109

قل إنهم يحبون العجلة! قل إنهم يكرهون الوقت! قل إنهم حائرون فيما يحبون وما يكرهون. أما إنهم يحبون المال وكفى، فإن من يحب المال للمال لا يتحرك ولا يعيش، بل يجلس كما تجلس العجوز على القدر المدفونة، أو كما يجلس الصيرفي على خزانة الذهب، وهؤلاء لا يجلسون جلسة العجوز ولا جلسة الصيرفي، ولكنهم يتحركون ويعيشون.

كان ذلك حكم المعري على الأمريكيين أو قل «حكم المعري للأمريكيين» وهو خارج من بلادهم، وكان قد حضر مع تلميذه عيد الاستقلال في عاصمتهم ورأى بذخ القوم وإسرافهم في بذل أموالهم لإزجاء أوقاتهم والحفاوة بذكرياتهم، فلما برحا الشواطئ الأمريكية من أقصى المغرب واستويا على مكانهما في السفينة يعرضان ما عبرا وعبر بهما، ويجمعان ما تفرق من الوقائع والمشاهدات قال التلميذ: هذه أمة تحب المال ولا تعمل إلا للمال، فأبى المعري أن يجاري تلميذه في حكمه، وقال عن القوم ذلك المقال.

ولا ندري لم لم يطب المقام في بلاد الشمس المشرقة لرهين المحبسين كأنما كان هناك في حبس أشد عليه من محبسيه.

فكان في أرض «نيبون» يتأفف ويتبرم من كل شيء ومن غير شيء، ولم يزل مع تلميذه على حذر وامتعاض حتى هجرا أرض نيبون إلى أرض الصين، وأقاما فيها برهة بين الفتن والثورات والمجاعة تارة والقحط تارات، ولكنهما كانا أقرب شيء إلى راحة البال والإقبال على شهود الأحوال، لأنهما كانا يشهدان في الصين جهدا يسر الناظرين أن يبلغ تمامه. أما الجهد الذي كانا يشهدانه في أرض نيبون فقل أن يكون في تمامه سرورا للناظرين، ولا سيما الحكماء.

قال التلميذ يستفز أستاذه للكلام: أوليس القوم في أرض نيبون على جانب من الشجاعة عظيم؟ قال المعري: بلى! إن كنت تعني شجاعة الغريزة ولا تعني شجاعة النية والإرادة.

قال التلميذ متجاهلا: وما شجاعة الغريزة وما شجاعة النية والإرادة يا مولاي؟!

فأجابه الحكيم غير متأفف ولا متبرم: إن الشجاع الحق هو من يعرف الخطر ويخشاه ثم يغلبه بعزيمة هي أعظم من الخطر وأعظم من الخشية. أما الشجاع الذي يقتحم الخطر لأنه مدفوع إليه بعادات الأقدمين وسنن الآباء والأجداد فذلك أسير لا فرق بينه وبين من يقتحم النار مسوقا إليها بسلسلة من الحديد، ولا فرق بينه وبين الأسير الذي يقدمه آسروه في الطليعة وهو لا يملك الفرار، وقد توجد هذه الشجاعة في الحيوان كما توجد في أبناء آدم، فهي من أصول لا ارتفاع فيها ولا تعلق لها بالتكليف والضمير. •••

وقال التلميذ: لو أن الأستاذ قد شهد أسراب الطير وهي تعبر البحر المحيط كل عام فيغرق منها من يغرق ويسلم منها من يسلم ثم تعود إلى الهجرة ولا تخاف الموت ولا تعرف ما هو لحسبت أنه يعني هذه الشجاعة حين يذكر شجاعة الغريزة وشجاعة الحيوان.

فقال المعري: ما رأيت هذه الأسراب، ولا أحسبنا في حاجة إلى رؤيتها لنعرف أن الشجاعة التي تتعلق بالعادات الموروثة غير الشجاعة التي تتعلق بإرادة المريد، وكل من شهدنا في أرض نيبون من باقري بطونهم وباخعي أنفسهم فإنما هم قالب واحد لا يختلف باختلاف البيئات ولا باختلاف الأفراد، وليست هكذا تكون الصفات التي مرجعها إلى مزية في الإنسان ومزية في الخلق والتكليف. •••

قال التلميذ: أوليس القوم خيرا من هؤلاء الصينيين الذين ترضى عنهم ولا تضيق ذرعا بعشرتهم ومراقبة أحوالهم؟

Unknown page