وكان هذا دأبُنا (^١) في غالب مدّة إقامتي عنده، وما رأيتُ نفسي أغنى منها في تلك المدة، ولا رأيتُني أجمع (^٢) همًّا مني فيها.
وحكى غيرُ واحد ما اشتهر عنه من كثرة الإيثار، وتفقّد المحتاجين والغُرَباء، ورقيقي الحال من الفُقهاء والقُرّاء، واجتهاده في مصالحهم وصِلاتهم، ومساعدته لهم. بل لكلّ أحدٍ من العامّةِ والخاصّة ممن يمكنه فعل الخير معه، وإسداء المعروف إليه بقوله وفِعْله، ووجهه وجاهه.
وأمّا تواضعه؛ فما رأيتُ ولا سمعتُ بأحدٍ من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والغني الصالح والفقير. وكان يُدْني الفقيرَ الصالح ويُكرمُه ويؤنسه ويُباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء، حتى إنّه ربما خدمه بنفسه؛ وأعانه بحَمْل حاجته، جَبْرًا لقَلْبه، وتقرُّبًا بذلك إلى ربّه.
وكان لا يسأمُ ممّن يَسْتَفْتِيه أو يسأله، بل يُقبل عليه ببشارة وجْه ولين عريكة، ويقفُ معه حتى يكون هو الذي يُفارقه، كبيرًا كان أو صغيرًا، رجلًا أو امرأةً، حُرًّا أو عبْدًا، عالمًا أو عامِيًّا، حاضرًا أو باديًا، ولا يجبهه ولا يُحرِجهُ ولا يُنفِّرُه بكلام يوحشُه، بل يُجيبُه ويُفهِّمُهُ ويُعَرِّفُه الخطأَ من الصواب، بلطف وانبساط.
وكان يلزم التواضع في حضوره مع الناس ومغيبه عنهم، في قيامه وقعوده ومَشْيه، ومجلسه ومجلس غيره.
_________
(^١) (ط، ك): «رأينا» والصواب ما أثبت.
(^٢) في (ط، ك): «أفقر» والمثبت من (ل).
1 / 768