خرج المعري وتلميذه من أرض الشيوعيين وهما يلعنان الديار والديارين، وأصبح التلميذ ولا هم له بعد إفلاته من براثن القوم إلا الوصاة بالتقية والمحاذرة، قائلا ومعيدا ما قال: مولانا الشيخ! إنك في حرز من ضيم الأقوياء، وأمان من سطوة أبناء الفناء. أما تلميذك ومريدك فلا حرز له منهم ولا قوة له معهم، ولا أمان أن يبطشوا به بطشة واحدة، فإذا أنت يا مولاي قد فقدته في منتصف الطريق. وكان الشيخ يداعبه فيظهر الإصرار على المناقشة والمناوشة ويردد ما أنشد في سابق أيامه بدار الفناء:
إن عذب المين بأفواهكم
فإن صدقي بفمي أعذب
قائلا: يا بني! ما أنا بصاحب الرحلة بل أنت؛ فاصبر على بلائك واحتمل عاقبة رأيك. فينتفض التلميذ خوفا وحيرة ويعيد الوصاة والرجاء، مناشدا مولاه الرحمة التي أرادها لبني الإنسان وبني الحيوان.
فلما أطال التلميذ في وصاته قال الشيخ: ما بالك يا هذا تخاف وتوصي وتلحف في الوصاة؟ ألعلك ذاهب بنا إلى معشر من الناس كأولئك الذين كنا بينهم؟ إن كان ذاك فعد بنا إلى المعرة واختصر بنا مسافة هذه السياحة، فلا طاقة لي بسخافة قوم آخرين كأولئك الذين فارقناهم في بلاد الشيوعيين ولا بسخافة قوم كأولئك الذين فارقناهم في بلاد الطغاة العسكريين.
قال التلميذ: كلا يا مولاي الجليل. ما إلى هذه البلاد وأمثالها نرحل وإنما أخاف ما ليس في الحسبان. إنما رحلتنا بعد اليوم إلى أقوام يحجرون على المقال حجر أولئك الأقوام، ولا يقسرون الناس على رأي واحد وضمير واحد، ولكنهم يقولون ما يشاءون ويفكرون كما يشاءون؛ فإن خامرني الخوف ونحن مقبلون عليهم فذلك يا مولاي خوف الحبل بعد خوف الثعبان.
وطالت الرحلة في تلك البلاد بلاد الشمال، وتقلب المعري وتلميذه بين أهل النرويج وأهل السويد وسائر تلك الأنحاء، فحمدا كثيرا من الأحوال، وشهدا أنماطا من الحكم والعلم لم يشهداها في البلدان الغربية كافة، فطاب السرى وطاب المقام.
ونزلا آخر المطاف ببلاد الدانيين أو الدنمركيين، فهما الآن في مدرسة جامعة دعي إليها حكيم المعرة بأمر من مليك البلاد ووزرائها، على عادة القوم في اغتنام كل فائدة وتسجيل كل شاردة وواردة، ليسألوا الشيخ ويستطلعوا طلعه، ويساجلوه القول ويظفروا بما شاء من جواب.
قال طالب علم: أيأذن الشيخ في سؤال عن حكومة ذلك المعشر الذي كان بينهم قبل أن يرحل إلى أقطار الشمال، وأعني بهم معشر الشيوعيين؟
قال الشيخ: تلك حكمة كلها ظواهر تخفي ما دونها من البواطن، كاتبها يفعل فيها ما يريد، ولو جرى أمرها على القول الصراح لما كان لهذا الكاتب من صولجان، إلا القلم والقرطاس.
Unknown page