وينتهي بالمسير إلى سبرنجفيلد، ولو كان يعلم الغيب لتحول عنها، ففي تلك المدينة سوف يأفل نجمه ويبعد بينه وبين غايته، وكانت المدينة غداة وصوله إليها تموج بالناس؛ إذ كانت في موسم سوق من أكبر أسواق الزراعة، ولقد خيل إليه أن في وجود مثل هذا الجمع الحاشد فرصة، ووقف يخطب الناس ثلاث ساعات وختم خطابه بقوله: «علمت أن مستر لنكولن أحد سكان هذه المدينة يريد أن يرد على خطابي هذا، وإني لآمل أن يفعل ذلك.» وكان لنكولن في جولة من جولاته القضائية في المحاكم مع القاضي ديفز حين بلغه نبأ هذا التحدي، وكان قد آلمه وضايقه ما فعله دوجلاس بشأن مشكلة كنساس.
تحد ونزال!
كان هذا التحدي الذي أعلنه دوجلاس هو الذي نهض بأبراهام ليعود إلى السياسة ثانية بعد أن انصرف عنها سنوات، والحق أنه كان على أهبة ليحول وجهه للسياسة بسبب معضلة الرق، تلك المعضلة التي باتت تحمل في تضاعيفها الخطر كل الخطر على وحدة البلاد، وإنما عجل هذا التحدي عودته أو كان السبب المباشر لتلك العودة، ومتى كان أبراهام يرهب التحدي أو ينكص على عقبيه إذا دعا داعي النزال، ولا سيما إذا كان المتحدي هو دوجلاس! وكان تحديه أبراهام على هذا النحو مثيرا له؛ فهو يتجاهله ويترفع إذ يذكره، فلا يشير إليه إلا بقوله «مستر لنكولن أحد سكان هذه المدينة»، ولم ينس لنكولن ما كان من منافسته إياه بين يدي ماري، كأنما أولع هذا الرجل بمغالبته فلا يحب أن تفلت منه فرصة دون منازلته أو التعرض له.
وقد مضت سنوات خمس على انصراف أبراهام عن السياسة؛ فقد انصرف عنها سنة 1849 عقب انتهاء عضويته في الكونجرس، ولم يعرف عنه اشتغال بالسياسة في تلك المدة، اللهم إلا خطابه في رثاء هنري كليي سنة 1852، إذا عد ذلك اشتغالا بالسياسة! وكانت سنة 1852 هي السنة التي قوي فيها نفوذ دوجلاس، والتي بات فيها الحزب الديمقراطي يتحمس له ويعلق عليه آمالا كبارا.
ويخطو دوجلاس خطوته الشهيرة سنة 1854، فيغدو اسمه على كل لسان في طول البلاد وعرضها؛ وهو بين مادح يغلو في مدحه، وقادح لا يتهاون في قدحه.
وإننا لنرى فيما فعل دوجلاس ليكسب عطف الجنوبيين مهارة الرمية، كما نلمح فيما قال للدفاع عن موقفه أمام الشماليين حذق السياسي وعمق فكرته وسعة حيلته، وكم في الحياة له من نظراء ممن يأخذون في سياستهم بآراء أستاذهم الأكبر مكيافلي، لا يحيدون عنها ولا يفوتهم شيء من تفاصيلها ودقائقها، كأنما عاد أستاذهم نفسه يصرفهم ويوجههم، ولقد برع دوجلاس في هذا المضمار؛ فإنه ليجعل الغاية عنده كل شيء، ولا عبرة بعد بالوسيلة، وهل كان مثله من السذاجة بحيث يتمسك بشرف الوسيلة ويرعى جانب الفضيلة، فيؤدي بذلك إلى فوات الفرصة وضياع الغاية؟
وكان لنكولن صريحا لا يعرف المراوغة، ولا يطيق الالتواء، فهل كانت له طاقة بمناضلة ذلك القزم الماكر المخاتل؟ وأي عود عليه اليوم من طوله والمسألة مسألة مدافعة بالحجج ومقارعة، وليست مسألة مكافحة ومصارعة كما كان الحال يوم لف ذراعه الطويلة حول آرمسترنج وألقى به على الأرض؟ إن الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الطبيعتين؛ فهذا ماكر محتال غامض كالبحر، وذلك بسيط صريح كوجه السهل.
وكان حزب الهوجز يومئذ في الشمال في أخريات خطواته إلى الفناء، بينما كان يولد حزب آخر سيأخذ عما قريب مكانه؛ هو الحزب الجمهوري، وكان لنكولن هو الرجل الذي اتجهت إليه أنظار أهل سبرنجفيلد ليكون لسانهم في الحزب الجديد. لهذا ولما اشتهر به بينهم من خلال أكبروها، لم يجدوا من هو أقدر منه على مدافعة دوجلاس، وهكذا التقى الرجلان من جديد في عراك عنيف، ولم يلتقيا منذ كانا نائبين في مجلس المقاطعة.
وقف دوجلاس يخطب، وكان - وهو في صغر جرمه قزم أو كالقزم - ماردا جبارا؛ برأسه الضخم، ولسانه الذي لا يقف، ونشاطه الذي لا يفتر، ودهائه الذي لا ينخلع عنه، ومهارته التي لا تغيب ولا تتخلف مهما تعقد الموقف والتوت مذاهب الكلام.
ولقد كان دوجلاس في الحق من أقوى الرجال في عصره، إن لم يكن أشد منهم جميعا قوة، وكان الحزب الديمقراطي يباهي به ويفخر، وهو يعتقد أن لم يبق بينه وبين كرسي الرياسة إلا خطوات مع أنه لم يكن قد جاوز الأربعين بعد.
Unknown page