وفرحت ماري بذلك بعد أن لبثت خمس سنوات طويلة تترقب اليوم الذي يعود فيه زوجها إلى السياسة، ليخطو فيها خطوة أو خطوات نحو الهدف الذي لا ترضى له هدفا دونه.
وكان منافس أبراهام في الظفر بعضوية الشيوخ شيلدز، ذلك الرجل الذي تحداه إلى مبارزة بالسيف قبيل زواجه من ماري لما كتبه لنكولن عنه يومئذ في إحدى الصحف وعده إهانة له، وهكذا يعود الرجلان إلى المبارزة ولكن في صورة أخرى ليس يجدي فيها طول الذراع ولا قوتها على حمل السيف.
وكان أعضاء مجلس المقاطعة هم الذين ينتخبون عضو مجلس الشيوخ، وكان مجلس مقاطعة إلينوى يومئذ يجمع أنماطا من الرجال، فرقت بينهم الأهواء وباعدت الآراء؛ ففيهم بقايا حزب الهوجز الذين يمقتون التطرف، وفيهم الديمقراطيون من أنصار مبدأ انتشار الرق ومن معارضي قرار نبراسكا، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن تتذبذب سياستهم وفق ما يقوم في رءوسهم من الآراء في مسألة الرق.
وكاد يظفر أبراهام بما كان يتوق إليه وبما باتت زوجه تمني النفس به، لولا أن دعا الديمقراطيون في اللحظة الأخيرة إلى رجل غير لنكولن ومنافسه، وهو من معارضي قرار نبراسكا ومن الذين يخشون من دعوة التحرير، وعندئذ أشار لنكولن على نصرائه أن يمنحوا هذا الرجل الجديد أصواتهم ليفوت الأمر على منافسه الأول؛ إذ كان من أصحاب دوجلاس ومن مؤيدي قرار نبراسكا، بينما كان المنافس الجديد تتفق سياسته مع سياسة لنكولن، وإن كان ديمقراطيا من الوجهة الحزبية، وهكذا يذوق لنكولن طعم الفشل مرة أخرى.
ولكن الفشل هذه المرة لم يبلغ من نفسه ما بلغه في الأيام السابقة، فهو اليوم مطمئن إلى نصيبه من رضاء الناس وإلى حظه من النفوذ والصيت، ولقد قابل الأمر بدون اكتراث لولا ما أظهرته زوجته من حنق وغضب، على أنها ما لبثت أن رضيت وسكنت ثورتها، ذلك أنها كانت تكاد ترى رأي العين ما ينتظر زوجها من مستقبل عظيم.
ولم يصرفه الفشل عن السياسة كما كان عسيا أن يفعل في ظروف غير هذه، فلقد عرف أن فشله يومئذ إنما يرجع إلى أسباب لا يستخذى لها، ومن أهم تلك الأسباب ما فعله دعاة التحرير؛ فلقد حشروا اسم لنكولن على غير علم منه في معضديهم وراحوا يباهون به الأحزاب، ولقد أدى هذا إلى انزعاج كثير من الديمقراطيين؛ إذ حسبوا أنه مال إلى الطفرة في مشكلة الرق، كذلك أنكر عليه الهوجز أن ينحرف عن سياسته القائمة على الحذر، ولقد كانوا يحبون منه اكتفاءه بمقاومة انتشار الرق، أما أن يميل إلى التحرير فجأة فيعمل مع المتطرفين على القضاء على الاتحاد، فذلك ما لا يقبلونه منه، وهكذا أخذ على الرجل ما لم يجنه فأصابه من الخذلان ما أصابه.
لا جرم أنه اليوم رجل سياسة أكثر منه رجل محاماة، ولا جرم أن معضلة الرق قد صار لها المكان الأول من همه، فهو لن يرجع حتى ينفس عن صدره بما يفعل في هذه المعضلة التي صارت المحور الذي تدور عليه سياسة الاتحاد، والعقدة التي يتوقف على حلها مصير البلاد. وإنا لنرى فيه الرجل الذي يتطلبه الموقف، شأنه في ذلك شأن غيره من عظماء الرجال الذين يظهرون في فترات الزمن ليتم بهم للتاريخ وسيلة تحركه، إذ يصبح التاريخ ولديه الرجل العظيم والفكرة العظيمة، فما إن يتمثل العظيم الفكرة ويمزجها بنفسه حتى يقدم لا يلويه شيء عن الغاية، فيصل إليها أو يهلك دونها ويذر لمن بعده أن يتم ما بدأ.
على أنه كان في سنه يومئذ قد وصل من المحاماة إلى أوج الشهرة، فكان وهو في السابعة والأربعين الرجل الذي يظفر في مهنته بأطباق الناس على توقيره، وإجماعهم على التسليم له بالنبوغ وطول الباع وسعة الخبرة، هذا إلى ما انفرد به من سجايا جعلته بينهم وكأنه أكثر من أن يكون منهم!
وتوافى له، فيما توافى من أسباب العظمة، تلك الخصلة التي لا تقوم عظمة بدونها، والتي تجعله يظهر بين الناس وفيه شيء يحملهم على إكباره طائعين أو كارهين، شيء يحسونه وإن كانوا يجهلونه، شيء مبعثه ذلك السر العجيب الذي نعبر عنه بقولنا روح الرجل العظيم، والذي يسميه بعض الناس الحماسة، ويسميه بعضهم الإخلاص، ويسميه آخرون الإيمان، والذي هو في الحق مزيج من هذا كله، لا ندري كيف يتم، مزيج ينبض به قلب العظيم ويجري في نفسه جريان الدم في عروق جسده، ومن الناس من وهبوا الذكاء الحاد والمهارة الفائقة، ولكنهم حرموا تلك الخصلة، فما استطاعوا في أعمالهم أن يرقوا بأنفسهم إلى مستوى أعلى من مستوى غيرهم من عامة الناس، ومنهم من يعظم ذكاؤهم ويمس قلوبهم قبس من ذلك السر العجيب فإذا هم غير الناس، ثم إذا هم فوق الناس، ومن هؤلاء النفر ذلك الرجل الذي درج في الغابة، والذي بنى نفسه فسار في الحياة على نهج من قلبه وعلى دليل من طبعه، ذلك الرجل الذي لا يذكر لأحد عليه يدا، والذي تنكرت له الأيام وعركته المحن فبقي كما يبقى الجوهر الحر؛ لا تترك فيه النار من أثر إلا البرهان القاطع على أن جوهر لا مظهر.
وتشاء الأقدار أن تقوم عظمة أمريكا على كاهلي رجلين من أبنائها، درجا في مدرج الشعب وبرزا من صفوف العامة؛ وهما جورج وشنطون وأبراهام لنكولن؛ أما أولهما فيرفع القواعد ويقيم الصرح، وأما الثاني فيمسكه أن ينهار، وتكون بذلك عظمة أمريكا عظمة ذات أصالة؛ إذ لم تنشأ عن تقليد أو تستند إلى بهرج من سلطان زائف، ويكون صراحها كالجبال التي هي أوتاد الأرض لا كالبناء الذي يجوز أن يجتث من فوق الأرض.
Unknown page