ففي أواخر شهر يونيو سنة 1860 كان بين زوار هذا الفندق رجل تدل نضارة وجهه على أنه لم يبلغ بعد حد الكهولة، ولكن بياض شعره، وانحناء قامته، وضعف همته، كل ذلك كان يدل على أنه بلغ مبالغ الشيوخ، وكان جميع المقيمين في هذا الفندق من الفرنسيين والإنكليز والألمانيين يهربون منه مذعورين حين يخرج من غرفته بعد الطعام، ويجلس بينهم في الردهة.
وكانت ملابس هذا الرجل تدل على أنه من النبلاء، وقد جاء في مركبة من مركبات البريد يصحبه خادمان، كانا يدعوانه بلقب البارون، وفي أصبعه خاتم من الماس يبلغ حجم فصه حجم البندقة الكبيرة، ولا يقل ثمنه عن مائتي ألف فرنك.
وهو في هذا الفندق منذ ثمانية أيام، لا يظهر لأحد في النهار، يقيم كل يومه في غرفته ويأكل فيها، حتى إذا أقبل الليل خرج إلى الردهة، يستنشق النسيم البليل. ومن عجيب أمره أن الناس كانوا يتشاءمون من وجوده، فإذا جاء بينهم أو ظهر لهم في الردهة انقطعوا عن الضحك، وتفرقوا كأنهم رأوا الشيطان الرجيم، وهو ينشغل عنهم بما فيه لا ينتبه إلى شيء مما يحدثه وجوده بينهم.
وقد قال عنه كونت من الإيطاليين حين رآه أول مرة: إن لهذا الرجل عينا شريرة، فاتخذوا تعويذة للوقاية من عينه أو اهربوا؛ فذلك خير لكم، وبعد العشاء ترك الفندق بعد أن قال: إنه ما زال هذا البارون يقيم فيه، فإن البلايا ستنقض على رءوس المقيمين فيه، وكأنما الأقدار أرادت أن تصح نبوءة هذا الإيطالي، فإنه في اليوم التالي مات رجل من زوار الفندق فجأة حال خروجه من قاعة الطعام، وفي اليوم الذي تلاه اختصم سائح فرنسي مع ضابط نمساوي وهما في الردهة، فأدى خصامهما إلى مبارزة أدت إلى قتل النمساوي؛ فأخذ الأكثرون يميلون إلى تصديق نبوءة الإيطالي، وجعلوا يبرحون هذا الفندق إلى سواه.
أما صاحب الفندق فقد رأى أن وجود هذا البارون عنده سيكون السبب في خرابه، ولكنه لا حيلة له به، فليس في قوانين البلاد شريعة تسري على أصحاب العيون الشريرة، فصبر على مصيبته، وسأل البارون مرة كي يطمئن فقال له: هل في نية سيدي البارون أن يقيم طويلا عندنا؟
فغضب البارون لسؤاله وقال له: سأقيم ما زلت مرتاحا، وأنا مرتاح على ما أفتكر.
وبعد ذلك بيومين جاء إلى هذا الفندق زائر غريب، وسمع حديث الزائرين عن هذا البارون، فضحك وقال: إني أريد أن أوازن بين قوة عيني وقوة عينه.
فأحدقت الأبصار بهذا الزائر الجديد، ولم يكن قد انتبه إليه أحد من قبل، ودخل قاعة الطعام، فجعلوا ينظرون إليه نظرات تشف عن الرعب، وقد اعترف من نفسه أنه من أصحاب العيون الشريرة؛ أي إنهم كانوا بواحد فأصبحوا باثنين ...
كان هذا الرجل الذي دخل طويل القامة، براق العينين، يلبس الملابس السوداء وعليه دلائل العظمة، وكانت نظراته تشبه السهام النارية، وهو قليل الضحك، ولكنه ضحك الهازئ المتهكم. وكان حين دخل، دخل في إثره كلبه، وهو يستلفت الأنظار بسواده وبريق عينيه، فانزوى حين دخوله في زاوية الغرفة.
وقد دخلت بعد دخوله فتاة إنجليزية، فرعبت من بريق عينيه، ثم ما لبثت أن علمت أنه كلب حتى اطمأنت وهدأ روعها.
Unknown page