاقين التنظيم السياسي الأوحد؛ وهكذا انفتح أمامه باب جديد للنفاق.
وثق صلته بفتحي السبكي؛ حتى إنه منذ أول يوم حرص أن يرافقه في الطريق إلى بيته؛ ليتعرف على مكان البيت، وليؤنس فتحي السبكي في مشواره.
كان فتحي السبكي يملك سيارة لا هي بالسيارة الفارهة ولا هي بالقميئة. وحين وصلا إلى عمارة السبكي قال لعبد الشكور: تفضل نتغدى سوا. - عزومة مراكبية طبعا. - كانت كذلك فعلا، ولكن ما دمت قلت ما قلت فأقسم بالله لن تتغدى إلا معي اليوم. - أصبح أمرا. - اعتبره كذلك.
وانتهز عبد الشكور الفرصة ليوثق صلته بفتحي ويتعرف على أسرته. ولم يفته للوهلة الأولى أن العمارة في جاردن سيتي، وأنها فخمة واضحة المهابة.
وصعد مع فتحي إلى بيته. واضح أنه كريم؛ فدعوته هذه لا تأتي من بخيل. وواضح أيضا أنه يريد أن يبهرني بمسكنه ومأكله.
كانت زوجة فتحي السبكي سيدة في أواسط العمر بشوشا، لم تفزع من الضيف المفاجئ، واثقة أن الطعام الذي لديها لا يخشى هابطا على بيتها دون انتظار.
الشقة فاخرة والأثار واضح الأناقة.
قال فتحي لزوجته وفية سعيد: الأستاذ عبد الشكور حيدر زميلي الجديد في القسم.
وسارع عبد الشكور صائحا: العفو، بل مرءوسه الصغير جدا.
وأحس فتحي بالزهو أمام زوجته، وما لبث أن أسفر عما وراء إصراره أن يتغدى عبد الشكور معه حين قال لوفية مقدما مزيدا من التعريف بالضيف: إنه مقرب جدا من البيه المدير، ويعتبره من أحسن موظفي البنك؛ رغم أنه لم يعين إلا منذ أشهر قلائل.
وانتهز عبد الشكور فرصة لا يمكن أن يفلتها لنافق رئيسه المباشر الذي يرجو منه الخير الكثير: المهم رضاء سعادتك.
وقال فتحي فجأة: هل جاء الأولاد؟
وقالت وفية: ليس بعد.
ودار الحديث بين عبد الشكور وفتحي، وعرف منه أن لديه ابنين وابنة، وأن الابنة أكبرهم، واسمها ناهد، وهي في الثانوية العامة في هذا العام. أما الولدان فكلاهما في أواخر الدراسة الإعدادية، يسبق أحدهما واسمه باسم أخاه الأصغر بعامين هما فارق السن بينهما. ولم تفت الفرصة عبد الشكور: واضح أن ثلاثتهم مجتهد في دراسته. - كيف عرفت؟ - فارق الدراسة بين ثلاثتهم متفق تماما مع فوارق السن. - اسم الله عليك، لا تفوتك الفائتة! فعلا ثلاثتهم مجتهد، وإن كان ثلاثتهم لا يقبلون أن يلبسوا إلا أفخر ملبس، وناهد تصر على أن أشتري لها سيارة إذا نجحت في عامها هذا وذهبت إلى الجامعة. - من حقها، ولماذا لا تأتي لها بسيارة؟! - ربنا يقدرنا. - وإلى أي كلية تريد أن تنتسب. - يا سيدي مصممة على الطب، والحقيقة أن تفوقها في دراستها السابقة سيمكنها أن تحقق أملها إن شاء الله. - ستدخل الطب وبكرة نشوف. - قل إن شاء الله. - ستدخل الطب. أنا مكشوف عني الحجاب. - سنرى. - سترى.
وقدمت وفية هانم في ترحاب تدعوهما إلى الغداء. وكانت المائدة عامرة. وأدرك عبد الشكور طبعا أن الذي أمامه من الطعام هو لا شك نصيب الأبناء الذين لم يأتوا بعد إلى البيت، وأدرك أيضا السعة التي يحيا فيها رئيسه المباشر. ولم تفته الخادمة التي تلبس ملبسا محترما وتقوم بشأن ثلاثتهم على المائدة.
قال عبد الشكور وهم يتناولون قهوة ما بعد الغداء: أشرب القهوة وأتركك لتستريح فترة القيلولة. - أنت شرفت. - بل أنا الذي تشرفت فعلا لا مجاملة. هل ستخرج بعد الظهيرة. - طبعا أنا كل يوم أذهب إلى مقر التنظيم. - صحيح. - طبعا. - هل عندك مانع أن أصحبك إلى المقر وأتعرف على الأقيال الذين نعرفهم. - بالعكس فقد كنت سأعرض عليك أن تأتي معي. - متى تذهب؟ - في الساعة السادسة أكون هناك. - أنا سأعود إليك هنا في الخامسة والنصف وأذهب معك. - وهو كذلك. •••
وهكذا قدر لعبد الشكور أن يضع أقدامه على سلم توقع هو أن يصل به إلى السماء السابعة. •••
ذهب عبد الشكور إلى المقر والتقى هناك بسكرتارية الكبار ومساعديهم. واختار في اليوم الأول أن يتعرف إلى ما يرضي كلا منهم. واستطاع فيما تلا ذلك من أيام أن يكون لصيقا للغالبية العظمى منهم، وإذا استعصى عليه أحدهم رفض أن يركن إلى اليأس في شأنه، بل راح يلوب حوله ليعرف الباب الذي يدخل منه إليه ويطرقه، فإن لم يجد الطرق مجديا احتال على فتح الباب بأي وسيلة أخرى، ولو أدى الأمر إلى اصطناع مفتاح مزور.
لقد استقر في أعماق عبد الشكور استقرارا وطيدا أنه يملك ما لا يملكه أحد؛ فهو بلا أصل ولا كرامة ولا مثل، ولا تعنيه مشاعر السماء نحوه، وهو أملس ليس لديه أي شيء يخشى عليه، وهو يعلم أنه ثعلبي الخبث، وأنه ابن سوق، وأنه صاحب مقدرة على التصرف والحديث بما يجعل سامعه في حالة من السعادة والهناء والرضى عن نفسه لا تتهيأ له مع أي إنسان آخر غير عبد الشكور؛ وهكذا لم يكن عجبا أن يطمئن غاية الاطمئنان إلى أنه يحوز في يده كل مفاتيح الغنى، وذلك مؤقتا عن طريق البنك، أما مسالك الجاه فهو يرنو إليها عن طريق معارفه الجدد في مقر التنظيم، منتويا أن يقفز على رءوسهم إلى الصدور والقادة من رؤسائهم، الذين يملكون في يدهم مقادير الناس جميعا. وكلمة جميعا هذه تنصرف إلى المقادير وإلى الناس في وقت معا؛ فقد كان على بينة وثيقة أن حكام ذلك العهد على رأسهم الحاكم الفرد الذي لم يكن الآخرون بالنسبة إليه إلا دمى يحركها كما شاءت أهواؤه. كان على بينة أنهم يملكون من الناس مقاديرهم، ليس في وظائفهم أو أعمالهم العامة وحدها، بل كانت أيدي الحاكم والدمى تمتد إلى خاصة حياتهم والمستتر الخافي من شئونهم وشئون ذويهم.
وكان واثقا أيضا أن طاغية العهد لا شأن له مطلقا بالإيمان بالله ولا بأحكامه ولا بآخرته.
كان عبد الشكور على بينة من هذا جميعه، فأدرك أن المستقبل لن يفتح له ذراعيه على مصراعيهما إن لم يجد إلى بلاط الفئة الحاكمة منفذا واسع الأرجاء. وكانت ثقته بمقدار سفالته ونفاقه تملأ نفسه يقينا أنه بالغ من مطامعه ما يشتهي ويريد؛ حتى ليكاد أن يتحدى الأيام أنه لا شك إلى نجاح وفلاح.
الفصل السادس
بدأ عبد الشكور يتعرف على طبيعة العمل في قسم الأسهم والسندات، وما لبث أن فرض نفسه على فتحي السبكي حتى أصبح أقرب المقربين إليه.
وبهذه الصلة الوثيقة تبين له ما أذهله.
لقد كان فتحي يتصرف في أسهم الناس وفي سنداتهم كأنها ملك شخصي؛ ينال منها على غير علم من أصحابها مكاسب فادحة.
وتظاهر عبد الشكور أنه لا يفهم ما يصنعه فتحي، وصرف جهده أول ما صرف إلى التعرف على أصحاب هذه الأسهم؛ فالغالبية العظمى منهم هم أصحاب الأموال الجسام الذين لم يكن العهد الحاكم قد مسهم بعد.
وعن هذا الطريق تعرف على أصحاب الثراء العريض والأصل الرفيع، حتى إذا وثق صلته بهم عاد إلى فتحي الذي كان قد أمن له كل الأمان وجعله يتعرف على خوافي الأمور وسراديبها.
وكان فتحي على قدر واسع من الذكاء؛ مما جعله يتيح لعبد الشكور أن يقوم ببعض العمليات التي تعود عليه بالربح الوفير؛ وإن لم يكن إلى وفرة عمليات فتحي طبعا.
في يوم من الأيام بينما هو في مكتبه طلبه نبيل في التليفون: ماذا تعمل؟ - مهما يكن ما أعمله أنا تحت أمرك. - تعال.
وحين جلس عبد الشكور أمام نبيل قال نبيل: أتذهب إلى السينما؟ - فيما ندر. - لماذا؟ - يا نبيل يا حبيبي، أنا العمل الذي لا أكسب منه لا يلزمني. - ربما تكسب تسلية. ويقولون إن بعض الأفلام المأخوذة عن أعمال كبار الكتاب قد تكسب ثقافة. - هل هذه الثقافة تنفعني في البنك؟ - المؤكد أنها تنفعك في الحياة. - كيف؟ - في معاملة الناس ومحادثة أهل الحل والربط. - والله لك حق؛ فأنا لا أعرف أعظم من صبحي بك. ومن يدري لعل الأيام ترمي بي في طريق بعض العظماء. - هذا أمر وارد لا شك. - بدأت أتعرف بأصحاب الأسهم والسندات من الأثرياء الكبار والباشاوات والبكوات السابقين، وأقول لك الحق: ما زلت أتهيب أمرهم وكأنهم ما زالوا باشاوات وبكوات. - العظمة عند أغلب هؤلاء ليست في الرتبة وإنما في الطبع والتصرف والخلق والثقافة ومعاملة الناس والحياة. - لك حق. ما زال لهم جلالهم وهيبتهم وكأن الثورة لم تقم. - وطبعا أبوك لم يكن يعرف واحدا منهم. - وما الداعي لهذه الملحوظة. - أقصد أن ثقافتك قاصرة في هذا الشأن. - مؤكد. - فلا بد أن تثقف نفسك حتى تعرف كيف تحادثهم. - بالسينما؟ - بالسينما وبالكتب وبالروايات الكبرى لعظماء الكتاب. وإلا ماذا ستفعل إذا حدثك واحد من هؤلاء في الحياة العامة ووجدك لا تعرف أسماء الكتاب المصريين والعالميين. - يا نهار أسود! تكون مصيبة. - ابدأ بالسينما. - أبدأ بالسينما. - أنا عازمك اليوم في حفلة الساعة السادسة. - أذهب معك. - بل تذهب وحدك. - ماذا؟ - ما سمعت. - أمرك. - وهو كذلك. أظنك في هذه الفترة لن تكون محتاجا لشقتك. - يا نبيل يا حبيبي، لم تكن محتاجا لكل هذا لتستعمل الشقة. - أنا أعلم ذلك، ولكن الحديث جر بعضه، وعليك أن تعلم أنه بصرف النظر عن مسألة الشقة فإن كل ما قتله لك صحيح، وعليك أن تهيئ نفسك لمعرفة هؤلاء الأجاويد. - والله أنا وزنت ما تقوله ووجدته معقولا. - ألم أقل لك. - فعلا لك حق. خذ المفتاح. - شكرا. - أنا لا مانع عندي أن أزيد نفسي ثقافة وأذهب إلى حفلة الساعة التاسعة أيضا على حسابي الخاص. - يا نهارك أسود! أتريد أن تطردني زوجتي من البيت. - لماذا؟ - انت انهبلت! أدخل عليها الساعة الثانية عشرة ولا تطردني. - وإذا طردتك، تنفذ الطرد؟ - سأكون بين اثنتين لا ثالث لهما؛ إما أن أخرج وأتصرف في المبيت بأحد الفنادق، وإما أن تأخذ هي العيال وتذهب إلى بيت أبيها وتصبح فضيحة بجلاجل. - وما الداعي؟! يكفيك حفلة الساعة السادسة. - وأين أترك لك المفتاح؟ - إنني منذ عرفتك وأنا معد نفسي لهذا الطلب الذي أعتقد أنه تأخر كثيرا. - ماذا تعني؟ - معي مفتاح آخر، وغدا آخذ منك المفتاح الذي أعطيته لك الآن. - ولماذا لا تبقيه معي؟ - لا، لا يمكن. لا بد أن تطلبه مني كلما احتجت إليه. وإلا فوجئت بي على رأسك في الشقة وربما في السرير أيضا. - فعلا، فعلا، لك حق. غدا أعطيك مفتاحك. - سأكون عندك بكرة قبل أن تشرب قهوتك. - وهو كذلك.
الفصل السابع
طبعا لم يكتف عبد الشكور بالعمليات الصغيرة التي يتركها له فتحي، ولم يكن منذ أول لحظة منتويا أن يكتفي بها، ولكنه كان يدبر للأمر منذ الوهلة الأولى، ورأى أن خير وسيلة أن يجعل فتحي يثق فيه ثقة عميقة.
وفي عماية هذه الثقة راح عبد الشكور يجمع من الأوراق والأسانيد ما لا يقبل المناقشة أو التفنيد.
وحين ارتأى أن بيده ما يكفي ويزيد دخل إلى صبحي حسان. •••
قال صبحي لفتحي بعد أن استقدمه: ألق نظرة على هذه الأوراق يا فتحي. - أمرك يا افندم.
وما هي إلا لحظات حتى أدرك فتحي الكارثة الكبرى التي حلت به. ولم يكن محتاجا أن يقرأ كل الأوراق، وإنما اكتفى بنظرة سريعة عابرة كانت كفيلة لأن يرى مصيره الأسود أمام عينيه، وحين أرجع الأوراق إلى صبحي الذي جمعها في عناية بالغة وسواها وأعادها إلى الدوسيه الذي كان يحتويها، فعل كل هذا في بطء شديد، حتى إذا أودع المستندات في الدرج الذي أخرجها منه وأقفله بالمفتاح التفت إلى فتحي: ما رأيك؟ - الذي تأمر به سعادتك. - إنك موظف قديم بالبنك، ومعرفتي بك منذ سنوات طوال؛ ولهذا، ومن أجل ناهد وباسم وخالد والست وفية سأكتفي بأن أطلب منك الاستقالة لتنال المكافأة التي تستحقها، والتي تستطيع أن تعيش بها حتى تجد وظيفة في بنك آخر. - ومن سيقبلني بعد هذه المصيبة. - طول عهدك بي يجعلك تثق في وعودي. - هذا لا شك فيه. - لن يعرف أحد في العالم ما تم الآن بيننا. - والذي أتى لك بهذه المستندات. - أنا أضمن أنه لن ينطق بشيء. - أتضمن هذا المخلوق؟ - أتعرفه؟ - ليس هناك إلا واحد فقط يستطيع أن يصل إلى هذه الأوراق. - أنا أضمنه مهما كان رأيك فيه. - أمرك. - إذن. - أعطني سعادتك ورقة. - تفضل.
وكتب فتحي الاستقالة، وقبل أن يصل إلى نهايتها سأل صبحي: هل أختلق لها سببا؟ - اكتف بالقول بأنك لم تعد تستطيع الاستمرار بالعمل والبنك. - وأطلب المكافأة؟ - اطلب تسوية حالتك كما يقولون في الحكومة.
وأعطى فتحي الاستقالة إلى صبحي بك، وفي تحامل مرير على رجلين لا تكادان تسعفانه قام عن كرسيه ومشى خطوات، وقبل أن يضع يده على أكرة الباب قال وظهره لصبحي: شكرا يا سعادة البك. - العفو مع السلامة. •••
استدعى صبحي عبد الشكور وأخبره بما حدث لفتحي، ولم يدهش عبد الشكور حين قال له صبحي: تحل محله. - أخشى أن يغضب هذا الزملاء الذين سبقوني في العمل بالقسم. - نحن في بنك، ومن حقي وحدي اختيار الأصلح دون نظر إلى الأقدمية. - إذن أمرك. - ولي عندك رجاء. - بل أمر. - لا يعرف أحد ما كان من أمر فتحي. - إذا سمعت أن أحدا عرف أكون أنا وحدي المسئول أمامك. - وهو كذلك. •••
ليس بعجيب على عبد الشكور ما فعله في اليوم نفسه.
لقد ذهب في وقت الغداء إلى بيت فتحي. ولم يفاجأ بفتحي وهو يفتح الباب حتى إذا وقعت عيناه على عبد الشكور ارتسمت الدهشة الآخذة الذاهلة على كل سمات وجهه: أنت؟! أهذا معقول؟! لقد توقعت أي إنسان إلا أنت. - ولهذا جئت. - فعلا ، منك أنت لا شيء يستغرب. - اسمح لي أشرح أولا. - اشرح. - هنا؟ - نعم هنا؛ فبيتي حرام عليك منذ اليوم. - ليكن ما تريد مؤقتا. - تكلم. - من الذي يخلفك في رئاسة القسم؟ - المفروض إسماعيل وجدي. - فمن له مصلحة في الوشاية بك غيره؟ - أنت. - لماذا؟ - أنت مقرب من رئيس البنك وربما يعينك في مكاني. - وأجعل نفسي في الواجهة؟ وأحرم نفسي مما كنت تتركني أقوم به من أعمال تعود بالربح الوفير؟ - ربما تريد الربح كله. - ألا تعرف مقدار ذكائي؟ - أعرف مقدار خبثك. - ليكن. كيف سيتاح لي أن أقوم بهذه الأعمال بعد أن انكشف أمرها؟ أليست مصلحتي أن أتخذ منك ستارا واقيا وأكتفي أنا بالعمليات التي كنت تتركها لي؟
فكر فتحي فيما سمع وأطال التفكير، ثم قال لعبد الشكور: تعال، ادخل.
وصاح عبد الشكور: هكذا يجب أن تكون الأمور. كان من الأول يا أخي.
خالت عليه الحيلة وصدقني. أنا أحتاجه في التنظيم السياسي ولا أريد أن يسيء إلي عندهم. أما الوسائل التي كان يحصل بها على الأرباح في البنك فقد تبين لي بالخبرة أنها وسائل بدائية عاجزة.
إن الطريقة التي توصلت لها أنا هيهات لألف شخص مثل فتحي أن يفكر فيها. أما صبحي فأمره ميسور. فرجت يا عبد الشكور من أوسع الأبواب.
الفصل الثامن
مرت أيام قلائل على مباشرة عبد الشكور لعمله الجديد حين فتح الساعي الباب وقال: سعادة أبو العلا بك عفيفي.
وفتح الساعي الباب للقادم دون أن ينتظر أمر عبد الشكور.
وبهت عبد الشكور كما بهت البك القادم. وفي لعثمة قال عبد الشكور: أهلا، مرحبا.
لم يكن قد أعد نفسه لهذا الموقف مطلقا؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن تركبه الحيرة. ولم يمهله القادم، بل قال وهو يجلس دون دعوة من عبد الشكور: أين فتحي بك؟ - ترك العمل في البنك. - لماذا؟ - وجد مرتبا أحسن في بنك آخر. - إذن أحب أن أتشرف بسعادتك فسيكون بيننا عمل كثير. - الحمد لله، لم يعرف شكلي.
وبعد هدأة قال: عبد الشكور. - عبد الشكور ماذا؟ - آه يكاد المحظور أن يقع. ولكنه لم يستطع أن يفر منه، واضطر أن يجمع حروف الكلمة في صعوبة بالغة وهو على يقين أنه إذا أخفى اسمه الكامل فسوف يعرفه أبو العلا من غيره. لم يجد بدا من أن يقوله وليكن بعد ذلك ما يكون. - عبد الشكور حيدر.
وارتسمت معالم التعرف على ملامح «أبو العلا». - الآن عرفتك. وأنا منذ اللحظة الأولى أقول لنفسي الوجه ليس غريبا علي. - طالما زرت سعادتك في العزبة. - مع أبيك التاجر حيدر أبو عبيد الكيالي.
وجد عبد الشكور في كلمة التاجر ما طمأنه بعض الاطمئنان؛ فقد كان يستطيع أن يذكر الحقيقة ويقول السمسار ولا يكون بعيدا عن الحقيقة المؤكدة. أما أن يقول التاجر فلا شك أنه يريد أن يجاملني.
وأكمل أبو العلا: وكنت أنت تعمل في القطن.
وهذه مجاملة أخرى؛ أنه لم يقل تسمسر.
وسارع قائلا: ذاكرة سعادتك عظيمة. - وكيف حال أبيك؟ - الحمد لله. - لي زمان لم أره. - إنه لا يستغني عن سعادتك أبدا. - لي هنا أسهم. - أعرف يا سعادة البك.
وبدأ أبو العلا يلقي على عبد الشكور التصرفات التي يريد أن يجريها في أسهمه، وأنهى عمله وقام وهو يقول: أنا أعتبرك هنا كابني؛ فأبوك حيدر من أحب الناس إلي؟ - أطال الله عمرك يا سعادة البك. وستجدني دائما تحت أمرك. - كثر خيرك. السلام عليكم.
وخرج. ولم يتنفس عبد الشكور الصعداء؛ فقد توقع شرا هو في غنى عنه كل الغنى. •••
يومان مرا، وفتح الساعي الباب ولم ينطق، وملأ فتحة الباب أبوه واقفا أمامه، ورأى عبد الشكور فيه الحدث الآخذ. طبعا قال للساعي إنه أبي، وإلا لما فتح الباب. وانكتم لا ينطق.
بالغريزة قفز عن كرسيه. - أهلا أبي، يا مرحبا.
وانحنى على يده يقبلها، ولكن أباه اختطفها منه: الآن عرفت سبب مقاطعتك لي أنا وأمك. - العفو يابا، كنت مشغولا فقط. - النقاش لا يفيد ولا الأعذار. - يابا وهل لي في الدنيا إلا أنت وأمي. - لن تستطيع خداعي. وإنما جئت من البلد فقط لألقي عليك نظرة وأفهمك أنني عرفت مكانك ومكانتك في البنك أيضا، ثم السلام عليكم ورحمة الله. لن تراني بعدها ولن ترى أمك. واستدار حيدر وأخذ طريقه إلى خارج البنك.
وأحس عبد الشكور كأن حملا ثقيلا قد انزاح عن كاهله. لم يعد في حاجة أن يحذر أباه من المجيء مرة أخرى إلى البنك، كما أنه ليس في حاجة أن يخرج مع أبيه إلى الباب الخارجي ويعرف موظفو البنك جميعا مقدار أبيه الواضح في ملابسه. ليس في حاجة إلى أي شيء من جميعه. ووجد نفسه ينحط على كرسيه وهو يجتذب نفسا عميقا من أسفل مكان في رئتيه. ودق الجرس وأمر بسيوني الساعي أن يحضر له فنجان قهوة سكر زيادة.
الفصل التاسع
تحسبا منه أنه ربما يحتاج إلى صديقيه الألمانيين حرص عبد الشكور أن يوثق صلته بمارك وهوفمان؛ اللذين داوما على مكاتبته منذ وصولهما إلى ألمانيا، وعرف منهما أن كليهما يقيم في برلين الغربية، فكان هذا أقوى سبب أن يجيب رسائلهما، وقد عرف عنهما أنهما يعملان كلاهما في عملين مرموقين؛ مما يفتح المستقبل أمامهما، كما أنهى إليهما هو ما بلغه في البنك من قفزات. •••
وكان عبد الشكور أحرص ما يكون أن يمر في كل يوم بصبحي حسان ويلقي عليه تحية الصباح، وكثيرا ما كان يستدعيه صبحي لينادمه؛ فقد أنس إليه ووجد في حديثه متعة لا يجدها مع غيره.
وكان عبد الشكور حريصا في زياراته الصباحية على أن يمازح نبيل ويعرض خدماته، فإذا كان لدى صبحي ما يشغله جلس إليه نبيل. وفي واحدة من هذه الجلسات قال نبيل: الليلة ستذهب إلى السينما. - هاك المفتاح. إنما قل لي. - أقول لك. - أهي واحدة. - يا نهارك أسود! كيف تتصور هذا؟ - إذن فهن كثيرات. - بطبيعة الحال. - وما الخطر في أن تكون واحدة. - وهل مثلي يستطيع أن يتحمل تكاليف الصديقة الواحدة. - أتكلفك أكثر من الفتيات العديدات؟ - لكل واحدة من الكثيرات أجرها المعلوم لا تتعداه؛ أما الواحدة فإنها تفرض نفسها عليك، وتصبح في الإنفاق عليها ألعن من الزوجة ومصاريف العيال. هي مرة أو اثنتين ثم أبحث عن غيرها. - ودائما تجد غيرها؟ - أكثر من الهم على القلب. - فلماذا يا أخي لا تكرمني معك ببعض الهم؟ - ماذا تقصد؟ - أنت من الساعة التاسعة إلى الثانية عشرة لا بد أن تذهب إلى البيت. فما ضر لو ذهبت أنا الآخر إلى بيتي ووجدت فيه ...
ولم يكمل عبد الشكور بل قاطعه نبيل: فهمت، لا تكمل. - يا أخي هل كان لا بد لي أن أعرض أنا. - والله غاب عن ذهني. أنا آسف. - لا، العفو. - الليلة ستجد ما تريد. - حفظت. شكرا. - لا شكر على واجب. - الآن أدخل إلى صبحي بك. •••
منذ ذلك اليوم تعرف عبد الشكور على الكثيرات من الفتيات، وحرص أن يسجل أرقام التليفونات لكل منهن. •••
طرق عبد الشكور باب صبحي بك ولم ينتظر الإذن بالدخول؛ فقد كان يعلم أنه وحده: صباح الخير. - وهو كذلك. - إجابة لم أسمعها قبل ذلك في حياتي كلها. - إنها التي عندي. - ولماذا لا يكون عندك صباح الخير. - لأنه ليس خيرا. - لماذا؟ - والسلام يا عبد الشكور، خل الطابق مستورا. - ولماذا يكون مستورا؟! وإن أردت أن تستره على الجميع فلماذا تستره علي وأنا أحس أنك أصبحت تأنس إلي وتطلعني على دخائلك لا تستثني من ذلك الأسرار المنزلية. - هذا صحيح. - فما الجديد؟ - يا سيدي جماعة من الذين كانوا على ثراء فاحش قبل الثورة يريدون أن يبيعوا بعض الأثاث في بيوتهم ليستعينوا بثمنه على الحياة. - عظيم. وما شأننا نحن. - صافيناز عرفت الخبر. - هنا المصيبة. - ستجن وتجنني إن لم تشتر طاقم الاستقبال وإحدى السجاجيد. - فعلا لك حق؛ ليس صباح الخير. هل الثمن كبير؟ - طاقم الاستقبال من الأبيسون الحرير. - ماذا؟ ماذا قلت؟ - لك حق. الأبيسون قماش فرنسي لم يعد أحد يصنعه الآن، وهو من خيوط الحرير، وإن كانت بعضهن تصنعه من الصوف، والفرق شاسع في الثمن بين النوعين. - فهمت. - فكل أبيسون حرير الآن ثمنه خيالي لأنه تاريخي. - بمعنى؟ - بمعنى أن الطاقم الذي تريد صافيناز شراءه ثمنه ثمانية آلاف جنيه.
واتنتر عبد الشكور من كرسيه صائحا: بكم؟ - بما سمعته. اقعد. - ومتى أقف إذن؟! إن مبلغا كهذا لا بد أن يسمعه مثلي واقفا إن كان قاعدا، وقاعدا إن كان واقفا.
وضحك صبحي وقال: احتراما؟ - احتراما وتوقيرا ودهشة وذهولا وكل ما يرد على ذهنك من هذه المعاني وأمثالها والقريبة منها. - لك حق. والسجادة ألف وخمسمائة جنيه. - وهذا أيضا يستحق الوقوف. - أرأيت أنه ليس صباح خير. - فعلا سعادتك محق. إنما قل لي سعادتك هل هناك مهلة لهذه الصفقة. - أسبوع. - صباح الخير. - هل جد جديد؟ - قل صباح الخير وأمل في تلميذك خيرا. - هل عندك وسيلة؟ - أمهلني ثلاثة أيام. - أهذا معقول؟! - الفأر أنقذ الأسد. - على كل حال ليس لي أمل إلا في الفأر. - قل صباح الخير. - ليكن صباح الخير. - سلام عليكم. - وعليكم السلام.
وخرج عبد الشكور من الغرفة وأغلق الباب واثقا أنه أمسك بصبحي من حيث يريد أن يمسك به. •••
ذهب عبد الشكور إلى التنظيم فيما بعد الظهيرة ووجد من تعود أن يجدهم دائما. وكان قد وطد علاقته بموسى أشرف أعظم الأتباع شأنا وألصقهم بأحد الأقيال الضخام الشأن والجاه. اقترب منه وراح يجاريه في الحديث وموسى يحرص على أن يضع في كل بضعة جمل واحدة أو اثنتين عن الشخصية ذات الشأن الخطير التي يعمل في خدمتها. وفي مهارة ودربة يظهر عبد الشكور الدهشة أو الرهبة أو الإكبار أو الإجلال حريصا على أن يضفي على محدثه موسى كل ما يصبو إليه من عظمة ومن أشكال الجبروت والمكانة والجاه العريض.
وفاجأ عبد الشكور موسى وكانا يجلسان بمنجى عن أسماع الآخرين: لماذا يا موسى بك لا تشرفني في البيت؟ - لا مانع طبعا. - أتحب أن نتغدى معا أو نتعشى؟ - الغداء لا يمكن؛ لأنني أكون دائما بالقرب منه وربما أرادني. - وفي المساء؟ - في المساء له هو سرحاته الخاصة. - وأنت أليس لك سرحات؟ - والله إن تيسرت يكون خيرا وبركة. - ماذا تعني بتيسرت؟ - ألم تفهم؟ - فهمت، ولكني أريد أن أتأكد. - هو ما فهمت. - هل تتناول معي العشاء غدا. - ومن المدعوون؟ - أنت وشخص واحد. - من هو؟ - ستعرفه حين تراه. - لا أحب المفاجآت. - لا تخف، هذه مفاجأة ستحبها. - أنا لا أذهب إلى أي دعوة إذا لم أكن على علم أكيد بالمدعوين. - اترك هذه الخصلة غدا ولن تندم. - اسمع، إذا انبسطت ستكون واحدا من المهمين في مصر كلها، وإذا ... - وقاطعه عبد الشكور قائلا: لا تكمل، أعرف ماذا سيحل بي إذا حدث العكس. ••• - صباح الخير يا نبيل. - عسى الله أن تكون مبسوطا. - نهارك فل. - علم. - البك وحده؟ - وما هذه الحقيبة في يدك ليست العادة؟ - قلت أوقع منه بعض أوراق على الماشي. - ادخل. - أراك وأنا خارج. - أنا قاعد، وأين يمكن أن أذهب؟!
دخل عبد الشكور إلى مكتب صبحي ولم يجلس، وإنما وقف إلى جانب المكتب وفتح الحقيبة وهو يقول: صباح الخير، مبروك على صافيناز هانم الطاقم والسجادة يا سعادة البك.
وقفز صبحي واقفا. - يا نهارك أبيض! من أين جئت بكل هذا المبلغ؟
وفي برود وثقة قال عبد الشكور: اهدأ واطمئن، واقعد واسترح. - قعدت.
وراح عبد الشكور يشرح العمليات المالية التي يقوم بها في الأسهم والسندات، ووضح لصبحي أن البنك أو أصحاب الأسهم لا يخسرون مليما واحدا. كما طمأنه أنه ليس بين أوراق البنك ورقة واحدة لها شأن بهذه العمليات.
وأحب صبحي أن يقتنع، ووضع المبلغ في حقيبته الخاصة. •••
حين ذهب موسى أشرف إلى بيت عبد الشكور استقبله في ترحاب أقرب إلى الذلة منه إلى الإكرام. وحين دخل موسى إلى البهو طالعته فتاة واضحة الجمال والجاذبية، وقال عبد الشكور: كريمة، الضيف الوحيد اللي دعوته. - ونعم الضيف. - عندي الشراب والدخان، أيهما أحب إليك؟ - كله عظيم. - ليلتنا بيضاء. - إن شاء الله.
ولم ينس عبد الشكور أن يترك بيته في الموعد الذي رآه مناسبا تماما. •••
وفي اليوم التالي قال موسى لعبد الشكور: شقتك جميلة ولكن صغيرة. - أعرف ذلك، ولكن ماذا أصنع؟ - تذهب غدا إلى عبد السميع حسني سيسلمك شقة من شقق العمارات المصادرة. - غدا؟ - غدا طبعا، أتحب أن تذهب الليلة؟ - غدا عظيم.
الفصل العاشر
كان عبد الشكور قد وثق صلته بثمانية نفر من أصحاب الأسهم، وكانت الأسهم التي يملكها كل منهم تدل على الثراء العريق، وكان أهم هؤلاء رستم نامق؛ الرجل التركي الأصل الذي يزهي دائما بأن جده الأكبر كان صدرا أعظم في عهد السلطان عبد الحميد بتركيا، وكان يروي لعبد الشكور أنه حين حدثت ثورة الجيش على السلطان تمكن جده من تهريب ثروته جميعها إلى مصر، ولم يكن له إلا ولد واحد الذي لم ينجب هو الآخر إلا ابنا واحدا؛ وهكذا وصلت الثروة كاملة إلى رستم نامق متمثلة في أبعديات زراعية وأموال سائلة وجواهر نادرة المثيل لا يحصيها عد. ورستم مثل أبيه وأجداده لم ينجب إلا بنتا واحدة هي فوزية.
وطبعا عبد الشكور كان يعلم أن الأبعديات قد انكمشت إلى مائتي فدان. ولكنه لم يعلم علم اليقين مقدار المال السائل أو الجواهر، ولكن كمية الأسهم التي باسم رستم كانت شاهدا قويا على ضخامة ما يملكه رستم.
وقد استطاع رستم أن يتخفى عن عيون الحكم المغتصب؛ فلم يكن ذا شأن في الحياة، وإنما كانت حياته مقصورة على الإفطار في جروبي في الصباح، ثم يلزم بيته حريصا أن يراقب مذاكرة ابنته، وكان لا يستقبل إلا ندرة قليلة من الناس، بعضهم أتراك وبعضهم من المثقفين الذين يريدون أن ينتفعوا بالكتب النادرة التي تكتنزها مكتبته العامرة بالمخطوطات النادرة. •••
مبلغ واحد آخر حصل عليه صبحي من عبد الشكور، ثم أممت الثورة الأسهم جميعا بحيث لا يملك أي فرد من الأسهم أكثر مما قيمته عشرة آلاف جنيه.
وتفتق ذهن عبد الشكور عن فكرة عادت عليه بملايين الجنيهات؛ فقد اتفق مع الثمانية اللصيقين به من ملاك الأسهم ألا يبلغ المصادرة إلا بما قيمته عشرة آلاف جنيه من أسهمهم، ويجعل الأسهم الأخرى ملكا لأسماء وهمية، واتفق معهم أن يكون إقرارهم بالصورة التي سيعدها لهم؛ حتى إذا راجعت الدولة قيمة أسهمهم في البنك لدى عبد الشكور وجدتها مطابقة لما جاء في الإقرار.
أما الأسماء الوهمية التي كتب لها الأسهم فقد تفتق ذهنه أن يعد منهم توكيلات مزورة له وأعد أيضا كيف ستزور هذه التوكيلات. •••
بعد ليلة من ليالي شقته الجديدة كان المدعوان فيها موسى وسيدة وما يلزم لهما، قال عبد الشكور لموسى : أي أمين للشهر العقاري من محاسيبك؟ - فاضل الملواني. - مره أن يفعل لي ما أطلبه.
وتم لعبد الشكور ما أراد من توكيلات.
وتمت العملية كلها، ولم يسمع بها أحد من داخل البنك أو خارجه.
واشترط أن ينال هو نصف ما سيهربه من أسهمهم، وقبل جميعهم العملية وشرطها.
وأطلع عبد الشكور رئيسه صبحي بك واعدا إياه بمبلغ لا بأس به؛ فقد كتم عنه طبعا النسبة التي سينالها من المساهمين؛ والذي يقبل المال الحرام مرة من الطبيعي أن يقبله دائما.
ورحب صبحي بالعملية.
وخاصة أن ما كان يعطيه له عبد الشكور من عمليات الأسهم سينقطع كما سينقطع عنه ما كان يصيبه من سمسرة القطن من يد عبد الشكور.
فقد أممت الدولة تجارة القطن أيضا، وعلق صبحي على تأميم التجارة في القطن قائلا لعبد الشكور: إنها قد فرضت على الفدان ضريبة أكثر من خمسمائة جنيه للفدان الواحد يدفعها الفلاح الذي تقول الحكومة إنها جاءت لتنقذه من الاقطاع. هل كان يجرؤ أي اقطاعي أن يشتري قطن الفلاح إلا برضى الفلاح نفسه.
وقال عبد الشكور: فرق السعر الذي تشتري به الدولة من الفلاح والسعر الذي تبيع به يزيد عن الخمسمائة جنيه. - فعلا. - على كل حال أنا وأنت الوحيدان اللذان كسبا من تأميم الأسهم. - البركة فيك. فكرتك عظيمة. - لولاك ما استطعت أن أنفذها. - المبلغ الذي حصلت عليه يجعلني أفكر في ترك البنك.
لم يتظاهر عبد الشكور بالدهشة، وأدرك صبحي ما يجول بنفس صاحبه فإذا هو يقول فجأة: نعم، لماذا لا؟ - ما هو؟ - لماذا لا تصبح أنت مكاني؟ - هل يمكن ذلك؟ - البركة في موسى أشرف. - وفيك أيضا. - توكل على الله.
الفصل الحادي عشر
شقة فاخرة ومدير بنك ومال وافر وجاه عريض، متى ينفذ تخطيطه للزواج إن لم يكن اليوم؟! وأين سيجد رستم نامق لابنته فوزية زوجا أحسن من عبد الشكور حيدر؟!
قال لرستم: أنقذت لك ثروة. - لا أستطيع الإنكار، ولو أنك أيضا حصلت على مبلغ عظيم. - فما رأيك في هدية أخرى أقدمها إليك. - أي هدية؟ - أنا. - ماذا تعني ؟ - أتزوج فوزية هانم.
وأصاب رستم الذهول وصمت، وأكمل عبد الشكور: أنا مدير بنك أنت تعرف مكانته؛ بدليل إنك تضع فيه أسهمك، وأنا أملك الآن ثروة لا بأس بها، فأنا لا أطمع في ثروتك. - أنت تطمع في الزواج من أسرة عريقة. - وهل في هذا بأس؟ - لا بأس؛ على شرط أن تكون كفئا لها. - ما الكفاءة إن لم تكن منصبا ومالا؟! - أن تكون من أسرة في نفس العراقة. - هل تعرف أصلي؟ - لو كان لك أصل لكنت عرفته. - إنني من أسرة ريفية، وأبي من أعيان البلدة، وأنا أشترك في هذا مع الأغلبية الساحقة من أصحاب المناصب في أيامنا هذه. - أيامنا هذه قلبت الهرم من أساسه. - لا تملك أن تقاوم التيار. - إنها ابنتي. - إن لم تشترط إلا الحصول على ابن أسرة فتأكد أنه في الغالب الراجح سيكون طامعا في مالك.
وصمت رستم قليلا. - ولكن أصوله ستجعله عفيفا. - وشحاذا أو قريبا من شحاذ.
وصمت قليلا: لا تستطيع أن تنكر أن هناك أصحاب مناصب وثراء من أسر عريقة. - نادرون. - ولماذا لا تتزوج فوزية واحدا من هؤلاء النادرين؟ - لأن أحدا منهم لا يعرفها ولا تعرفه، وأغلب الأمر أن يتزوج أبناء هؤلاء من قريباتهم ومن العائلات التي تصادقهم ويعرفون كل شيء عنها. - ربما رشحت له فوزية من زميلة لها أو من إحدى الأسرات التي تتصل بها. - إنك لا تكاد تتصل بأحد؛ فالفرصة أمام فوزية في الزواج تكاد تكون معدومة. ومن تلك التي سترشحها من زميلاتها؟ أولى بها أن ترشح نفسها. - فوزية أكملت دراستها في الأدب وتجيد الفرنسية والعربية. - وأنا أجيد الإنجليزية والألمانية وأنت تعرف. - على فكرة، ما شهادتك؟ - مدير بنك.
وصمت رستم طويلا. لقد كبرت البنت ولم يتقدم أحد لخطبتها، ولم تستطع أن تكون أصدقاء أو صديقات في الكلية؛ فقد كانت تربيتها المتزمتة حائلا بينها وبين الانسجام مع زملائها وزميلاتها. وإذا لم أقبل هذا النصاب اللص المزور فالله يعلم ماذا يمكن أن يحدث.
ولم يتركه عبد الشكور لصمته بل قال في حسم: أنا أعرف عنك أسرارا ليس من مصلحتك أن تذاع.
وفزع رستم وهو يقول ذاهلا: وتهديد أيضا؟! - بل تذكير. - تقصد ... - أنت تعرف صلاتي؛ أستطيع أن أضعك أنت وفوزية تحت الحراسة بتليفون من بيتك هذا.
وأطرق رستم في رعب؛ ماذا يبقى له، إنه بلا صديق ولا معين إلا ماله. وهذا الآدمي المحسوب خطأ على الإنسانية يستطيع أن يدمر حياتي وحياة فوزية في لحظة، ويصبح علينا الصباح أو يمسي علينا المساء فإذا نحن متسولون نستجدي البقاء على الحياة من أيد لا نعرفها ولا تعرفنا. لم يترك لي خيارا.
نظر طويلا إلى عبد الشكور، وجمع على لسانه في جهد شديد حروف كلمة واحدة. - أسألها.
وأدرك عبد الشكور أنه بلغ مراده فقال في توقح: هذا شأنك. على شرط ... - وشرط أيضا؟ - أن تذكر لها ما كنت تفكر فيه الآن. - أتعرفه؟ - بالتفصيل. - فلنسألها رأيها. - ليس لديها خيار.
وأطرق رستم ثانية وهو يقول في أسى وانكسار: أعلم ذلك.
الفصل الثاني عشر
اشتد المرض بحيدر، وضاقت به وسائل الرزق، وأغلقت السبل أمام زوجته زنوبة، ولم تجد شيئا تقوله لزوجها إلا: ألا نخبر عبد الشكور؟ - إياك أن تذكري اسمه. - إننا في حالة ضنك والغرباء يشفقون علينا، أليس ابننا أولى بنا؟ - إنه ليس ابننا. - على كل حال أن نمد يدنا له خير من أن نقبل صدقة الغرباء. - بل الصدقة من الغرباء أفضل. - لا حول ولا قوة إلا بالله.
وصمتت زنوبة وهي تضمر في نفسها أمرا.
حين نام حيدر في القيلولة ذهبت زنوبة إلى بيومي أقرب صديق لعبد الشكور قبل أن يهاجر من القرية، ورحب بيومي بها فإذا هي تجبهه. - أيرضيك ما نحن فيه يا بيومي؟ - البلدة كلها تتكلم. - وأنت، ألا تفعل شيئا؟ - أنا تحت أمرك. - نحن نعلم أنك لا تملك أكثر مما تعطيه لنا من حين لآخر. - كريم ستار. - ولكنك تملك ما تفعله. - والله فكرت فيه. - وماذا منعك عنه؟ - ما عرفته من مقابلته لأبيه. - ربما كان في ذلك اليوم معذورا. - هذا كلام من تحكم على ابنها بقلبها لا بعقلها. - ربما. - وإذا سلمنا معك إنه كان معذورا يوم لقائه بأبيه، فهل ظل معذورا بعد ذلك حتى الآن. - حجته معه. - ماذا يمكن أن تكون حجة ابن يقاطع أباه وأمه ويصبح شهيرا لا يمر يوم لا تذكر فيه الجرائد اسمه، ويصبح المال عنده بالكيل ولا يذكر أباه وأمه ببعض هذا المال، أو على الأقل بالسؤال عنهما. - هل يمنعك هذا أن تفعل ما أرجوه منك؟ - أنا أعرف ما تريدين دون أن تقوليه، بل وأعرف من زمن طويل أنك تتوقعين مني أن أفعله دون أن تطلبيه مني. - وماذا يمنعك أن تفعله؟ - اليأس وشيء آخر. - أي شيء آخر؟ - الذي يهون عليه أمه وأبوه وهما أصل وجوده لا يمكن أن يرعى صداقة أو ودا لأي إنسان. - إنك كنت كأخيه. - بل أكثر، ولكن أتظنين أنه لو كان له أخ كان سيفعل معه أحسن مما يفعله معك ومع أبيه. - هل هذا ما يسيئك. - نعم. إنني لا أحب أن أراه يتنكر لي أو يتعالى علي أو يتجاهلني، والذي أراه من جحوده معكما يجعلني أتوقع منه أسوأ التوقعات. - وهل يمنعك هذا أن تحاول من أجل عمك حيدر. - صعب. - الرجل يموت ولا نملك ثمن الدواء، بل لا أخجل أن أقول لك إننا كثيرا ما لا نجد ثمن الطعام لولا كرم الناس الطيبين. إنك أنت نفسك لا تنسانا وتجود علينا بما تستطيع. - جهد الفقير. - فإذا كنت أنت وأنت محدود الدخل تمد لنا يدك بالعون أليس ابننا أولى بنا. - ابنك يعمل في بنك، أيجهل أن صناعة أبيه في السمسرة لم يصبح لها وجود؟! إن كان عنده أي نية للمعاونة فما الذي يؤخره؟! - ربما ظن أن أباه وفر من أيام عمله بعض المال يستعين به الآن. - ألا يعرف أن أباه كان يحصل على قوت يومه بطلوع الروح، وأنه لم يستطع أن يجعله يكمل تعليمه في الجامعة رغم علمه بحب أبيه له حبا فائقا؟! - وهل عندنا غيره؟! إنه هو الذي يمثل لنا الحياة كلها. - طبيعي؛ ابن وحيد، جاء بعد تشوق وانتظار. - أتصدق بالله؟ - لا إله إلا الله. - إنني وحيدر لا نصلي صلاة إلا وندعو له فيها بالتوفيق والسداد. ولا نرجو الله أن يجعله بارا بنا؛ فكلانا فقد الأمل في هذا تماما. - ليس فيما أسمعه غرابة. - والله ما دفعني للمجيء إليك إلا مرض الرجل وآلامه. أراه يتمزق أمامي ولا أجد ثمن الدواء. - لا حول ولا قوة إلا بالله. - إنه لا ينسى في كل صلاة بعد أن يدعو لعبد الشكور أن يطلب من الله أن يرفعه إليه. - اسمعي يا أمه زنوبة، إنني سأذهب إلى عبد الشكور. - إنه يا بني لا يعلم أن أباه مريض مرضا شديدا. فربما لو عرف يرق قلبه. - إنني ذاهب وليكن ما يكون.
سألته نعيمة سكرتيرة عبد الشكور: نقول له من؟ - قولي له بيومي. - بيومي من؟ - قولي له بيومي صديق الطفولة. - فقط؟ - هذا يكفي. - أمرك.
وقال لها عبد الشكور: قولي له في لجنة، مشغول، لا يقابل أحدا.
وسمع بيومي الإجابة فاقتحم غرفة عبد الشكور دون أن ينتظر إذنا وصاح به: لقد كنت أتوقع أنك ستمتنع عن لقائي.
ونظر عبد الشكور إلى نعيمة وأومأ لها أن تخرج ولم يتح له بيومي أن يتكلم. - إن من يفعل الذي تفعله بأبيك وأمك لا يمكن أن يحن لأيام الصبا ولا لأقرب صديق منه لما يزيد عن عشرين سنة من حياته. - لا تطل، أنا أريد أن أنسى هذه الأيام، وأريد أن أنسى بلدتكم وكل ما فيها ومن فيها. أنا أقنع نفسي أنني ولدت هنا في هذا البنك وحياتي هنا وليس لي قبلها حياة. - لست سيدنا آدم. إن لك أبا وأما. - بل إنني أنا آدم الجديد. - حتى إذا علمت أن أباك مريض مرضا شديدا. - هل لآدم أب. - إنه يكاد يموت. - كلنا سنموت. - لا سلام عليك. - ولا سلام عليك.
وخرج بيومي غاضبا يبحث عن أقرب طريق للهواء النقي. •••
لم تمض أسابيع حتى مات حيدر، وتولى بيومي بما جمعه من كرام القرية نشر نعي حيدر بالأهرام بادئا الخبر بقوله: شيعت أمس جنازة فلان والد فلان؛ قاصدا أن يعرف الناس أن لعبد الشكور أبا وأنه ليس بآدم ولا حتى آدمي.
وغضب عبد الشكور من نشر الخبر فبادر يعلن أنه سيستقبل العزاء في جامع عمر مكرم دون مأتم، ووقف عبد الشكور في الموعد الذي حدده يتلقى العزاء على باب المسجد فيسلم المعزون عليه وينصرفون.
وأقام أهل القرية مأتما لحيدر لم يحضره عبد الشكور طبعا، ولو كان فكر أن يحضره لافترش الحصير على الأرض مع المعزين؛ فما كان أحد ليفكر أن يستأجر الكراسي ليستقبل عليها العزاء في رجل ابنه يملك أن يقيم له عشرين مأتما دون أن يمس هذا غناه الفاحش أي مساس.
ولم يعبأ عبد الشكور أن الأعيان الكبار من القرى المجاورة سيذهبون إلى المأتم الذي حدد نعي الأهرام مكانه؛ فقد كان هؤلاء الأعيان يدركون ما بلغه عبد الشكور من سلطان، وكانوا حريصين أن يتقربوا إليه إن لم يكن رجاء المنفعة فدفعا لمكروه من جانبه؛ فقد كانوا على تمام الدراية أنه يملك أن يفيد وأن يضر، وأنه كان دائما لحب الضرر أقرب. وكان الضرر الذي يوقعه قاتلا، ولما كانوا حريصين على الحياة فقد ذهبوا إلى المأتم متوقعين أن يجدوا عبد الشكور هناك ليأخذ العزاء في أبيه؛ فإن لم يأخذ الابن الوحيد العزاء في أبيه، فمن؟!
لم يجدوه، ووجدوا بعض أهل القرية يتقبلون العزاء، ووجدوا المعزين يفترشون الحصير على الأرض، حتى لم يجدوا كرسيا يجلس عليه قارئ القرآن الذي تبرع بإحياء المأتم بلا أجر.
والعجيب أن أحدا من هؤلاء الأعيان لم يجرؤ أن يخبر عبد الشكور أنه ذهب إلى المأتم مخافة أن يغضبه، وإن كان عرف كل ما جرى من أبو العلا عفيفي، ولم يهز الذي سمعه شعرة منه. •••
وبعد انتهاء المأتم لم تجد زنوبة وسيلة لتواصل بها الحياة المفروضة عليها إلا بأن تعمل خادمة في منزل عمدة القرية، الذي اعتبر استخدامه لها صدقة مستورة، وقالت له زوجته: إن ابنها يستطيع أن يشتري البلدة كلها. - وهذا أدعى إلى الصدقة؛ فهي لم تفقد زوجها وحده وإنما فقدت من قبله بر ابنها الوحيد؛ فكأنه مات وهو على قيد الحياة، بل ربما كان موته خيرا لها من حياته؛ لأنها - على الأقل - سترث نصيبها من ثروته. - صدقت. إن مصيبتها في حياة ابنها أعظم من مصيبتها في موت زوجها.
الفصل الثالث عشر
جلس رستم مهزوما ضائعا في غرفة المعيشة، وطلب من الخادم أن يستدعي له فوزية. وجاءت، ونظر إليها أبوها نظرة حانية آسفة حزينة طويلة، وظهرت الدهشة على وجه الفتاة البارعة الجمال؛ صاغها الخالق البارئ المصور فأدقها وأجلها؛ وجه ملائكي السمات، وعينان خضراوان صافيتا الخضرة، كأن الرموش عليها أحراس، مقوسة إلى أعلى في عزة وكبرياء، وكأن الحاجبين أبوان يحنوان على ابنتيهما. وهذا الإبهار جميعه مشفوع بجلال رباني وثقة متواضعة. يحيط بوجهها شعر عربيد تولت هي استئناسه وتهذيب عربدته. كل هذا الإعجاز الإلهي يعلو قواما أهيف ممشوقا من صنعة الله. أين منها رفائيل ومنقاشه وسحر بنائه!
عاد رستم إلى نفسه حسيرا أسيفا كسيفا، وكأنه يرى جمال ابنته للمرة الأولى؛ فهو لم يحاول قبل اليوم أن يتبين معالم جمالها، وإنما كان يرى فيها ابنته الوحيدة وأمله في الدنيا والمبرر لحياته، ويدري أنها جميلة في غير حيثيات ولا تفاصيل.
وقطعت عليه فوزية صمته المبيد الذي جعل أباها في عينيها في حال لم تره عليها حياتها كلها. - خير يا بابا. - بل شر يا بنتي. - ماذا؟
وقص عليها أبوها المصيبة التي تحيط بحياتهما، ثم ختم حديثه قائلا: كل ما كنت آمله من الحياة أن أتركك بين يدي زوج أطمئن إلى شرفه ورجولته وحفظه للأمانة، وهذا الكارثة الذي يفرض نفسه علينا بلا شرف ولا رجولة ولا أمانة، مستعد أن يلقي بك أول ورقة على مائدة القمار إن كنت الورقة التي ستعود عليه بأي كسب مهما كان حقيرا تافها.
واسودت الدنيا في ناظري فوزية، وغابت نظراتها، حتى لقد تلاشى أبوها في عينيها، وجمعت على شفتيها الباذختي الجمال كلمات غمغمتها. - المصيبة أعظم مما تظن يا أبي. - هل يمكن ذلك؟ - إذا عرفت أنني أحب حبا عميقا معيدا بالجامعة يبادلني مشاعري ربما بصورة أقوى وأعنف.
وكأن محيطا هائلا من الآلام غمر بأمواج كالجبال رستم المسكين. - ولماذا لم يتقدم إليك؟ - إنه عائد بعد سنة واحدة من لندن حيث يدرس ليحصل على الدكتوراه. - ولماذا لم تقولي لي؟ لقد كنت أظن أنك تركت الجامعة دون أن يكون لك صلة بأي طالب فيها أو أستاذ. - ولماذا أقول لك وأنا واثقة أنك كنت ستقبله؛ فهو فتى يعتبر من أمثلة الرجولة الكاملة، ومن أسرة عريقة، ليست وافرة الغنى، وإن كان لديها ما يستطيع أن يحفظ عليها كرامتها في عزة وإباء. أنا كنت واثقة أنك ستوافق؛ لأنك لن تجد فيه إلا ما يرضيك. - والآن ماذا نحن فاعلان؟ - واضح أن زواجي في كفة وفرض الحراسة علينا في الكفة الأخرى. - أنا لا أريد مالي لنفسي وإنما أحفظه لك درعا من حياة ليس لك فيها إلا هذا المال. ما مصيرك بدون هذا المال؟! - أتوظف. - هيهات؛ إنه يملك أن يفرض عليك الحراسة، يملك أن يمنع عنك أي وظيفة. - ليس من الضروري أن أتوظف في الحكومة أو القطاع العام. - وهل هناك قطاع خاص أو إنسان يستطيع أن يقاوم هذا السرطان؟! - ألا من سبيل؟ - واضح أننا إذا رفضناه سيجعل الانتقام منا شغله الشاغل، ومن المؤكد أن الوسائل كلها بيديه. - نسافر، نترك مصر. - لك الله يا بنتي الحبيبة! أتظنين أنني لم أفكر في هذا، ولكن كيف؟ إن مصر اليوم مغلقة على من فيها، لا تفلت من جدرانها نملة إلا بإذن من السلطان، والسلطان في يد هذا السرطان.
وأطرقت طويلا وقالت وكأنها شخص مذهوب العقل: إنك تحتفظ بمالك في المنزل وبالمجوهرات، ألا تستطيع أن تستأمن عليها أحدا من أصدقائك وترفض الزواج؛ حتى إذا استطاع أن يفرض عليك الحراسة لم يجد عندك ما يصادره. - لم يغب عني هذا، إنه قادر إذا لم تجد الحراسة عندي المال الذي يعرفه على الأقل فإنه سيستطيع أن يسعى بي إلى من يعتقلني، وليس يعنيني أن أعتقل ولكن ما مصيرك أنت إذا أنا اعتقلت؟! - إلى هذا الحد؟! - لست أخترع مصائب، إنما أروي لك ما رأيناه وقع فعلا للآخرين.
وأطرقت فوزية، وفرت من عينيها دمعتان حاولت بجهدها كله منعهما أن تسيلا فغلبتاها على أمرها، قالت: إنني أعلم أنك لو اعتقلت أستطيع أن أواجهه، ولكن فكرة أن تعتقل وأنت في سنك هذه، مجرد الفكرة مهما تكن غير مؤكدة أردها عنك لا بالزواج من هذا الشيطان فقط، ولكني أقدم حياتي وأنا سعيدة لأرد عنك هذا الاعتقال. - والله يا بنتي الذي لا إله إلا هو لو وثقت أن اعتقالي سيرد عنك هذا البلاء لرحبت به. - لتكن مشيئة الله نافذة. - إن الله أرحم بعباده من أن يقبل هذا الذي يحيط الناس من قهر وعذاب وتنكيل.
والعجيب أن فوزية قالت: إنه سبحانه يقول:
ولنبلونكم
ويقول:
وبشر الصابرين ، دعنا يا أبي نشتر الآخرة بالدنيا والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. - إذن؟ - من أجل سلامتك وحدها أتزوجه. - كان الله في عوننا يا بنتي، فإنني أيضا من أجل سلامتك وحدها سأقبل زواجك به، ولعنة الله على الظالمين.
الفصل الرابع عشر
وتم الزواج في حفل قصد عبد الشكور أن يكون غاية في الفخامة والأبهة؛ ليعلن بمن حضره من الأقيال وأصحاب السلطان مدى ما يتمتع به من صلات وقوة وعنفوان. وهو أمر لم يكن محتاجا إلى تأكيده؛ فهو معروف للقاصي والداني، ولكن عبد الشكور يتمتع بأن يؤكد هذا كلما أتيحت له فرصة.
وأين يجد فرصة خيرا من زواجه ليستمرئ هذا الشعور.
ولم يكن يعنيه في قليل أو كثير ما يقترن بسيرة قوته ومنعته ونفوذه مما يعرفه الناس عن الوسائل التي سعى بها إلى هذه المكانة.
فالناس، أغلب الناس، إذا واجهوه أظهروا التبجيل والإكبار والإجلال، وإن كانوا لا يضمرون له في دخائل أنفسهم إلا الاحتقار والاشمئزاز والهوان.
ومهما كان الفرح باذخ الفخامة فإنه لم يستطع أن يرسم ظل ابتسامة على وجه العروس، أو علامة مهما تكن واهنة من حبور على وجه أبيها.
ويستطيع عبد الشكور أن يهدد ويتزوج بمن اختارها بكل وسائل الغدر والختل والجبروت، ولكنه لا يستطيع - كما لا يستطيع إنسان - أن يأمر ابتسامة أن تعلو شفتين، ولا علامة من حبور على ملامح إنسان. •••
في ليلة الزفاف كانت فوزية واثقة أنها أتعس إنسانة على ظهر الأرض، وكانت كلما لامسها عبد الشكور أحست التقرف والتقزز.
وكان عبد الشكور واثقا أن زوجته لا تحبه، وإن كان يجهل أنها كانت مرتبطة بعلاقة حب عنيف مع أمجد الزعفراني المعيد بالكلية التي تخرجت فيها.
كان يجهل هذه العلاقة، ولم يكن محتاجا لمعرفتها ليدرك مدى الكراهية التي تحسها فوزية نحوه، ولكن متى حفل عبد الشكور بمشاعر الإنسان، حتى وإن كان هذا الإنسان زوجته التي أمست منذ الليلة نصفه الآخر، المفروض فيها أن تكون سكنا له ومودة ورحمة وأنيسا لحياته وتوأما لروحه.
ولكن متى كنت في حاجة إلى من يحبني؟! يكفيني حبي لنفسي. كل ما أريد من هذه الفتاة أن تصبح زوجتي، وقد أصبحت، ولتذهب مشاعرها إلى أي جحيم تريد.
لم يمنع التقزز من فوزية وجمود الحس من عبد الشكور أن ينال الزوج حقه الشرعي، منحته له فوزية وكأنها مقدمة على الانتحار.
كانت الحياة بين الزوجين بعد ذلك نسخة مكررة مما كانت في الليلة الأولى؛ احتقارا وامتهانا وتباعدا من الزوجة، وعدم مبالاة وصلابة أحاسيس وتجاهل كراهية من عبد الشكور.
فهو لم يعرف الحب في حياته كلها، وهو لا يريد أن يعرفه. ولا يعنيه أن تحبه زوجته، بل لا يعنيه أن تكرهه؛ فكما كان لا يعبأ بالحب من أي إنسان مهما يكن قربه منه كان لا يحفل بالكراهية مهما تكن مؤصدة إليه من زوجته؛ إلف حياته وأم ولده.
نعم لقد حملت فوزية منذ الشهر الأول من الزواج، ووضعت لزوجها طفلهما بعد عشرة أشهر من زواجهما.
وتدخل الجد في اختيار اسم الوليد فكان راشد؛ اسم واحد من أجداده العظام، ولم يمانع عبد الشكور؛ فكل الذي كان يطمح إليه أن يكون له ابن يحمل اسمه.
أما فوزية فإنها منذ سكتت عنها آلام الوضع أزمعت أمرين لم تتوان في تنفيذ أولهما.
ففي اليوم الأول لاستطاعتها الخروج من البيت قصدت إلى الدكتورة مفيدة عبد الغني التي كانت مشرفة على الولادة، وكانت زميلتها في المرحلة الثانوية ثم اختارت كلية الطب وتخرجت فيها متخصصة في أمراض النساء، وقد أصرت فوزية ألا يشرف عليها في فترة الحمل والولادة إلا زميلتها القديمة، ولم يجد عبد الشكور بدا من الاستجابة لرغبتها.
رحبت مفيدة بزميلتها وصديقتها، وسألتها في دهشة: لماذا خرجت من البيت قبل الموعد الذي حددته لك. - أريد منك أمرا هاما. - ولماذا لم تستدعيني؟ - كان لا بد أن آتي إليك. - عجيبة! - لا أريد أطفالا بعد راشد. - ليس لديك ما يمنع الحمل مرة أخرى وثالثة وعاشرة. - لو كان لدي ما يمنع ما جئت إليك. - أكاد أفهم ولكنني لا أتصور. - بل هو ما فهمت. - أتريدين أن أجعلك عقيما؟ - هو ذاك. - ولكن.
وقاطعتها فوزية: لا تنطقي حرفا قبل أن أقص عليك كيف تزوجت.
وكانت قصة كافية لأن تجري مفيدة لفوزية عملية التعقيم، وقد أقدمت على إجراء العملية بضمير هادئ مستريح مطمئن أنها تقوم بعمل إنساني تثاب عليه. •••
أما الأمر الثاني الذي أزمعته فوزية فقد كان المستحيل أن تبدأ به من فورها، بل كان لا بد لها أن تنتظر بعض الوقت.
لقد كانت مصممة أن يكون ابنها أي شيء إلا أن يكون شبيها لأبيه في الهوة السحيقة من الأخلاق التي يتمتع بها هذا الشيطان الذي سماه أبوه عبد الشكور.
الفصل الخامس عشر
مرت السنوات حافلة بالأحداث الجسام.
واستطاعت فوزية أن تباعد بين ابنها وبين أبيه، باذلة في سبيل ذلك كل جهد؛ لا تدخر وسعا لجعل الطفل يتعلق بها وينفر في الوقت ذاته من أبيه.
ولم يترك عبد الشكور وسيلة تجعله يتقرب من ولده إلا سلكها، دون أن يجدي سعيه الملح أن يجعل راشد يميل إليه.
ومع مرور الأيام بدأت مشاعر راشد تتحول شيئا فشيئا من تباعد عن والده إلى نوع من الكراهية.
وإن كان هذا لم يمنع عبد الشكور أن يدخل ابنه إلى المدرسة الألمانية ليجيد اللغة التي يجيدها مع لغات أخرى.
ولم تجد فوزية في اختيار هذه المدرسة ما يحول بينها وبين ما تريده لابنها من مستقبل باهر تصاحبه كراهيته لأبيه.
ولم يبلغ راشد سن الوعي إلا وقد زال عهد أبيه الزاهر وأصبح بلا حول ولا قوة؛ فقد تغير الحكم في مصر، وكان رفت عبد الشكور من رئاسة البنك من أوائل ما قام به العهد الجديد.
ويشاء العزيز الحكيم أن يظل رستم على قيد الحياة حين عادت الطمأنينة على الأنفس والأموال والحريات إلى خلق الله في مصر.
وحينئذ أودع رستم كل أمواله مطمئنا في أحد البنوك باسم ابنته فوزية؛ لتدر عليها دخلا يجعلها في غنى كل الغنى عن زوجها، كما أودع مجوهراتها الشامخة القيمة نفس البنك في خزانة باسم فوزية.
وقد صحبته فوزية إلى البنك على غير علم من زوجها، ولم يكن رستم في حاجة أن يطلب إلى فوزية أن تكتم عن زوجها اسم البنك.
وكأنما كان رستم يضع موعد موته في حوزته؛ فما إن اطمأن على مستقبل ابنته حتى وافته المنية بعد أشهر قلائل من تأمين مستقبل ابنته.
وفي يوم المأتم استقبل عبد الشكور العزاء في موت حميه، الذي لم يسع فيه إليه إلا قلة نادرة تصدقوا بعزائهم في غير همة ولا حماس.
في ليلة المأتم وقبل أن يطلع الصباح سأل عبد الشكور زوجته: ما أنباء الميراث؟ - ليس هناك ميراث. - كيف؟ - هكذا. - ينبغي أن تخبريني؛ فإنك وحيدة أبيك، وقد يشاركك الميراث أي صاحب حق فيه. - لن يجدوا باسم أبي مليما واحدا إلا أثاث الشقة والمكتبة. - إذن؟ - إذن لو فاتحتني في هذا الموضوع مرة أخرى فلن أبقى في البيت لحظة واحدة لا أنا ولا راشد. - ولكني زوجك. - عندك ما يكفيك، والله جعل ذمة المرأة مستقلة. - الله؟ - أنت طبعا لا تعرفه؛ فلم أسمعك تذكره مطلقا. - أستطيع أن أعاملك بالمثل. - أرجو أن تفعل. - سترين. - سأكون سعيدة حين أرى.
بعد أيام حول عبد الشكور ثروته الباذخة جميعها باسم ابنه حتى ينتقم من زوجته فلا ترث منه مليما واحدا.
ولما كان هو الولي الطبيعي لراشد فقد كان يدرك أنه يستطيع أن يتصرف في هذا المال ما شاء له التصرف. •••
قبع عبد الشكور في بيته بلا عمل، فلم يجد شيئا يفعله إلا أن يسعى إلى هؤلاء الذين زال عنهم من المجد والجبروت كما زال عنه، يجتمعون في بيوت بعضهم البعض، لا حديث لهم إلا المديح فيما مضى والقدح فيما هم فيه من هوان شأن وانعدام قيمة.
وفي يوم نبتت في ذهن عبد الشكور فكرة سارع إلى تنفيذها.
ولماذا لا؟ ألم نصبح في عصر الانفتاح، فلماذا لا أصيب منه من المال ما أطيق أن أصيب؟! وليست قوة المال بأقل شأنا من سطوة النفوذ.
الفصل السادس عشر
سافر عبد الشكور إلى ألمانيا؛ فإن صلته بمارك وهوفمان ظلت ممتدة، وكان يعلم تمام العلم أين سيجد كلا منهما.
ولم يخب مسعاه؛ فسرعان ما التقى بمارك، ووجده في أحسن حال في عائلته وماله معا.
تزوج مارك، وأصبح لديه ولدان قريبان من عمر راشد؛ وهما أندرسن وستيفان. وفي نفس الوقت أنشأ مارك مصنعا ضخما لصنع الأثاث الخشبي عاد عليه بالغنى الوفير.
أما هوفمان فقد تزوج هو أيضا، وأنجب ابنا قارب سن الشباب وابنة تصغره بعامين. والولد اسمه رالف والبنت كريستين، وقد حقق هوفمان نجاحا باهرا، وأنشأ بيتا تجاريا عملاقا للأدوات الكهربية مثل التليفزيون والثلاجة والغسالة وسائر الأدوات المنزلية الكهربية، وكلها تحمل ماركة هوفمان، وقد صارت ماركة شهيرة في ألمانيا جميعها.
وأدرك عبد الشكور في دربة الخبير أن عمله سيكون مع هوفمان، ولكنه مع ذلك دعا كلا من مارك وهوفمان إلى غداء يرد به على دعوتيهما له حين وصل ألمانيا.
وعرف الصديقان كل أنباء صديقهما المصري منذ تركهما حتى مقدم راشد ثم ما كان بعد ذلك من إقصائه عن البنك.
وفي اليوم التالي ذهب إلى هوفمان في مكتبه وسأله: من المؤكد أنه ليس لك وكيل في مصر. - فعلا ليس لي وكيل في مصر. - فما رأيك أن أكون أنا وكيلك؟ - لا بأس، وإن كنت قد فهمت أنك لست مقربا للسلطة في مصر. - الأمر اليوم مختلف تماما في مصر. وما دمت لا أعمل بالسياسة فهم لا شأن لهم بي على الإطلاق. - ليست السياسة بعيدة عن الاقتصاد. - إنهم يريدون أن يقلبوا النظام الاقتصادي في مصر إلى نظام حر، ولولا وثوقي من أنني سأنجح بهذا التوكيل الذي سأحصل عليه منك ما غامرت. - من ناحيتي لا أرى بأسا. - فلتجهز العقود. - ليكن توكيلك أول الأمر مقصورا على عنصر واحد من عناصر الأجهزة. - وأنا أيضا أفكر في ذلك، وليكن التوكيل في بيع التليفزيونات. - لا بأس. - لا تنس أن اسم هوفمان ليس معروفا في مصر، وسوف أنفق أموالا طائلة لأروج للاسم. - أقدر ذلك. - أرجو أن يمتد تقديرك إلى النسبة التي سأحصل عليها. - عبد الشكور، أنا في غير حاجة إلى السوق المصري؛ فما أبيعه الآن في ألمانيا وأوروبا يكفيني وزيادة، بل إنني سأضطر إلى توسعة في مصانعي لأواجه المطلوب من منتجاتي. - لماذا تقول هذا؟ - أنت تفهم تماما لماذا أقوله. - أن الفائدة التي تعود علي من التوكيل أكثر بكثير من الفائدة التي تعود عليك؟ - أرى أنك سريع الفهم كعادتك دائما. - وكيف تريدني أن أشكرك؟ - إنها ليست معرفة يوم، إنها السنوات الطوال. - وهذا ما أطمعني فيك.
ورفع هوفمان سماعة التليفون واستدعى موظفا عنده، فحين جاء قال له: اكتب معه عقد توكيل بالشروط التي يريدها.
وقال عبد الشكور: هذا ما أنتظره منك. - أعلم أن هذا ما تنتظره مني. - هل أجعل التوكيل في مصر وحدها أم في البلاد العربية كلها. ونظر إليه هوفمان نظرة طويلة وصاح: إنك لم تتغير. - كيف؟ - تريد أن تحصل على كل شيء دفعة واحدة. - ما دام ذلك ممكنا. - اجعل العقد في مصر مبدئيا، وأعدك ألا أعطي توكيلا لبلد عربي قبل أن أعرضه عليك. - هذا يكفي.
وصمت قليلا ثم قال: مؤقتا.
وقال هوفمان مبتسما: لم أسارع بالرد على قولك منتظرا بقية الجملة. - أنت في غاية الذكاء. - ليس هذا من ذكاء، وإنما عن معرفة بك. - وشيء آخر. - أريد العقد باسم ابني راشد عبد الشكور. - أنت تقول إنه صغير. - ولكنه سيكبر، وأريد أن أغرسه بين رجال الأعمال منذ بداية حياته. - ومن سيكون المسئول. - أتتصور أن يكون شخصا آخر غيري. - المفروض ألا أقبل هذا الطلب، ولكن لأنه منك أنت، ولأنني لا أريد أن أرفض لك أي مطلب مهما يكن شاقا، فإني أقبل.
ونظر إلى الموظف الذي جلس معهما ينتظر ما ينتهيان إليه وقال له: اكتب العقد بالاسم الذي يريده وبالنسبة التي يقدرها وبطريقة الدفع التي يقررها، اعتبر أنه مكاني تماما ونفذ له كل ما يريد. •••
وتم عقد التوكيل كما شاء عبد الشكور تماما.
أما مارك فلم يجد عنده ما يستطيع أن يستورده إلى مصر، وقال مارك: إنكم في مصر تجيدون صناعة الأثاث. - هذا صحيح. - والأثرياء يحبون الأثاث الفرنسي القديم وإن دفعوا فيه أسعارا خيالية. - وهذا أيضا صحيح. - ولكني أنوي صناعة أدوات منزلية. - كهربية؟ - أتتصور أن أنافس هوفمان؟ - إذن؟ - أدوات منزلية غير كهربية، وحين أصنعها سأطلبك لتأتي. - أنا تحت أمرك. - وتأكد أنك ستكسب منها مثلما تكسب من تليفزيونات هوفمان. - أنا واثق. •••
وعاد عبد الشكور إلى مصر ظافرا منتصرا، وازداد استغناء عن حب زوجته، وإن كان الأمل ظل يداعبه في استمالة راشد إليه.
ربما حين يكبر ويرى ما أعددته له من مال ومشروعات تجارية يتعلق بي تعلقه بأمه، أو أي تعلق والسلام، ربما، من يدري؟!
الفصل السابع عشر
ما أسرع ما تمر الأيام!
نجح عبد الشكور في توكيله، وأصبح اسم التليفزيون هوفمان شهيرا في مصر؛ مما جعله بعد بضعة سنوات يجدد التوكيل مع هوفمان، على أن يشمل البلاد العربية إلى جانب مصر.
أما راشد فقد راحت الأيام تمر به، وراح يزداد تعلقا بأمه وبعدا عن أبيه، رغم أنه علم أن التوكيلات التي حصل عليها أبوه كانت جميعها باسمه.
وحصل راشد على الثانوية العامة واختار له أبوه بترحاب من أمه أن ينتسب إلى الجامعة الأمريكية، ورغبته أمه في هذا قائلة له: إنك تجيد الألمانية والفرنسية من المدرسة. - الحقيقة إن تفوقي في الفرنسية يرجع الفضل فيه إليك. أنا لا أنسى كيف جعلتني أحب الأدب الفرنسي، ولا أنسى الليالي الطوال التي كنت أقضيها معك في قراءة الأدب الفرنسي. - فإذا دخلت الجامعة الأمريكية فإنك ستجيد الإنجليزية أيضا وهي لغة العصر. - إنك لا تحتاجين معي إلى إقناع، يكفي أن أتلمس رغبتك من بعيد حتى أنفذها بكل حماس وبلا مناقشة أو تفكير مني. - يا حبيبي، إذن على بركة الله. - سبحانه وتعالى، على بركة الله.
وفجأة وجدت فوزية نفسها تقول لابنها: راشد. - أفندم. - جاء الوقت لأقول لك شيئا. - هل هناك شيء لم تقوليه لي حتى الآن؟ - كنت أنتظر اليوم الذي أراك فيه على ما أنت عليه اليوم لأقوله. - وعلى أي شيء أنا اليوم؟ - على درجة كاملة من الوعي لتستوعب تماما ما أريد أن أحدثك فيه. - الحمد لله. - ربما رأيت مني تباعدا عن أبيك. - بل نفورا. - سمه ما شئت. طبعا لا تدرك السبب. - أتصوره، وإن كنت غير واثق منه. - ماذا تتصور؟ - أبي بطبيعته له طابع خاص به. - ما هو؟ - لا يعرف كيف يعطي، وإنما يعرف تماما كيف يأخذ. - بمعنى؟ - بمعنى أنه لم يقدم لي في حياته هدية إلا انتظر أن أقدم له في مقابلها شيئا. - ثم ماذا؟ - لا أستطيع أن أحدد، وإنما كنت أحس دائما أنه يريدني أن أدفع له ثمن الهدية. - قبلة مثلا؟ - إنه لا يهتم بهذه المشاعر مطلقا. - إذن فاسمع ما لم أقله لك عن أبيك.
وراحت فوزية تقص على ابنها تاريخ أبيه كله لم تغفل منه شيئا، روت له كيف وصل إلى مكانه في البنك، وقد عرفته مما رواه لها عبد الشكور محاولا أن يريها كم هو ماهر حاد الذكاء، دون أن يعنيه في شيء أن فوزية تقدر المعاني السامية من الشرف أو الوفاء للأصدقاء أو الكبرياء عن الدنس وامتهان الذات، وكل هذه المعاني التي ضرب بها عبد الشكور عرض الأفق؛ في معاملته لفتحي، أو في تقربه من صبحي، أو في امتهان كرامته غاية الامتهان فيما بذله لموسى أشرف، أو في إلغائه لضميره في كل الصفقات التي كان يعقدها في البنك.
وروت فوزية لراشد كيف تزوج بها، بل إنها لم تكتم عنه ما كان بينها وبين أمجد الزعفراني الذي أصبح دكتورا وأستاذا من حب عفيف نقي طاهر ومن تواعدهما على الزواج، روت لابنها كل شيء، لم تخف من حياة أبيه وحياتها خافية ، حتى صلته بأمه وبأبيه روتها له كاملة منذ ترك القرية حتى مات أبوه، وقد كانت قصته هذه يتناقلها الجميع، ولكنها بطبيعتها تحاذر أن تصل إلى مسامع الابن؛ ولهذا لم يكن غريبا ألا يعرفها راشد إلا من أمه. وهكذا لم تحجب فوزية عن ابنها شيئا من تاريخ أبيه العملي أو الأسري بل والبنوي أيضا، واستمع راشد صامت الفم مزلزل النفس زلزالا عاصفا لكل حرف تساقط في حزن وألم وأسى، من فم أمه في ظاهر أمره، ومن بعيد أعماقها في حقيقته.
وحين سكتت فوزية ساد الصمت حينا طويلا، وقال راشد لاهثا: إنك في محافظتك على شرفك الذي هو شرف أبي بعد كل الذي سمعت تعتبرين أعظم امرأة في الوجود. - إن شرفي عندي أغلى من أي شيء، حتى ولو كان هذا الشيء هو الانتقام من أبيك. إنه كرامتي الشخصية، وما كنت لأسمح لأبيك مهما فعل أن يجعلني أتنازل عن كرامتي. - وبحفاظك أنقذتني أن أكون ابن أم ... ابن أم ... لا أريد أن أقول الكلمة. - الحمد لله، نعم تستطيع أن ترفع رأسك دائما إذا واجهت العالم بأمك. - ولكن لا بد لي أن أنكسها إذا واجهت هذا العالم بأبي، الآن عرفت لماذا يتصور دائما أن حبه لا يتمثل إلا في المال. - هذا منتهى علمه بالحياة جميعها. - ولهذا جعل توكيلاته باسمي؟ - لا ليس لهذا وحده. - إذن فلماذا؟ - إنه حريص ألا أرث منه مليما واحدا إذا مات قبلي. - هذا أقرب لخلقه. - لا تعذب نفسك؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يختار أباه. - ولا أمه. - بحسبك أن تكون راضيا عن أمك، إنك لا تملك أن تصنع شيئا. - فعلا أنا لا أملك أن أصنع شيئا الآن. - ولا في المستقبل. - المستقبل لا يفعله إلا الله. - صدقت.
الفصل الثامن عشر
تخرج راشد في الجامعة الأمريكية حاصلا على شهادة في الاقتصاد، وفي اليوم التالي لتخرجه اصطحبه أبوه إلى مقر شركاته، وأدخله إلى غرفة فاخرة الأثاث. - حجرتك.
وفي انبهار بفخامة الأثاث قال راشد: توقعت هذا. - ألا تشكرني. - كشأنك دائما يا أبي. - وما هو شأني؟ - تنتظر مقابلا لكل عمل تقوم به. - أليس هذا أمرا طبيعيا؟ - عندك أنت نعم. - وعند غيري؟ - هناك أشياء يصنعها الإنسان ولا ينتظر عنها مقابلا فوريا أو يحتسبها عند الله. - إن لم تأخذ لأي جهد تبذله مقابلا فلن تستطيع مواجهة الحياة. - ألا أستطيع أن أقدم خيرا لمجرد الصداقة أو الود أو الصلات الإنسانية مثل الأبوة والبنوة؟ - هذه لغة أمك. - أحسب أنها لغة الحياة الإنسانية. - إذا أردت أن تواجه الحياة فإياك، إياك أن تتكلم هذه اللغة الإنسانية التي تذكرها. - أشكرك يا أبي على المكتب، وسترى أنني جدير به، وسأرد فضلك إليك أضعافا مضاعفة من الأموال. - شكرك الحقيقي يكون بتذكرك لهذا الذي أقول. - أبي، إن هذه هي شريعتك في الحياة، وهي ليست شريعة الإنسانية كلها. - وماذا يضيرك أن تكون لي شريعتي الخاصة، وتكون شريعتك أنت أيضا، ألست ابني؟ - إننا نعيش مع الناس. - ستريك الأيام أنني على حق. - وربما وجدت أنت أن الناس على حق. - بعد سني هذه؟ - ليس للحقيقة موعد معين تظهر فيه للإنسان. - المهم أن تكون في شركاتي هذه متبعا لشريعتي.
وضحك راشد ضحكة هينة وقال لأبيه: أظنها شركاتي أنا. - نسيت، نعم نسيت.
وضحك ملء فمه وقال: متى تبدأ العمل؟ - الآن إذا أردت. - أحب هذا الحماس. - أعرف هذا.
وقال عبد الشكور: وهو كذلك.
وقال راشد: على بركة الله.
ما هي إلا فترة وجيزة حتى كان راشد قد استوعب الشركة كلها وكان هو الذي يقوم بالاتصالات التليفونية أو غيرها من فاكس أو تلكس أو برقيات مع هوفمان.
وحين مات هوفمان بدأ راشد يوثق صلاته اللاسلكية مع ابنه رالف الذي تولى الشركات من بعده.
واستطاع راشد بنشاطه وذكائه أن يقصي أباه تماما، حتى لم يعد أبوه يجد شيئا يعمله فعاد إلى رفاق سلطانه يجتر وإياهم أيام سطوتهم وجبروتهم. وإن كان يجد في نفسه بعض الألم أن أصبح بلا عمل.
وماذا يضيرني من هذا؟! أليست هذه آمالي كلها تتحقق، وأصبح راشد واحدا من أهم رجال الأعمال؟! وماذا علي أن أستريح؟! طعم الراحة مر في فمي. لا بأس لقد عملت حياتك كلها منذ أنت طفل صغير حتى بلغت هذه السن. وحياتك ممتدة في ابنك. أي أب يكون عنده ابن كراشد ولا يكون سعيدا هانئا؟! عجيب! سعادتي ليست خالصة، وهنائي يشوبه شيء لا أدري كيف أصفه، وإن كنت أحس به.
لقد عشت عمري أصنع أيامي فلا بأس علي اليوم أن أترك ولدي يصنعها لي. فهو مهما يكن الأمر ابني، وابني الوحيد الذي لا ملجأ لي في الحياة إلا هو، جاءني من أم كرهتني منذ خطبتها، وبدلا من أن تهون العشرة من كراهيتها زادتها عنفا ونفورا وعمقا.
ليكن ابني محبا لأمه أكثر من حبه لي. إلا أنه أولا وأخيرا ابن دمي؛ فمهما تكن كراهية أمه لي إلا أنها لم تخني يوما. وحين كنت في موقف أستطيع مراقبتها منه بثثت حولها العيون فما رأيت منها إلا الوفاء والإخلاص والشرف. فهو ابني لا شك في ذلك.
لأتركه يصنع لي أيامي المقبلة، فأنا الذي صنعت له أيامه الماضية والحاضرة التي يحياها الآن.
الفصل التاسع عشر
قالت له فوزية في جلسة هادئة: ألم يأت الوقت؟
وفي سرعة خاطر قال: قد أتى. - فماذا تنتظر؟ - أن تفاتحيني. - لماذا لم تفاتحني أنت؟ - أردت أن أكون منفذا لأوامرك. - حتى في زواجك. - وخاصة في زواجي. - أفي ذهنك عروس؟ - هي التي في ذهنك.
وأشرق وجه فوزية وامحت عنه تجاعيد السنين. - هل كنت تعرف؟ - ألا تعرفين أنني كنت أعرف؟ - كنت أرجو. - ومتى نكصت عن رجاء نفسك؟! - الحق أنت دائما تحقق أملي فيك. - لقد صنعتني بعد الله على عينيك. - ونعم ما صنع الله وهيأني لأصنعه. - أنا تحت أمرك، تستطيعين أن تخطبي دعاء حين تشائين.
وتهلل وجه فوزية مرة أخرى وأرادت أن تمتع من اللحظة كل ما فيها من سعادة وترتشف عصيرها جميعه حتى لا تبقي منه شيئا. - كيف عرفت؟ - حرصك أن أصحبك إلى تنت عايدة كلما زرتها، وإصرارك على دعوتها هي ودعاء كلما عرفت أنني لن أخرج من البيت. - ودعاء، هل تعلم؟ - لقد كنت أنت وأمها تحرصان على أن تتركانا منفردين بأعذار واهية. - وفيم كنتما تتحدثان؟ - في محاولتكما التقريب بيننا، واتفقنا أن نتغافل أنا وهي ولا نشعركما أننا لا نحتاج إلى هذا الجهد منكما. - فأنتما متحابان؟ - إذا شئت أن تقولي هذا. - كم أنتما خبيثان! - بل قولي كم أنتما طيبتان أنت وأمها! - إذن؟ - افعلي ما شئت، بالطريقة التي تعجبك، وفي الوقت الذي تحددينه.
ووضح على وجه فوزية أن فكرة وثبت إلى ذهنها. - في أي يوم نحن من الأيام؟ - الخميس. - ولماذا لم تذهب إلى الشركة؟ - أردت أن أقعد معك اليوم. - أكنت تنوي أن تفاتحني في هذا الموضوع؟ - بل كنت أنتظر أن تفاتحيني. - قم فالبس ملابسك. - ماذا؟ أتريدين أن تصحبيني معك في الخطبة؟ - لا إنما أريدك في شيء آخر تماما، قم فالبس ملابسك. •••
صحبت فوزية رستم نامق، راشد إلى البنك الذي فيه أموالها ومجوهراتها. وحولت المال وصندوق المجوهرات جميعها باسم راشد.
وحين فتحت صندوق المجوهرات انتقت منه عقدا نادر الوجود في العالم أجمع وقالت لراشد: بهذا العقد شبك أبي أمي، وبهذا العقد سيشبك راشد دعاء.
وفي انبهار راشد بروعة العقد لم يستطع أن ينطق حرفا، ولم يتردد أن يقبل أمه في وجهها ويديها، على مشهد من موظف البنك الموكل بتنفيذ أوامر السيدة الفاحشة الثراء، فوزية رستم نامق. •••
تم الزواج في حفل خيالي العظمة، وخلا العريس بعروسه. - وأخيرا.
وضحكت دعاء. - آن لأمك وأمي أن تستريحا. - وآن لنا أيضا.
وفي الصباح قال راشد لدعاء: ما رأيك، أنا عندي عمل في ألمانيا ليس عاجلا، وإنما قصدت أن أؤجله إلى ما بعد الزواج حتى يكون شهر عسل لنا في ألمانيا وفي أوروبا كلها.
وفرحت دعاء غاية الفرح. - أتسألني رأيي؟ - كنت أستطيع أن أكذب عليك وأقول إنه شهر عسل فقط، ولكنني منذ تفاهمنا أخذت على نفسي عهدا أن تكون نفسي كتابا مفتوحا أمامك لا يخفى منه عنك ما فيه.
وقبلته وهي تقول: ولك مني أن أكون كذلك معك. •••
سافر العروسان، وبدأ راشد يذهب إلى رالف، وتعارفا مواجهة، واستطاع راشد أن يحصل من رالف على توكيل عام لجميع منتجات هوفمان بلا استثناء، فأصبح له حق استيراد الثلاجات والغسالات وكل الأدوات الكهربية الأخرى.
وأقام رالف وليمة للعروسين، ودعا إليها صديق العمر لأبيه؛ مارك، وابنه ستيفان، وابنته كريستين.
وقال مارك لراشد: عندي لك هدية زواج. - يكفي أن أراك؛ فقد عرفت من أبي كيف علمته الإنجليزية والألمانية. - شاركني هوفمان في تعليمه الألمانية. - أعرف هذا. - لم تسألني عن الهدية! - أنا متأكد أنها هدية عظيمة من رجل عظيم. - إليك هي.
وقدم إليه عقدا من صورتين يفيد توكيله في استيراد جميع الأدوات المنزلية التي كان وعد أباه أن يوكله فيها حين بدأ إنتاجها. وشكر راشد الرجل العجوز وصافحه، ورفع صورة العقد بين تصفيق الحاضرين. •••
وحين عاد راشد ودعاء إلى مصر بعد رحلة ممتعة في أوروبا جميعها لم يكن راشد وحده الذي يحمل التوكيلات التي حصل عليها، بل إن دعاء كانت تحمل ما هو أهم من ذلك بكثير ...
كانت تحمل طفلهما الأول. •••
وضعت دعاء ولدا، ولم يتردد راشد أن يسمي الطفل رستم تقربا لأمه. وحين أنجبا أخته بعد ثلاث سنوات أسمى ابنته فوزية.
وكان الجدان والجدتان جميعا أعظم ما يكونون احتفاء بالحفيدين، لا يستثنى من ذلك عبد الشكور.
ومرت السنوات. وكبر الطفلان ودخلا المدرسة. •••
وفي يوم بينما كان راشد في مكتبه دق جرس التليفون الداخلي وجاء صوت أبيه. - ماذا تصنع؟ - لا شيء. - تعال اقعد معي.
وحين ذهب قال راشد لأبيه: أصبحت لا تزور المكتب إلا فيما ندر! - ماذا أعمل فيه؟! أنت مشغول، واتسعت أعمالك حتى أصبحت أنا غريبا عنها، والبركة فيك. - تتسلى. - أنا هنا لا أتسلى إلا إذا كنت أنت غير مشغول، وهذا قليلا ما يحدث.
وبينما الحديث يجري بين الوالد وابنه صاح عبد الشكور صيحة ألم عنيفة، وأصبح يغتصب أنفاسه من الهواء في جهد بالغ.
وسرعان ما جاء الطبيب، ونقلت سيارة الإسعاف عبد الشكور إلى المستشفى، وأجريت الفحوص الدقيقة، وفي مواجهة الأب ووجود الابن قال كبير الأطباء: حالة قلبية حادة.
وقال عبد الشكور: ألها علاج؟ - في أمريكا، وإنما لا أخفي عنكم، الأمل ضعيف. •••
قال الأب لابنه بعد أن انتقل إلى منزله بأيام: هل جهزت للسفر؟ - إلى أين؟ - إلى أمريكا. - لماذا؟
ووقعت الكلمة على الأب كأنها خنجر سفاك قاتل. - ألا تدري لماذا؟ - لا، لا أدري. - لإجراء عملية. - أي عملية؟ - التي قال عنها الأطباء. - إنهم قالوا إن الأمل ضعيف. - ليكن واحدا في المليون. - أتنفق عشرات الألوف من أجل أمل واحد في المليون. - إنها أموالي. - إنها ليست أموالك ولا أموالي، إنها أموال رستم وفوزية، وأنا أمين عليها، أيرضيك أن أخون الأمانة؟ - إذن أموت؟ - كلنا سنموت.
كلنا سنموت. كلنا سنموت. كلنا سنموت. طنت الكلمة في رأسه وفي كيانه: كلنا سنموت. لقد سمعتها قبل اليوم، لا، بل قلتها، قلتها، نعم قلتها، وأذكر اللحظة والوقت والمناسبة: كلنا سنموت. •••
ترك راشد والده وعاد إلى بيته.
ومرت الأيام، ولكن عبد الشكور منذ سمع كلمة ابنه دخل إلى غرفته لا يريد أن يرى أحدا أو أن يراه أحد. يدخل إليه الطعام في موعده ويتلهى بالراديو حينا أو التليفزيون، وقليلا ما يتلهى، ثم يأمر فتغلق النوافذ إن كان في نهار، أو يطفئ المصابيح إن كان في ليل، ويخترق بعينيه الظلام فلا يرى إلا رسما واحدا يلح عليه إلحاحا لا يغلبه ويغمغم: نعم إنها حياتي. حياتي أنا. دائرة حيثما بدأت من نقطة منها فمن الحتم المؤكد أن تعود إلى نفس النقطة التي بدأت منها.
فمتى، متى تطمس الأيام هذه الدائرة؟! كلمة لم أقلها في حياتي، لا مهرب لي من أن أقولها اليوم، ولا أقول غيرها: الله يعلم. الله وحده يعلم. أعرفت الله اليوم؟ ليس أمامي إلا أن أعرفه. لم يبق في حياتي إلا آخرتي. فإن لم أعرف الله اليوم فماذا يبقى لي؟! والعجيب العجيب أنه في عزلته هذه كان يحافظ على مواقيت الصلاة، ولأول مرة في حياته يحس مع الألم العاصف والأسى المبيد في جوانحه أنه بالصلاة مطمئن النفس؛ فهو بذكر الله في سكينة وأمان لم يذق نعيمهما في كل ما تركه وراءه من أيام ومن أسرة ومن ثروة. (انتهت بحمد الله.)
فندق برزدنت، جنيف
الساعة 12:30 ظهرا، يوم الإثنين 25 سبتمبر، عام 1995
Unknown page