واعتقادنا في مثل هذه الدراسات أن المقارنة أفضل وسائل التمييز فيها، وأن أفضل المقارنات ما كان بين المتباعدين في البيئة والزمان، فإن التشابه بين أبناء البيئة الواحدة والزمن الواحد لا يميز الأضداد، ولكننا إذا قارنا بين اثنين تفرقهما البيئة والزمان، ثم رأينا علامات التشابه بينهما واضحة، فهذا هو الدليل القاطع على فعل العلة التي يشتركان فيها.
وقد أسلفنا أن الشاعر العصري أوسكار وايلد كبير الشبه بأبي نواس في لوازم النرجسية، وهما مختلفان بعدها في كل شيء، في الزمن والموطن واللغة والدين والطبقة الاجتماعية، ولكنهما على هذا يتماثلان في كل لازمة من لوازم النرجسية، ويختلفان فيكون اختلافهما أدل على وحدة المزاج.
ففي أوسكار وايلد نلقى الملامح الأنثوية، وخصل الشعر والصوت الذي تمازجه الرخامة.
وفيه نلقى حب الظهور ولفت الأنظار وشغل الأذهان، ولم تكن مصطلحات التحليل النفسي قد شاعت في أيامه، فلم يصفوه بحب العرض
Exhibitionism
كما كانوا يصفونه لو عاش بعد زمنه بخمسين سنة، ولكنهم أطلقوا عليه اصطلاح العرف الذي يقابل اصطلاح التحليل النفسي تمام المقابلة وقالوا: إنه نموذج حي للزهو المتبرج
Dandyism ، ومنه جاءت كل بلواه.
وليس الزهو المتبرج كل ما هنالك، بل هو الزهو الذي يصدم ويغضب كما قال صديقه أندريه جيد الأديب الفرنسي المعروف في ذكرياته عنه، وكان يتكلم بلغة عصره - لغة الثورة الفرنسية وأعقابها - فيقول: إن المستبدين ثلاثة: «مستبد يطغى على الجسد، ومستبد يطغى على النفس، ومستبد يطغى عليهما معا، أما الأول فيسمونه الأمير، وأما الثاني فيسمونه الحبر والكاهن، وأما الثالث فيسمونه الرأي العام».
وكانت لذته الكبرى أن يتحدى الرأي العام ويثيره، ويتغنى بفضائل الرذيلة أو الخطيئة، ويكتب وهو يدافع عن الشاعر الفرنسي بودلير - زميله في النرجسية: «إن ما يسمى الخطيئة عنصر جوهري من عناصر التقدم تأسن الدنيا بغيره، أو تشيخ أو تنصل من كل لون، فهي بما تنطوي عليه من التطلع تزيد تجارب النوع الإنساني، وهي بتوكيدها المزايا الفردية تنجينا من إرهاق القوالب المطردة».
وقال: «إن الطيبة على المثال الذي تفهمه السوقة سهلة بينة، فكل ما تتطلبه مقدار من الذعر، ونقص في الفكر المتخيل ومعيار دارج من معايير كرامة المساتير».
Unknown page