ولقد بالغ معي حال إقامتي بحضرته في التواضع والإكرام، حتى إنه لا يذكرني باسمي، بل يُلَقِّبني بأحسن الألقاب، ويُظهِرُ لي خصوصًا بين أصحابي من الإكرام والتبجيل والإدناء منه، بحيث لا يتركني أجلس إلّا إلى جانبه، قصيرًا كان مجلسُه أو طويلًا، خاصًّا أو عامًّا. ولازمني في حال قراءتي «صحيح البخاري». وكان قَصْدي قراءته على راويه منفردًا، لاستصغاري نفسي عن القراءة هُناك بمحضر من الناس، ولقصدي تعجيل فراغي منه انتهازًا للفُرْصة، وخَوْفًا من فوات ذلك الشيخ الراوي، لكونه تفرّد بروايته سماعًا على أصحاب أبي الوقت السِّجْزي.
فلما سمع الشيخ بذلك ألزمني قراءته بمجْمَع كثير من الناس رجالًا ونساءً وصبيانًا. وقال: ما ينبغي إلّا على صِفةٍ يكون نفعُها متعديًا إلى المسلمين. فتجرّد لي بحيث حصل لي مُرادي وفوقه من تحصيل قراءتي له في عشرين مجلسًا متوالية، لم يتخللها سوى الجمعة. ولازمني فيها، وحضر القراءة كلّها يضبطها بنسخة كانت بيده هي أصلُ ابن ناصر الحافظ يُعارض بها نسخة القراءة، وكانت أصلَ الشيخ المُسْمع (^١).
وَأظهر لي من حسن الأخلاق والمبالغة في التواضع، بحيث إنه كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة ولا يَدَعُ أحدًا منّا يحملها عنه. وكنتُ أعتذرُ إليه من ذلك خَوْفًا من سوء الأدب، فيقول: لو حملْتُه على رأسي لكان ينبغي. ألا أحمل ما فيه كلامُ رسول الله ﷺ؟
_________
(^١) ذكر هذه القراءة ابن ناصر الدين في «الرد الوافر» (ص ٢١١). وكانت القراءة على المسند المعمّر أبي العباس الحجار (ت ٧٣٠).
1 / 769