وهناك مجلات أخرى هي أدوات التجديد في جميع نواحي الحياة. ونحن نضع في المقدمة المجلة التي يحررها الدكتور «جاكس» نعني بها «هبرت جورنال»، فإنها مجلة دينية، ولكنها تكتب في البوذية والإسلام والأفلاطونية والمادية، فتملأ أذهان المفكرين ذخيرة للتجديد الديني. وهناك مجلة «نيو إنجلش ريفيو» التي تكاد تقصر نفسها على الدعوة إلى التجديد الاقتصادي بزيادة الاستهلاك على طريقة «دوجلاس» ومحررها «أوراج» رجل معروف منذ ثلاثين سنة يدعو إلى «نيتشه» والأدب الجديد. ثم هناك مجلات صغرى، تلتف حولها جماعات خاصة من الأدباء، وتنزع نزعات خاصة مثل «كريتيريون» و«أدلفي» فإن جميع الثائرين في الأدب الإنجليزي رأوا النور عقب ميلادهم في عالم الأدب في صفحاتهما .
وهذه المجلات، ثم أولئك المفكرون الذين ذكرنا بعضهم، هم الذين يمدون الأدب الإنجليزي الحديث بوسائل التجديد. وإليهم يرجع الفضل في النزعات الجديدة التي نجدها في «ألدوس هكسلي» و«لورنس» و«جويس»؛ لأنهم يقدمون الخمائر أي المواد الخام التي يتربى بها الأديب، يأخذها تبرا مخلوطا مشعثا فيصهرها في ذهنه ويخرجها ذهبا ناصعا في قصة، أو دراما، تستعذب وتستجمل. ولسنا نقصد من هذا إلى أن الأديب لا يبحث بنفسه في البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، أو أنه لا يكسب اختباراته منها مباشرة وإنما نريد أن نقول إن أدباء الإنجليز المجددين تحيط بهم بيئة ثقافية صحفية تعينهم على التفكير والتجديد، بل تحفزهم إليهما.
ونحن في مصر محرومون من هذه الخمائر الصحفية؛ لأن الإنجليز سنوا لنا قبل نحو أربعين عاما «قانون المطبوعات» الذي يفرض غرامة على كل من يرغب في إنشاء مجلة أو جريدة. ولا يزال هذا القانون باقيا؛ لأن الأحزاب تستغله في مناوأة خصومها ومنعهم من إنشاء الصحف. وبذلك تأخر تطورنا وسوف يتأخر ما دام قانون المطبوعات قائما يقيد الصحفي في إصدار الصحف ويعاقب على أشياء تباح في أوروبا الحرة. وهذا القانون هو عارنا الأبدي، فقد كنا نعده أيام الإنجليز من وسائل الاستعمار، أما الآن فهو من وسائل الاستبداد المصري، يستعمله مصريون لمنع التفكير الحر في مصر.
الثائرون
نقصد بالثائرين أولئك الذين جاءوا عقب المجددين وتتلمذوا لهم، ولكنهم خطوا خطوة أخرى أبعد منهم، وفتحوا ميادين جديدة حاول أولئك المجددون أن يفتحوها ولكنهم لم يستطيعوا لأن الزمن لم يكن قد هيأ لهم بعد أسباب الفتح.
وهؤلاء الثائرون جاءوا مدة وعقب الحرب (1919) ورأوا المدنية تضرى وتستوحش أمام أعينهم، وتهدم ما تعلموه من أخلاق أو أديان، فخرجوا منها وقد أنكروا كل شيء تقريبا. وشرع كل منهم يؤسس لنفسه إيمانا جديدا يخلص له ويدعو إليه. ولم يعد الأدب عند هؤلاء الثائرين صنعة تحتاج إلى الدرس والتأنق، وتوخي ما يحبه الجمهور القارئ، والوقوف على أسرار الفنون وغاياتها، وإنما هو عندهم بحث عن أرشد الطرق لأن نعيش في هناء على هذه الأرض. وهم لهذه الغاية يعتمدون على أنفسهم، ويكتبون تراجمهم أو تراجم أصدقائهم الذين عرفوهم، في صيغة القصة، ولا يبالون بأي لغة يكتبون. ولذلك تجد ما شئت من الخروج على القواعد - أي قواعد اللغة - وعرف القصة، وأسلوب الرواية. وأنت إذا لم تكن صبورا فإنك تطرح الكتاب بعد فصل أو فصلين.
ولهذا أسباب كثيرة أولها وأهمها، أن هؤلاء الثائرين لا يريدون التسامح في قليل أو كثير من الخيال، فهم يقررون الواقع، ويريدون مواجهة الحياة بكل ما فيها من خير أو شر، فلا يبالي أحدهم أن يقول لك أن في الحياة أقذارا وأن الناس يبنون المراحيض في بيوتهم. ثم إذا عبت عليهم تفكك القصة، أو تشتت حوادثها، أو أنها غير مهذبة في صيغتها، أجابوك بأن الحياة كذلك ليست متناسقة ولا مهذبة، وأنك إذا وقفت لحظة كي تفحص عن خواطرك وأفكارك ألفيتها في غاية التشعب والتشتت. ولن تجد صورة مهذبة لأي حادثة إلا في القصص الخيالية. وهم لا يريدون أن يرووا قصصا عذبة لذيذة، وإنما يريدون أن يترجموا الحياة الحقيقية كما يعيشونها هم أو كما يرونها في غيرهم بدون تحلية أو تزويق.
ويمكن أن نلخص العوامل التي أثرت فيهم بما يلي: (1)
إن الحرب فتقت أذهانهم للشك في كل شيء حين رأوا مبادئ الأخلاق التي تعلموها لا قيمة لها أصلا. (2)
إن الأمراض العصبية والنفسية التي نشأت في المجتمع، قد أشاعت نظريات العقل الكامن على طريقة «فرويد»، وبعثت حرية جديدة في بحث البواعث التي تبعث على التفكير وغاية الحياة. (3)
Unknown page