ذلك أن الأدب فن وصنعة: الفن للمهندس المشرف الذي يصنع التصميم، والصنعة للبناء الذي يضم لبنة على لبنة.
ومن هنا يجب أن يرتفع انتقادنا للأديب إلى حياته التي لا يمكن أن تنفصل من أدبه؛ لأن ما يأخذ به من قيم وأوزان في مجتمعه ودنياه وعيشه، ينتقل إلى ما يؤلف من الأدب، وقد سبق لي أن قلت - لهذا السبب - إن أحسن مؤلفات طه حسين هو حياته؛ إذ ليس هناك كتاب ألفه هذا الأديب المصري، الذي يكتب للخاصة، يبلغ في القيمة الإنسانية ما تبلغه حياته، هذه الحياة العجيبة التي تبدأ في الطفولة العرجاء؛ حيث الظلام واستهزاء الأفراد، والوسط الريفي الراكد، والبداية السيئة في التعليم، ثم الاختلاط بأوساط أخرى في القاهرة، ثم الاحتكاكات الجديدة التي تثير استطلاعه، فيشك، ثم يبحث، ثم يوقن.
ثم ينزع عمامته ويلبس قبعته، وينسلخ من الشرق إلى الغرب، يترك عاصمة أفريقيا ويرحل إلى عاصمة أوروبا، أي يترك القرون الوسطى إلى القرن العشرين، ويعود إلينا، ويكافح، ويتقي ما نرجمه به من أحجار في تجلد وكفاح؛ لأنه واثق من قوته، ثم تحمله الثقة والمثابرة إلى أن يكون وزيرا للدولة.
أية قصة في الأدب أعجب من هذه القصة؟! ولماذا لا نؤلف عنه مسرحية يرى فيها الشباب مثالا للكفاح الشريف؟!
إن بعض الناقدين قد بعثوا إلي برسالتهم يسألونني: ما شأن الشرف في الأدب؟! وماذا يمنع أن يكون الأديب عظيما حتى حين ينافق؟!
وجوابي أن هذا غير ممكن، ولو كان طه حسين منافقا، وارتضى لنفسه حياة غير شريفة، لما كان أديبا عظيما.
أدب طه حسين هو حياته ومؤلفاته معا ... وأحب أن أقول عن نفسي هذا أيضا.
وهذا هو الشأن في جميع الأدباء الذين جعلوا الأدب ضرورة اجتماعية في أوروبا، بل أيضا في مصر.
لا نستطيع أن نفصل أدب تولستوي الذي نقرؤه في قصصه من حياته التي تحدى بها مظالم القيصر ومساوئ الفقر، بل هو حين كان يصنع الأحذية بيديه للفلاحين كان أديبا لا يختلف في اتجاهه وأسلوبه عما كان يفعل حين كان يتناول القلم لكتابة القصة أو للحملة على شكسبير، وكذلك الشأن في فكتور هيجو، فإني حين أقرؤه أحس الشجاعة والشهامة اللتين واجه بهما الطاغية نابليون الصغير، وهذا إحساسي أيضا حين أقرأ أندريه جيد أو برنارد شو، كلاهما يحيا حياته في أدبه، ويحيا أدبه في حياته.
فلا تقولوا لي أيها الناقدون: ما شأن حياة شوقي وأخلاقه في فنه وأشعاره؟! لأن لها كل الشأن.
Unknown page