وبلغ من إنكار حساده والجاهلين به أنهم جعلوه من أهل الجحيم، وألحقوه بأحقر ما يسب من الحيوان، واستجهلوه غاية الجهل، واتهموه في فهمه وذكائه!
قال رجل وقد عثر به : من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما!
وذكر ياقوت بعض كلامه في معجمه ثم قال: «كان المعري حمارا لا يفقه شيئا، وإلا فالمراد بهذا بين!»
وسئل عنه علي بن الحسن المعروف بشميم وهو من نحاة القرن السادس، فغضب وقال لسائله ناهرا: «ويلك! كم تسيء الأدب بين يدي؟ من ذاك الكلب الأعمى حتى يذكر بين يدي في مجلسي؟!» •••
وهناك أناس استعظموه ولكنهم لم يفهموه ولا حقدوا عليه! وحسبوا أن قدرة الإنسان لا ترتقي هذا المرتقى، وأن سر بني آدم لا يخفى هذا الخفاء، فألحقوه بعالم المجهول ووصلوا بينه وبين سيطرة الفلك وقضاء الأقدار.
قالوا إن محمود بن صالح صاحب حلب اتهمه بالزندقة، فأمر بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسا ليحملوه، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يا ابن أخي! قد نزلت بنا هذه الحادثة، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارا علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخ الذل والعار. فقال أبو العلاء: هون عليك يا عم! ولا بأس عليك، فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟ فقال في منزلة كذا وكذا ... فقال: زنه واضرب تحته وتدا، وشد في رجلي خيطا واربطه إلى الوتد. ففعل غلامه ذلك، وسمعوه وهو يقول: يا قديم الأزل! يا علة العلل! يا صانع المخلوقات وموجد الموجودات. أنا في عزك الذي لا يرام، وكنفك الذي لا يضام ... الضيوف الضيوف! الوزير الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم ... وإذا بهدة عظيمة! فسأل أبو العلاء عنها فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين ... وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير.
ومن لم يكن عندهم ساحرا أو قديسا من ذوي الكرامات كان خارقة من خوارق التكوين أو طرفة من طرف الزمان. •••
رووا عن تلميذه أبي زكريا التبريزي أنه كان قاعدا في مسجده بمعرة النعمان بين يدي الأستاذ يقرأ عليه شيئا من تصانيفه، وكان قد أقام عنده سنين لم ير أحدا من أهل بلده، فدخل المسجد بعض جيرانه فرآه وعرفه فتغير من الفرح وأحس أبو العلاء بشيء فسأله: أيش أصابك؟ فحكى له ما رآه.
قال أبو زكريا فيما رووا عنه: فقال لي أبو العلاء: قم وكلمه! فقلت: حتى أتمم السياق. فقال: قم. أنا أنتظر لك. فقمت وكلمته بلسان الأذربية - أهل أذربيجان - شيئا كثيرا، إلى أن سألت عن كل ما أردت. فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت: هذا لسان أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته. غير أني حفظت ما قلتما. ثم أعاد علي اللفظ بعينه، من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه في جميع ما قلت. فتعجبت غاية التعجب! كيف حفظ ما لم يفهم؟
وحدث أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، قال: لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب. رأيت شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.
Unknown page