تعودت أنا وأختي أن نتشابه في كل شيء، لم تنجح أختي أبدا في طمس ملامحها بمساحيق الوجه، وظلال الجفون وخطوط العينين، وفشلت أنا أيضا في معرفة وجهي من وجهها، وإن رأيتها أمامي يساورني الشك أنني أنظر إلى نفسي في المرآة.
كانت أمي تحوط السرير بستارة سميكة داكنة حماية لنا من عيون الرجال، يستقبلهم أبي في الغرفة، أفتح جفوني في الليل لأرى عيونهم من خلال الستارة ترمقني بجنون الكحول الرخيص، أو الحشيش المغشوش في السوق الحرة.
تنام أمي على طرف السرير، وأنا وأختي على الطرف الآخر بجوار الحائط، فلا يمكن لرجل منهم أن يعبر إلينا إلا فوق جسد أمي، وكانت نافذتنا الصغيرة ذات القضبان الحديدية المحاذية لأرض الشارع هدفا للتراب وكرات الطين، يقذفها الصبيان وهم يلعبون في الشارع، أو خصوم أبي في الأحزاب أو الجماعات الأخرى، المنافسين له في التقرب إلى الله وإلى السلطان.
كانوا يلقون علينا القمامة، وسيلا من الاتهامات بالفساد والرشوة والكذب، يتلقون الضربات من زملاء أبي المؤيدين له في الانتخابات، لم نكن نعرف أنا وأختي الخصوم من الأصدقاء، وكلهم زملاء أبي يتشابهون في الشكل والصوت والحركة، لا أفرق الواحد من الآخر. وفي سن الثانية عشرة من عمري، حين فض أحدهم بكارتي تحت السرير، لم أتبين ملامحه في الظلمة، بعد أن صب لي من زجاجة السبرتو كوبا، ودس في فمي قطعة من البسبوسة، شعرت به مثل خازوق يشق جسدي، وجسد أختي الراقدة معي، وكانت أمي تخرج في غياب أبي لتمسح بلاط الشقق في العمارة أول الشارع، تمر أمي على طوابقها العشرين طابقا طابقا، تمسح بلاطها وهي منكفئة على الأرض فوق ركبتها، برأسها المنكس ومؤخرتها المرفوعة في شموخ، تحميها بكفها الكبيرة من أذى مفاجئ أو خازوق غير مشهود، وتعود أمي لنا بأكياس الطعام وأقراص النعناع.
كان أبي يضربها إن عاد فجأة ولم يجدها، إن حاولنا أنا وأختي حمايتها لا ينالنا إلا الضرب، والشتيمة تنهال على أمي، والثقب الذي خرجت منه أمها وجدتها، ثم يجلس أبي بعد الضرب ويلتهم الطعام الذي جلبته أمي لنا والنعناع.
كنت أحب أبي وأكرهه حتى الموت، أتمنى أحيانا أن أموت أنا وأختي وأمي رحمة بنا، أتضرع إلى السماء أن تنزل علي خازوقا يشق جسدي حتى الموت، لا يعالجني إلا الهروب مع رجل في الليل، لا يغالبني الإحساس باللذة إلا مع الغثيان، كرهت رائحة المسك ودهانات الشارب واللحية، ولفائف التبغ مع السبرتو والبصل والثوم ، أمضغ بين أسناني الحشائش على جانب الطريق، أو أوراق النعناع الخضراء، لأطهر جوفي من الرائحة العطنة والإثم.
وأترك جسدي العاري تحت السرير يتلوى، فوق ملاءة مهترئة مبقعة بالدم، والسوائل المنوية الصفراء، تشبه القيء الناجم عن حمى الأحشاء، وكانت بعض نسمات هواء رطب تتسلل عبر القضبان وتنعشني قليلا فأفتح جفوني لأرى الخازوق المغرى بالموت منكمشا بالخزي.
إنه سحر الحب الذي أموت فيه، الذي يغني له الراديو والتليفزيون، وفرحة التلاشي الكامل حتى النهاية، لا يزعجني أن أرى نفسي أو أختي تحت جسد غريب أو قريب أو زميل لأبي، أو حتى أبي ذاته، فالنهاية واحدة، ولا شيء يختلف عن الآخر، الفرح كالحزن، والحياة كالموت.
كنت أهرب مع فتى مراهق من عمري، أو عجوز من رؤساء الجماعة، وأكتشف أن العجائز أكثر مراهقة من الصبيان الصغار، حاولت تدريبهم رغم فارق السن على الحب والرحمة والعدل دون جدوى، إنهم يحفظون هذه الكلمات، يرددونها كل وقت دون عناء، دون وعي، مع الإحساس الطاغي بالإثم، أسمع أنينهم وصراخ أرواحهم المثقلة بالذنب، حتى في أوقات الصمت أو النوم أو الراحة من الكلام بعد موسم الانتخابات.
كانت أختي أكثر طاعة مني وأقل حكمة، فهي تصدق ما يقولون من خرافات، يملئون أذنيها بما قاله الموتى من الأسلاف والجدود، بأن أرواحهم طاهرة وأجسادهم مدنسة بحكم الطبيعة وحكمة السماء، وأن خطيئة الواحد منهم لا علاقة لها به، وإنما هو الثقب المثقوب بالخازوق، أو الحمل المأكول بالذئب.
Unknown page