103

وكان المعري قد ركب السفائن والطائرات، وعرف مطايا الكهرباء ومطايا البخار، وقال في كل منها قولة عارضة وهو يركبها أو يترجل منها. إلا أنها رحلة العودة ففيها خلاصة المقال ونهاية المآل، فيما رأى من هذه الصنوف والأشكال، فقال: وما حاجة المعرة إلى سفائن البحار فيها السيارة وتحوم على فضائها الطيارة؟ ولو كان فيها بحر لكان فيها مثل هذه السفينة ومثل هذه الضوضاء.

قال التلميذ: وكلها من صنع الغرب الذي ما أدري أيبرم به الأستاذ أم هو مشوق إليه؟

قال المعري: الآن فهمت ما تريد، فهلا أنبأتني يا بني ماذا صنع الغرب من هذه الآلات يوم كنا نعيش حياتنا الدنيا في المعرة؟ لعمرك يا بني ما صنعوها اليوم إلا لأنهم قد احتاجوا إليها، وإلا لأنهم قد بنوا على أساس ما سبقها وهيأ أسبابها من صناعات القرون الأولى. يا بني لا تهولنك المظاهر ولا تعجبك كثرة الأعداد، فلعل مبتدع الشراع والدولاب أحذق من مبتدع البخار والكهرباء، ولعل القوس والسهم أبرع في اختراعهما من المدفع والقذيفة، ولعلهم كانوا يعيشون على عهد الشراع خيرا من هذه العيشة، ولعلهم كانوا يموتون على عهد القسي والسهام أكرم من هذه الميتة! ولعل متعة الحالم بالطيران أحب إليه من متعة الطائر بالجثمان. •••

قال التلميذ: ولا أحسبني مع هذا مخطئا إذا قلت إنني لمحت دلائل الدهشة على وجه الأستاذ يوم ركبنا الهواء أول ما ركبناه.

قال أبو العلاء: تلك دهشة تغني عن دهشات.

فسأل التلميذ: أيحب مولاي أن أفهم من هذا أن الكهرباء والبخار وما صنع الإنسان منهما لا تستحق دهشة الحكيم كما يستحقها الإنسان الطائر في الهواء؟

قال أبو العلاء: لا أحب أن تفهم هذا ولا أكرهه، ولكنني دهشت لمعنى ما رأيت حين رأيته أول لمحة، ثم أغناني ذلك عن دهشتي للمصنوعات المكررة والظواهر المختلفة، أتحسب أن من يدهش للطيران في الهواء خليق أن يدهش لكل متحرك بالبخار والكهرباء؟ أفمن شهد الشراع مرة خليق أن يدهش له مرات كلما حركته ريح شمال أو ريح جنوب؟ ذلك معنى واحد في ألفاظ شتى، أو ذلك جسد واحد في مختلف الثياب ، وحسبك أن تعلم أن تسخير القوى التي يسمونها بالقوى الطبيعية مستطاع لتزول عنك الدهشة من كل ما يستطاع من هذا الطراز.

فاندفع التلميذ سائلا: أفكل هذه الآلات إذن ليست بالفتح الجديد؟ أليس فيها ما يستوقف الحكماء من تاريخ بني الإنسان فيما يرى سيدي الأستاذ؟

فلم يمهله أبو العلاء هنيهة، وأجاب: لا فتح ولا إقفال!

وربما فتحت هذه الآلات لإنسانك يا بني فتحا جديدا لو أنه سخر الآلات ثم أطلق نفسه من العقال، أو لو أنه ملك نفسه يوم ملك آلات الأرض والهواء، ولكنه سخر الآلات المصنوعة ليصبح شبيها بها، ثم ازداد في التسخير ليزداد في الشبه. فهو أسير ما صنع ورهين ما ابتدع، فإن سميت هذا فتحا فالله يفتح عليك. •••

Unknown page