بل ماذا أقول؟ إن في الأغاني شخصية واحدة، شخصية عظيم من عظماء العرب، يدعى علي بن أحمد، حاول أن يحرر العبيد ويرفعهم إلى مقام البشر، ولكن مؤلف الأغاني، الذي كان يجهل الأهداف الإنسانية والروح الديمقراطي، كان يصفه بكلمات: الخبيث والفاسق والكافر واللعين.
اعتبر هذا أيها القارئ، رجل عربي يدعى علي بن أحمد، هتف به الشرف، فحمي قلبه وارتفع روحه، وصلى وركع للإنسانية، فوجد الإنسان يباع بالدرهم والدينار، ويوضع في السوق، ويفحص عن أسنانه، وتدس الأيدي بين أفخاذه، ويجر لسانه، ثم يضربه البائع بالعصا فينطلق وهو عريان يعدو للامتحان، ثم يقدر ثمنه، فيباع ويسلم سلعة للمشتري.
رأى علي بن أحمد هذا الهوان، فقال: هذا لن يكون. ثم جمع العبيد في البصرة، وثار على الخليفة العباسي يريد تغيير المجتمع، ولكن الخليفة هزمه بجيوشه الأجنبية التركية.
مثل هذا العظيم، هذا الإنسان الكمالي، هذا الرائد للحرية، لم يجد من أديب «الأغاني» سوى أنه: خبيث وفاسق وكافر ولعين!
لقد قال سارتر - على ما أذكر - إن صناعة الأديب هي الحرية. فماذا كان يقول عن علي بن أحمد وعن مؤلف الأغاني؟ إنني واثق أن أدباءنا الذين ينعون على أدبنا الحاضر الارتخاص والسهولة إنما يطلبون أدبا كذلك الذي يملأ صفحات الأغاني، وهم كما يحبون كلمات الأغاني يحبون أيضا أفكار مؤلفها؛ لأن الكلمات أفكار.
لم يكن مستغربا أن يفسد كل شيء في عهد فاروق، وأن يفسد الأدب أيضا مع ما فسد.
وأعني بكلمة «فاروق» ما تحمله هذه الكلمة من قيم رمزية للاستعمار البريطاني والاستبداد الملوكي والفساد الأدبي في أيامه وقبل أيامه.
لم يكن عجيبا أن يؤلف علي الجارم القصائد في مدح فاروق، ولعله دخل المجمع اللغوي وقبل عضوا فيه بسبب هذه القصائد!
ولم يكن عجيبا أن يكون الشاعر الأول في مصر - أحمد شوقي - شاعر الملوك، حتى فخر وباهى بأنه قد نشأ وربي على أعتاب إسماعيل، ثم بعد ذلك، أو قبل ذلك، لم يخجل من تأليف قصيدة يطعن فيها البطل المصري عرابي ويتهمه بالخيانة، مع أن شوقي لم يكن جديرا بأن ينفض الغبار عن حذاء عرابي.
وقد ألفت قصائد قبل بضع سنوات عن الجمل الذي فر من المجزر، ثم استجار بفاروق في قصر عابدين ... ألفها «أدباء»!
Unknown page