وهكذا إذا طلبت منتهى الرقة والدماثة والحنان والرحمة وجدتها في الرجل الصارم الشجاع القوي المتين، وكذلك أعذب الماء وأصفاه هو ما صادفته في النقر واللصاب في الصخرة الصماء والصفاة الصلدة.
ومن ثم كان ثروت باشا - ذلك البطل القوي الأيد الصلب العود والمعجم - رجلا سمحا سجحا، غزير الأنس والحفاوة، جم الظرف والفكاهة، تكاد ابتسامته تضيء ما حوله بنور البشر والطلاقة، ويكاد الهواء يتأرج بطيب أنفاسه إذ كانت صادرة عن روضة الحسب الأغر، والكرم الأوفر الأبر.
ولا شك عندي في أن تلك المادة الغزيرة من الفرح والابتهاج الغريزي في ثروت باشا هي من أعظم أسباب نجاحه في كل ما يحاول من الخطط والتدابير، وكل ما يباشر من المعاملات والمفاوضات؛ لأن ذلك الفرح والابتهاج يظل له كنشوة طبيعية تحرك همته وتبعث عزمته، وتترك سيف جده مسلولا لأيسر داع ومقتضى، وتغنيه عن كل منشط خارجي وحافز صناعي، وأكبر ظني أن هذا الابتهاج والصفاء الغريزي النفساني في ثروت باشا هو بعض مصادر تلك الجاذبية والخلابة التي استطاع بها أن يؤثر في كبار رجالات البريطانيين ممن فاوضوه في قضية البلاد المقدسة، ويستميلهم إلى مذهبه، ويقنعهم بصحة رأيه ونصوع حجته. وأراني خليقا أن أشبهه في ذلك بالقائد الإنكليزي العظيم الدوق أوف «مالبره»، ذلك البطل التاريخي المشهور الذي بفضل حذقه ولباقته انتصرت إنكلترا وحلفاؤها على فرنسا في عهد لويز الرابع عشر، يوم كانت فرنسا أقوى دول أوروبا جيوشا، وأمهرها قوادا، وأشدها بأسا وصولة، وأقهرها سطوة وسلطانا. لقد كانت جيوش حلفاء بريطانيا أثناء حروبها الطويلة المتوالية مع فرنسا في ذلك العهد عرضة لعوامل النزاع والشقاق، لا يزال يقع بينها النفور والمشاحنة، فلو كانت استمرت على تلك الحال لما كانت ظفرت من فرنسا بطائل، بل كان من المؤكد هزيمتها واندحارها بأسياف تلك الدولة، ولكن القدر الذي أراد غير ذلك جعل من خلابة القائد «مالبرة»، ومن جاذبيته، ومن رقة شيمته، وحلاوة أنسه، وعذوبة شمائله؛ أبلغ وسيلة وأحسن واسطة لضم شوارد القلوب بين الحلفاء، وتأليف نوافر النفوس، وجمع بدائد الأهواء والأميال، ونظم تلك العناصر المتشاحنة في سلك واحد من الوئام والألفة، وقياد الجميع بحبل التوفيق والهداية إلى غرضهم الأوحد الفرد من تلك الحرب الشعواء - على الرغم من متباين مذاهبهم وآرائهم، ومما كان متفشيا بينهم من عوامل التحاقد والتحاسد، ونزوات التعسف والتهور، ونزعات الطيش والضلال - فأيما بلاط من بلاطات تلك الدول المتحالفة كان يذهب إليه القائد مالبرة ويغشاه كان لا يلبث بفضل سجاحة خلقه، وحلاوة سجاياه، وعذوبة طبعه أن يستميل أهله، ويستدرجهم مهما بلغ من عنادهم وشكاستهم، حتى يحملهم على قبول شروطه واتباع رأيه.
لقد امتاز ثروت باشا بنوع من صفاء النفس، وهدوء الروح، وسكينة الجأش، لها في نفوس مخاطبيه ومجالسيه من الأثر العميق ما يشبه تأثير النغم الرخيم والألحان الشجية. ولا عجب، فإن الصفاء والهدوء من النظام، وكل نظام فإنما يكون نظاما بفضل ما ينطوي في جوفه من الموسيقى الصامتة؛ أي من روح الموسيقى، أو بعبارة أخرى: كل نظام موسيقي في عنصره وجوهره. فهذا الهدوء والسكينة والصفاء في ثروت باشا تؤثر في مخاطبيه ومجالسيه تأثيرا يسبيهم من نفوسهم، ويجتذبهم إليه بنوع من الكهرباء الخفي. فلا جرم إذا قلنا إن مثل هذا الخلاب تكون روحه منهلا للأنس، ومسترادا للنعيم والمسرة، وسنا بشره يفيض على جوانب الجو كمثل رونق الضحى، وحديثه ينفث في الهواء كأنفاس النعامي تنفح بأريج الخزامي:
أو كالنسيم الغض غب الحيا
يختال في أردية الفجر •••
وإذا ما أشار هبت صبا المس
ك وخلت الإيوان من كافور
هذه السكينة والهدوء والصفاء الغريزية الفطرية (مع حدة الذهن الهائلة) هي التي بفضلها بلغ نابليون - أعظم رجل في التاريخ الحديث - من ذروة المجد والعلاء، وقمة الحسب والفخار، ما راع الملأ وبهر العالم، وهي التي بفضلها أيضا استطاع ذلك الرجل المدهش أن يحتمل أرزاء الدهر ومحن الزمان في عظمة وجلال يشوبهما شيء من اللهو العبث، وأن يستسلم لخسارة ملك العالم استسلام من خسر دورا في لعبة النرد أو الشطرنج.
وكذلك ترى ثروت باشا - على صرامته وبأسه في مواضع الجد والحزم - أغر أبلج، بساما وضاح الجبين، جم البشر والحفاوة، عذب الإيناس، حلو الفكاهة، تتألق في صفحة وجهه الكريم ابتسامة صادقة من فؤاد صادق؛ لأن من الابتسامات ما تكون كاذبة منبعثة عن فؤاد كاذب كسائر أكاذيب صاحبها من أعمال وأقوال، وما زال الابتسام الصادق والضحك الخالص الصريح ينبعث من القلب الطاهر النقي الرقيق الحاشية، الأمين الناحية، الغزير مادة الحنان والرحمة. فمثل ذلك الضحك يكون عنوان الكرم والخير، وشاهد المروءة والبر، إذا كان كاذب الضحك آية الشر والنكر، وأمارة الخبث والغدر، وما زال الحر الشريف يمزح في الأحايين ويهزل، والبر الكريم يطرب ويجذل، وما زلنا نرى الأريب الحصيف يفصل نظام حكمته الثمين بشذور الأمازيح والفكاهات، ويرصع ديباجة كلامه الجدي الرزين بفصوص المعابثات والمداعبات. ومن ثم ما قاله توماس كارليل في وصف إفراط الفكاهة والضحك في سيد شعراء العالم قاطبة «وليم شاكسبير»: «لا أرى دليلا أصدق على ما يمتاز به ذلك الشاعر الخالد من كرم النفس ورقة الطبع ونقاء الضمير وصفاء السريرة من غلواء الضحك وإفراط المزاح في رواياته. ألا ترى أن مضحكاته تنحط عليك كشآبيب الغيث الثر، ودوافع السيل الهمر؟ ألا ترى أنه إذا نصب أحد أشخاص رواياته غرضا لمرامي المزح والدعابة انبرى يهيل على رأسه ما لا يحصى من أفانين الهزل والمجون، وينقله من المواقف والأشكال المضحكة فيما فيه أقصى عجب العاجبين وضحك الضاحكين، فيخيل إليك أن شاكسبير يضحك من ذلك الشخص الذي هو سليل وهمه وصنع خياله ضحكا مفرطا بملء صدره وأضلاعه، وهو بعد ضحك طيب صالح لا يراد به السخرية من البؤساء والمساكين والضعفاء، التي هي ألأم أنواع الضحك؛ لما تنطوي عليه من السفالة والخبث والنذالة، وإني أرى ضحك شاكسبير وغيره من ذوي الكرم والبر والرأفة ليس من قبيل معمعة الحريق تحت القدر - يقهقه لهيبه وضرامه والقدر تغلي وتفور - ولكنه ضحك مشوب بالرحمة والعطف حتى على الأغبياء والأدعياء. فمثل ذلك الضحك لا أشبهه إلا ببساط نور الشمس على صدر البحر الرحيب.»
Unknown page